تحليلات

السياسة الخارجية الليبية: نحو بدائل عملية

بعد مرور عامين ونصف على توقيع الاتفاق السياسي الليبي برعاية الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات المغربية “اتفاق الصخيرات”، إلا أن العملية السياسية في ليبيا أصبحت بحاجة إلى تحديث جذري، حيث سعى الاتفاق السياسي الليبي السالف الذكر إلى إنشاء حكومة وحدة وطنية لكامل القطر الليبي؛ إلا إننا اليوم وبعد تسع سنوات من الصراع الداخلي، والتخبط السياسي الخارجي، نرى حكومتين تتنافسان على السيطرة:

الأولى: حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قِبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، والتي اتخذت من مدينة طرابلس في الغرب الليبي مقراً لها، برئاسة “فايز السرّاج”، والتي وللأسف أثبتت قدراً كبيراً من عدم الفاعلية حتى الآن.

الثانية: الحكومة المؤقتة المعترف بها فقط من قِبل مجلس النواب، الذي لم يعترف أبداً بالاتفاق السياسي الليبي “اتفاق الصخيرات”، والتي اتخذت من مدينة البيضاء في الشرق الليبي مقراً لها، برئاسة “عبدالله الثني”.

ومؤخراً انبثق عن المؤتمر الوطني العام جسم جديد باسم “المجلس الأعلى للدولة” ومقره في مدينة طرابلس في الغرب الليبي، ليكون في مواجهة مجلس النواب المتواجد في الشرق الليبي.

بهذا أصبح لذات الدولة “ليبيا” مجلسان تشريعيان، وحكومتان تنفيذيتان مما جعل السياسية الخارجية الليبية في تخبط واضح، وتوالت الأزمات عليها، دونما عمل جدي فعلي، وخاصةً من طرف الوزارة التي محلها طرابلس، حيث يظهر القصور في الأداء واضحاً، وعدم العمل بموجب دراسات وتحليلات استراتيجية لحقيقة المشهد الداخلي، ولاسيما أنها الجهة الرسمية الفاعلة في نقل الصورة الرسمية للدولة خارجياً.

والتجربة الليبية في حقل السياسة الخارجية الحالية من حيث اتخاذ القرار والتخطيط والتنفيذ تحتاج إلى المزيد من الرصد والتحليل أي بمعنى صعوبة وضوح من الذي يُخطط ..؟ ومن الذي يُنفذ ..؟ ومن الذي يتخذ القرار في السياسة الخارجية في ظل غياب الكيفية ومعرفتها، وهذا في غياب المفهوم والتوصيف للمصلحة الوطنية الذي تنطلق منه هذه السياسة، وأيضاً تلك الكيفية التي تتم بها عمليات التخطيط، واتخاذ وتنفيذ القرار الخارجي، ومدى وضوحها من خلال قاعدة المعلومات والبيانات، والتي يمكن من خلالها استقراء طبيعة النتائج المنجزة وغير المنجزة منها، هذا إن وجدت تلك العمليات.

حيث أن فكرة التخطيط والتنفيذ، واتخاذ القرار في السياسة الخارجية؛ دائماً ما ترتبط بوضوح ثوابت ومتغيرات السياسة العامة للدولة أي بمعنى مدى وضوح المصلحة الوطنية المراد تحقيقها بعد تعريفها، وتوصيفها، وتحديد عناصرها، وأبعادها الزمنية والمكانية، ومعرفة الإمكانيات المتوفرة؛ لعكس هذه المصلحة الوطنية إلى برامج وقرارات من خلال آليات تنفيذية قابلةً لتحقيق الأهداف، وبهذا تكون فكرة التخطيط، واتخاذ القرار، والتنفيذ في منتهى اليُسر لمراقبتها وتقييمها وتقويمها، وبالتالي في غياب هذه المنهجية للتخطيط، والتنفيذ، واتخاذ القرار في السياسة الخارجية لأي وحدة سياسية، وفي ظل غياب تحديد المعاني والمقاصد؛ لمفهوم مصلحتها الوطنية، فإنها مُعضلة يصعب على المراقب تتبع مُدخلاتها ومُخرجاتها.

