fbpx
قلم وميدان

الشريعة والشرعية بين الوضوح والعاطفة

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشر الأستاذ محمد الهامي، مقالاً بعنوان: جدل الشرعية بين التمرد والإرهاب، على الموقع الرسمي للمعهد المصري للدراسات، وذلك بتاريخ 25 يناير 2018، وقد اشتملت المقالة على توضيح الفارق بين التمرد والإرهاب، استفادة من توصيات مركز راند، ثم الحديث عن موقع الشرعية في السياسة، وهي التي تميز بين التمرد -الذي يمتلك شرعية ما من الجماهير-، والإرهاب الذي لا يهتم بهذه المسألة ويكون قصير العمر والأثر، واقترح “الشريعة” لتكون هي الركيزة والشرعية الأساسية المناسبة لأي حركة ثورية مقاومة، وأقتبس من المقالة عدة عبارات عبّر بها كاتبها عن هذه الفكرة:

– “حيث نتحدث عن حركات تستمد حركتها من الإسلام، فإن الإسلام يوفر أساسا راسخا ومتينا في مسألة الشرعية، وهو أساس ضارب في كتب الفقه ويحتفظ بقداسته من نصوص القرآن والسنة، وهذا ما يجعل نشره بين الناس أسهل كثيرا كما يوفر له من أهل البسالة والتضحية أفواجا وأمواجا وأمدادا في كل حين”.

– “فالنظام الشرعي في الإسلام هو النظام الذي يطبق الشريعة”.

– “أن مسألة الشرعية في الإسلام تتعلق أول ما تتعلق بتطبيق الشريعة، فهذا هو جوهر النظام وأصله وأساسه، بغض النظر عن القائم عليه وطريقه وصوله للإمامة”.

– “هذه العبارة البسيطة لو استطاعت الحركات المقاومة أن تنشرها وتغرسها بين الناس لوفرت على نفسها جدالات هائلة ومجهودات رهيبة في تكوين وبناء شرعيتها”.

—-

وبرأيي أن موضوع شرعية وجود أي كيان ثوري أمر في غاية الأهمية لأي حركة أو تيار يرفض الظلم والاستبداد والنظم القمعية المستبدة، وبحسب عبارات أخي إلهامي عن أهمية الحديث عن شرعية هذه الحركات: “لكون معنى الشرعية ليس مجرد معنى سياسي يختص السياسيون به، بل هو داخل في صميم العمل الثوري المقاوم، فلا بد للحركة المقاومة من نشر أفكارها ومفاهيمها التي تؤصل وتبين شرعية عملها وغاياتها”، فالحديث هنا والتدافع حول هذه الفكرة أمر بالغ الأهمية، وليس ترفا ولا رفاهية ولا أمرا يجب تأجيله.

أما عن ملاحظاتي فهي كالتالي:

– لا أختلف على أهمية البعد الديني العقائدي لأي حركة، لا سيما الحركات الإسلامية، وما يحمله الإسلام بداخله من قوة روحية ومعنوية وحركية وفاعلية يمكنها أن تتجدد مع مرور الأزمان.

فقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرتكز على الدعوة إلى التوحيد، وعلى أساسها حورب وأوذي وحوصر وهاجر، ثم وجدت المنعة وأصبحت هناك دولة ظهر بصيص أملها في بيعة العقبة، وتمت بالهجرة وما عرف لاحقا بوثيقة المدينة التي مثلت أساسا للتعاقد في هذه الدولة الناشئة، وأصبح لهذه الدعوة مجتمعا وحكما قائما في المدينة.

وأنتجت التطبيقات لأحكام الإسلام واجتهادات المسلمين ومدارس الاجتهاد وفهمها للنصوص وطريقة الاستنباط لاحقا مع توسع الدولة وانتصاراتها العسكرية والسياسية على الدول الكبرى في هذا الزمان نظما واضحة للتطبيق، وظهرت قدرات متعددة في الاستفادة من نظم الأمم الأخرى في الحرب والسلم وتسيير المجتمع والسلطة، مع قدرة عالية على الابتكار والاجتهاد، ولم يكن مصطلح الشريعة الذي تم صكه في هذا الوقت مصطلحا غائبا عن عصره، بل هو مصطلح واقعي لدولة قائمة باسم الإسلام تحميه وتحاول أن تحكم باسمه ولديها من النظم المعاصرة القادرة على تطبيقها وتمثيلها (بغض النظر عن تقييمنا لهذه التطبيقات المختلفة عبر العصور والدول).

