fbpx
دراساتالخليج

السياسة السعودية والقضايا الإقليمية: الجزء الثاني

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 (1) تنويه:

تعرض هذه السلسلة، على حلقات، أجزاء من أطروحة علمية بعنوان: “السياسة الأميركية تجاه المملكة العربية السعودية: دراسة في تأثير البعد الديني، قُدمت للحصول على درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، وتمت المناقشة بتاريخ 19 ديسمبر 2009، وكانت تحت إشراف، الأستاذة الدكتورة: نادية محمود مصطفي، وشارك في المناقشة الأستاذ الدكتور مصطفي علوي رئيس قسم العلوم السياسية الأسبق، والأستاذ الدكتور مصطفي الفقي، رئيس الجامعة البريطانية، وتمت إجازة الأطروحة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولي والتوصية بالطبع والتبادل بين الجامعات العربية والأجنبية.

الجزء الثاني: العلاقات الأمريكية ـ السعودية خلال الحرب الباردة، (الصفحات 216-223):

منذ منتصف الستينيات من القرن العشرين، اعتبرت المملكة أن توسيع دائرة نفوذها أصبح ضرورياً لتحقيق مصالح وطنية أساسية وأخرى متعلقة بأمن الأسرة الحاكمة؛ واستخدمت السعودية العديد من الأدوات، بما فيها الإسلام وموقعها كموطن للأماكن المقدسة، من أجل تحقيق هذا الهدف (2).

وفسرت رؤية الملك فيصل بن عبد العزيز الإسلامية للعالم، خلال هذه المرحلة، فكرته عن التضامن الإسلامي فى مواجهة الأفكار القومية، وتتضمن هذه الرؤية ثلاث عناصر: المركز، حيث يوجد العالم الإسلامي، وعلى هامش العالم الإسلامي يوجد أهل الكتاب، والذين تمثلهم دول العالم الغربي وهم الأكثر نفوذاً سياسياً وقوة عسكرية. فالولايات المتحدة دولة مسيحية أكثر من كونها دولة ديمقراطية علمانية ومن ثم فإن عليها التزاماً معنوياً تماماً، مثل مصالحها السياسية، فى حماية والدفاع عن العالم الحر بما فيه العالم الإسلامي. وعلى الجانب الآخر توجد قوى الشيوعية، والصهيونية والإمبريالية والتى تمثل تهديدا للبلدان الإسلامية والمسيحية على السواء.

وتنبع هذه الرؤية من المفهوم الإسلامي التقليدي حول تقسيم العالم إلى “دار سلام” و”دار حرب”، وهي رؤية تتوافق فى إجمالها مع الدور المركزي الذي يمثله الإسلام كمرجعية للنظام السياسي السعودي، وقد عكست نفسها فى نجاح السعودية فى عقد مؤتمر القمة الإسلامي الأول فى الرباط 1969 والذي تمخض عنه إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، كتجمع للدول الإسلامية يمكن من خلاله مناقشة القضايا المشتركة التي تهم هذه الدول معا، وكأداة تعبر عن فكرة تضامن الدول الإسلامية مع بعضها البعض. وقد ساعدت هذه الرؤية، على تحديد أولويات منح المعونات الاقتصادية السعودية، على نحو يتدرج من أعلى، حيث الدول العربية، ثم الدول الإسلامية ثم دول العالم الثالث، بحيث يجمع هذه المعونات، رابط مواجهة الاتجاهات الثورية والشيوعية والتى تنبع، وفق رؤية الملك فيصل، من دار الحرب الواجب تكتيل الجهود لمواجهتها (3).