ما يمكن استنتاجه أو الوصول إليه من خلال هذه الورقة هو أن المساهمة والتركيز النسبي للدولة، والمتمثلة في الجهتين التنفيذية والتشريعية على الاستراتيجيات ككل وذلك في تحديد المسار الرئيسي الذي تُحدده في قضايا أساسية.

وفي ضوء ما تم التطرق إليه يتضح أنه من أجل الحصول على ثمرة النجاح يحتاج إلى وجود خيارات استراتيجية مناسبة؛ تساعد على زيادة كل من الكفاءة، والابتكار، والإبداع من أجل سهولة الوصول إلى الأهداف المُراد تحقيقها.

العمليات والإجراءات

هنا نُحاول استقراء مشكلة طبيعة القرار السياسي الخارجي الليبي، والتي تتمحور حول التخطيط الاستراتيجي بمختلف أبعاده، واتخاذ وتنفيذ القرار في السياسة الخارجية الليبية، وكيفية التحول إلى المؤسسة الفعالة في السياسة الخارجية والآتي سردها تباعاً:

1- استحداث مجلس للأمن القومي بحيث تكون مهام هذا المجلس تتمحور حول حماية المصالح الحيوية للدولة في إطار تصور استراتيجي؛ يهدف إلى صون سيادة الدولة، وضمان وحدة أراضيها، وسلامة شعبها، وحماية ثرواتها الطبيعية، والتداول حول المسائل التي تتعلق بالسياسات العامة في مختلف المجالات المتعلقة بالأمن القومي، والاستراتيجيات الوطنية في المجالات المتعلقة بالأمن القومي، والخيارات الاستراتيجية في مجال المعلومات، والاستراتيجية الوطنية لمكافحة الحالة الداخلية للدولة علاوةً على توجيه السياسة الخارجية وفق أولويات الأمن القومي، وذلك بالتنسيق المستمر مع وزارة الخارجية مباشرة.
و من الممكن أن ينبثق عن هذا المجلس مركز وطني استخباراتي يُعنى بالشأن الداخلي للدولة، ويكون عمله في التنسيق بين مختلف هياكل الاستخبارات الوطنية، ويكون مكلفاً بتجميع التحاليل والتقارير من مختلف هياكل الاستخبارات الوطنية، وتسهيل تبادل المعلومات فيما بين تلك الهياكل، وله أيضاً في سبيل ذلك إعداد الخيارات الاستراتيجية، والأولويات الداخلية في مجال الاستخبارات، وعرضها على مجلس الأمن القومي، وإعداد المخطط الوطني للاستخبارات، ومتابعته وتنفيذه، وبهذا يكون مجلس الأمن القومي حلقة الوصل فيما بين وزارة الخارجية، والأجهزة الأمنية الوطنية العاملة في داخل الدولة.

2- أهمية إدخال فلسفة مجالس التخطيط الاستراتيجي إلى أدوات تنفيذ واتخاذ القرار؛ في السياسة الخارجية الليبية، ليكن مجلس الشؤون الخارجية العام، وأيضاً التعريف بأهمية وظائف التخطيط الاستراتيجي في السياسة الخارجية الليبية، وتوصيف وتعريف مصالح الدولة الخارجية من خلال الآتي:

  • برامج المساعدات الخارجية، ومدى فاعليتها، وأيضاً تأثير انعكاسها على المصلحة الوطنية الليبية.
  • مواصفات العاملين بالدبلوماسية الليبية، ومدى مساهمتهم في تفعيل الدبلوماسية الليبية.
  • حجم الإمكانات المادية والبشرية الداخلة في عمليات السياسة الخارجية.
  • مُبررات التوجهات في السياسة الخارجية الليبية.
  • طبيعة المغادرة من الثوابت إلى المتغيرات، ومن المتغيرات إلى الثوابت؛ في السياسة الخارجية الليبية.

