fbpx
تحليلات

السلفية المدخلية في ليبيا: مليشيات حفتر الدينية

دراسة في أسباب التحول

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

بدأ التيار المدخلي في الانتشار بالمملكة العربية السعودية منذ حرب الخليج الثانية، وقد كان هذا التمدد في اتجاه مضاد لتيار الصحوة الذي انتشر وذاع صيته في هذا الوقت. على إثر ذلك؛ تولى محمد أمان الجامي -المدرس في جامعة المدينة- وتلميذه ربيع بن هادي المدخلي مهمتين أساسيتين؛ الأولى: التبرير للسلطة السعودية والأسرة المالكة في قرارها لاستقدام قوات أمريكية إلى الأراضي السعودية، والثانية: تشويه خصوم السلطة السياسيين لاسيما الإسلاميين الحركيين[1].

ما لبثت أن انتشرت الجامية في أرجاء العالم الإسلامي، ضمن موجة من الانتشار السلفي العام والذي بدأ من سبعينات القرن الماضي، وقد ساعدت الحكومات المختلفة على احتضان الفكر المدخلي وتنميته على وجه الخصوص، لطاعته للسلطة وسهولة توظيفه السياسي والديني[2].

كانت ليبيا جزءًا من هذا المد السلفي المدخلي، ولكن سطوة القذافي لم تسمح بتمدد للإسلاميين باختلاف أشكالهم في الداخل الليبي، سوى مجموعات صوفية تقليدية هي إرث الحركة السنوسيّة[3]. لكن هذا ما سيتغير في أخر عهد القذافي، إذ عمل على احتواء المداخلة بالتنسيق من خلال ابنه “الساعدي القذافي” والذي برز في آخر عهد القذافي بصورة سلفيّة، وبات يُعلن التمكين للدعوة السلفية التي حُرمت منها ليبيا وآن لها أن تنتشر. واستطاع الساعدي أن يتوغل في لوبيات المداخلة ويكون علاقات متينة مع التيار المدخلي السعودي، وهو ما ساعده لأن يستصدر فتوى مناوئة لثورة 17 فبراير خرجت من الأصوات المدخلية، وبثتها القنوات الرسمية للدولة، لكن هذا لم يمنع الثورة لأن تنتصر ويتم القضاء على القذافي[4].

وجد المداخلة أنفسهم في موطن ضعف بعدما لفظهم الناس لموقفهم المعادي للثورة، وتحت ضغط الخوف عمل المداخلة على تنظيم أنفسهم على مستوى البلاد واهتموا بإنشاء المدارس والمكتبات وحاولوا بكل الطرق الاستيلاء على مناصب وزارة الأوقاف[5].

بعد الثورة، طرأ تحول غير معهود على المداخلة وهو مشاركتهم في الحياة السياسية بعد تحريمهم لممارستها، لكن هذه المشاركة كانت من منطلق الصدام مع الإسلاميين. فقد أخذ المداخلة فتوى من رأس التيار في السعودية “ربيع بن هادي المدخلي” بالمشاركة في انتخابات المؤتمر الوطني، لكن مشاركتهم كانت ضد التيار الإسلامي المتمثل في تيار الإخوان المسلمين، وبقية التيارات المناوئة مثل الجماعة الليبية المقاتلة، إذ ينطلق المداخلة من أن الإخوان المسلمين أخطر الفرق الإسلامية، وهم أخطر على المسلمين من اليهود والنصارى[6]!

وبعد انقلاب خليفة حفتر في الرابع عشر من فبراير 2014 أصبح المداخلة أحد أهم القوى الضاربة لحفتر، وتشكلت ألوية وكتائب تقاتل في جيشه، وعمل العديد منهم مليشيات موت واغتيالات خاصة، مع سيطرة منهم على عدد من السجون الليبية والمدارس وأغلب المساجد، حتى توزعت قوتهم بين منطقة الشرق والوسط والغرب، وأصبح الشرق بأكمله تحت سيطرتهم، بينما تشهد باقي المناطق مساحات جذب متبادلة[7].

ترصد هذه الورقة العوامل الداخلية في فكر المداخلة التي أدت إلى هذا التحول، كما تسلط الضوء على بعض العوامل الخارجية والإقليمية، وتشابكات الفتوى في الفضاء المدخلي الليبي. وتنتهي باستشراف للحالات التي يمكن أن تؤول لها المدخلية الليبية.

تحول المداخلة، مع مرور الوقت، من حركة مهادنة للدولة، ويستطيع نظام القذافي توظيفها، إلى حركة مضادة للثورة. فما لبث المداخلة بعد الثورة أن يتكتلوا لفرض سيطرتهم الدينية في الفضاء الليبي. وهو ما جعلهم يستميتون لحيازة هيئة الأوقاف. وحينما عُين الصادق الغرياني مفتيًا لليبيا -بعد موقفه الإيجابي من الثورة- لم يلتزم المداخلة بتعليمات وزارة الأوقاف ودار الإفتاء في ليبيا. وهو ما دفع الغرياني لمراسلة هيئة كبار العلماء في السعودية للحد من هذا السلوك السيئ، إذ يقبع عامة مرجعياتهم الشرعية في المملكة.

على التوازي من الصدام مع الدولة دخل المداخلة في صدام مع كل الطوائف الدينية، وعلى الرأس منها الحركات الصوفية – صاحبة الإرث التاريخي الأهم في ليبيا – وعملوا على تفجير قبر الإمام السنوسي، مؤسس الطريقة السنوسية والتي ينتمي إليها عمر المختار، ووالد الملك السنوسي أخر ملوك ليبيا قبل انقلاب القذافي.

لكن الأمر سيتطور كثيرًا مع انقلاب 2014 والذي قام به خليفة حفتر، ليتحول المداخلة إلى قوة ضاربة تستمد شرعيتها من قتالها للإسلاميين بوصفهم (خوارج وإخوان ودواعش) في صف حفتر باعتباره وليّ أمر، كما يستمد هو بعض الشرعية الدينية منهم.

في المقابل من هذا أُطلقت يد المداخلة في الفضاء الديني للتصرف كما شاءوا، وهو ما جعلهم يستولون على عدد كبير من المساجد لاسيما في المناطق التي استولوا عليها بالكلية وهي الشرق، ثم قلب ليبيا. بينما يظل الغرب الليبي – متمثلا في العاصمة طرابلس – في مرحلة شد وجذب بين تقدم المداخلة وانحسارهم، ففي الغرب يقع مقر حكومة الوفاق الوطني –المعترف بها دوليا- برئاسة فايز السراج مع أطراف المعارضة لحفتر، وتحظى بتمركز بعثة الأمم المتحدة، مما يجعلها إلى الآن مستعصية على إحكام حفتر لقبضته عليها.

تتألف شبكات الفتوى المعتمدة في ليبيا من الرموز المعروفة للمداخلة حول العالم. إذ يبرز على الدوام اسم “ربيع بن هادي المدخلي” في السعودية و”محمد سعيد رسلان” في مصر. وسيبرز اسم الأخير في حادثة قتل الشيخ نادر العمراني بالتحريض من أحد تلاميذه، وهو ما سينكره رسلان. وسنُحلق في نهاية الدراسة ملحق بأبرز المشايخ الفاعلين من المداخلة في ليبيا.

أما الفضاء الديني فيقوم على الإقصاء لكل مخالف، وقد استحدثوا بعض الهيئات الإجبارية على تنفيذ المخططات الدينية على منوال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة، وعمدوا بها إلى فرض نمط وحيد من التدين، وإجبار الناس عليه. مع بطش في التنكيل بالخصوم، وهو ما برز في السجون التي تولى المداخلة إدارتها مثل سجن قرنادة وسجن معيتيقة. إذ عمد المداخلة إلى التنكيل بالمساجين والمسجونات على حد السواء.

وسوف نرصد هنا العوامل الذاتية في فكر المداخلة وكذلك الإقليمية التي حولت التيار المدخلي إلى مليشيا للموت في ليبيا واليمن كذلك.

العوامل الذاتية لتحويل المدخلية لمليشيات

تعددت العوامل التي أدت إلى تحويل المداخلة من حركة دينية محافظة إلى مليشيات مسلحة في اليمن وليبيا، وتنوعت هذه العوامل بين عوامل ذاتية، مرتبطة بفكر المداخلة على وجه الخصوص. وأخرى إقليمية، مرتبطة بالتغيرات التي تشهدها المنطقة العربية.

