fbpx
دراسات

الدولة القومية وتراث العلاقات الدولية في الإسلام (6/2)

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

في إطار إشكالات التعريف للعلاقات الدولية في تراث المسلمين، هناك ثلاث شفرات من الأهمية بمكان التوقف عندها وعليها بالدرس والبحث، لفهم حقيقة هذه الإشكالات التعريفية وجوهرها [1]:

أولاها: الدولة القومية وعناصر القسمة الجديدة

ثانيها: النظام الدولي: المتغير والثابت وضرورة ملاحظة المتغيرات والتبدلات والتطورات والتحولات، والأشكال.

ثالثها: حركة الاتصال وشبكة العلاقات الدولية (التبدل بل الانقلاب العالمي في مفاهيم الاتصال والمعلوماتية والتطورات التقنية).

هذه الشفرات الثلاث تتداخل معها شفرات تراثية مهمة:

أولها: العلاقات الدولية الإسلامية، العلاقات الخارجية الإسلامية علاقات المسلمين بغير المسلمين.

ثانيهما: هل هناك قانون دولي إسلامي، أم هو قانون داخلي تلتزم به الجماعة الإسلامية (الأمة) في التزام ذاتي حيال غيرها؟!

ثالثهما: الشفرة التصنيفية والقدرة على فهم فلسفة التصنيف الذي تبناه فقهاء المسلمين.

هذا التداخل المهم بين شفرات تراثية وأخرى معاصرة قد تحيلنا إلى إشكال آخر شئنا أم أبينا فإن إشكالات التعريف للعلاقات الدولية في تراث المسلمين، لا يمكن رؤيتها إلا في

ظل تطورات تعريف العلاقات الدولية وما آلت إليه. وما يضمن ذلك من ضرورة النظر الممتد والمتجدد للمادة التراثية في هذا الحقل وفهمها.

ومن هنا يأتي السؤال ما هي العلاقات الدولية؟! من أصعب الأسئلة، فمن أصعب الصعوبات أن تعرف الواضحات. ومحاولة التعريف الجامع في هذا المقام المشير إلى جوهرها وأشكالها ومظاهرها وخطة مناهجها وحزمة منظوراتها المختلفة على مرور زمنها منذ النشأة العلمية لهذا الحقل، إنما يعبر عن عملية صعبة غالبا ما تتوفر عليها الدراسات والأبحاث في كل عنصر من هذه العناصر.

ولكن يبقى ونحن نتحدث عن فئات التعريف الثابتة حول الفاعلين [2]، وحول البيئة الدولية، وحول النظام الدولي وقواعده، وحول أساليب التفاعل وأنماطها.. إنما يعبر عن جوهر ثابت يشير إلى تلك العلاقات بينما يختلف الفاعلون عددا وأدوارا ووزنا. وقد يختفى بعضها وقد تبرز أخرى، وقد تتخفى بعضها وقد تبرز، وبيئة دولية متحولة ومتبدلة تطرأ عليها من المتغيرات والمعطيات، ونظام دولي تتبدل منظوراته وفقا لحركة تكويناته ومدى رسوخ قواعده، وأساليب تفاعل تتعدد وتتنوع وتتجدد دوما، كل هذا لابد وأن يفرض أجندة بحثية جديدة ومتجددة. هذه كلها أمور يستلزم أن نتبنى فيها رؤية “توماس كون”[3].

إشكالات التعريف وتأثيراتها على دراسة تراث العلاقات الدولية في الإسلام:

ضرورات النظر المتجدد والبحث الممتد، وتكافل وتكامل التعدد:

تؤدي المادة التراثية أداء مختلفا باختلاف مناهج النظر والتنازل والتعامل، ومن هنا فإننا لسنا مع هؤلاء الذين يقولون أن هذه المادة التراثية عفى عليها الزمان، وصارت خارج دائرة زمان فعلها ومفعولها وفاعليتها، ولسنا مع هؤلاء الذين يكتفون وينكفئون ويكفون أيدي الباحثين عن دراسة القديم، اقتصارا على تحليلات القدماء وملاحظة حواشيهم، ولكننا مع النظر المتجدد في وعبر وحول المادة التراثية واستثمارها لفاعليات ترتبط من جهة بمعنى الهوية والاختصاص والتمايز من ناحية، ولمعنى الذاكرة الحضارية والتراثية المقفية لفاعلية هذه العوالم المتعلقة بها من (عالم أحداث وعالم أفكار، وعالم نظم، وعالم رموز، وعالم أشخاص).

  • هنا فإن تعريف العلاقات الدولية هذا التعريف المتجدد بحكم التأكيد على جوهر التعريف الثابت حول الفواعل والتفاعلات والبيئة والوسط، هذه الثوابت في التعريف تشير إلى أبعاد متغيرة في مضمونها فالفواعل يختلفون من مرحلة إلى أخرى، لكل منها سماتها وخصائصها والفواعل إذ يتوارى بعضها أو يتزايد عددها أو متغير أدوارها، وقد تزداد الأهمية النسبية لبعض منها بينما تهمش أخرى وتتغير أوزانها النسبية من حجم التفاعلات وكثافتها وتأثيراتها.
  • والتفاعلات والعلاقات قد تختلف مع اختلاف الفاعلية والمتفاعلية، أشكالها، ومستوياتها درجة تداخلها وتواقفها وتساندها، حتى ربما يختلف توصيفها من حيث “المرغوب” أو “المطلوب” أو “الممنوع” أو “المفضل” محكوما بعناصر قوى متغيرة ومتبدلة.

أما عن مجال التفاعلات والفاعلية فإنه يتعلق بوسط، سماته وبيئة لها شروطها ومعطياتها وسط العلاقات وبيئتها يرتبط بطبيعة النظريات الغالبة (التوازن-القطبية-القطب الواحد-القطب الأوحد وتدبير المتوحد.. الخ)، إن وسط العولمة والبيئة التي تتفاعل فيها ظواهرها وعملياتها، وعالم علاقاتها وتفاعلاتها لابد أن يترك آثاره على تصور العلاقات الدولية وحدودها، إن هذا كله بثوابته ومتغيراته سيلقى بآثاره على الدائرة التراثية للعلاقات الدولية في الإسلام”، التعريف يقدم الحدود، والحدود تؤثر في مجال الجامعية ووسط المانعة أي ما يدخل فيها وما لا يدخل، ومن هنا فإن التعريف المتعدد للعلاقات الدولية بغرض حقيقة النظر المتجدد للتراث توصيفا وتصنيفا وتوظيفا. بحيث يجب مواصلة البحث الممتد في مناطق تراثية ربما في مرحلة سابقة لم تكن لتدخل في الحقل واهتماماته، ليس معنى ذلك تابعية عملية البحث للتعريفات المستحدثة في علم العلاقات الدولية، ولكن معنى ذلك أن دائرة البحث تتسع أو تضيق وفقا لحدود التعريف من دون أن نهمل عناصر مهمة لتعريف (العلاقات الدولية والعلاقات الخارجية) كما تقدمها البنى التراثية وتوجهات التأليف فيها. فبين التعريف المتجدد والمقتضيات التراثية وقبل هذا وذلك الأصول المرجعية يتولد القصور القادر على التعامل الواعي مع إشكالات التعريف للحقل والمجال المتعلق بالعلاقات الدولية [4].

نماذج الدولة القومية والعلاقات الدولية: بين المادة التراثية والمشكلات الدولية المعاصرة):

سيطرتها يقدم برتران بادي أطروحة مهمة نظن أنها امتدت في غالب مؤلفاته التي طلعنا عليها، وأطروحته كانت حول الدولة، والنماذج اللاغربية لها، وامتدت اهتماماته بل وغلب عليها ما أسمى بالدولة الإسلامية. وحقيقة الأمر أن هذه الأطروحة التي تتعرف على الفروق قبل إحداث نوع من المشابهات الغضة أو القياسات الفاسدة لهى من الأمور المنهجية التي يجب الوقوف عليها وتفحص مضامينها والتعرف على تأثيراتها البحثية ومآلاتها الجوهرية والمفصلية والحقيقية. هذه الرؤية تضمنت مجموعة من العناصر:

  • الدولة (علم اجتماع الدولة): كما يؤكد بادي مستلهما بعض ما يؤديه ماركس أن علينا أن نجرى تحليلا فعليا لشتى أنماط الدولة التي تكونت في كل واحد من المجتمعات تبعا لتاريخه الخاص.. إنه علم اجتماع الدولة الآخذ بعين الاعتبار تعددية المسارات التاريخية.. الذي يشكك في إمكانية تعميم الدولة – الأمة الغربية.. ورؤيتها باعتبارها التوجه الضروري والوحيد لصيرورة تطورها.. ذلك أن ظهور عدد هائل من الدول الفتية نتيجة لتفتت النظام الاستعماري، خارج أوروبا.. أدى إلى اضطراب التقاليد المكتسبة من موضوع العلاقات الدولية فضلا على أنه هز بعمق أيضا التحليلات وطرق الإدراك والتفكير التي كانت وضعتها العلوم الاجتماعية انطلاقا من أفكار وملاحظات كرست للقارة القديمة..، الدولة الوليدة لا زالت هشة وغير ثابتة، وتبدأ في سياقها الوطني غير كاملة المعالم، مواجهة من هذا النوع تبين إذن وبشكل واضح، أن من الضروري العودة للتاريخ كتأكيد للتوجهات الحالية لعلم السياسة كإمكانية حقيقية لتجاوزها.. وفي العالم الإسلامي.. أكثر مما في غيره يوجد تنوع للأنظمة والممارسات السياسية تتطلب الدراسة والتفسير بدقة.. ينتقد ضمن ما ينقد شمولية التصورات [5].
  • الدولتان: هذا كتاب آخر لـ “بادي” يحيلنا إلى ضرورة التعرف على علم الفروق بين نمطين من الدولة (الدولتان: الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الإسلام)، هذه الفروق تشير إلى الأزمة التي تمثلها فرضية الحداثة الشاملة على التفكير السوسيولوجي الذي حاول تعميم تجربة النمو الغربية على كل المناطق من العالم.. فالوقائع قد دعمت مضمون هذه الأزمة “من العالم الإسلامي” أكثر من أي مكان آخر… وهو أمر يؤسس للنشأة لعلم اجتماع تاريخي قد يصادفه أشد الصعوبات لتأسيس قواعد منهجه. وهذا يعني ضمن ما يعنى أنه لا وجود لجماعة اجتماعية ثقافية كانت أم قومية- منغلقة كليا على الآخرين، فالتفاعلات المستمرة تنتظم وفق بنية التبادلات والسلطة التي تحكم النسق الدولي. فالعلاقات الدولية، القائمة على التبعية أو على الترابط تسهم منذ القرن الماضي في فرصة رهانات مشتركة وقواعد متشابهة.. وربما البحث عن هوية التصور الاجتماعية-التاريخية يرتبط بالسوسيولوجيا التاريخية التأويلية هو ما يهدف إلى جعل الخصوصيات قابلة للفهم.
  • يؤكد بادي على جرأة هذه السوسيولوجيا التاريخية وضرورتها بل وقدرتها على التساؤل في سياقات التكوين، منظورا إليها كسياقات خاصة، مبينة إلى أية مخاطر إلى أية استراتيجيات وإلى أية عقلانيات كانت هذه السياقات مشدودة ضمن التاريخ الغربي.

إن الجواب عن هذه المسائل يجعل اللجوء إلى المنهج المقارن أمرا لازما.. إن خصوصية المنهج الاجتماعي التاريخي هي في اتباع طرق (المفارقات المتتالية) عن طريق إدخال المقارنة في مستويات عدة من التحليل. فالحداثة السياسية الغربية-وبالتبعية منتوجاتها_ تستمد هويتها وخصوصيتها من صلتها بسياق تاريخي معين وبرهان متقاسم، وبخاصة من اتصالها بثقافة عامة مشتركة.

ماذا يترتب على ذلك كما يؤكد بادي “لا يمكن أن ندرك بشكل سليم، الهوية الاجتماعية-التاريخية للحداثة السياسية (المنبثقة) من الغرب من أجل الخروج من نظام القرون الوسطى المأزوم إلا بمقارنتها بهوية نظام سياسي آخر، مبنى ضمن سياق مختلف وفي مواجهة رهانات مختلفة، ومولد لرؤية وممارسة للسياسي من طبيعة مختلفة. لذا نرى من المناسب تأويل السياقات الاجتماعية التي صنعت تاريخ الغرب بدءا من السياقات نفسها، كما من بناء السياسي الذي كان يتشكل بالتنافس داخل الإمبراطوريات الإسلامية في مرحلة القرون الوسطى..”.

السياسي وفق هذا التحليل يجب أن يفهم كمجال للنشاطات أي المجال الذي يفسح في أن تمارس السلطة في حيز معين، وفي أن تتحدد أنماط تشريعاته وتنبني أدواته ومؤسساته وقواعد وظائفه (أي السياسة).