3- تفعيل دور مراكز البحوث والدراسات العلمية؛ في قضايا السياسة الخارجية الليبية؛ خصوصاً في مجال العلاقات الدولية، والمنظمات، وبرامج المساعدات الخارجية، وذلك من خلال القيام بالدراسات والتحليلات، التي تُنجز من ذوي العمل الدبلوماسي الخارجي، وذلك بغرض إعطاء الدبلوماسية أبعاد عملية وإجرائية؛ لاتخاذ القرارات والإجراءات الاستباقية.

4- المراجعة المستمرة لأولويات مصالح السياسة الخارجية الليبية العُليا، وهذا يتطلب المرجعية العلمية والفنية، لأولويات العمل الخارجي الليبي، هذا من خلال فحص صلاحية الأهداف والمصالح وتغيراتها، وفقاً للبيئة المحلية، والوطنية، والإقليمية، والدولية، ومتغيراتها.

5- معالجة الآلية الحالية لعمليات اتخاذ وتخطيط وتنفيذ القرار في السياسة الخارجية، ووضوحها مع تحديد الجهات ذات الاختصاص فيما يخص التخطيط الاستراتيجي، والتنفيذ، واتخاذ القرار؛ حتي لا تتحول عملية اتخاذ القرار الخارجي إلي مُجرد تصرفات خارجية لا تؤتي أُكلها الأمر الذي يُفسد العمل الخارجي ككل، ويضفي الشخصنة عليها.

6- إعادة النظر في طبيعة التقارير المُنجزة حول توجهات السياسة الخارجية الليبية الصادرة عن الخارجية الليبية؛ حيث أنها لا تفي بالحاجة الكاملة للمراقبين الدوليين، بغرض تكوين رأي عام حولها، وهذا أمر في غاية الأهمية، لأنه لم تعد السياسة الخارجية للدول سر من الإسرار في السياسات الدولية الحديثة، لكن ينبغي أن تكون قراراتها ونتائجها متاحة للرأي العام، ومراكز الأبحاث المحلية والوطنية، وهي التي ينبغي عليها توفير الإجابات عن أسئلة العمل الخارجي الليبي إلي بقية المراكز البحثية الإقليمية والدولية؛ في التحليلات المرئية والمسموعة، وذلك بغرض دعم العمل الدبلوماسي والسياسي للخارجية الليبية.

7- العمل على تفعيل دور الدبلوماسية الليبية من خلال العناصر ذات الكفاءات العالية، وليكن من خلال إعادة النظر في المُكلفين بالعمل الخارجي؛ بحيث ينبغي مرورهم عبر معهد متخصص في الشؤون الخارجية والدولية، لسرعة العناية بهذا المجال يمكن إرسال دفعات من القادة الشباب في العمل الخارجي إلي دول صديقة قريبة من البيئة الليبية، وهذا لسرعة الاستفادة والتمكن من أصول العمل الدبلوماسي المعاصر.

8- إعادة هيكلة وزارة الخارجية والتعاون الدولي، بما يتفق وتلبية احتياجات الدولة خارجياً خصوصاً في إطار مجال التخطيط الاستراتيجي، والتنفيذ التقني، وصنع واتخاذ القرار الخارجي؛ في السياسة الخارجية الليبية، وهذا الأمر يتطلب تحديد حجم الإمكانات المتوفرة للعمل الخارجي، وأيضاً حجم الالتزامات، والأهداف، والسياسات، والمبادئ، التي سوف تعمل الخارجية الليبية على تبنيها في علاقاتها مع الدول، وذلك من خلال سياسات توازن الإمكانات والأهداف.

9- أهمية النظر إلى السياسة الخارجية المعاصرة اليوم، بأنها نمط من أنماط السياسات العامة، وأن الدولة الليبية لوحدها ليست المعنية بعمليات صنع القرارات، ولكن هناك أطراف مجتمعية أخرى لها مصالحها المشتركة، وبالتالي تكون لها تأثيرها.

إقرأ أيضاً: سياسات حفتر في إطار القانون الدولي

الوسوم

خالد التومي

أكاديمي ليبي، دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية، باحث بالمركز القومي للبحوث والدراسات العلمية، طرابلس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى