السودان ـ ماذا بعد خطاب البشير؟
ربما استبشرت قوى المعارضة، والمتابعين للشأن السوداني خيرا من التسريبات التي سبقت خطاب الرئيس عمر البشير مساء الجمعة 22 فبراير، التسريبات جاءت على لسان مدير المخابرات صالح قوش خلال لقاء مع الإعلاميين قبل الخطاب بخمس ساعات فقط. وهو ما فسر حينها بأنها تسريبات للصحافة، تمهد للخطاب. وفي مجملها تشير إلى حدوث تراجع في موقف النظام تجاه الاحتجاجات الشعبية، وأنه سيقوم بإقالة الحكومة، وإلغاء تعديل الدستور الذي سيسمح له بالترشح لأكثر من دورتين، وتخليه عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني الحاكم ليقف على مسافة واحدة بين القوى السودانية بشتى ألوانها. ورغم أن ما تسرب لم يلب كل طموحات المعارضة، لاسيما ما يتعلق برحيله الفوري، لكن البعض كان يصبر نفسه بأن النجاح الحقيقي هو أن البشير سيترك الحكم عام 2020.
لكن فوجئ الجميع بخطاب مختلف تماما في بنوده عن تصريحات قوش، وهو ما أثار تساؤلات حول أسباب هذا التعديلات لاسيما وأن الرئيس كان مجتمعا مع قيادات حزبه، وتردد أن هناك تباينات أو خلافات بمعنى أدق فيما يتعلق بمضمون الخطاب. لكن من الواضح أن الكلمة العليا كانت للرئيس الذي حرص على أن يظهر في موقف قوة من خلال مراسم وأجواء الخطاب التي تشير الى بلد يعيش حالة من الرخاء، ولا تظهر عليه أية معاناة أو حركة احتجاجات في الشارع للمطالبة بداية بتوفير الخبز والوقود، وصولا للإطاحة بقاطن هذا القصر الفخم
قراءة في أهم بنود الخطاب
لقد تضمن الخطاب العديد من الأسس وكذلك القرارات الهامة لتسوية الأزمة من وجهة نظر البشير فمن حيث الأسس أكد على أن الحوار هو الأساس، مستبعدا الخيارات الصفرية، كما أكد على أن وثيقة الحوار الوطني التي تم إنجازها سابق”2014″ هي الإطار للحل. ودعا قوة المعارضة التي لم تنضم إليه للحاق به، مع تأكيده على أنه سيقف من خلال منصب الرئاسة” المنصة القومية” على مسافة واحدة من الجميع، وربما أحطر ما تضمنه الخطاب هو تأكيده على دور القوات المسلحة في المشهد الوطني كحامية وضامنة للاستقرار. أما أهم القرارات فكانت – فرض حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد لمدة عام واحد، وحل حكومة الوفاق الوطني والحكومات الولائية، ودعوة البرلمان لتأجيل النظر في التعديلات الدستورية المطروحة عليه “فتحا للأبواب أمام إثراء الحياة السياسية بالحوار البناء والمبادرات الوطنية الخالصة”
وبإمعان النظر في هذه الأسس والقرارات نلاحظ ما يلي:
1ـ استمرار تماسك النظام، وعدم الاكتراث بمطالب المعارضة التي تعتبر مطالب صفرية من وجهة نظره. بل إنه رفض حتى التفاوض على أرضية يتم الاتفاق عليها بين الطرفين، وإنما على أرضية سابقة حددها هو سلفا “الحوار الوطني”، واعترضت عليها معظم القوى التي شاركت فيها، وكأنه يضع العقدة في المنشار، لا سيما وأنه يعرف سلفا أن القوى المعارضة له سواء التي انسحبت منها، أو القوى الجديدة مثل تجمع المهنيين الذي يقود الحراك حالياـ يرفض فقط ليس هذه الآلية فحسب، وإنما يرفض نظام البشير برمته.