فالسياسي هو إذا تاريخ وثقافة ووظائف.

إن معرفة السياسي ومعرفة خصوصيته، ضمن كل تاريخ، تفتر من تجاوز الصيغ الأيديولوجية للوصول إلى كشف العناصر المتواترة التي تؤسس الممارسات والاستراتيجيات ([6]).

إن البناءات السياسية متعددة تاريخيا، وهي ما تزال متباينة، ولا يمكن للسوسيولوجيا السياسية الغربية أن تقنعنا عكس ذلك، حتى ولو قلصت الحقيقة السياسية إلى تمثل تصوري وحيد.

إذا كان الأمر كذلك فإن بادي يكمل أطروحته محللا ومشرحا ما أسماه بـ “الدولة المستوردة”. ([7])

يتحدث عن واقع تعيشه بلدان الجنوب (ومنها بلدان العالم العربي والإسلامي) التي تخلصت من نير الاستعمار المباشر المكشوف، ولكنها لم تتخلص من التبعية السياسية والثقافية. فانتهاء عهد الاستعمار لم يعن تلقائيا أنه قدم لمجتمعات العالم الثالث، تنظيما يتفق مع تقاليدها، بل الملاحظ أن ظاهرة التبعية السياسية والثقافية لم تنته فيه بل زادت.

ورغم أن قادة الجنوب يتحدثون كثيرا عن القطيعة مع المستعمرين السابقين فإنهم يستوردون قوانينهم ونموذجهم للتنمية وأشكالهم الديمقراطية النيابية (رغم أنهم يشكلونها بطريقتهم الخاصة). ويقومون هم والمحيطون بهم ومثقفوهم بالتفكر والعمل والبناء تبعا لأنماط النظم والمفاهيم الغربية، ولكن هذا التغريب المفروض يفشل، والتطعيم “مشوه” وربما كان مستحيلا يتم على نحو عشوائي. ويعرض هذا الفشل تطور العالم المعاصر منذ 1945 (يتضح ذلك من تاريخ الهند والعالم العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والصين. ورغم الآمال التي وضعتها النخبة فيه فإن التقريب الفاشل يسبب عددا من الأمراض الاجتماعية ويكون عاملا للفوضى في العلاقات الدولية).

إن هذا العالم المتنافر الذي لا يصل إلى توحيد قواعد اللعبة أو يجد لها مكانا في الاختلافات والفروق يشكل بلا شك أكبر تهديد يثقل على البشرية.

هذا التقييم التابع من (الفروق) (والتغريب المفروض) (والتطعيم المشوه) (والظواهر العشوائية) لابد أنها ستجد تأثيرا على العلاقات الدولية تستند إلى مقولة بادي “التاريخ لم ينته” فبعد موجة استقلال البلدان.. وقواعد الدول وبتماثلها في كل مكان تقريبا على سطح الكرة الأرضية. وعاونت هذه الموجة في تكوين ” عالم ثالث” شاسع، تدعو تسميته المضللة إلى الاعتقاد بأنه يمر بمرحلة تدريبية في عالم خاضع لمعايير موحدة، وتؤدي إلى التصور بأنه لا بد لمسيرة هذا العالم الثالث أن تقوده في النهاية نحو الديمقراطية أي ذات المسار – التي هي – لعدم وجود نماذج أخرى وجهة التاريخ النهائية. هذه الرؤى المنتمية للمدرسة التطورية، تقوم باستنزاف أوهامها المتبقية، بينما تنقشع أحلام التقارب (بمعنى حصول البلدان على نتائج ووصولها إلى أهداف متقاربة وتتبدد أسطورة التقدم المطرد والمستمر. ومن بعد أصبحت العلوم الاجتماعية مستقرة بشدة في “ده ما بعد التطورية” الذي يتميز على أي حال بكونه أكثر استبصارا. لقد أدت مجريات الأحداث دورها وأنجزت مهمتها، لم تكن مسيرة الدول الإفريقية والأسيوية خلال الثلث الأخير (من القرن الفائت) متطابقة مع النماذج المعلنة.. كما أن القصورات بشأن ما يجب أن تكون عليه الدولة لم تتقارب

وتبدو الدولة المستوردة ضمن واحد من أهم أطوارها المشكلة، إذ تبرز ظواهر، وتبدو عمليات، إذ “ترسم العولمة تكوين نظام دولي يتجه نحو توحيد مناهجه وقيمة وأهدافه، مع طموحه في ذات الوقت إلى دمج الإنسانية بأكملها داخله. وبطبيعة الحال تبدو هذه العملية المستحدثة في التاريخ بأنها تدعم فرضية التقارب” بل وترسخها. والواقع أنها تكشف عن العديد من أنواع التنافر وعدم الاتساق حيث تحدد نطاق هذا النظام وبطبيعة الحال تبدو هذه العملية المستحدثة في التاريخ، بأنها تدعم فرضية ” التقارب” بل وترسخها.

والواقع أنها تكشف عن العديد من أنواع التنافر وعدم الاتساق حين تحدد نطاق هذا النظام: فعندما تحث على استيراد نماذج غربية إلى مجتمعات الجنوب. تكشف بذلك عن عدم ملائمة هذه النماذج، وعندما تحرض المجتمعات الطرفية على التكيف، توقظ أيضا آمال التجدد مع المخاطرة في الوقت ذاته بخداعها، وحين تعجل بتوحيد العالم، فإنها تحبذ ظهور التفردات وتزيد تأكيدها، وحين تمنح النظام الدولي مركزا للسلطة مرتبا أكثر من أي وقت مضى، فإنها تتجه نحو زيادة حدة منازعاته وشدة صراعاته. وحين تسعى لعولمة نحو وضع نهاية للتاريخ، فإنها تمنحه فجأة معاني متعددة ومتناقضة.

هكذا تستصحب العولمة معها الإعلاء من شأن التفرد. ويبدو هذا الارتباط غريباً لا سيما وأن العولمة مستأثرة تحب الانفراد، كما أنها مزودة بموارد وفيرة: إذ يرتكز توحيد النظام الدولي على إمكانات تقنية راسخة تساعد على سهولة الحركة، وعلى الاتصال، والاختراق المتبادل، والواقع أنه يستهدف تقليص الخصوصيات وتحبيذ الانتساب إلى نظام مشترك قانوني وسياسي واقتصادي، بل وأخلاقي. وعلى هذا لا يمتلك التفرد المجابه لهذا النظام وسائل القوة، والمؤكد أن التفرد يفرض نفسه عن طريق تعبئة الموارد الشاردة من المركز، غير أنه يتغذى بخاصة على الاعتراضات وعلى أشكال المقاومة التي تثيرها عمليات التجنيس الثقافي (جعل الثقافات متجانسة).

وتقوم العولمة حينذاك بتجديد بناء فكرة التبعية ذاتها. وحيث أنها تتصور نظاما دوليا موحدا، وتتغذى على عملية متشعبة لنشر النماذج، فإنها تنطوي أولا على وجود بنية للسلطة تقوم بتنشيط العلاقات الدولية. ولا تعكس هذه البنية المتعددة في هويتها أية حتمية وحيدة ولا يمكن اعتبارها اقتصادية فقط. ولا يمكن اختزالها أيضا إلى مجموعة بسيطة من الفاعلين، ولا تصورها على أي حال بأنها “مؤامرة من متسلطين”. إن خاصيتها الرئيسية هي خلق شبكات ومجموعات مصالح ومنافع تضم فاعلين من “الشمال” وفاعلين من “الجنوب” يحملون مصالح وأهدفا متنوعة للغاية. وحين تقوم العولمة بإيجاد السلطة، فإنها تخلق أيضا منازعاتها الخاصة وصراعاتها الذاتية، وتتزود بأساليب انفلاقها. وحيث أن العولمة تحصل على رؤيتها من رغبتها في توحيد النماذج، فإنها تضفي على التوترات التي تحدثها صبغة ثقافية أساساً.

إن التبعية الثقافية المتناقضة في إنجازاتها، الخيالية في طموحاتها، الساذجة في مسلماتها، التي كثيراً ما تتسبب في صراعات عنيفة، وما يتم استنكارها وتشبيهها أحيانا بالشيطان. . تزداد ترسخا وانتشارا، بل وتتوطد على المسرح الدولي أكثر فأكثر [8].

تكوين الأمة وامتدادها وإشكاليات (المركز والأطراف) رؤية سننيه خلدونية:

من القضايا التراثية التي ارتبطت بإشكالية تعريف العلاقات الدولية، حقيقة النظر إلى قضية الفتوحات وهي قضية ظلت مجال تحفظ بعض الباحثين، وهجوم جانب كثير من المستشرقين ضمن حجة ذائعة ” انتشار الإسلام بالسيف”. ومن هنا بدا لنا التعامل مع هذه القضية بميزان نقدي يقدمه ابن خلدون في رؤيته السننية في العلاقة بين المركز والأطراف، أو ما أطلق عليه ابن خلدون ” حصة الدولة في الاتساع” وهو أمر قد يحمل تميزا بين ” اتساع الدولة” وامتداد الأمة” وانتشار الدعوة صحيح أن هذه المسائل الثلاث تتداخل وتتشابك، إلا أن فهم عناصر التمييز فيما بينها يسهم في ترشيح وتشريح العلاقة بين الفتوحات والدعوة من ناحية وإمكانية تقديم رؤية نقدية لنمط من أنماط “الفتوحات” اختط طرائق (الفتح غزوا، الفتح جباية، الفتح خروجا على القواعد الكلية في صد العدوان أو الفتنة في الدين) وما قد يرتبط بذلك من مشروعات عسكرية تستند إلى تجميع الأجزاء وتوحيدها عن طريق القوة، وما قد يورث ذلك على العلاقات البيئية، والعلاقات الغيرية، وما قد يؤديه ذلك من انفكاك عرى الدولة، امتدادا واتساعا، تماسكا وقدرة على التغلغل (بفرض هيبة الدولة) والقدرة على النفاذ إلى كل أطراف الدولة.

إشكالات التعريف وتأثيراتها على دراسة تراث العلاقات الدولية في الإسلام:

ضرورات النظر المتجدد والبحث الممتد، وتكافل وتكامل التعدد:

تؤدي المادة التراثية أداء مختلفا باختلاف مناهج النظر والتناول والتعامل، ومن هنا فإننا لسنا مع هؤلاء الذين يقولون أن هذه المادة التراثية عفى عليها الزمان. وصارت خارج دائرة زمان فعلها ومفعولها وفاعليتها، ولسنا مع هؤلاء الذين يكتفون وينكفئون ويكفون أيدي الباحثين عن دراسة القديم، اختصارا على تحليلات القدماء وملاحظة حواشيهم، ولكننا مع النظر المتجدد في وعبر وحول المادة التراثية واستثمارها لفاعليات ترتبط من جهة بمعنى الهوية والاختصاص والتمايز من ناحية، ولمعنى الذاكرة الحضارية والتراثية المقفية لفاعلية هذه العوالم المتعلقة بها من (عالم أحداث وعالم أفكار، وعالم نظم، وعالم رموز، وعالم أشخاص).

هنا فإن تعريف العلاقات الدولية هذا التعريف المتجدد بحكم التأكيد على جوهر التعريف الثابت حول الفواعل والتفاعلات والبيئة والوسط، هذه الثوابت في التعريف تشير إلى أبعاد متغيرة في مضمونها فالفواعل يختلفون من مرحلة إلى أخرى، لكل منها سماتها وخصائصها والفواعل إذ يتوارى بعضها أو يتزايد عددها أو تتغير أدوارها، وقد تزداد الأهمية النسبية لبعض منها بينما تهمش أخرى وتنفذ أوزانها النسبية في حجم التفاعلات وكثافتها وتأثيراتها.

والتفاعلات والعلاقات قد تختلف مع اختلاف الفاعلية والمتفاعلية، أشكالها، ومستوياتها درجة تداخلها وتواقفها وتساندها، حتى ربما يختلف توصيفها من حيث المرغوب أو المطلوب أو الممنوع أو المفضل محكوما بعناصر قوى متغيرة ومتبدلة.

أما عن مجال التفاعلات والفاعلية فإنه يتعلق بوسط له سماته وبيئة لها شروطها ومعطياتها وسط العلاقات وبيئتها يرتبط بطبيعة النظريات الغالبة (التوازن-القطبية-القطب الواحد – القطب الأوحد وتدبير المتوحد…الخ)، إن وسط العولمة والبيئة التي تتفاعل فيها ظواهرها وعملياتها، وعالم علاقاتها وتفاعلاتها لابد أن يترك آثاره على تصور العلاقات الدولية وحدودها، إن هذا كله بثوابته ومتغيراته سيلقى بآثاره على الدائرة التراثية للعلاقات الدولية في الإسلام”، التعريف يقدم الحدود، والحدود تؤثر فيما ما يدخل فيها وما لا يدخل، ومن هنا فإن التعريف المتعدد للعلاقات الدولية يفرض حقيقة النظر المتجدد للتراث وقدراته في الإسهام في هذا الحقل.

إن الإجابة ما هي العلاقات الدولية؟، ليست إلا مقدمة لتحديد معالم العلاقات الدولية في الإسلام، فهم المعطيات المتجددة تفرض النظر المتجدد للتراث توصيفا وتصنيفا وتوظيفا. بحيث يجب مواصلة البحث الممتد في مناطق تراثية ربما في مرحلة سابقة لم تكن لتدخل من الحقل واهتماماته، ليس معنى ذلك تابعية عملية البحث للتعريفات المستحدثة في علم العلاقات الدولية، ولكن معنى ذلك أن دائرة البحث تتسع أو تضيق وفقاً لحدود التعريف من دون أن نهمل عناصر مهمة لتعريف (العلاقات الدولية والعلاقات الخارجية) كما تقدمها البنى التراثية وتوجهات التأليف فيها. فبين التعريف المتجدد والمقتضيات التراثية وقبل هذا وذلك الأصول المرجعية يتولد القصور القادر على التعامل الواعي مع إشكالات التعريف للحقل والمجال المتعلق بالعلاقات الدولية.

ففي فصل أسماه “في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها” يقول ابن خلدون:

“والسبب في ذلك أن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهدين لها لابد من توزيعهم حصصا على الممالك والثغور التي تصير إليهم، ويستولون عليها لحمايتها من العدو، وإمضاء أحكام الدولة فيها من جباية وردع وغير ذلك. فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها، وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغرا للدولة، وتخما لوطنها، ونطاقا لمركز ملكها. فإن تكلفت الدولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور، ويعود وبال ذلك على الدولة، بما يكون فيه من التجاسر وخرق سياج الهيبة.

وما كانت العصابة موفورة ولم ينفذ عددها في توزيع الحصص على الثغور والنواحي، بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية، حتى ينفسح نطاقها إلى غايته. والعلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية، وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها. والدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف والنطاق. وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت وأقصرت عما وراءه شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه. ثم إذا أدركها الهرم والضعف فإنما تأخذ في التناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظا إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة، فحينئذ يكون انقراض المركز. وإذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنطاق بل تضمحل لوقتها، فإن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح، فإذا غلب القلب وملك انهزم جميع الأطراف.

وانظر هذا في الدولة الفارسية. كان مركزها المدائن، فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع، ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه.

وبالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام، لما كان مركزها القسطنطينية، وغلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية ولم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم، فلم يزل ملكهم متصلا بها إلى أن تأذن الله بانقراضه.

وانظر أيضا شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة، كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام والعراق ومصر لأسرع وقت، ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند والحبشة وإفريقية والمغرب، ثم إلى الأندلس. فلما تفرقوا حصصا على الممالك والثغور، ونزلوها حامية، ونفد عددهم في تلك التوزيعات، أقصروا، عن الفتوحات بعد، وانتهى أمر الإسلام، ولم يتجاوز تلك الحدود، ومنها تراجعت الدولة حتى تأذن الله بانقراضها.

وكذا كان حال الدول من بعد ذلك، كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة، وعند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء . سنة الله في خلقه [9].

وفي فصل آخر في عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها.. ” يقول: “والسبب الصحيح في ذلك أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف، فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة، وكل نقص يقع فلا بد له من زمن، فتكثر أزمان النقص لكثرة الممالك، واختصاص كل واحد منها ينقص وزمان فيكون أمدها طويلا”[10].

ويكمل ابن خلدون رؤيته ضمن سياقات يحدد فيها علاقات الاتساع بتعدد العصبيات.. ففي الفصل التاسع قرر أن ” الأوطان الكثيرة القبائل والمصائب قل أن تستحكم فيها دولة” فيكثر الانتقاص على الدولة والخروج عليها في كل وقت.. لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة…

كما أنه يلحظ في الاتساع ما يرتبط بالذي ” في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها” فتربى ” أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه، فازدادوا بهم عددا إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد.. فإذا ذهب الجيل الأول والثاني وأخذت الدولة من الهرم لم تستقل أولئك الصنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدولة وتمهيد ملكها، لأنهم ليس لهم من الأمر شيء، إنما كانوا عيالا على أهلها ومعونة لها، فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب ويتلاشى، ولا تبقى الدولة على حالها م القوة”.

ويربط كل ذلك بمعادلات الاتساع – الترف – الفساد – الظلم – التفكك وخراب العمران [11]. لا يزال ابن خلدون في حاجة إلى قراءة تراثية مهمة. نرى تلك الرؤية السنية الخلدونية باعتبارها تحرك عناصر تفكير لقراءة إيجابية لصفحة الفتوحات:

الأولى: التمييز بين المراحل التي اتخذتها حركة الفتوحات في التاريخ

(فتوحات حماية الدولة ورد العدوان) (فتوحات الاستئصار ورفع الظلم والفتنة عن الدين والصد عن سبيل الله) (الفتوحات الملتزمة بالقواعد الكلية في الجهاد والقتال: الخيارات المفتوحة).

الثانية: تحفظ عمر في مسألة الفتح، مراجعة قصة عمر واستعجاله عمرو بن العاص ” فتح مصر” تعبر عن رؤية ثاقبة لمسألة حصة الدولة في الاتساع، القدرة على التغلغل من أهم عناصر قوة الدولة، إن قول سيدنا عمر مع اتساع دولته يفكر في أن يتنقل بمركز سلطة في كل عام إلى ولاية ما، في إطار ضرورة وصل المركز بالأطراف في فاعلية لا تصيب الدولة بالترهل والتضخم على حساب المركز، أو فرصة تنازع الأطراف، أو سياسات شد الأطراف من قبل الخصوم والأعداء، أو الإغراء بالتجزؤ وما يتركه ذلك على قضايا تتعلق بالوحدة والتجزئة

الثالثة: إن ما يقدمه ابن خلدون هو نظرة نقدية غير مباشرة لخط الفتوحات والذي خرج في بعض تجلياته عن الحدود الكلية المرتبطة بالفتح تمثل ذلك في “بعض من أشكال الفتح الجبري في عهد بعض خلفاء بني أمية – الجباية من المسلمين أخذ الجزية رغم الإسلام – التعصب للجنس العربي على حساب الموالي: أدى إلى إمكانية إقامة دولة أخرى على أنقاضها-الترف الأموي وانهيار الدولة)

الرابعة: قد يحيلنا هذا ضمن التفتيش عن عناصر الذاكرة الحضارية حول “عمر بن عبد العزيز” الذي مثل نموذجا إصلاحيا في دولة بني أمية، وكان ضمن إصلاحاته إصلاح حركة الفتوح (إيقاف الجباية: “إن الله لم يرسل محمدا جبابيا، إنما أرسله داعيا”) (رد بلدة مفتوحة إلى أهلها لخروج ذلك على القواعد المؤسسة لحركة الفتح المتعلقة بعملية الخيارات المفتوحة).

الخامسة: الفتوحات العباسية الإمبراطورية والممتدة (حصة اتساع الدولة – تنوع العصائب – الاعتماد على جنس دون جنس – حالة اللامركزية الجبرية التي تمثلت في إمارة الاستيلاء وأمراء التغلب ووزراء التفويض، والدول المتعددة ضمن خلافة إسميه) وهو أمر ربما أدى لطمع الأعداد الخارجيين (المغول – الحملات الصليبية).

السادسة: الفتوحات والإمبراطورية العثمانية وحصة الاتساع وإشكاليات الضعف والتفكك وبروز المسألة الشرقية، واعتبار أوروبا الدولة العثمانية الرجل المريض.

إن ما يقدمه ابن خلدون رؤية نقدية مهمة من منظور سنني لخط حركة الفتوحات [12]

فتح الدعوة ودعوة الفتح: شهادة استشراقية لتوماس أرنولد: الفتوحات والدعوة السليمة:

تكتمل هذه الرؤية بملاحظة “امتداد الأمة” و “انتشار الدعوة” استمرار معنى الأمة وتواصل وجودها المعنوي يحرك استنادات أخرى غير وجودها المادي، على أهمية ذلك بالطبع، كما أن ذلك يتكامل مع اعتبار الدعوة لا القتال والغزو هو أصل العلاقات، بلغتنا في الوقت ذاته إلى طرائق أخرى أدت إلى انتشار الإسلام (الدعوة بالتي هي أحسن، التجارة، التصوف.. إلخ)

دراسة أرفولد القيمة حول “الدعوة إلى الإسلام” وهو بحث قيم “في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية” سجل لجهود نشر الدعوة “وليس تاريخا للاضطهاد” وهو يختط قول أحد المؤرخين المسيحيين الذي أرخ انتصارات العثمانيين وسقوط القسطنطينية بقوله ” لابد للمؤرخ من أن يسجل التاريخ، لاحباً في أن يعترف الناس له بالجميل، ولا مدفوعاً بباعث الحقد والضغينة، أو الكراهية وإرضاء المشاعر، بل لأجل التاريخ وحده، ولكيلا تنطوي في عالم النسيان صفحات لتاريخ التي يعرف الزمن كيف ينشرها”.

إن نظرة من سجل الكتاب وفهرسه لتعبر عن معنى الدعوة وتأهيل مفهومها من خلال نماذج تاريخيه، هذا التأصيل التاريخي من متابعة أقرب ما تكون إلى الاستقصاء الجيد والاستقراء الملائم، حيث تتأكد جهود موازية لفهم مسار حركة الدعوة الملازمة للفتح حينا، والمستقلة ضمن مسالك أخرى أحيانا أخرى. ذلك أن البعض الذي جعل من الدعوة إشكالا يتعلق بالعمليات القتالية فجعلها ضمن خيارات ثلاثة (الدعوة للإسلام-الجزية والعهد–القتال)، يهمل أن الدعوة كأصل للعلاقات الدولية تبرز كحركة مستقلة لا تعتبر ضمن الإجراءات قبل بدء القتال ولا تتلازم معه ضرورة، إنها حركة دائمة لا مؤقتة، استمراريتها، واعتناء الفرد كما الدولة بها، والدعوة غير المباشرة بنماذج القدوة والأسوة، والحركة الدعوية المرتبطة بالعمران.

“.. إن انتشار العقيدة الإسلامية التي تبعت الفتوحات العربية (الإسلامية) أن تكف عن هذه الظروف التي جعلت مثل هذا التوسع أمرا ممكنا”. ومن أجل هذا كما يقول أرنولد ” يجب ألا نلتمس الأسباب التي أدت إلى مثل هذا الانتشار السريع للعقيدة الإسلامية في أخبار الجيوش الفاتحة، بل الأجدر أن نفتش عن ذلك في الظروف التي كانت تحيط بالشعوب المغلوبة على أمرها” وقد يتكامل مع ذلك رؤية مآلات هذه الفتوح على معظم هذه الشعوب.. يؤكد أرنولد أسباب تحول المسيحيين إلى الإسلام.. وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي، ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق. ومن ثم لم يكن بد من أن نتلمس بواعث أخرى غير ذلك الباعث الذي أوحى بالاضطهاد. ولكن مما يؤسف له، أنا لا نملك إلا أخباراً قليلة، ومن ثم نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نلجأ إلى الحدس والتخمين.

وقصة التسامح في تاريخ الحضارة الإسلامية ليست في عرفنا هي صفحة افتخارية يمكن أن نصدع بها، ولكن هي من القواعد القابلة للاستثناء والتي تلازمت مع حركة الفتوحات فإن فكرة أرنولد السابقة حول التسامح يوازنها ببعض العوارض التي اختطت خطوط الاضطهاد كتجاوزات وجب ذكرها في هذا المقام.

ويرجع انتشار هذا الدين في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض إلى أسباب شتى اجتماعية وسياسية ودينية، على أن هنالك عاملا من أقوى العوامل الفعالة التي أدت إلى هذه النتيجة العظيمة، تلك هي الأعمال المطّردة التي قام بها دعاة من المسلمين، وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الإسلام متخذين من هدي الرسول مثلا أعلى وقدوة صالحة.

وهكذا كان الإسلام منذ بدء ظهوره دين دعوة، من الناحية النظرية، أو الناحية التطبيقية. وقد كانت حياة محمد تمثل هذه التعاليم ذاتها، وكان النبي نفسه يقوم على رأس طبقات متعاقبة من الدعاة المسلمين، الذين وفقوا إلى إيجاد سبيل إلى قلوب الكفار. على أنه ينبغي ألا نلتمس الأدلة على روح الدعوة الإسلامية في قسوة المضطهد، أو عسف المتعصب، ولا حتى في مآثر المحارب المسلم، ذلك البطل الأسطوري الذي حمل السيف في إحدى يديه، وحمل القرآن في اليد الأخرى وإنما نلتمسها في تلك الأعمال الوديعة الهادئة، التي قام بها الدعاة وأصحاب المهن. الذين حملوا عقيدتهم إلى كل صقع من الأرض. على أن هؤلاء الدعاة لم يلجؤوا إلى اتخاذ مثل هذا الأساليب السلمية في نشر هذا الدين عن طريق الدعوة والإقناع بخلاف ما زعم بعضهم، حينما جعلت الظروف القوة والعنف أمرا مستحيلا يتنافى مع الأساليب السياسية. فلقد جاء القرآن مشددا في الحض على هذه الطرق السليمة.

المسلمون كما يقول أرنولد ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم سادة على إمبراطورية أعظم من إمبراطورية روما في أوج قوتها.

ومع أن هذه الإمبراطورية العظمى قد تصدعت أركانها فيما بعد، وتضعضعت قوة الإسلام السياسية، ظلت غزواته الروحية مستمرة دون انقطاع. وعندما خربت جموع المغول بغداد (1258م) وأغرقوا في الدماء مجد الدولة العباسية الذاوي، وطرد فرديناند ملك ليون وقشتالة المسلمين من قرطبة (1236م) ودفعت غرناطة، آخر معاقل الإسلام في أسبانيا الجزية للملك المسيحي – كان الإسلام قد استقرت دعائمه وتوطدت أركانه في جزيرة سومطرة، وكان على أهبة أن يحرز تقدما ناجحا في الجزائر الواقعة في بلاد الملايو. وفي هذه اللحظات التي تطرق فيها الضعف السياسي إلى قوة الإسلام، نرى أنه قد حقق بعض غزواته الروحية الرائعة. فهنالك حالتان تاريخيتان كبريان، وطىء فيهما الكفار من المتبربرين بأقدامهم أعناق أتباع الرسول، أولئك هم الأتراك السلاجقة في القرن الحادي عشر، والمغول في القرن الثالث عشر، وفي كلتا هاتين الحالتين نرى الفاتحين يعتنقون ديانة المغلوبين. وقد حمل دعاة المسلمين الذين كانوا خلوا كذلك من أي مظهر من مظاهر السلطان الزمني، عقيدتهم إلى إفريقية الوسطى والصين وجزائر الهند الشرقية. وتمتد العقيدة الإسلامية اليوم من مراكش إلى زنجبار، ومن سيراليون إلى سيبيريا والصين، ومن البوسنة إلى غينيا الجديدة.

الاضطهادات التي عاناها المسيحيون: ولكن حال المسيحيين لم تكن دائما قائمة على هذا التسامح الذي كان في عهد خلفاء صدر الإسلام. فقد كانت تفرض أحياناً، في سبيل خدمة المؤمنين المخلصين بعض الحالات التي تضايق الأهالي من غير المسلمين (أو أهل الذمة) بحجة ضمان المزايا الاجتماعية السامية للمؤمنين. وقد قام بعض الخلفاء بمحاولات غير مجدية لإقصائهم عن الوظائف العامة. وأصدر المنصور (754-775)، والمتوكل (47-861م) والمقتدر (908-932م) والآمر (1101-1130م) وهو أحد الخلفاء الفاطميين في مصر، مراسيم بهذا الصدد، وصدر مثل هذه المراسم في عهد سلاطين المماليك في القرن الرابع عشر الميلادي. ولكن مجرد تجديد هذه المراسيم الخاصة بإقصاء الذميين من الوظائف الحكومية دليل على أن مثل هذه الأساليب التي تنطوي على التعصب لم تكن توضع موضع التنفيذ دائماً. والحق أنه يمكن أن تكون هذه المراسيم راجعة بوجه عام إما إلى سخط شائع أثاره السلوك الخشن المتعجرف، الذي يسلكه الموظفون المسيحيون، أو إلى سورات من التعصب حملت الحكومة على القيام بأعمال من التعسف تتنافى مع الروح العامة التي ظهر بها الحكم الإسلامي.

ولكن مصير هذه الأعمال التعسفية قد آل إلى الزوال في أسرع وقت.

ومن الممكن أن نورد كثيراً من الظروف الأخرى التي ساعدت على نجاح الدعوة إلى الإسلام – وهي ظروف تتعلق بأزمان معينة وبلاد خاصة.

ويمكن أن نذكر من بين هذه الظروف تلك الفائدة التي تستمدها أعمال الدعوة الإسلامية من هذه الحقيقة، وهي أن هذه الدعوة كانت إلى حد كبير في أيدي التجار، وخاصة في إفريقية وبلاد أخرى غير متمدنة.

ومما يجب أن تزيده على ما تقدم، هذا التأثير البطيء الدائم، الذي أحدثه الاتصال اليومي بالحياة الإسلامية والتفكير الإسلامي. مما جعل حتى أحد الكتاب النساطرة في القرن الثاني عشر، يضيف كلمات التبجيل والتقديس إلى اسم النبي والخلفاء الأولين كلما عرض لذكرهم، ويستنزل رحمة الله على عمر بن عبد العزيز.

هذه صفحات مهمة من سجل فتح الدعوة ودعوة الفتح، مسالكها غير الحربية ومسالكها الحربية، لتعبر عن معاني تتعلق بالوظيفة الحضارية والعقيدية للدولة والأمة ممثلة من المنتمين إليها[13].

حركة الدعوة كعملية جهادية هي حركة وعملية شديدة التنوع، وتحمل عناصر متعددة، وتؤصل مجالات وتجليات، تصب في النهاية في إطار جملة الأفعال الحضارية بما يتناسب وأصول فهم الأحكام بالمعنى الواسع، وقواعد فقه الواقع بكل امتداداته وتنوعاته، وأسس عمليات التنزيل بما يؤدي إلى استثمار كل عناصر هذا المنظور في جعل جملة الحركة الحضارية ملتزمة وواعية وفاعلة وقادرة تنتقل من فن الممكن إلى فن الإمكان إلى فن التمكين، وبما تحقق لكل ظرف شروطه، وحقائق وعناصر سننه، ومقاصده الكبرى في عمارة الحضارة بالصبغة الإسلامية والشاكلة الإسلامية. [14]

إن الدعوى التي ترتبط بتيار في الفكر الاستشراقي والتي تشير إلى انتشار الإسلام بالسيف،[15] في محاولة لتكريس معاني تأسيس العلاقة بين المسلمين وغيرهم على الحرب، والتي وجدت سندا في اتجاه أسس العلاقة على العلاقة الحربية في إطار من النظر القاصر والاستناد إلى آليات لا منهجية في رؤية للنسخ أو التأويل والتفسير، لا تزال تحتاج لمراجعة سواء عند من تبناها داخل منظومة التراث السياسي الإسلامي أو من استثمرها من المستشرقين في صناعة الصورة وتعميم المقولة ضمن شعار انتشار الإسلام بالسيف. [16]

بل إننا يمكن أن نضيف إلى هذا التأسيس الذي يكسف الدعوة حجة باعتبارها الأصل في العلاقات والتعامل الدول، الدعوة باعتبارها وظيفة حضارية اتصالية معنوية، حجة مساندة في إطار تفحص حركة التاريخ في ظل عمليات دعوية مستمرة جعلت انتشار الإسلام يأخذ أشكالا متعددة. [17]

  • الفتح كواحد من الأشكال الدعوية
  • الفتح الدعوى في إطار خيارات متعددة
  • انتشار الإسلام بالتجارة ونماذج القدوة الدعوية

نماذج مهمة تجعلنا نتتبع الحركة الدعوية في المسيرة التاريخية لنشر الإسلام وهنا يمكن تحليل جملة النصوص المختلفة التي ارتبطت بالتعاملات الدعوة في عصر النبوة ثم عصر الخلافة الراشدة.. كما يمكن تقويم أصول الحركة المختلفة في إطار انتشار الإسلام ورصد حركة الانحراف على مسيرة الدعوة، الدراسة التاريخية مهمة في هذا المقام من منظور الدعوة كأساس للعلاقة الدولية والتعامل الدولي. [18]

لا يعقل وفق هذه الرؤية المؤسسة لأصل العلاقة على “الدعوة” أن نؤسس العلاقة على “حالة حربية مستمرة” فنجعل من الحرب أساساً للعلاقة، وننظر إلى العالم المخالف كله في حالة حرب واقعة أو محتملة، إن هذا العنت الشديد في عملية التأسيس لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينسجم مع البناء العقدي في نظرته التأسيسية للعالم (الإنسان والكون والحياة) والعلاقة بالقيمة التوحيدية والمنظومة المعرفية المؤسسة على قاعدة منه، كما أن هذا لا يتسق مع عناصر السمات الكلية للشرعة أو خصائصها التكوينية والبنيانية ولا حقائق التكليف والاستطاعة، ولا أصول الأحكام ومنظومتها، ولا تفعيل القواعد الكلية الحاكمة، ولا يمكن كذلك أن يتألف مع منظومة قيم التأسيس (التوحيد– التزكية والعمران) أو منظومة القيم الأساسية (العدل–الاختيار–المساواة) والقيم المشتقة والمولدة المرتبطة بالمجال الدولي (المعاملة بالمثل–الوفاء بالعهد .. وما في حكمها من قيم). ولا يتحرك من اعتبار التصنيف الأساسي بأمة الدعوة وأمة الإجابة، ولا الجوهر العمراني في البناء الحضاري وأصول الاستخلاف، ولا عناصر الرؤية السننية المراعية لأحوال القوة والضعف أو الرؤية المقاصدية التي تتحرك صوب الحفظ لهذه المجالات ضمن مراعاتها في حق الذات والغير.

كما أنه لا يعقل كذلك في المقابل أن تستند العلاقة بين المسلمين وغيرهم إلى حالة سلمية دائمة، تفرض عليهم أنماطا من التعايش تتأسس على الظلم الكامن في العلاقة لتتخذ أشكالا من علاقات: (التبعية – الخضوع والخنوع – الاستسلام – الطغيان – والقابلية للاستخفاف والطاعة، علاقات التمركز والاستثمار–علاقات الهيمنة والسيطرة).

فللعلاقة الحربية شروطها، وللعلاقة السلمية شروطها، ما أن تحققت وقعت وإن تأسيس العلاقة على الحالة السلمية يفترض أن نسق العلاقات سيسير وفق قواعد تحقق السلام في مضمونه الجوهري من تأسيسه على العدل والحق. وهو أمر لا يمكن احتماله ضمن نسق العلاقات التدافعية والتعاونية على حد سواء، إن سنة التدافع الدائمة التي لا تتخلف بما تفرضه من علاقات متنوعة بل ومتناقضة، والعلاقة السلمية المؤبدة كأصل للعلاقة لا يمكن قبولها لأنها لا تحقق معاني خيرية الأمة أو وسطيتها أو وظيفتها الحضارية والمعنوية في الدعوة، أمور تستحق التأمل في هذا المقام، لا ترى هذه المفردات ومنظومتها إلا من خلالها. [19]

إن الحالة الحربية الدائمة أو الحالة السلمية الدائمة كتأسيس للعلاقة بين المسلمين وغيرهم إنما يعبر عن حالتين طرفيتين تتنافيان مع افتراض ديمومة أحدهما، مع أصل الفاعلية، الأولى تحرك العمليات القتالية بصورة دائمة من دون أي فرصة لممارسة أصول العمران المحقق لحفظ مقاصد الشرعة الكلية والعامة، والفاعلية لحركة الأمة (الأمة الوسط). والثانية تجعل من السلم أصلا مستمرا بما ينفى أو يتنافى مع أصل الفاعلية في حمل الأمانة والرسالة والاختيار، فإن حال السلم الدائم قد يقتضى التنازل عن أصول الشرعة وتفعيلها في الواقع وهو قعود لا يقترن بفاعلية الأمة ووسطيتها.

الوسطية في هذا السياق حركة تؤمن عناصر التفاعل المتنوع، النافي للحركة الحربية والقتالية المستمرة، وكذلك الحركة السلمية الدائمة، بل هي تشكل وسائل واختيارات مع تداخلها تؤكد وسطية الأمة وخيريتها وفاعليتها.. “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”.[20]

ويرتبط بهذه المعاني أن نحرك فاعليات تأهيل المفاهيم، واحد من هذه المفاهيم هو مفهوم الجهاد، بما يتطلب من الرد إلى الأمر الأول، ورد المفهوم ردا جميلا إلى أصوله اللغوية وجواهر معانيه وشرائط وقواعد تحكم ممارسيه.

وهو أمر اهتم به بشكل مبكر مارسيل بوزار في كتبه ومقالاته، فلا يتصور البعض أن الهجوم على مفهوم الجهاد هو وليد حدث معين أو يرتبط بمرحلة ما، بل خص المستشرقون هذا المفهوم أو ما يعتبر من توابعه بعملية تشويه وصناعة صورة واسعة، وإن نظرة على المواقع التي تقع على شبكة المعلومات سواء أكانت عربة “جهاد” أو كانت أجنبية لتوضح لنا كم المغالطات في الرؤى حيال هذا المفهوم. [21]

إن بوزار يؤكد “لقد جرت الفكرة المسبقة المعتمدة اعتمادا شديدا، والقائلة بأن الإسلام دين حرب، تعريفا محقرا ومستمرا لـ ” الجهاد” الإسلامي وقد يفهم من اللفظة أن المسلمين شجعوا على حل السلاح لفرض الدين بالقوة وإبادة من يرفضون اعتناقه. وأصل لفظة الجهاد يعني الجهد ويبدو أن الرأي العام الغربي غير المطلع لم يحفظ منه إلا مفهومه الحربي. والحق أن هناك أسبابا نفسانية وتاريخية تفسر ذلك. أضف إلى هذا أن نزعة غوغائية دفعت بعض المسئولين السياسيين المسلمين المعاصرين إلى التذرع  بـ “الجهاد” بمعناه العسكري الحصري، ليخفوا بالضبط الجهد الفكري والإداري الذي كان عليهم تحقيقه. [22]

وتبدو لنا ضغوط المواجهات الغربية من هذا المقام والتي تتوالى قد لعبت دورا كبيرا في إثبات المعنى القتالي المستوعب لكل فاعليات الجهاد.

إذا كان هذا الأمر هو الذي يوضح حال مفهوم الجهاد ضمن قواعد استهلاكه أو صناعة صورته فإنه كما يؤكد بوزار “ولا يمكن فهم المعنى الصحيح للجهاد دون وضع اللفظة في موضعها من البنية الإجمالية للإسلام والفلسفة الإسلامية الخاصة بالعلاقات الدولية. [23]

إن الهدف الجهادي وكذا الأخلاق الجهادية لا تخرجان بحال عن أصول وغايات العمران ومدافعة الاستئثار والهيمنة لإرساء قواعد عادلة وسلام حقيقي. ويعتبر الجهاد جزءا من معادلة تقوم على تصحيح وتغيير وإصلاح قواعد العلاقات الدولية الظالمة والشائهة التي تتمثل في حال من النظر العنصري القائم على قاعدة بعض الدول الطاغية المفتتنة بقوتها لتقييم عمرانها على قاعدة من خراب باقي المعمورة. [24]

ليس هذا مقام تأصيل مفهوم الجهاد من حيث الوضع، ومن حيث الحمل ومن حيث الاستعمال ولكنها إشارة واجبة في هذا المقام لا تزال تحرك عناصر بحثيه تتعامل مع موضوعات كثيرة بصدد صناعة الصورة حيال مفهوم الجهاد. [25]

الأمة الإسلامية وعواقب الدولة القومية:

التنازع الكامن وصياغات المواءمة:

من المهم في البداية أن نؤكد على معنى الجماعية في مفهوم الأمة الإسلامية، وهي جامعية غير نافية للتعدد وغير مانعة من انضواء عقائد أخرى أو ما استقر على تسميته “بغير المسلمين” في الدول الإسلامية ومن المهم كذلك أن التصور الإسلامي للمعمورة قام على قاعدة من أن “دار الإسلام” دار واحدة بحكم أن المسلمين ذمة واحدة، تحكمهم قواعد نظام عام واحدة، وتجمعهم قبلة واحدة. ومن ثم كانت القاعدة في ذلك الوقت أن التعدد يعني خروج عن الأصل الذي أقره الفقهاء.

على الرغم من أن الواقع قد اتجه إلى التعدد في الكيانات الإسلامية منذ أن كانت هناك خلافة عباسية في بغداد وأخرى أموية في الأندلس، وبدت بعد ذلك كيانات التغلب التي تعددت مستندة إلى قوتها وشوكتها وغلبتها وقدرتها في الاستيلاء على السلطة والسلطان، وقد ارتبطت كيانات التغلب تلك بالخلافة العباسية ارتباطاً اسمياً ورمزياً وتعددت هذه الإمارات تتبع على جنس وعرق فضلاً عن اتباعها مذاهب دينية شتى وأفرز التعدد آنذاك إشكالات مهمة على أرض الواقع في السياسات والعلاقات، وبدا الإشكال الأول هل تعتبر العلاقات بين تلك الكيانات المتعددة علاقات داخلية بحكم الرابط الجامع(العقيدة)، أم أنها علاقات خارجية أو غيرية أو دينية بما تعبر عنه هذه الكيانات من مصالح ارتبطت بها، وارتبط من قام على تلك الكيانات بهذه المصالح؟

أما الثاني: إن إقرار التعدد في تلك الكيانات غير مانع من البحث في “المعايير الحاكمة” لتلك العلاقات بين تلك الكيانات المتعددة، فما هي تلك المعايير، وكيفية أعمالها وتفعيلها؟ وماذا يعنى الخروج عنها وعليها؟ وهل أنشأت تلك الكيانات مصالح جديدة كونت في حد ذاتها معايير أخرى بديلة لتلك المعايير الحاكمة التي تؤكدها أصول الشريعة وجوهرها والعقدية الجامعة ومقتضياتها.

وجاءت الدولة العثمانية لتشكل نموذجاً في تحقيق جامعية الأمة حتى لو أتاحت التعدد داخلها، ولكن لم يكن ذلك على نمط إقرار التعدد المتغلب وإمارات الاستيلاء والارتباط الاسمى والرمزي بالكيان المركزي للخلافة العباسية ولكن ذلك كان يعني محاولة نظم هذه الكيانات من خلال حروب جمعت تلك الكيانات في منظومة للخلافة العثمانية فاتجهت بالأساس لتكوين جامعة إسلامية انطلقت بعد ذلك فاتحة لأجزاء عديدة من أوروبا والتي حملت هذا الهاجس العثماني في طيات سياساتها وعلاقاتها منذ نشأت كيان الخلافة العثمانية وحتى بعد تفكيكه خاصة ما تركه من آثار مهمة على الأمن الأوربي والبلقان والقوقاز ليسا إلا دالتين مهمتين في هذا المقام.

وبغض النظر عن الفشل الذي طال هذا النموذج في النهاية، وسواء جاء تفسير هذا الفشل لأسباب داخلية تتعلق بالكيان العثماني ذاته، أو في علاقتها المتعددة مع كيانات أخرى انتظمت في المنظومة العثمانية، أو الأسباب خارجية تعين تكوين جبهة من الدول الأوروبية لمواجهة التحدي العثماني آنذاك، أو لأسباب خارجية داخلية تشكلت فيما اسمي بالثورة العربية، واتفاقات وعلاقات مع الدول الأوروبية حملت قدراً من الخداع الذي كان مقدمة مع اتفاقية سايكس بيكو مؤتمر سان ريمو لتقسيم مناطق نفوذ استعمارية. بغض النظر عن كل ذلك فإن الحقبة العثمانية قد انتهت وبرزت الحقبة الاستعمارية والتي استولت على ميراث الدولة العثمانية، وألغت الخلافة التي صارت رمزية في تركيا، وبدا هذا الوضع الجديد يفرز سياسات وعلاقات جديدة ومتمايزة عما سبقها من حقبة مثلت سيطرة الخلافة العثمانية.

وخلفت تلك الحقبة الاستعمارية وضمن علاقات المستعمِر والمستعمَر، والسيد والتابع، وتقسيم علاقات النفوذ إلى أن تكون المنطقة التي يشار إليها بالعالم الإسلامي حتى في امتداداته الآسيوية والإفريقية، تكون تلك المنطقة موضوعاً لا طرفاً، مفعولا به لا فاعلا، وأفرزت نمطا من العلاقات التابعة للدولة المستعمرة، إلا أن الشعوب لم تكن في حالة من الإقرار لهذا الوضع أو تلك الحالة الاستعمارية من غير مقاومة، وبرز العامل الإسلامي_ العقدي ضمن عوامل أخرى في عناصر المقاومة للاستعمار الاستيطاني، ومطالبات بالاستقلال والتحرر.

وأنتج هذه الحقبة ضمن ولادات قسرية وقيصرية كيانات شديدة التنوع والتعدد، وغلب على الفكر الاستعماري في هذا المقام سياساته:

الأولى: “ارحل لتبق” في إطار صياغة سياسات جديدة تناسب مرحلة التحرر والاستقلال السياسي، بعد أن كان شعارها “ابق لتنهب” وهو ما يعني الحرص على عناصر تؤكد العلاقات التابعة واستمراريتها، على تفاوت بين المناطق والكيانات المختلفة في درجة تابعيتها وارتباطها.

الثانية: تقسيم هذه الكيانات إلى دول تتحرك ضمن علاقات تسند تحقيق هدفها في سياسات البقاء الجديد في شكل الرحيل، وكان الشعار “فرق تسد”، والذي أبرز هذه الكيانات بما يضمن حلا فرقتها إما تكوينا، أو اصطناعا، أو إثارة، كل ذلك في سياق ما اسمي بالاستعمار الجديد، أو ما تحركه عوامل الاستعمار واستثمار عناصر القابلية للاستعمار، والتي شكلت قواعد مهمة لصياغة السياسات والعلاقات سواء ما فرضته من علاقات بينية وبين بعضها البعض، أو من علاقات بين هذه الدول والدول المستعمرة السابقة، فضلا عن تلك العلاقات بين هذه الدول بعضها البعض، وهي أنماط السلوك والسياسات والتفاعلات والعلاقات والأنظمة سميت فيما بعد “بالنظام الدولي”.

في هذه المرحلة تكونت أنماط من العلاقات والسياسات غلب عليها: استمرارية علاقات الدول المستقلة بالدول المستعمرة لها سابقا”، تفجر العلاقات البينية بين هذه الدول بعضها البعض، محاولات إنشاء كيانات وتنظيمات هدفها تنسيق وتنظيم العلاقات فيما بينها.

وبينما كانت السياسات والعلاقات الدالة على النمطين الأول والثاني، كان المستوى الثالث سواء في حجم هذه المؤسسات وأهدافها وفاعليتها أقل تأثيراً مما غلب الاتجاه “التابعي” في علاقات تلك الدول بالمستعمر السابق أو بعلاقات تبعية جديدة، والاتجاه التصارعي أو الاقتتالي بين هذه الكيانات بعضها البعض (نزاعات الأعراق _ نزاعات الحدود _ نزاعات المذاهب)، أما الاتجاه التعاوني فظل في أدنى مستوياته من التفعيل والفاعلية.

المهم أن هذه المرحلة تميزت بالولادة القسرية الشائهة لما اسمي بالدولة القومية في دول العالم الإسلامي ودول العالم الثالث، وإن نظرة مقارنة على تاريخ العلاقات الأوروبية وكيف كانت القومية والدولة القومية مداخل للجامعية (الوحدة الإيطالية، الوحدة الألمانية) (الأمة الفرنسية، الأمة البريطانية)، وتاريخ العلاقات لدول العالم الإسلامي، وكيف كانت الدول القومية نتاجاً لتفكيك كيانات أكبر (الدولة العثمانية) وحملت في طياتها عناصر تفكيك _أو هذا ما أريد لها_ أكثر مما حملت عناصر جامعية.

هذه الملاحظة تعني ما أحدثته هذه النشأة المشوهة والقسرية للدولة القومية من ميراث المشاكل الممتد في داخلها، وفي علاقاتها البينية أو الإقليمية، والارتباط القافز على مقتضيات الجغرافيا (التجاور المكاني) ومقتضيات الزمان (التحديات التاريخية الممتدة عبر الزمن) ومقتضيات العقدية الجامعة (الإسلام) أو الثقافة الداعية إلى الوحدة، في علاقات خارج الكيان معظمها يتسم بالتابعية.

كما تعين هذه الملاحظة أيضا أن ميراث الدولة القومية حافظ بشكل حاد ومتواتر على علاقات تسير صوب التفكك لا التكامل (السيادة _ الحدود) خاصة حينما يتحول التمسك بهما وبما يترتب عليهما من سياسات

* الاتجاه نحو الانفصال والتفكيك.

* ضعف التوجهات التكاملية والوحدوية والتعاونية:

رؤية وسياسات وعلاقات ومؤسسات.

* الصراعات البينية، وصراعات الحدود، وصراعات الأعراق.

* تدويل المشاكل والقضايا التي تخص عالم المسلمين.

* ضعف التنسيق في السياسات والعلاقات خاصة القضايا البينية والمشتركة والمتبادلة (القدس).

* بروز مشاكل الأقليات الإسلامية والكيانات المسلمة داخل الحضارة الغربية:

-البوسنة والهرسك.

-كوسوفا.

-الشيشان.

* ضعف الصياغات النظمية والمؤسسة التي تتناسب والتحديات التي تواجه عالم المسلمين.

هذه الخريطة أشارت إلى أن مفهوم الدولة القومية: إدراكا وعملا تحول إلى معنى علمي في الإدراكات والسياسات والعلاقات والمؤسسات والغايات، وهو بهذا التشكيل مثل مجموعة من التأثيرات يحين رصدها:

أولاً: أن المفهوم ولّد قسمة جديدة في المنظومة الدولية، ومكان المسلمين فيها، إذ ولّد خريطة تعدد اختلفت عن أنماط التعدد المختلفة في الخبرة التاريخية. وهو من المفاهيم التي أثرت على كثير من المفاهيم التقليدية الفقهية من مثل “دار الإسلام ودار الحرب”، وهو أمر يعني ضمن ما يعني اختلاف منظومة المعايير الحاكمة، بروز مفهوم المصالح القومية، صعوبة توصيف الواقع من خلال المفاهيم الفقهية، ومن هنا صادف عالم المسلمين أزمات غاية في الأهمية شكلت إشارة إلى متغيرات في الواقع لابد من أخذها في الحسبان:

-حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية _ الإيرانية)

-حرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت)

وصاحبت هذه الأزمات حال من الفوضى الفكرية والتوجهات التي تسربلت بغطاء ديني، حتى استحقت اسم “الفتنة الفكرية والدينية”، اختلطت فيها الرؤى، واستخدمت أسلحة الفتاوى، وشنت بصددها أقصى حروب الكلمات. وفي كل الأحوال اتضح لكثير من هؤلاء أنهم يغفلون عناصر ومتغيرات جديدة أهمها “الدولة القومية” كما هي كائنة في عالم المسلمين والعالم الثالث، وعناصر القسمة الجديدة التي تفرضها، وسياقات الدول العلمانية…الخ.

ثانياً: أن المفهوم كما تم إدراكه في عالم المسلمين شكل مسارا تهميشياً لمفهوم ” الوحدة”، بل أكثر من ذلك فرض دوافع على عمليات التكامل والتعاون والمؤسسات الجامعة، وكانت معظم تأثيراته سلبية على مفهوم الأمة عامة ومفهوم الأمة الإسلامية على وجه الخصوص.

1-أن المفهوم في إطار معاني الدولة القومية كما تم إدراكها برز كمفهوم احق بأن يوصف ” الدولة القومية التابعة” المحافظة على واقع التجزئة من جنب، والمقلدة لنماذج تنمية من خارجها. وفي إطار يمثل قدرات تابعة لا نابعة، ومن هنا كان من الضرورة البحث في التأثيرات العميقة والواقعية الذي تركها مفهوم الدولة القومية بحيث لا يمكن القفز على واقعها بأي حال من الأحوال في الإدراك وفي الاعتبار، والمفهوم وتأثيراته السلبية التي تكرست في إدراكات الوعي ومجالات الممارسة . كان من المهم فهم الدولة القومية ضمن مسارين:

* مسار الدولة القومية كمفهوم يؤكد على تعظيم قدرات هذه الدول واتخاذ السياسات والعلاقات والمسارات والمؤسسات المؤكدة لممارسات بينية أو داخلية أو إقليمية أو دولية تقوم على استثمار الإمكانات وتحويلها إلى قدرات وفاعليات على كافة المستويات.

2-أن المفهوم أبرز مع عوامل ومتغيرات أخرى – تنظيمات بديلة أو موازية، لعبت دورها في طرد تكوينات أصيلة باعتبارات التوحد القومي أو الجامعة الإسلامية، ومن هنا برزت وحدات تحليل مثل الشرق أوسطية، مثل المتوسطية، أو الشراكة العربية الأوروبية .. الخ. وهو أمر يتطلب منا ضرورة فرز هذه التكوينات والوحدات الصاعدة وتأثيراتها على وحدات أصيلة ليس فقط في التحليل، ولكن في كونها مجالا حيوياً للحركة.

3-أن المفهوم أقام مؤسسات جامعة من الناحية الشكلية ولكنها نقضت في العمل من جراء إدراكات لهذا المفهوم من مثل السيادة وغيرها. إن البحث في فاعلية مثل هذه المنظمات الجامعة سوءا كانت منظمات سياسية أو كلية، أو نوعية إنما يشير إلى ما يمكن أن يتركه هذا المفهوم وإدراكاته على تلك التكوينات وسياساتها وغايتها، وفي النهاية فاعلياتها.

ومن هنا كان على هذه الدول ألا تقف كثيرا عند النشأة القسرية والشائهة للدولة القومية بل عليها أن تعرف على التأثيرات السلبية التي مكن أن يتركها في الوعي والسعي. وألا تقف عند عناصر سيادة قومية مهملة عناصر دولة قوية ذات سيادة حقيقية لا متوهمة، تصدع بها حينما يجب ألا تصدع بها، وتفرط فيها حينما يجب التمسك بها.

والبحث في فاعليات التأسيس من الأمور المهمة والتي يجب ألا تتصور إدراكات عالم المسلمين أن مجرد إنشاء هذه المؤسسات هو غاية المنى ونهاية المطاف، بل هي ضمن عملية موصولة تتحرك من التأسيس إلى الفاعلية. ومن ثم كانت أنواع الحفظ متتالية ومتوالية وربما متفاعلة حفظ الابتداء، وحفز البناء، وحفظ البناء، وحفظ النماء والارتقاء، حفظ الأداء الذي يحوط كل أنواع احفظ وبما يؤكد منظومة متكاملة من الحفظ هي في النهاية تؤكد على منظومة الفعل والتفعيل والفاعلية. ومن هنا كان من الضرورة إقصاء كل الموانع واستثمار كل الإمكانات التي قد تقلل من الفاعلية أو تقضيها سواء كان ذلك في الوعي والإدراك أو السعي والممارسة.

4-أن هذا المفهوم والذي تختطه الخبرة الأوروبية حينما استنفد أغراضه ضمن مسيرة تطور البناء الحضاري ظل مكينا لدى هذه الدول في مواجهة بعضها البعض، بينما توارى في علاقاتها الغيرية خاصة عبر الغرب ودوله. وربما هذا يمكن أن يكون دالا في عملية التفسير لما اسمى ” بالقرية العالمية” من جراء الثورة الاتصالية، وهو أمر أحدث صناعية شبكة علاقات صارت وثيقة وقفا على اعتبارات الجغرافيا والتاريخ والعقيدة والمصير، وأخرى خذلت أو همشت رغم أن تلك الثوابت السابقة تؤكد عليها وتؤكد أحداث التاريخ على إمكاناتها في تعظيم الإمكانية والفاعلية.

ومن ثم ظل مفهوم القرية العالمية يعني تعظيم الاتصال بالغرب أكثر مما يعني تعظيم الاتصال بين العالم الإسلامي أو العالم العربي مثلاً . بل على العكس من ذلك فقد أبقى على كل عوامل الانفصال والتجزؤ والتبعية وربما التخلف الذي تسكنه قشرة الحضارة لا عمقها وجوهرها. وظلت الأمورُ السياسات والعلاقات تسير ضمن مسار مزيد من توهين العلاقات الداخلية والبينية، ومزيد من تكريس العلاقات الغيرية والخارجية . إنها المفارقة التي تؤكدها إدراك أبدية الدولة القومية في عالم المسلمين، وإدراك الطابع المرحلي لهذا المفهوم في إطار علاقات وتكوينات عبر قومية.

بل إن الأمر قد لا يتعلق بمزيد من العلاقات عبر القومية وكأنها تجرى لذاتها لا آثارها وتأثيراتها، الأمر يرتبط بالأساس بعلاقات فاعلة عبر قومية تحقق أصول الفاعلية وضمان استمرارها واستثمارها في سياق المجال الحيوي لا خارجه أو قفزاً على مقتضياته ومتطلباته وروابطه الحقيقية والجوهرية.

ثالثا: أن المفهوم الدولة القومية وتوابعه (السيادة _ الحدود … الخ) لابد أن يؤثر عليه مفهوم وعملية العولمة والظواهر المصاحبة لها. إذ أبرزت العولمة نوعية من التأثيرات جديدة، كما أضفت على تأثيرات سبقت بروز مفهومها كثافة وسرعة وعمقاً. [26]

العالم الإسلامي المعاصر والرؤى التراثية بين صناعة الخطر وتجديد النظر:

يبد لنا أن مفهوم العالم الإسلامي كوحدة تحليل في حقل العلاقات الدولية [27] لابد أن يستند إلى واقع العالم الإسلامي الآني من ناحية، وإلى ذاكرة تراثية وحضارية تقبع في جوف التاريخ، وبدا هناك تساؤل تسأله الشعوب الإسلامية وكذا الغرب: هل يمكن للبلدان الإسلامية، وصدوراً عن واقعها الآني أن تكون مستقبلاً كياناً دولياً أو أبعد من ذلك، قوة دولية جديدة توازي في عناصرها التكوينية القوى الدولية الكبرى الموجودة حالياً.

قد يبدو هذا التساؤل طموحاً ومتناقضاً في آن. طموحاً لأنه يصدر عن واقع يخلو ظاهرياً من عناصر القوة الضرورية التي ينبغي على العالم الإسلامي أن يمتلكها لكي يشكل هذا التكتل الدولي القوي المفترض وتناقضياً لأن توقيت طرحه يتموضع داخل لحظة زمنية تبدو فيها الدول الإسلامية رازحة تحت سلسلة لا متناهية من الضغوط والإشكاليات الداخلية التي لا يمكن إيجاد حلول لها في الأمد المنظور.

أما على المستوى الدولي فهنالك عوائق من نوع آخر مثل الضغوط الخارجية التي تمارسها القوى العظمى الموجودة حالياً على الساحة العالمية والتي تمسك بخيوط التوازن الدولي بحيث تعيق نشوء قوة جديدة أو تكتل سياسي جديد.

وفق هذا القياس لمحركات الأزمات الداخلية في العالم الإسلامي يمكن أن ينهض منطق تاريخي عام يتحرر من المنظور الآني المحدد باللحظة الزمنية المعاصرة التي تعيشها البلدان الإسلامية، منطق يستبدل اللحظة الزمنية الآنية بمجال زمني أرحب هو المجال التاريخي بعموميته المنفتحة على القديم وعلى المستقبل ووفق هذا المنظور الزمني الممتد داخل جذور الماضي والمسترسل داخل المستقبل تغدو اللحظة الحاضرة لحظة مؤقتة ولحظة إمكان واحتمال لقياسات متعددة.

فالمرحلة الراهنة للعالم الإسلامي هي مرحلة تاريخية سلبية ليست من صالحه، بل الأكثر من ذلك أنها لحظة لا يمكن لها أن تعزز أي توقع مستقبلي إيجابي بأن هذا العالم سينهض من جديد مثل نهوضه خلال العصور الخاصة بازدهار الحضارة الإسلامية، لكن دراسة هذا العالم وفق اللحظة الراهنة بدون امتداد زمني ماضي أو مستقبلي تبقى دراسة ثبوتية لا يمكن أن تقدم شيئاً سوى صورة راهنة عما هو راهن.

من هذه الأسس المنهجية ينطلق هذا البحث ليشيد فرضياته بدءاً من التعامل مع العالم الإسلامي ككيان جغرافي. سياسي . حضاري عام، له خصوصياته كقوة مستقلة تعرضت لمراحل من القوة والضعف ضمن متغيرات تاريخية دولية لا تكف عن التبدل داخل واقع دولي، هو الآخر عرضة للهزات المفاجئة أو للتغيرات الطويلة الأمد.

دراسة العالم الإسلامي بما هو عليه اليوم كمفهوم يمتلك مواصفات بنيوية محددة، ثم وضع هذا العالم ضمن الإستراتيجيات العالمية التي تحددها القوى الكبرى تجاهه. ومن هذا الواقع العيني يمكن استقراء الإمكانيات الحالية للبلدان الإسلامية. وضمن الأزمات التي تعايشها. ومدى قدرتها على تأسيس كيان إسلامي جيوبوليتيكي مستقبلي، يمكن له أن يكون قوة عالمية جديدة، وذلك من خلال الاستقصاء الذاتي الحالي لهذه البلدان من جهة، وضمن تموقعها داخل بناء من التوازنات الدولية الراهنة والإستراتيجيات العالمية المعاصرة من جهة أخرى.

إن المواجهة الجديدة المباشرة بين الاستراتيجيات الغربية المعاصرة قد أوضحت أن الأهداف الغربية والاستعمارية قد اختلفت إذ اكتسبت بعداً جديداً، فبعد ان كان هدف الاستراتيجية الاستعمارية منحصراً بالاقتصاد من خلال سيطرتها على العالم الإسلامي امتد نحو بعد جديد هو السيطرة الحضارية والصراع الحضاري.

وهنا تصبح مقولات مثل “صدام الحضارات” التي أتى بها صومئيل هنتنغتون هي مقولات لها أهميتها على الرغم من الانتقادات التي وجهت إلى مقولته بأن العصر القادم سيكون عصر صراع حضارات. فإن هذه المقولة صحيحة وقد بدأت بناها الصراعية تبدأ عينياً وميدانياً من الآن لا سيما عبر الصراع المباشر الي توجهه القوى العظمى المعاصرة ضد العالم الإسلامي ثم بدأت العودة الجماعية الى الهوية الإسلامية لدى شعوب العالم الإسلامي مثل رد الفعل العكسي والمنطقي الذي يواجه الاستراتيجية الغربية المعاصرة.

واتجاه هذا الواقع الجديد يغدو التساؤل، هل يمكن أن تتكون من العالم الإسلامي قوة جيوستراتيجية مستقبلية تقف في المستوى نفسه مع القوى العظمى المعاصرة على الرغم من لحظة الانكسار والتأزم التاريخي الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم، والجواب هو نعم، إلا أن ذلك سوف يتطلب مدة زمنية لكن هذه المدة الزمنية سوف لن تكون طويلة لأن حركة التاريخ المعاصر قد اكتسب تسريعاً هائلاً بفضل ثورة الاتصالات في تطور الأحداث وتبادل المواقع الحضارية بشكل قد يبدو مفاجئاً في لحظات ما من لحظات التاريخ المعاصر أو من لحظات الخارطة المستقبلية المقبلة.

إن هذه النهضة الآنية هي نهضة تقودها المجتمعات الإسلامية التي باتت مفتوحة على الحداثة وعلى إدراك الهدف البعيد المدى للاستراتيجيات الغربية المعاصرة التي أمست مباشرة وتحضر لضربة جديدة لهذا العالم أكثر عنفاً من السابق ووفق تكتيك مفتوح.

ومن هنا سيكون على العالم الإسلامي وبشكل دينامي طبيعي وتلقائي ووفق الدينامية التاريخية نفسها والتكتيك المفتوح نفسه أن يكتشف له استراتيجية عامة لمواجهة تتجاوز الاستراتيجيات السابقة التي أخفقت في تحقيق تأمين حضاري للشعوب الإسلامية فإن فشل السياقات السياسية والحضارية الماضية سيفتح تلقائياَ أما العالم الإسلامي ضرورة تحويل كيانه الجغرافي السياسي الحضاري جغرافي- سياسي_ حضاري. إلى كيان جيوبوليتيكي حضاري ثم إلى كيان جيوستراتيجي حضاري ثم إلى كيان دولي يتمثل في قوة عظمى لها كينونتها المؤثر على الساحة العالمية[28].

فمن تصور القوة الاحتمالية يأتي رد فعل بعض تكوينات الحضارة الغربية والتي روجت لفكرة العدو الأخضر أو الخطر الإسلامي، وضمن عملية ممتدة من صناعة الصورة، تلجأ إلى بعض التصورات التراثية لتخدم هذه العملية في تشويه الصورة، وإذا كان هذا ضمن محاولة : تحديد الحظر لحضارة غالبة تعبر عن ذلك تارة بنهاية التاريخ وتارة أخرى بصدام الحضارات فإن مواجهة هذا الأمر يتطلب وبحق وفي ظل وضعية العالم الإسلامي يتطلب تجديد النظر، في سياق يمكن من حفز تلك الطاقة الحضارية في عالم المسلمين وفي سياق لا يصادر الذاكرة التراثية والحضارية. [29]

العولمة وإشكاليات الدولة القومية حول إعادة تعريف الحيز وعلاقات الداخل بالخارج:

في واحد من أهم التعريفات المهمة لظاهرة العولمة والأقرب نفادا إلى عمق الظاهرة يؤكد الدكتور جودة عبد الخالق” أن العولمة في جوهرها هي عملية فك وإعادة تركيب كبرى للكيانات، بما يترتب عملية إعادة تعريف الحيز على أكثر من مستوى وفي أكثر من مجال .. تلك الكيانات قد تكون قوية أو جزء من الدولة أو دولة أو مجموعة دول أو الساق الدولية في مجملها، وهو ما يعنى دمج كيانات أصغر في كيان أكبر، كما قد يعنى المساحة أكبر إلى كيانات أصغر.

ورغم ما يبدو من تناقض بين العمليتين إلا أنه بأعمال المنطق الدياليكتيكي هما وجهان لعملية واحدة هي عملية “إعادة تعريف الحيز في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها من الأبعاد التي ترد ولا تذكر تحديدا، فهي عملية شاملة وهذا هو جوهرها الحقيقي وإن كانت هناك رموز لهذه العملية عادة ما يسلط عليها الضوء أو تتخذ بشأنها المواقف.

فمثلاً من قبل إعادة تعريف الحيز ما كنا نتحدث عنه من شمال وجنوب وشرق وغرب في زمن الحرب الباردة، الآن المحاور قد اختلفت، والزوايا تغيرت، وصرنا نتحدث عن ثالوث أحد رؤوسه شمالا من أوروبا حيث الاتحاد الأوربي، والرأس الآخر غربا عبر الأطلنطي في أمريكا الشمالية “النافتا” والرأس الآخر شرقاً في منطقة المحيط الهادي، هذه الهندسة الجديدة للعالم والعلاقات الدولية تتفرغ من عملية الفك والتركيب وإعادة التركيب، وإعادة تعريف الحيز.. هناك اتجاه متنام إلى وجود عدد أقل من الكيانات الأكبر حجما تزداد فعاليته، وعدد أكبر من الكيانات الأصغر حجما تقل فعاليته وهوما يحكمه قانون القوة الطاردة المركزية، معنى ذلك أنه بعد أن تزال الحدود من أشياء كثيرة تدور العجلة بسرعة فيسود مفعول قانون الطرد المركزي ويحدث هذا استقطاب حادا، دولي وغير دولي[30].

ها هو بادى مرة أخرى بمشاركة مع ماري كلود سموتس يتحدثان عن انقلاب العالم : سوسيولوجيا المسرح الدولي. لم يعد التصور التقليدي الذى يتألف فيه النظام الدولي من مجموعة من الدول ذات السيادة ليصمد أمام اقتحام المجتمعات للعبة العالمية. فتغير الانتماءات وتجزئة السياسات الخارجية إنما يعمل على تفكيك الأطر القومية وتقسيمها بفعل عمليات تفتت وانحلال لا نهاية لها.

لقد تزعزعت النظريات، وتغيرت طبيعة الصراعات الدولية، وأصبحت صيغ التنظيم التقليدية عاجزة عن العمل.

ومع تعطل سلطات الدولة شيئاً فشيئاَ، وتحرر الأفراد أكثر: أصبح الطابع “الأممي” الذى يعبر عن العلاقة بين الأمم في تناقض. فالعالم يسعى إلى وحدات جديدة وعلاقات مختلفة، بطريقة تقسية، وبمبادئ عمله، بل ورهاناته لقد أصبحنا نشهد بأعيننا تلك التصدعات، تليها عمليات إعادة تركيب وغدت مقاليد اللعبة في يد عوامل أخرى كالهجرة أو الدين، أو جماعات المافيا أو المشاريع، بمثل ما تديرها الدول.

وهو بذلك قد يصل نتيجة مفادها ” لقد أصبح النظام الدولي هو أكثر النظم افتقارا إلى الاستقرار وفي معرض الحديث عن العلاقات الدولية تصادفنا مصطلحات ذائعة في واقع الأمر مثل “الفوضى” و”الاضطراب ” ومن ثم فإن الحيز الدولي يخضع شيئاَ فشيئاَ من عدم الاستقرار بل والفوضى.. ويخضع … لدينا ميكنة التفجير التى تتعهدها تعددية ثقافية يتكشف يوما بعد يوم صعودها إلى القوة، في الوقت الذى تجتازه على نحو فعال تدفقات عابرة للقوميات ما فتشت تزداد نشاطاً وبنائية، تجوبه، بل وتربط أوصاله”[31].

فمن هذه الرؤى التي تؤكد على انقلاب المسرح العالمي، ومظاهر ذلك الانقلاب لابد أن نتعرف على عناصر الحالة الجديدة وما يفرضه ذلك من رؤية متجددة لتراث العلاقات الدولية في الإسلام . إن ما نشاهده من هذا الانقلاب يعنى باقتحام المجتمعات للوسط الدولي تؤثر على الفاعلية، كما تؤثر على فاعلياتهم  أهم سمات هذا الاقتحام الانفجار الثقافي الذي تمثل في مجموعة من المظاهر (تحول من السياسية، طرح الكيان الإقليمي للمناقشة) وكذلك أزمات الهوية (القومية والخصوصية الهويات الثقافية، انفجار الانتماءات )، وما أشير إليه أيضا بعودة “المقدس” وما يحمله ذلك من الاستراتيجيات الدولية للاعبين الدينيين، والبيان الديني للسياسة الدولية)

وفي ذات الإطار تشهد العلاقات الدولية صعود التدفقات العابرة للقوميات وما يشهده ذلك من الثقافة حول الدولة، وإدماج الخيارات الفردية، ومنطق المشاريع الذى يشهد التدفقات ليس فقط الاقتصادية ولكن الديموغرافية وكذلك التدفقات الثقافية، وما تشهده الساحة الدولية من انتشار العنف.

وإذا كان هذا يتعلق باقتحام المجتمعات المسرح الدولي فإنه في المقابل يشهد النظام الدولي بعض مؤشرات لفقدان المعالم الجماعية، بين شد وجذب أهم مظاهر ذلك فوضويات المجتمع العالمي التي تشير إلى مواطن ضعف وتشوه في التنظيم الدولي، وأزمات الهيمنة ومساوئ النظام التجاري ….الخ، وما يشهده ذلك أيضا من مشاهد تتعلق بتزعزع النظريات بما يحمله المسرح من تغيرات في مفهوم القوة وما يشير إليه ذلك من التعامل مع الآخر، واللاعبون الجدد، فضلا عن حدود النسقية في النظام الدولي التي تشير إلى مناهج إبداعية، وهياكل متذبذبة، ومتغيرات متفجرة، وأخيرا تأتي سوسيولوجيا الصراعات بما يعمل فيها من حدود السيطرة النووية ولاعبون وفاعلون في العالم السياسي الاستراتيجي الجديد ومتطلباته، والسلم الذي لا يتجزأ أو الأمن الذي يشمل المعمورة والاستقرار المترتب عليهما، والسياق القيمي المحيط بهذه المفاهيم.

ثم يأتي أخيرا القسمة الثالثة والتي تشير إلى تصدعات وعمليات الفك وإعادة التركيب وما يفيد ذلك من جدليات التكامل والاستبعاد حيث صيغ جديدة للتكامل وأشكال جديدة من الاستبعاد، وبروز أجندات مختلفة للسياسات العالمية تبرز في المؤتمرات الدولية التي تشمل فاعلين رسميون وغير حكوميين[32].

إنه الرهان الكوكبي الذي يشير إلى انقلاب على المسرح الدولي فيأتي الحدث الانقلاب في ذات الوقت بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا وهو أحداث الحادي عشر _ سبتمبر لتنفجر كل تلك المشاهد وتؤكد كثيرا من تلك الانقلابات التي وجدت طريقها قبل الأحداث وترسخت فيما بعدها.. كأن تلك الانقلابات تجد لها المبرر الآن في هذا الحدث الأمريكي الذي صار كونياً.

هذه الأطروحات السابقة ترتب قواعد منهجية مهمة وجب الوقوف عندها، وذلك لاعتبارات تتعلق بحال العلاقات الدولية فيما قبل الدولة القومية، وأحوالها بعد الدولة القومية، وكذلك تطور دور الدولة بعد ظواهر بزغت ومن أهم هذه القواعد والقضايا التي وجب تدبر أصولها، والتي تقع بحق ضمن حقيقة العرب_ وكذلك المسلون _ ومشكلة الدولة هذه التصورات تولد إشكالات في العلاقات دولية .. خارجية … بينية… داخلية…؟

هذه الإشكالية تبدلت تجلياتها ومظاهرها بين تاريخ إسلامي شهد دولة واحدة، ثم تعدد الدول، ودخلت هذه الدول في علاقات خارجية ودولية وبينية واستعانت أطراف إسلامية على أخرى ونشأت تحالفات خارج الدائرة الإسلامية.. هذه كلها ربما تشير إلى هل نحن أمام علاقات دولية أم علاقات خارجية أم علاقات بينية، وحتى أعتبرها البعض علاقات داخلية.

وهل اعتبرت القواعد التي اختطها المسلمون في بداية عهدهم تلك القواعد المتعلقة بالجهاد قواعد تحدد العلاقات الدولية بمفهومها الحالي أم أنها تعد ضمن القانون الداخلي التزاماً

إشكاليات طرحت في قلب أحداث تاريخية في عالم المسلمين، الأمر الآن يتحلى في مظاهر جديدة ضمن إشكالية التعريف للعلاقات الدولية والنظام الدولي في العصر الحالي، فما الذي يجعلنا نتحرك صوب مفاهيم مثل: الدولة القومية، الأمة الإسلامية، العالم الإسلامي، العالم العربي، الفتوحات والدولة الإسلامية، العولمة وما تفرضه من أنماط تعامل هذه المفاهيم كلها تتداخل في صياغه مفهوم العلاقات الدولية عامة، والعلاقات الدولية في الإسلام حينما تخصص أو تصنف.

إن عدم استيعابنا لأصول فقه حضاري يستند إلى رؤية للعلاقات الدولية في الإسلام تتعامل مع الذاكرة الذاتية والحضارية، فهماً واستيعاباً، تدبر واعتباراً، تفعيلاً واستثماراً لمفاهيم معضلة مثل (الفتوحات والتعدد في الدولة الإسلامية )(الدولة القومية القسمة الجديدة ومتطلبات الاجتهاد الجديد) (العولمة والقسمة المتحولة متغيرات جديدة وفقه متعدد ومتجدد يستند إلى أصول مرجعية ورؤى تأسيسية) هل تأسس الاجتهاد الذى يستوعب هذه المفاهيم المؤشرة على تحولات شديدة التأثير بما تطلب مناهج تفكير وتدبير وتغيير تعي متطلبات ذلك وتتعرف على أصول التعامل والتعارف الحضاري، كل مفهوم وكل تحول كان يعبر عن افتقار مرحلته التي يمثلها إلى اجتهاد واع وسعى دائم[33].


الهامش

[1] ضمن إشكالات التعريف راجع: ا. د. نادية مصطفى (المشرف العام على المشروع ورئيس الفريق)، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، خاصة تلك الأجزاء التي تتعلق بالقضايا المنهاجية، انظر أيضا بحث أستاذتنا الضافي حول التحديات: ا. د. نادية محمود مصطفى، التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي، رابطة الجامعات الإسلامية، د.ت، المقدمة والفصل الأول.

[2] وضمن فئات التعريف الثابتة للعلاقات الدولية انظر: مارسيل ميرل، سوسيولوجيا العلاقات الدولية، ترجمة: د. حسن نافعة، القاهرة: الدار المستقبل العربي، 1986، (انظر إشارته في المقدمة حول تعقد عملية التعريف) .انظر أيضا لنفس المؤلف، العلاقات الدولية المعاصرة: حساب ختامي، القاهرة: دار العالم الثالث، 1999. مواضع متفرقة.

ضمن رؤية توماس كون انظر:

Thomas S.Kuhn , The Structure of Scientific Revolutions, 2nd edition, Chicago : The Univ. of Chicago press .1970.& John Richard son Jr., Competing Paradigms in Comarative Politics, in :Holt and Jone E. Turner, (eds) , The Methodology of Comparitive Research, New York : The free press, 1970, PP. 230 off.

[3] انظر أيضا: نصر محمد عارف، ابستمولوجيا السياسة المقارنة، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 2002، من ص57 وما بعدها.

[4] في تعريف العلاقات الدولية في الإسلام انظر وقارن: جملة الكتابات في هذا الموضوع والتي لم يضطلع معظمها على التعريفات الحديثة سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم … مرجع سابق، من ص279 وما بعدها.

[5] انظر برتران بادى وبيار بيرنبوم، سوسيولوجيا الدولة، بيروت: ترجمة جوزف عبدلله وهو مرجع أبي صالح، بيروت: مركز الإنماء المقوفي، د.ت، ص7 وما بعدها. انظر أيضا برتران بادى، التنمية السياسية، ترجمة: محمد نوري المهدوي، تالة: الجماهرية، بيروت: الانتشار العربي، 2001، ص15، ص135 وما بعدها

[6] ضمن رؤية بادي للتمييز بين نمطين من الدولة في الاجتماع العربي والإسلامي انظر: برتان بادى، الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام، القاهرة: دار الفكر للدراسات، القاهرة، 1992 ص7. انظر في طبعة أخرى : برتران بادى، الدولتان: الدولة والمجتمع في الغرب وفي الإسلام، ترجمة نخلة فريق، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1996.

[7] وبصدد استكمال رؤية بادى لاحظ تأصيله لمفهوم الدولة المستوردة: برتران بادى، الدولة المستوردة: تغريب النظام السياسي، ترجمة: لطيف فرج، القاهرة: كتاب العالم الثالث-دار العالم الثالث، 1996، من ص5 وما بعدها.

[8] المرجع السابق، ص6 وما بعدها والكتاب في معظم أفكاره يشرح الفكرة بالأمثلة المتعددة والمتنوعة ويشير في كل آن الى المتطلبات المنهاجية من ناحية، والمترتبات المنهاجية من ناحية، والمترتبات المنهاجية علي ما يصل إليه من تعميمات.

[9] ابن خلدون، المقدمة لموسوعة العلامة ابن خلدون، القاهرة: دار الكتاب المصري، بيروت: دار الكتاب اللبناني،م1، طبعة مزيدة ومنفتحة، 1999، ص285-287

[10] المرجع السابق، ص287-28

[11] المرجع السابق، في فصول متناثرة جمع بينها وبين اتساع الدولة من مثل “في إن الترف يزيد الدولة في أولها قوة الي قوتها” (ص309-310)، في أطوار الدولة واختلاف أحوالها (من ص310-313) في الجباية (493-495) في المكوس (496-497) (في نقص العطاء) (506-507) في أن الظلم مؤذن بخراب العمران. ص507 وما بعدها.

[12] انظر ضمن مشروع العلاقات الدولية: الأجزاء التاريخية: ا. د. نادية مصطفى، مدخل منهاجي لدراسة التطور في وضع ودور العالم الإسلامي في النظام الدولي، مرجع سابق، م لاعلاه عبدالعزيز، الدولة الأموية دولة الفتوحات، مرجع سابق، وأنظر لها أيضا: الدولة العباسية، مرجع سابق، دراسة هذه الفتوحات وتكون وسقوط الدول قارن من منظور سنني.

[13] ضمن شهادة توماس أرنولد حول دعوة الإسلام انظر: توماس أرنولد، الدعوة الى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة: د. حسن إبراهيم حسن وآخرون، القاهرة: دار النهضة المصرية 1970، ومن المهم أن نشير الى أن أرنولد الف متابه في عام 1896. ص10، ص65 وما بعدها، ص28 وما بعدها، ص461 ومواضع أخرى مهمة. إعادة البناء، بيروت: المكتب الإسلامي،1993.

[14] إشارة إلى الآية: قل كل يعمل علي شاكلته .. (الإسراء/84) انظر: عمر عبيد حسنة، الشاكلة الثقافية: مساهمة في إعادة البناء، بيروت: المكتب الإسلامي، 1993.

[15] انظر في اطار التيار الاستشراقي الذي يتبنى مقولة “الإسلام انتشر بالسيف”: وهبه الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي. دراسة مقارنة، دمشق: دار الفكر، ط4، 1992، ص34 (حاشية)، ص124 وما بعدها انظر أيضا: عبد الودود إبراهيم شلبي، الإسلام وخرافة السيف، القاهرة: مؤسس الخليج العربي، 1987.

[16] انظر في هذا المقام معالجتنا لإشكالية النسخ كإشكالية منهاجية، سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم .. , مرجع سابق، ص404 وما بعدها. انظر أيضا عملية استثمار هذه المقولة حتى الآن: د. مراد هوفمان، الإسلام كبديل، مجلة النور الكويتية، مؤسسة بافاريا 1993، انظر الفصل التاسع عشر “الحرب المقدسة في زعمهم”، من ص231-238.

[17] انظر الأشكال المختلفة التي اتخذتها عملية انتشار الإسلام وتفاعلها: توماس أرنولد، مرجع سابق، ص15 وما بعدها.

[18] نحيل في هذا المقام الي الدراسات التاريخية في حقل العلاقات الدولية في الإسلام. انظر مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، (إشراف) : (ا. د. نادية مصطفى) .

[19] انظر إشكالية تأسيس العلاقة مع غير المسلمين على الدعوة: سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم ..، مرجع سابق ص349-361

[20] آل عمران/110 الأمة في قرن عدد خاص من حولية قضايا العالم الإسلامي (أمتي في العالم)، الكتاب الأول الأمة في قرن: الماهية المكانة الإمكانية 2000- 2001، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2002. سيد عمر، حول مفهوم الأمة في الإسلام نقد تراكمي، ص 61 وما بعدها. د. عبد المجيد فراج، إمكانيات الأمة: الرؤية الكلية بين القدرات المحتملة والفاعلية الراهنة، ص 131 وما بعدها

[21] في مفهوم الجهاد انظر ضرورة معالجة المواقع التي تعالج هذا المفهوم وقضاياه، وكيف تعالج هذا المفهوم ضمن محتوى قضايا الجهاد في مقارنة بين المواقع العربية، والمواقع الأجنبية. والأمر لا يزال في حاجة الى دراسة مستقلة، بما يؤكد عملية صناعة الصورة على الجانبين.

[22] انظر مارسيل بوزار، إنسانية الإسلام، ترجمة د. عفيف دمشقية، بيروت: منشورات دار الآداب ط2، 1983، ص245 وما بعدها.

[23] المرجع السابق، ص245-246.

[24] انظر سيف الدين ..، العلاقات الدولية .. مرجع سابق، من 410 وما بعدها. وفي مفهوم الجهاد انظر: تيسير خميس العمر، العنف والحرب والجهاد، دمشق: دار الآفاق والأنفس، 1996، وهذا الكتاب في الأصل رسالة ماجستير قدمها الكاتب في كلية الإمام الأوزاعي عام1990. وربما من المفيد مطالعة دراسة مقارنة بين رؤيتين لمفهوم الجهاد والحرب العادلة: 

John Kelsay and James Turner Jahnson, War and Jihad: Histiorical and Theoretical Press Pectives on War and peace in western and Islamic Traditions, New York: Greenwood press,1991.

[25] قارن في هذا المقام رودلف بيترز، الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث، القاهرة: دار شهري للنشر، 1985.

[26] في عواقب الدولية القومية انظر: سيف الدين عبدالفتاح الأمة الإسلامية وعواقب الدولة القومية، ضمن امتي في العالم: حولية قضايا العالم الإسلامي، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2000، من ص41-45.

[27] ضمن هذه الرؤية انظر كذلك الكتاب القيم: د. علاء طاهر، العالم الإسلامي في الاستراتيجيات العالمية المعاصرة، باريس: مركز الدراسات العربي- الأوروبي، 1998، من ص9-13.

[28] المرجع السابق، من ص665-669.

انظر في هذا المقام: تلك المقولات التي بزغت حول العدو الأخضر ومراجعتها

John L. Espostio, The Islamic threar: Maythor Reality? New York & Oxford: Oxford University press, 1992.

[29] يوخين هيبلر واندريا لويج، الإسلام العدو: بين الحقيقة والوهم، ترجمة ايمن شرف، القاهرة: القرسان للنشر، 1995. فريد هوليداي، الإسلام وخرافة المواجهة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط، ترجمة: محمد مستجير، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1997.

[30] ضمن إشكاليات تعريف العولمة باعتبارها إعادة تعريف الحيز انظر فعاليات الموسم الثقافي لقسم العلوم السياسية: ا. د. جودة عبدالخالق، العولمة والاقتصاد السياسي للدولة القومية ضمن: د. حسن نافعة. د. سيف عبدالفتاح (إشراف وتحرير)، العولمة قضايا ومفاهيم، سلسلة محاضرات الموسم الثقافي (2)، قسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد. جامعة القاهرة،1999-2000. ص162 وما بعدها.

[31] برتران بادى، ماري-كلود سموتس، انقلاب العالم، سوسيولوجيا المسرح الدولي، ترجمة سوزان خليل، كتاب العالم الثالث، دار العالم الثالث، 1998، ص8.

[32] المرجع السابق، انظر القضايا المعروضة في الكتاب لتعبر عن مظاهر هذا الانقلاب، والكتاب جدير بالقراءة المتأنية.

[33] من أصول التعارف الحضاري انظر: زكي الميلاد، تعارف الحضارات، مجلة الكلمة، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، العدد (16)، السنة الرابعة, سيف 1997، من ص9-29. وأيضاً: إشكالات تصديق الدور انظر: محي الدين قاسم، التقسيم الإسلامي للمعمورة: دراسة في نشأة وتطور الجماعة الدولية في التنظيم الدولي الحديث، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1999.

الإسلام والدولة: من يخضع لمن؟!

الإسلام والدولة: من يخضع لمن؟!

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close