وفى هذا الإطار اتجهت المملكة لتنسيق السياسات الخارجية لكثير من الدول الإسلامية، وتعبئة الرأي العام فى هذه الدول لدعم القضايا العربية والإسلامية، وفق الرؤية السعودية، ومن بين الوسائل التي اعتمدت عليها السياسة الخارجية السعودية، لتحقيق هذا الهدف، المنظمات الحكومية وغير الحكومية (التي ترعاها المملكة، والتى تمكنت السعودية من خلالها من تدعيم منزلتها بين دول العالم الإسلامي وانتهاج سياسات لها تأثير فى العالم الإسلامي، ومن بين هذه المنظمات: منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمات الإغاثة الإنسانية للمجتمعات الإسلامية، ومنظمات الدعوة الإسلامية) ومؤتمر الفقه الإسلامي(4).

وأمام التصاعد فى محورية الدور السعودي في المنطقة، أصبحت العلاقات الأمريكية ـ السعودية، أكثر شمولا، كما أن أسس العلاقات العسكرية تغيرت من نظم المنح والمساعدات إلى المبيعات المدفوعة الثمن، ونظرا للدور الذي تقوم به الولايات المتحدة فى حماية المصالح الغربية الاقتصادية والأمنية فى العالم، ونظرا لأن منطقة الخليج، ولاسيما المملكة، تمثل حجر الزاوية فى هذه المصالح، كان طبيعياً أن تشهد هذه المرحلة مزيداً من توثيق العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية (5).

إلا أن تداعيات الأحداث فى المنطقة، أدت إلى وجود نوع من التوتر فى هذه العلاقات، فى مقابل تنسيق المواقف العربية، وخاصة بين مصر والمملكة، فى قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، حيث ربطت المملكة سياستها النفطية بجوهر القضية العربية، فزادت أسعار النفط عام 1973م بنسبة 12% تقريباً، ورفضت المملكة زيادة الإنتاج، وحذر الملك فيصل فى 31 أغسطس 1973م، من أنه لا يرغب فى وضع قيد على شحنات النفط، إلا أن السياسة الأمريكية قد تضطره إلى تغيير موقفه الودى تجاه الولايات المتحدة، ثم أمر بتخفيض الإنتاج، وذلك بعد يومين من اندلاع حرب أكتوبر، وفى الشهر نفسه ارتفعت أسعار النفط بنسبة 17% (6).

وأمام تداعيات هذه الأزمة، خلص تقرير أمريكي، حول تقييم أهمية السعودية بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة فى منطقة الخليج، إلى أن الضغوط المحلية فى السعودية من أجل انتهاج سياسة أكثر تقييداً لإنتاج النفط، قد تتسبب فى تعقيد العلاقات الاقتصادية الأمريكية ـ السعودية خلال المدى المتوسط أو البعيد، وأن القلق السعودي إزاء القضية الفلسطينية، سيتسبب فى تعقيد العلاقة الأمريكية ـ السعودية، إذا لم تمارس الولايات المتحدة ضغطاً واضحاً على إسرائيل لحملها على الاعتدال فى موقفها.

وفي المقابل سيزداد توثيق العلاقات إذا نظرت الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى بحساسية أكبر إلى الوضع السياسي الدقيق للسعودية فى منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأن التنسيق بين الأولويات المتضاربة والمشكلات المستمرة لسياسة الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط، يهدد بتعقيد العلاقات الأمريكية ـ السعودية. حيث ينظر السعوديون إلى العلاقة العسكرية مع الولايات المتحدة على أنها محك اختبار أساسي لإمكانية التعويل على الولايات المتحدة والتزامها السياسي حيال المملكة (7).

وفى إطار هذه الاعتبارات، وضعت الولايات المتحدة مجموعة من الثوابت فى سياستها مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج ارتكزت على المحافظة على سيادة دول المنطقة واستقلالها ضد احتمال أي تهديد سوفييتي أو إقليمي، وتأمين الإمدادات النفطية، التي تمثل أهمية حيوية اقتصادية وإستراتيجية لأمن العالم الغربي واستقراره (8).

وكان لهذا التصاعد فى أهمية النفط السعودي، العديد من الانعكاسات على طبيعة السياسة الخارجية للمملكة، حيث أصبحت، وفق أحد الباحثين، أكثر النظم تأثراً بالتحولات والتغيرات الخارجية. وأصبحت العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة هي علاقة التسيير والتوجيه. لما للولايات المتحدة من تأثير فى مواقف وقرارات المملكة الخارجية (9).

وهنا يرى “خوان كول”، أن سياسة الولايات المتحدة، خلال هذه المرحلة، قامت على ثلاثة مبادئ وحليفين رئيسين، تمثلت المبادئ فى مواجهة النفوذ الشيوعي، ودعم النخب السياسية الدينية المحافظة والنخب التسلطية، وضمان حرية الوصول إلى إمدادات الشرق الأوسط النفطية. أما الحليفان فهما إسرائيل والسعودية. حيث شكلت المملكة مفصلاً حيوياً فى سياسة الولايات المتحدة، واعتبر المسئولون الأمريكيون النموذج الوهابي المغرق فى المحافظة بمثابة عائق فى وجه الشيوعية والخمينية الشيعية، هذا من ناحية، ولأن الحرب الباردة كانت ساحة للتنافس الاقتصادي وخاصة على النفط، فقد كان التحالف مع السعودية هو أحد مفاتيح الحصول على هذا النفط، حيث تملك السعودية نفوذاً هائلاً على أسعار النفط، نظراً لقلة عدد سكانها وطاقتها الإنتاجية العالية، من ناحية ثانية (10).

وهو ما يعكس البعدين القيمي والمصلحي في السياسة الأمريكية تجاه السعودية، خلال هذه المرحلة، ففي الوقت الذى سعت فيه الولايات المتحدة لحماية مصالحها الإستراتيجية، كانت المملكة أهم أدوات حماية هذه المصالح، فتم استخدامها، بنموذجها الديني، لمواجهة التيارات والنظم القومية في المنطقة العربية، والتى تتعارض مع النموذج القيمي الأمريكي، كما استخدمتها لمواجهة الشيوعية كنموذج إلحادي يمثل خطراً على الأديان وتهديداً لوجودها، ثم استخدمتها لمواجهة الثورة الإسلامية الإيرانية، وأيضاً لدعم المجاهدين فى أفغانستان، وغيرهم من الجماعات الإسلامية، التي رأت أنها تتوافق والنموذج السعودي، ويمكن أن تشكل دعماً للتوجهات الأمريكية في المنطقة. وهو ما برز فى العديد من السياسات

أولاً: السعودية والقومية العربية:

منذ تأسيسها كانت المملكة حذرة تجاه أية مشاريع توحيدية عربية، لأنها شعرت أنها قد تحتل مرتبة ثانوية ضمن هذه المشاريع، ولأنها تخوفت من انتشار الأفكار التي قد تشكل أخطاراً محتملة لأساس سلطة ومشروعية نظامها السياسي. ولأن آراء الجيل الجديد من القوميين العرب، تحمل إمكانية تدمير المصالح السعودية والقضاء على طموحات العائلة الحاكمة. فقد اعتقد القوميون العرب أن نفط المملكة وغيرها من الدول العربية الغنية بالنفط ملك للأمة العربية وليس لمنتجيه فحسب، وأنه ينبغي أن يستغل فى التنمية الاقتصادية العربية وأن يكون فى خدمة تحقيق أهداف الأمة الأخرى.

كما صور القوميون العرب النظم العربية المحافظة، أو كما أطلقوا عليها “القوى الرجعية”، كإحدى العقبتين المهمتين على طريق تحقيق الأهداف العربية وصون الحقوق العربية. بجانب الإمبريالية. وهكذا شكل الراديكاليون العرب تهديداً وجودياً للسعودية، وأصبح هذا التهديد أكثر خطورة بسبب الدعم الذي تلقوه من الاتحاد السوفيتي والبلدان الشيوعية الأخرى. ومن هنا كان منع الاختراقات الشيوعية فى العالم العربي والمناطق القريبة هدفاً طاغياً على السياسة الخارجية السعودية.

وأصبح ينظر إلى الإسلام كقوة أيديولوجية مضادة للراديكالية العربية والشيوعية، واعتبر إطاراً ملائماً لتحالف مضاد للراديكالية. فخلال مناسك الحج عام 1962، ساعدت المبادرة السعودية على تأسيس رابطة العالم الإسلامي، بدعوى إحباط المؤامرات الخطيرة لأعداء الإسلام التي تسعى لإبعاد المسلمين عن دينهم وتدمير وحدتهم. واستكملت المبادرة عام 1972 بتأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، وكان الشريك الرئيس للسعودية فى هذا المشروع، شاه إيران، فى وقت كان الشاه يواجه تحدى القوى الإسلامية، وأبرزهم آية الله الخميني وأتباعه، بدعوى اتباعه سياسة مضادة للإسلام.

أي أنه بدلاً من وضع الإسلام للأهداف والسياسة السعودية، كما ترى هنتر، فقد استخدمت القيادة السعودية الإسلام، وفق توجيه أمريكي، لبلوغ الأهداف وتحديد السياسات التي نشأت على قاعدة اهتمامات وأولويات أخرى. وفى السنوات التي تلت تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، أصبحت هذه المنظمة أداة مهمة لبسط النفوذ السعودي فى كل العالم الإسلامي (11).

ثانياً: السعودية ومواجهة الشيوعية:

توسعت الولايات المتحدة فى تبنى إستراتيجية “الاحتواء” للقضاء على الاتحاد السوفيتي، ومن خلالها اتجهت إلى منح مساعدات ضخمة للمقاومة الأفغانية، ذهب معظمها إلى التيار الإسلامي. وشاركت المملكة العربية السعودية فى تمويل “الجهاد” الإسلامي”. وتمكن النظام السعودي من تصوير “الجهاد” فى أفغانستان على انه القضية الأسمى فى الثمانينيات.

وحتى منتصف الثمانينيات، أخذ التضامن الإسلامي الدولي شكلاً مالياً، يضاف إلى المساندة العسكرية الأمريكية “للمجاهدين الأفغان”، وبالتعاون مع الأجهزة الباكستانية التي كانت تقوم بتوزيع المساعدات على مستحقيها. واعتباراً من عام 1984، أخذ ذلك التضامن صورة الوجود المتزايد “للمجاهدين” الأجانب، ولاسيما العرب منهم، على الأرض الأفغانية. واتسع التعاون بين الخبراء الأمريكيين بين الممولين العرب، وعلى رأسهم السعودية (12).

وقد أعطت المساعدات المالية الأجنبية الضخمة للقضية الأفغانية دعماً هائلاً، استفاد منه من أطلق عليهم فى الغرب “المقاتلين من أجل الحرية”، وأطلق عليهم فى المملكة العربية السعودية، “طلائع الأمة”، فقد كانت المعونات تأتى من عدة مصادر عامة، ولكنها كانت تثير مشاكل متعلقة بالتنسيق والتخصيص. وهنا تكونت ثلاث هيئات سعودية تشكل أهم قنوات الاتصال، هي المخابرات السعودية، ولجنة الدعم الخاصة، ورابطة العالم الإسلامي.

وقامت طلائع المتطوعين العرب بأولى زياراتهم إلى باكستان، وكانوا فى البداية يؤدون دور مراسلي الهلال الأحمر السعودي والمنظمات الإنسانية الإسلامية التي ظهرت فى ذلك الوقت أمام المنظمات غير الحكومية الغربية ذات الأهداف الإنسانية. ثم بدؤوا يتحولون تدريجياً إلى مجاهدين ضد الجنود السوفييت. وكان “أسامة بن لادن”، زعيم تنظيم القاعدة فيما بعد، رمزاً من رموز “الجهاد” القادم من المملكة، ولم تكن حماسته المفرطة تثير قلق لا الحكومة الملكية التي كان يرتبط معها بعلاقات عمل، ولا الأجهزة الأمريكية التي كانت ترى فيه رجلاً من أصول عريقة وحليفاً لها فى النضال ضد الشيوعية (13).

وبعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان فى فبراير 1989، وفقاً لـ “جيل كيبل” خفضت الولايات المتحدة من قيمة مساعداتها للمقاومة التي أثبتت أنها غير قادرة على قلب النظام الحاكم فى كابول، ولم يعد يوجد فى بيشاور “مقاتلون من أجل الحرية” يعتد بهم من وجهة نظر الإدارة الأمريكية. واعتبرت الولايات المتحدة، عدد من القادة الأفغان (مثل حكمتيار وسياف ونجيب الله) من “المتطرفين”، ومع ذلك زادت السعودية وباكستان من دعمها “لحكمتيار” دون أن تستطيع حكومة “بناظير بوتو”، الاعتراض على ذلك، إلا أن الصراعات بين “المجاهدين”، والتحصينات القوية التي استولى عليها القائد “مسعود” فى شمال شرق أفغانستان، وجعلته أهم منافس “لحكمتيار”، بالإضافة إلى أن مقاومة نظام “نجيب الله” لم تسمح لحكمتيار بالاستيلاء على كابول وإقامة دولة إسلامية، تكون صديقة للسعودية وعميلة لباكستان (14).

وبعد انسحاب قوت الاحتلال السوفيتي من أفغانستان، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، استمر جنود تنظيم القاعدة المقاتلون فى الأراضي الأفغانية، وكانوا يظهرون بين الحين والآخر فى مناطق الأزمات العربية والإسلامية، فى الجزائر، وكوسوفا، والبوسنة والهرسك، وألبانيا، وفى الشيشان (15).

ثالثاً: السعودية ومواجهة الثورة الإسلامية الإيرانية:

أثارت الثورة الإسلامية الإيرانية قلقاً متنامياً لدى الإدارة الأمريكية وحلفائها من الدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية، ففي الشهور الأولى للثورة أثارت الشعارات العنيفة للثورة القلق، بسبب طابعها غير القابل للتوقعات واللغة الدينية المتشددة التي كانت تستخدمها؛ كما أن الثورة، بإفقادها توازن أحد أهم الحلفاء العسكريين للولايات المتحدة فى أهم منطقة منتجة للبترول فى العالم، جعلت دخولها أسهل بالنسبة للاتحاد السوفيتي، الذي أخذ يقترب منها بشكل خطير باندفاعه لدعم النظام الشيوعي الأفغاني. ولهذا اختلطت الثورة بالصراع الأمريكي السوفيتي (16).

وفى مواجهة شعار تصدير الثورة الذي تبنته إيران، قامت سياسة الاحتواء التي تبنتها المملكة، فكانت الحرب التي فجرها صدام حسين عام 1980، بدعم النظم الخليجية، من ناحية، والحصول على دعم الغرب ضد إيران الثورة، من ناحية ثانية، ودعم الجهاد الإسلامي فى أفغانستان من ناحية ثالثة.

لقد كان من السهل بالنسبة للمملكة، أن تقاوم الراديكالية العلمانية والشيوعية بإعتبارهما ضد الإسلام وملحدتين ولا شرعيتين، إلا أنها لم تعرف كيف تتعامل مع عقيدة ادعت تمثيل الإسلام الصحيح، وشككت بإسلام القيادة السعودية واتهمت السعوديين بتمثيل الإسلام الأمريكي، الإسلام الخاضع للغرب.

وكانت إستراتيجية المملكة، خلال مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين، مزيجاً من الهجوم المضاد على موجة الإسلام النضالي الإيراني والتعاون مع الجماعات الأقل راديكالية والأكثر محافظة فى البلدان الإسلامية الأخرى. وعندما شنت السعودية هجوماً معاكساً على إيران، شددت على السمة الشيعية والفارسية لإيران، مشيرين إلى أن الثورة الإيرانية وأيديولوجيتها كانت تعبيراً عن طبيعتها الشيعية ـ الفارسية ذات العلاقة الضعيفة بالإسلام الصحيح. واعتماداً على موقع المملكة فى الخليج، طلب “الملك فهد” من إيران وقف السعي لتصدير أيديولوجيتها الشيعية ـ الفارسية التي قال إنها غريبة عن الإسلام والعالم العربي.

وضاعفت المملكة من جهودها المضادة لإيران، وفق المخطط الأمريكي، من خلال المساعدات المالية والتدريب والتعليم للتحكم بالجماعات الإسلامية فى العالم الإسلامي، وخصوصاً فى مخيمات التدريب الأفغانية فى الإقليم الحدودي شمال غرب باكستان فى مدينة بيشاور وحولها، وتمثل الجزء الآخر من إستراتيجية السعودية فى التقرب إلى الأنظمة العربية الأخرى، بما فيها تلك الأنظمة التي كانت على نزاع معها فى الماضي، كالنظام البعثي لصدام حسين فى العراق، فضلاً عن الحلفاء الغربيين. وتجلى ذلك فى إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981، وتقديم الدعم المالي والسياسي للعراق فى حربه مع إيران 1980ـ1988، وتوثيق التعاون مع الولايات المتحدة، التي استغلت المخاوف السعودية من الثورة الإيرانية، لحشد القدرات السعودية ضد إيران، واستخدام الإسلام، بنموذجه السعودي، كأهم أدوات الصراع فى هذه المواجهة. وحافظت المملكة، بتوجيهات أمريكية، على استخدام الإسلام كأداة ووسيلة لبلوغ أهدافها الأمنية والسياسية (17).

ومن واقع هذه الأدوار التي قامت بها المملكة، فى الإستراتيجية الأمريكية خلال مرحلة الحرب الباردة، يمكن القول أن الولايات المتحدة استخدمت المملكة، ونموذجها الديني، لحماية وتعزيز مصالحها الإستراتيجية في العالم، من ناحية، وفرض نموذجها الديني والقيمي من ناحية ثانية، سواء من خلال التصدي للأيديولوجية الشيوعية التي رأت فيها، وفى التيارات الموالية لها، أكبر تحد لنموذجها خلال هذه المرحلة، أو من خلال مواجهة الثورة الإسلامية الإيرانية التي شكلت أطروحاتها خطراً كبيراً على الوجود والمصالح الأمريكية في الخليج.

إلا أنه فى مقابل النجاحات التي حققتها المملكة فى الأدوار التي قامت بها، حيث انهزمت إيران فى حربها مع العراق، ولم يخرج العراق منتصراً بشكل يمكنه من أن يصبح عنصر نزاع أو تهديد، وخرج السوفييت من أفغانستان، وانهيار الشيوعية نفسها، وانفراد الولايات المتحدة، الحليف الإستراتيجي للمملكة بقمة النظام العالمي. فإن الشعور السعودي بالانتصار لم يستمر طويلاً، فقد وقفت عدة تيارات إسلامية، من بين التي استفادت طوال الثمانينيات من المساعدات السعودية، إلى جانب النظام العراقي فى حربه ضد الكويت.

وعلى الرغم من أنه لم يكن للنظام العراقي مصداقية إسلامية، إلا أنه لجأ إلى التضامن الإسلامي لكسب تأييد العرب والمسلمين، فى وقت كانت المملكة تعتبر نفسها زعيمة العالم الإسلامي. ودعمت التيارات الإسلامية العراق، لا لإسلامية نظامه، ولكن لتصورها أنه يقف فى مواجهة الغرب من ناحية، ومن أجل الحفاظ على ما اعتبروه حقوقاً عربية وخصوصاً فى فلسطين من ناحية أخرى. وأصبحت المملكة فى مواجهة العديد من تيارات الإسلام السياسي، التي أعلنت أنها تنطلق من قاعدة شرعية وترتكز على إرث ضخم من الثوابت العقائدية، يتعارض مع توجهات المملكة، وخاصة فى تحالفها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية.

لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من العلاقات الأمريكية ـ السعودية، كانت محلاً للعديد من مؤشرات التوتر، وخاصة مع بروز مظاهر الاختلاف بين النموذج الديني في الولايات المتحدة، وبين نظيره السعودي، هذا الاختلاف الذي شهد أبرز صوره فى أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتى شكلت علامة فارقة فى السياسة الأمريكية تجاه المملكة.

————————–

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.(2) شيرين هنتر، مرجع سابق، ص ص 200 ـ 202.

(3) حسن أبو طالب، السياسة الخارجية السعودية. مصدر سابق، ص ص 114 ـ 116.

(4) صالح المانع، البعد الأيديولوجي فى العلاقات السعودية ـ الإيرانية، ضمن جمال سند السويدي (تحرير): إيران والخليج البحث عن الاستقرار، (أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، الطبعة الأولي، 1996، ص 234 ـ 235.

(5) حسن أبو طالب، السياسة الخارجية السعودية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي 1964 ـ 1982، رسالة ماجستير فى العلوم السياسية، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1986، ص 150 ـ 152.

(6) محمد بن زيان عمر، العلاقات الدولية للمملكة العربية السعودية، (الرياض، دارة الملك عبد العزيز، 2002)، ص ص 37 ـ 38.

(7) ريتشارد بيرس (وآخرون)، أمريكا والسعودية تكامل الحاضر. تنافر المستقبل ـ تقرير الكونجرس الأمريكي، ترجمة، سعد هجرس، (القاهرة، المطبعة العالمية، 1991)، ص ص 13 ـ 19.

(8) د. إسماعيل صبري مقلد، أمن الخليج وتحديات الصراع الدولي، (الكويت، شركة الربيعان للنشر والتوزيع، 1984)، ص 102 ـ 104.

(9) عبد العظيم محمود حنفي، تأثير التحولات فى النظام الدولي على النظم السياسية العربية: دراسة فى قضية الشرعية، رسالة ماجستير فى العلوم السياسية، (القاهرة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2002)، ص 82.

(10) خوان كول، شيعة العراق: تاريخ حلفاء أمريكا المحتملين، مجلة The Boston Review، عدد أكتوبر/ نوفمبر 2003، ترجمة النص متاحة على الرابط

(11) شيرين هنتر، مرجع سابق، ص ص202 ـ 204.

(12) محمد البغدادي، الإمبراطورية الأمريكية، (الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2005)، ص 95 ـ 96.

(13) وزارة الخارجية الأمريكية، هل الولايات المتحدة هي التي أوجدت أسامة بن لادن؟ الادعاءات القائلة بأن الولايات المتحدة موّلت بن لادن ثبتبطلانها، الموقع الإلكتروني للوزارة، 13 مايو 2005، النص متاح على الرابط

(14) جيل كيبل، جهاد: انتشار وانحسار الإسلام السياسي، ترجمة نبيل سعد، (القاهرة: دار العالم الثالث، ط1، 2005)، ص 170 ـ 185.

(15)  أندرياس فون بولوف، المخابرات الأمريكية والحادي عشر من سبتمبر: الإرهاب الدولي ودر أجهزة المخابرات، ترجمة عماد بكر، (القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 2004م)، ص 31 ـ 33.

(16) جيل كيبل، مرجع سابق، ص 170 ـ 171.

(17) شيرين هنتر، مرجع سابق، ص ص208 ـ 210.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close