وبالتالي فكأنه يلقي بالكرة في ملعب المعارضة لإحراجها أمام القوى الشعبية التي يبدو أنها رغم معارضتها لسياسات النظام الاقتصادية تحديدا، إلا أنها تخشى من المجهول الذي يمكن أن تتعرض له البلاد، لا سيما مع ترديده نغمة أن السودان يمكن أن يصبح كسوريا أو اليمن أو حتى ليبيا المجاورة. وربما يكتسب هذا الأمر حساسية كبرى لدى الشعب السوداني الذي أنهكته حرب الجنوب، فضلا عن حرب دارفور..
2ـ يرتبط بما سبق سكوت البشير عن فكرة عدم ترشحه مرة أخرى، حيث جاء الخطاب بفكرة إرجاء التعديلات الدستورية، وليس الإلغاء كما صرح قوش قبل الخطاب. ما يعني أن الرجل ربما لن يتخلى عنها، وقام بإرجائها حينا من الدهر، ريثما تتحين الفرصة لذلك، وأن ما يتبعه الآن هو سياسة المسكنات فحسب.
3ـ عدم تخلي البشير عن رئاسة الحزب الحاكم رغم تراجع أداء الحزب، وعدم قدرته على التعامل مع التحديات الراهنة. وبالتالي فإن الحديث عن وقوفه من موقعه القومي في رئاسة الجمهورية على مسافة واحدة من الجميع، ربما يثير شكوكا لدى القوى المعارضة له، لاسيما أن هذا الحديث ليس بجديد، وواقع الأحداث يثبت عكس ذلك. كما أن قراره الأخير بتفويض منصبه بالحزب لنائبه، لا يعدو من وجهة نظر معارضيه مناورة، لأنه لم يتخل عن الحزب، كما انه يمكن ان يلغي هذا التفويض في أي وقت
4ـ حل حكومة معتز موسى دون إبداء المبررات لذلك، فلم يشر إلى تحميل الحكومة مسؤولية غياب المواد الأساسية” الخبز والوقود، أو تراجع العملة المحلية أمام الدولار بمقدار الضعف ” الدولار كان يساوي قرابة 35 جنيه سوداني، ثم بات يساوي أكثر من 70 حاليا”. بل إنه في المقابل لم يبق عليها مؤقتا، لحين إتمام الحوار الوطني بفرض حدوثه، وتشكيل حكومة جديدة كأحد مخرجات هذا الحوار.
لكن الأكثر دهشة وتساؤلا، هو أنه قام باستبدالها بحكومة أخرى على رأسها، ليس شخصا من التكنوقراط، بل أحد أشد الموالين له وهو محمد طاهر إيلا، الذي أعلن مع بدء الاحتجاجات في 19 ديسمبر 2018، دعمه الكامل للبشير في الانتخابات القادمة، وكتب على “فيسبوك” في حينها “التحية للرعيل الأول الذي جلب لنا الاستقلال رجالات النضال وناس مؤتمر الخريجين من الجزيرة والسودان سيكون دعمنا لترشح البشير نابع من قناعات الشعب الذي ينشد الاستقرار في البلاد. السيد الرئيس المشير البشير.. مرشحنا في الانتخابات القادمة 2020”. وقبل عامين، عندما قرر البشير وقتها عدم خوض الانتخابات القادمة 2020 (قام بتزكية طاهر ايلا حاكم ولاية الجزيرة للمنصب، إذا ما قرر الترشح).
ومعنى هذا أن البشير يرغب في استمرار تبعية السلطة التنفيذية له عبر الموالين له، لاسيما في الوزارات السيادية، حيث أبقى على وزراء الدفاع والداخلية والعدل، باعتبارها الركائز التي يعتمد عليها في مواجهة المتظاهرين ميدانيا، وقضائيا.
العسكر والسياسة من جديد
تسييس العسكر، وعسكرة السلطة التنفيذية اللامركزية. وربما تعد هذه من أخطر ما جاء في قرارات البشير، حيث يراهن صراحة على الجيش والشرطة لاستمراره في الحكم، ولسحب أهم ورقة يمكن أن تلعب أو تحاول عليها المعارضة.. فالبشير منذ بداية الأزمة كان يفطن لدور المؤسسة العسكرية.
فعمل منذ اندلاع الاحتجاجات على مغازلة الجيش لضمان ولائه وعدم حياده او انحيازه لصالح الشعب، حيث أشار خلال ظهوره في حامية عسكرية في عطبره في يناير الماضي لإمكانية زيادة دور الجيش السياسي باعتباره القوة القادرة على حماية البلاد.
وربما هذا أحد أسباب وضوح الموقف العلني للجيش وكذلك الشرطة من اعلان تأييد النظام، بل وحدوث مواجهات مع المتظاهرين وصلت لدرجة استخدام الرصاص الحي. وبموجب القرارات الأخيرة، قام بإدخال الجيش في اللعبة السياسية وفي الشأن الداخلي بالمخالفة لمهامه الأساسية في حماية الحدود، فنجده يؤكد على أن الجيش هو حامي الديمقراطية، وهو أمر له دلالات خطيرة، ليس في ظل حكمه فحسب، وإنما فيمن يأتي بعده، خاصة إذا كان حاكما مدنيا، بل الأخطر أنه ربما يتم تضمين مثل هذا النص في التعديلات الدستورية القادمة إرضاء للمؤسسة العسكرية. واستمرارا لولائها. وهي نقطة خطيرة تقضي على أي فكرة انتقال ديمقراطي حقيقي في البلاد، حيث سيظل مرهونا بحكم العسكر.
وهو ما يشبه إلى حد كبير التعديلات المزمع إدخالها في الدستور المصري باعتبار الجيش الحامي للديمقراطية، ما يعني في حقيقة الأمر إجهاض هذه الديمقراطية. وفي إطار سير البشير في هذا الاتجاه اتخذ بعض الخطوات التي تسحب الجزء الضئيل من الحكم المدني لصالح الحكم العسكري، فقام بتعيين وزير الدفاع الفريق الأول عوض محمد أحمد بن عوف، نائباً أول له، خلفاً للفريق الأول بكري حسن صالح.
كما أن حكام الولايات الـ18 اختارهم كلهم من ضباط الجيش والمؤسسات الأمنية. وهي خطوة هامة تحسبا لردود الفعل المترتبة على فرضه حالة الطوارئ لمدة عام، إذ لن يقدر على كبح المظاهرات وقوى المعارضة سوى الجيش والأمن وحكام الولايات.. لذا كان لا بد من إرضاء هؤلاء في هذه المرحلة العصيبة للخروج من عنق الزجاجة خلال عام، ثم عندما تستتب الأمور من وجهة نظره، يمكن العودة لفكرة تعديل الدستور بما يسمح للرئيس بالترشح أكثر من مرتين، مع إمكانية تضمين التعديلات نصا يرضي المؤسسة العسكرية يقضي بكونها حامية للديمقراطية
البشير والتغيير من أعلى
لقد اختار البشير نمط “التغيير من أعلى” في عملية الانتقال الديمقراطي” أي من خلال النظام الحاكم” عبر تعديلات شكلية، تفويتا للفرصة على المعارضة من ناحية، ولضمان عدم وجود نخبة معارضة له من داخل النظام تطالب بتغييرات أوسع من ناحية ثانية، ولكسب ولاء الجيش من ناحية ثالثة، ولإدراكه بالتخوفات الشعبية من المجهول، وبأن الشعب يرغب أولا في تأمين احتياجاته الأساسية، ويخشى من الرهان على المعارضة، لذا قام بتوفير بعض السلع السياسية سواء عبر قروض أو مساعدات خارجية، وقيامه في المقابل بتشكيل مفوضية للفساد باعتبار أن هذا المطلب يعد أحد المطالب الشعبية.
ويبقى السؤال عن ردة فعل المعارضة التي وإن ردت باستمرار حراكها، إلا أنها لم توضح عن بدائل أخرى سوى المظاهرات لإسقاطه، وهذا في ذاته قد لا يكون كافياً، على الأقل خلال هذه المرحلة[1]
[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.