وتكمن أبرز العوامل الذاتية التي يسرت عملية التوظيف للمداخلة في صراع مُسلح:

الغلو في مسألة “طاعة ولي الأمر”

يُغالي التيار المدخلي على وجه العموم من تعظيم الحكام والسلاطين، ويُوجب طاعتهم على الدوام. مهما بلغ هؤلاء الحكام من السفه والفجور أو المظالم وإيراد بلادهم المهالك، فهو لا يُحاسب عند المداخلة، وإنما يجب طاعته والدعاء له في العلن ونصحه في السرّ دون تقريب الناس عليه، وإن وصل به الأمر لقتل ثُلثي شعبه من أجل مصلحة يراها فلا يُنكر عليه، كما صرح بذلك أحد شيوخ المداخلة[8].

يتصل بهذه النقطة مسألة الخروج على الحكام وإنكار المداخلة للخلاف الفقهي القديم في حالات تقويض سلطان الحاكم الفاسق، فضلا عن المرتد عن الإسلام؛ على الرغم من ممارسة الصحابة والتابعين لعمليات تقويم لأفعال الحكام الخارجة عن الإسلام[9]، لكن الغلو في فكرة الطاعة، أيًّا ما كان صلاح الحاكم من عدمه؛ وربط هذه الفكرة على الدوام بالاعتقاد؛ كان لها أشد الأثر في ترسيخ استبداد الحُكام، ومسايرتهم في أوامرهم والتبرير لها بل والعمل تحت لوائها وإن طالت الدماء والأعراض والقمع.

شيطنة المعارضين

تعتبر فكرة الشيطنة للمخالف وعدم الالتقاء معه في منتصف الطريق، ثاني أهم الميزات المميزة للمداخلة بعد غلوهم في طاعة ولاة الأمور!

ومن هذا المنطلق يُرمى المخالفين السياسيين للحكام بمصطلحات شرعية مثل البدعة والفسق والخوارج. كل ذلك دون اعتبار أو تفرقة لأصناف المعارضين أنفسهم أو لأنواع المظالم التي يطلب الناس بإسقاطها عن كاهلهم، مع تقديم هذه الأفكار كمُسلمات عقدية، وتعطيل تام -كذلك- للخلاف الفقهي القديم في حالات الخروج على وليّ الأمر وأشكال هذا الخروج المختلف وتطور مصطلح الخوارج ذاته[10]. وأن الخارجيين ليسوا بالضرورة عملاء ومأجورين أو خوارج مثل الخوارج الذين قاتلوا عثمان وعليّ، وهو ما فرق فيه الفقهاء قديما؛ يقول الإمام ابن حجر مفرقًا بين خروج الخوارج، وخروج البغاة، وخروج أهل الحق: “وقسم خرجوا غضبا للدين من أجل جور الولاة، وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق، ومنهم الحسين بن عليّ، وأهل المدينة في الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط وهم البغاة” واعتبر ابن حجر أن هذا مذهب قديم للسلف[11].

احتكار الحق والنظرة المدخلية.

يُصدر المداخلة أنفسهم باعتبارهم الممثل الأوحد للصواب، وبناءً على هذا التمثيل يرى المداخلة سائر الفصائل الإسلامية دخيلة على الفكر الإسلامي، وإن كانت سلفية كذلك، وإنما هدفها إسقاط البلدان الإسلامية ومنهج السُنة!

يقول ربيع المدخليّ: “فأهل البدع لا بد من التحذير منهم، إذ إن كشف عوارهم، وبيان ضلالهم من أوجب الواجبات وأفرض الفرائض، لأن هؤلاء خاضعون لقيادات بدعية ضالة متسترون مكرا باسم السلفية، لكنهم ما لبسوا لباس السلفية بقوة إلا ليتمكنوا من سحقها”[12].

ويتولد عن هذه الفكرة مناوئة المداخلة لكل الفصائل الأخرى وعدم الوثوق فيها، وقد بدأ هذا منذ اللحظة الأولى حين ناوئ المداخلة تيار الصحوة الذي عارض العائلة المالكة في استقدام قوات أمريكية، فانطلقت الرسائل والكتب والتسجيلات تنال من دعاة الصحوة وتصفهم بالخوارج والبغاة وتحث على سجنهم والتصدي لهم، بينما كان علماء الدين التقليدين في المملكة، والمعنيين أكثر بالأمر؛ على درجة أكبر من التفهم والاحتواء لشباب الصحوة هؤلاء مثل الشيخ عبد العزيز بن باز ومحمد صالح العثيمين[13].

كما أن ذلك يولد انغلاقًا على النفس، ما يلبث أن يتحول إلى رؤية أُحادية تُقصي كل من خرج عنها، ولا تتقبل وجهات النظر وتعددها، بل وتعمل على إسقاط كل الرموز الأخرى. وهو ما حصل من المداخلة في حروبهم العاتية مع رموز الإسلاميين ومحاولة اسقاطهم والتجني عليهم، لاسيما رموز الإسلاميين الحركيين مثل؛ حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب ويوسف القرضاوي وعبد الله عزام[14]!

الرصيد السابق من التعامل الأمني

يصرح المداخلة بالتعامل مع الأجهزة الأمنية، ويعتبرون هذا التعامل دينًا يدينون به، وهو ما أولاهم العديد من الرُتب والامتيازات في الأماكن والدوائر الوظيفية. ويستعين المداخلة بقربهم من الحكومات على تصفية معاركهم مع خصومهم من الإسلاميين على وجه الخصوص.

أتاحت وشائج الصلة تلك بين المداخلة والأجهزة الأمنية إمكانية واسعة للتوظيف والاستخدام، بل يتبرع المداخلة بذلك ويرون في ذلك دينيًا وواجبًا من صلب عقيدتهم[15]، وقد غذت العديد من الأجهزة الأمنية هذه الوشائج ودعمت تواجد التيار المدخلي حتى أصبح القوى الدينية الضاربة لها والمتحركة باسمها، وهو ما تم في السعودية ومصر وليبيا، وقد ذكرنا في بداية الدراسة بدايات الاقتراب بين المدخلية ونظام القذافي السابق، متمثلًا هذا الاقتراب في رعاية الساعدي القذافي للتيار المدخلي.

كانت تلك بعض العوامل الداخلية المنبعثة من الفكر المدخلي نفسه، والتي أهلت المداخلة لخصومة الإسلاميين والحرب ضدهم تحت لواء خليفة حفتر في ليبيا، على الرغم من علمانية المشروع الذي يحمله[16]، لكن هذه العلمانية تبدو في نظرهم أهون خطرًا عن المداخلة من الإسلاميين الحركيين والذين يعتبرونهم أخطر على الإسلام من أعداءه الأصليين، ومن اليهود والنصارى!

العوامل الإقليمية لتحويل المدخلية لمليشيات

جنبًا إلى جنب مع هذه العوامل الداخلية، اجتمع عدد من العوامل الإقليمية أهلت السلفية المدخلية للعبور إلى أقصى اليسار في ليبيا، لتحمل سلاحها المقدس في خدمة مشروع علماني، ومن هذه العوامل الإقليمية:

بروز السلفية المدخلية كتيار متجاوز للقارات

منذ عقود طويلة وشكلت ظاهرة السلفية ظاهرة عالمية، وعزز من انتشارها الدعم الذي دفعت به المملكة العربية السعودية منذ سبعينات القرن الماضي. وهو ما حول السلفية -بمختلف تمظهراتها- إلى تيارات عالمية وإن كانت تفتقر إلى التنظيم[17]. فكما أن هناك سلفية عالمية جهادية، فهناك سلفية عالمية علمية، وأخرى حركية. وليست المدخلية بدعًا من ذلك، وهو ما جعل المدخلية تيار عالمي حقيقي له رموزه وقادته ومُوجهيه العابرين للقارات وإن لم يجمعهم تنظيم بالمعنى التقليدي[18].

وسيكون لهؤلاء الرموز دور كبير في توجيه هذا التيار في اليمن وليبيا، وتدعيم تشابكات الفتوى في المعارك القتالية التي ستنشأ في البلدين

ردة الربيع العربي وموقف المداخلة من الثورات.

مثل الربيع العربي حالة صدمة عنيفة للفكر المدخلي، والذي يعتبر فكرًا سلفيًا مهادنًا على مر تاريخه، وأداة في يد استبداد الحكام. وهو ما جعل المداخلة في خانة الأعداء للثورات والفاعلين فيها، ولم يتسامحوا مع الثورات ومطالب الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة[19].

بعد مرحلة انحسار الربيع العربي في مصر واليمن وليبيا، انقض المداخلة في تحالف مع قوى الثورة المضادة لإثبات نظريتهم في خطأ الثورات، وادانتها، وعملوا كذلك على إسقاط الإسلاميين، والذين يمثلوا خطرًا على المنهج الإسلامي النقي بحسب المداخلة، وهو من الأسباب التي دفعتهم للتعاون مع قوى علمانية وإقليمية ضد الإسلاميين الذين صعدوا لسُدة الحكم بعد الربيع العربي.

طبيعة البيئة الليبية بعد ثورة 17 فبراير.

ثم عامل أخر جعل المداخلة على هذا القدر من العنف بالأخص، ويتمثل في طبيعة البيئة الليبية بعد الثورة، والتي مالت إلى استعمال السلاح وفرض السيطرة، وتحقيق المكاسب بلغة القوة.

ساهم هذا المناخ[20] في تشجيع المداخلة على استخدام القوة، وقد تمثل ابتداءً في إجبار بعض الأئمة والخطباء على ترك جدوله في الخطابة المحدد في الأوقاف، لصالح خطباء آخرين يعينهم المداخلة، وهو ما حذرت منه دار الإفتاء الليبية وعلى الرأس منها الصادق الغرياني، واعتبرت هذا لون من ألوان العبث بالدولة وعدم الثقة بأهل الدين. وهذه الحالة من فرض السيطرة بالقوة ستتطور لاحقًا لإسكات الخصوم بقوة السلاح كذلك، ولن يجرؤ أحد على إظهار مخالفتهم علنًا[21].

تحولات السعودية وتمكين المداخلة

بينما حاول محمد بن سلمان الظهور بصورة الأمير المستنير، والذي يدفع بلاده نحو مزيد من اللبرلة والحداثة وتحجيم الدين عن الفضاء العام كما كان في السابق، فقد عمد ابن سلمان إلى إقصاء كل المخالفين له من النشطاء والمعارضين المُحتملين في حملة الاعتقالات التي شنها والتي عُرفت باعتقالات سبتمبر/أيلول من العام 2017.

فراغ ديني كبير خلف هذه الأعداد الفاعلة في الداخل السعودي والتي غُيبت خلف القضبان، وكان لزامًا أن يُسد هذا الفراغ بتيار أخر أكثر مُهادنة، ولا يتحدث في الوقت ذاته عن المنكرات الشرعية التي استحدثها الأمير الشاب.

كان المداخلة على الرأس من هؤلاء المتعاون معهم. فقد أقصت الحكومة تياراتهم المعادية من الإسلاميين، وعملت على توليتهم المناصب الدينية والإشراف الوعظي وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شريطة ألا يُنكر على وليّ الأمر أفعاله ولا منكراته، وهو ما عزز الفتاوى المدخلية المنادية بتمجيد وليّ الأمر وطاعته، والحط من المخالفين والزراية عليهم.

الدعم المالي والعسكري الذي يتلقاه المداخلة.

بحسب تقرير ميداني أعده “فريدريك ويري” في ليبيا وشمل مقابلات في طرابلس ومصراته وسرت وبنغازي والبيضاء منذ أواخر العام 2015 حتى منتصف العام 2016. كشف ويري عن تخوف بعض الجهات الداعمة لحفتر إزاء النفوذ المتنامي للتيار المدخلي وأهدافه الخفية، وتنطلق هذه الشكوك، في جزء منها، من التقارير التي تتحدّث عن تمويل سعودي وخليجي للتيار[22].

ووفقا لمصادر ميدانية فإن الشكوك تكثر حول استفادة القوات المدخلية من تمويل خليجي خارجي، وبحسب مصادر ميدانية من طرابلس فإن قوات الردع تستفيد من عدد من رجال الأعمال الليبيين الذين لهم مصلحةٌ اقتصاديةٌ في تحالف حفتر، حيث تؤمن لهم تجارتهم وتسمح لهم بالتمدد والانتفاع عبر صلاحيات لا تعطى لغيرهم، وأبرز هؤلاء الداعمين والممولين، عبد الرحمن قاجة -وهو تاجر في سوق الذهب والعملة-عبد الحكيم المصري -وهو من ملاك شركة الأجنحة للطيران-. ورجل الأعمال القريب من المداخلة عبد الرؤوف كارة! وقد زاد هذا الدعم المالي من نفوذ التيار المدخلي والذي امتد للدعم العسكري بطبيعة الحال، لكنه لم يتوقف عنده. فقد شمل مساحات اجتماعية ودينية وحياتية في الداخل الليبي، فقد استطاع المداخلة أن ينشئوا عددًا من المدارس والمعاهد التعليمية من تبرعات وتمويلات خليجية، وسعودية على وجه الخصوص، وهو ما جعلهم رقمًا صعبًا في المعادلة الليبية الحديثة[23].

التمكين الديني والحكومي للمداخلة.

عمل حفتر على تمكين المداخلة من الفضاء الديني، إذ اعتبرهم حلفاء له على المدى التكتيكي. وحرص المداخلة، منذ ثورة 17 فبراير؛ على الاستيلاء على هيئة الأوقاف والخطباء، وهو ما عزز من حضور المداخلة دينيا في ليبيا عوضًا عن الحركة الصوفية السنوسية ذات التاريخ الأعرق في البلاد[24].

وقد أدى هذا الحضور للمداخلة في الحالة الدينية الليبية إلى حالات من الصدام مع الصوفية في ليبيا واتهامهم جميعا بالبدعة وتفجير كتيبة دار السلام المدخلية لقبر الإمام السنوسي، مؤسس الطريقة السنوسية الشهيرة في ليبيا، والتي ينتمي إليها المجاهد عمر المختار، وأخر ملوك ليبيا؛ الملك “إدريس السنوسي” قبل أن ينقلب عليه معمر القذافي. وبحسب مراقبين فإن هذا الصدع الصوفي المدخلي من شأنه أن يوتر الحالة الدينية في ليبيا، لاسيما مع اتهامات الصوفية المستمرة للمداخلة بأنهم نبت غريب عن ليبيا يعمل على تركيبتها الدينية.

نتائج وخلاصات

  • اتخذ القذافي من المداخلة حليفًا في مواجهة التيارات الخارجة عنه.
  • لم يُرحب المداخلة بالثورة واعتبروها خروجًا على وليّ الأمر لكنهم استفادوا منها في تنظيم بيتهم الداخلي في ليبيا.
  • عمل المداخلة على استصدار فتاوى سعودية لمواجهة الإخوان في الانقلاب والتحالف ضدهم.
  • دعم المداخلة انقلاب حفتر ثم انخرطوا في تأييده عمليا بعد فتوى من ربيع المدخلي بالسعودية.
  • عمل المداخلة على تشكيل كتائب مُسلحة تقاتل تحت راية حفتر ضد الإسلاميين وقوى الثورة الصاعدة للحكم.
  • قام المداخلة بعمليات وحشية من القتل وسفك الدماء في التعامل مع المخالفين وخُولوا صلاحيات أمنية وعسكرية من الدولة.
  • فرض المداخلة سيطرتهم الدينية على الشرق الليبي بالكلية وتخفت كلما اتجهنا إلى الغرب.
  • أشرف المداخلة على عدد من السجون وقاموا بعدد من الانتهاكات لنُزلائها بدعوى أن الخوارج لا كرامة لهم.
  • قام المداخلة بتصفية عدد كبير من مخالفي حفتر الشرعيين ومشايخ الثورة أشهرهم الشيخ نادر العمراني.
  • عمل المداخلة على فرض حالة دينية وألزموا بها المجتمع الليبي، ونكلّوا بالمخالفين.

ملحق أبرز أسماء رموز المداخلة في ليبيا[25]:

1-مجدي حفالة (أبو معصب): من أهم شخصيات الزعامة في التيار المدخلي، وكان له دور واسع في تثبيط الثوار في ثورة 17 فبراير.

2- محمد لأنقر: أهم شخصية دينية في طرابلس، وله دور بارز في موالاة القذافي، وله تسجيل شهير في التثبيط عن الثورة وسب المفتي الصادق الغرياني.

3- محمود الورفلي: قائد عسكري صدرت بحقه مذكرة اعتقال من الأمم المتحدة باعتباره مجرم حرب، وله دور عسكري بارز في بنغازي، وحضور كبير في سلاح الليبية.

4- أشرف الميار: ضابط سلفي مدخلي وآمر كتيبة التوحيد السلفية التي تقاتل في صفوف حفتر، وشديد التنكيل بخصومه من الإسلاميين.

5- أحمد عبد الرزاق غرور الحاسي: آمر فرقة القبض الخاصة وقد قُتل على يد قوات حفتر.

6- قجة الفاخري: آمر قوة سلوق، وقائد مذبحة الأبيار، واعتُقل في سجون حفتر.

7- بن غلبون: يُلقب بمفتي حفتر، كثير الدفاع عنه وتجيش الكتائب له، والتحريض على خصومه.

8-عبد الحكيم المصري: رجل أعمال كبير وداعم مالي للمداخلة في طرابلس.

9- طارق درمان الزنتاني: زعيم مدخلي في منطقة الجبل الغربي، دائم الهجوم على الإخوان المسلمين والشيخ صادق الغرياني.

10-خالد الفرجاني: شيخ مدخلي مناصر لحفتر، وإمام مسجد في سرت وتوفي في حربه ضد تنظيم الدولة مع حفتر، وتولى أخوه خالد بن رجب زعامة المداخلة في المنطقة والكتيبة 604 للمشاة السلفية.

11- كمال بازازة: كان يترأس قسم الشؤون الإسلامية في مديرية الأمن بنغازي وقد قُتل.

12- عز الدين الترهوني من كتيبة التوحيد وقد قُتل في معارك سوق الحوت ببنغازي.

13- أحمد بن علي الفيتوري: رئيس لجنة التحري والقبص في بنغازي وقد قُتل في تفجير مسجد بيعة الرضوان.

14- يوسف بن فارس المكنى بأبي عبد الرحمن المكي شيخ مقرب من ربيع المدخلي، وله حضور كبير في الفضاء المدخلي.

15-فواز المدخلي شيخ ومحرض مدخلي.

16- أسامة عطايا الله العتيبي شيخ سعودي مقرب من ربيع المدخلي ويحرض الشباب لكتائب حفتر، وكان له دور في الطواف على كتائب المداخلة في شرق ليبيا وحثهم على القتال.

17-أنس الحداد وأبو أحمد حميد المصراتي وسند الحداد وموسى طيب وموسى سالم الخمسة: مشايخ المداخلة في البيضاء ويملكون بعض المجموعات المسلحة الصغيرة التابعة لقوات حفتر المسماة بالكرامة [26].


الهامش

[1] حول علاقة المداخلة بباقي الإسلاميين انظر: محمد فتوح، سلفية المخابرات: كيف يستخدم الجامية والمدخلية الاغتيال النفسي لتدمير خصومهم؟، موقع ميدان، بتاريخ 14 فبراير 2015.

وللمزيد حول نشأة المداخلة، انظر: ستيفان لاكروا، زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية، ترجمة بإشراف: عبد الحق الزموري، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012م)، ص 282 وما تلاها؛ مجموعة مؤلفين، السلفية الجامية: عقيدة الطاعة وتبديع المختلف، (دبي: مركز المسبار، فبراير 2012م)، ص85 وما تلاها، كذلك ص 141 وما تلاها.

[2] للمزيد حول الحركات الإسلامية في ليبيا في عهد عصر القذافي: محمود النّاكوع، الحركات الإسلامية الحديثة في ليبيا: منطلقاتها – قياداتها – تجاربها – مآلاتها، ط1 (لندن: دار الحكمة، 2010).

[3] للمزيد حول تعامل المداخلة في هذه الفترة وما تلاها: محمد فتوح، جند الله أم جند حفتر؟.. قصة ميليشيات المداخلة في ليبيا؛ موقع ميدان، بتاريخ 9 مايو 2019م.

[4]  “القذافي وأبناؤه … آخر ركاب قطار “السلفية”، جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 17 مارس 2011، ويُراجع: لقاء الساعدي القذافي مع قناة العربية -مارس 2011- وحديثه عن نشاطه السلفي.

[5] ربيع بن هادي المدخلي، نصيحة للمسلمين عمومًا والسلفيين خاصة، في ليبيا وغيرها من البلاد الإسلامية، فتوى منشورة على موقعه الشخصي!

وقد حصل الباحث على عدد من الشهادات الميدانية من متشرعيين وأئمة في دار الإفتاء الليبية حول ممارسات المداخلة بعد الثورة إزاء هيئة الأوقاف ومحاولات الاستحواذ عليها.

[6] مصدر سابق، جند الله أم جند حفتر؟.. قصة ميليشيات المداخلة في ليبيا.

[7]  للمزيد حول تمركزات المداخلة في الشرق: فريدريك ويري، وداعاً للهدوء؟، مركز كارنيغي، بتاريخ 13 أكتوبر 2016.

[8]على المالكي (شيخ مدخلي)، لقاء على قناة روتانا الخليجية

[9]  راجع هذه المواقف في: حاكم المطيري، الحرية أو الطوفان، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004م)، ص 124 وما بعدها.

[10] للمزيد حول هذا مفهوم الخوارج التاريخي، وتطوراته الزمانية والدلالية، واسقاطاته الواقعية:

[11] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تقديم وتحقيق: عبد القادر شيبة الحمد، (الرياض: طبعة خاصة على نفقة سلطان بن عبد العزيز آل سعود، 1421هـ)، 12/286.

[12] ربيع المدخلي، كلام في مسألة الشدة.

[13] عبد العزيز الخضر، سيرة دولة ومجتمع: قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010م)، ص 110 وما تلاها.

[14] حول هذه النقطة يمكن مراجعة: تأليف جماعي، السلفية الجامية، (أبو ظبي: مركز المسبار 2012م) ص 113 وما بعدها. عبد العزيز الخضر، السعودية -سيرة دولة ومجتمع، (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009م) ص 110، 111.

[15] تكثر مثل هذه التصريحات في دروس المداخلة، انظر على سبيل المثال تصريح محمد أحمد الفيفي في أحد محاضراته؛ وكذلك: بن غلبون في التعاون مع حفتر.

[16] حول مشروع حفتر وتسويقه بأنه مشروع علماني مضاد للإسلاميين في دوائر القرار الغربية، يمكن مراجعة

Libya, who is General Khalifa Haftar?  – JAN 21, 2015

[17] وبعد حمل السلفية المدخلية للسلاح، فلا يُستغرب إن كشفت بعض الوثائق في مقتبل الأيام على تنظيمات مدخلية تديرها المخابرات، إذ إن العمل العسكري المسلح يفتقر إلى التنظيم والتنسيق الدائم بين الفاعلين فيه.

[18] محمد أبو رومان، السلفيون والربيع العربي: سؤال الدين والديمقراطية في السياسة العربية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2013م) ص97.

[19] انظر على سبيل المثال: تهجم وزير الأوقاف السعودي على محمد ولد الددو الشنقيطي علنًا لموقفه من التنظيمات الحركية واتساع صدره لها.

لكن ينبغي التنبه إلى أن تحول التيار المدخلي إلى تيار مُسلح في ليبيا بدأ قبل ذلك، إذ كانت بواكيره بعد الثورة، لكنه انتظم في هذه الحالة مع انقلاب حفتر في عام 2014. وفتوى ربيع المدخلي بتشكيل قوات من السلفيين [المداخلة] للمدافعة عن بنغازي ضد الصادق الغرياني والإخوان، والانضمام لصفوف خليفة حفتر في بنغازي، وهو ما سُمي فيما بعد كتيبة التوحيد السلفية ببنغازي، ويمكن مراجعة نص فتواه: نصيحة للمسلمين عمومًا والسلفيين خاصة، في ليبيا وغيرها من البلاد الإسلامية.

[20] حول الحالة الليبية بعد الثورة انظر: إبراهيم شرقية، إعادة إعمار ليبيا: تحقيق الاستقرار من خلال المصالحة الوطنية، (الدوحة: مركز بروكنجز، ديسمبر 2013م).

[21] استفاد الباحث هذه المعلومات من مصادر ميدانية مختلفة كانت في عدد مختلف من المدن الليبية، من طلاب العلوم الشرعية.

[22]فريدريك ويري، وداعًا للهدوء؟!، مرجع سابق.

[23] وفقا لمصادر ميدانية ومعلومات من الداخل الليبي حصل عليها الباحث.

[24] لتفصيل هذه القضية وتشابكاتها، والحضور الديني والاجتماعي للمداخلة المسلحة في ليبيا، “جند الله أم جند حفتر؟ قصة ميليشيات المداخلة في ليبيا”، مصدر سابق

[25]  اعتمد الباحث في جمع هذه الأسماء على المصادر الإخبارية والتقارير الصحافية بالإضافة إلى مصادر ميدانية.

[26] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close