وبيننا الآن في هذا الزمان وبين آخر عصر حقيقي وُجدت فيه الشريعة متجسدة في نظم عملية للحكم والدولة وإدارة شئون الناس والمجتمع عمرا طويلا، تغير في هذا العمر الكثير والكثير من طبائع وأنماط الناس والأفراد والمجتمعات، وتعداد السكان في المدن والقرى، وطبيعة الدولة المعاصرة نفسها واختلافها عن الدول القديمة، وطبيعة الحكم والسياسة، والاقتصاد والتجارة والفقر والغنى، والعلاقات والحرب والسلم، وكذلك الأفكار والأيدولوجيات، بل حتى في النظرة للعلم نفسه وما يطلق عليه علما أو لا، وفي منهجيات التفكير والتدقيق والبحث، إضافة للتكنولوجيا والتطورات التقنية وغير ذلك.

بعد هذه التغيرات الكبرى الكثيفة لا يوجد لدينا الآن ما يمكن أن نطلق عليه بشكل واضح ومحدد نظام معاصر للشريعة، لدينا تاريخ لنظم بشرية اجتهدت في زمانها كانت تقول إنها تحكم باسم الشريعة أو تحافظ عليها أو تحميها، ولدينا طبعا الأصل قبل أن يتم صك المصطلح نفسه وتطبيقاته، وهو كتاب الله وسنة رسوله، ونحن في أمس الحاجة لتطوير فهمنا، فهما مناسبا وصحيحا مناسبا لزماننا ودافعا للعمل والفعل والتميز، ولا زلنا نحتاج إبداع وابتكار منهجيات في التفكير والتطبيق ناجحة منتصرة فالقرآن “لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه”.

بناء على ذلك فلا أرى ان استسهال استحضار مصطلح الشريعة -على قدر ما فيه من حنين وعاطفة- مناسبا لأن يكون القضية المركزية الحالية لأي حركة ثورية إذا بقي المصطلح كما هو عليه الآن من حالة الالتباس والعمومية لدى علماء الدين أنفسهم، والأهم لدى الساسة والثوار.

وفي الواقع العملي هناك التباسات وإشكالات -قد لا تكون موجودة لدى البعض-، لكنها موجودة وراسخة لدى كثيرين من قادة وساسة وحركات وتيارات، والتي بمجرد الحديث عنها ستنتهي وتختفي هذه البساطة المقترحة لتبدأ الإشكالات والصراعات والجدالات بل حتى الاقتتال بين أفراد الصف الواحد كلً يستند إلى الشريعة أيضا وكأنها المصحف الجديد الذي يتم رفعه بشعار “إن الحكم إلا لله”، ولا زال الخلاف قائما حول تعريف دقيق جامع مانع عليه إجماع للشريعة، فبين من يراها من منظور الكليات والغايات الكبرى والمنطلقات والمقاصد والمبادئ، ومن يراها في الأحكام الفقهية التطبيقية التفصيلية، ومنهم من يراها في دائرة أوسع تشمل الدين والسلطة والمجتمع والحضارة وليس فقط الغايات والأحكام إلخ.

ما أريد قوله من الجانب السياسي -وليس الفقهي الديني العقائدي-، أنه لا يوجد لدينا نظام متكامل عملي واضح للشريعة، لكن هذا يفرض عبئا وواجبا للاجتهاد والفكر والكثير من العمل لإيضاح ذلك، هذا الاجتهاد سيولّد عددا من التجارب والاجتهادات وربما مدارسا ومذاهبا وأحزابا متعددة حتى يستقر الحال على أنظمة ناجحة بعد تجريب وتمحيص واختبارات عملية لهذه النظم والاجتهادات البشرية، أما الاعتماد في أساس شرعية حركة أو فصيل ثوري على العاطفة الدينية العامة وحدها في الحشد والتعبئة والاكتفاء بمصطلح الشرعية فقط باعتباره سهل ومناسب ويحل الكثير من الإشكالات برأيي هو خطأ كبير، وسيخلق بداخله إشكالات وجدالات وصراعات ستنشأ بشكل مستمر في أصل هذه الشرعية وليس في تطبيقاتها، ولن تستطيع غلقها خاصة وأن باب الاجتهاد الديني الفقهي المواكب للحياة المعاصرة بطيء جدا.

ما أراه أن شرعية الوجود والفعل الثوري -خاصة للثوريين من أبناء التيار الإسلامي- يجب أن تكون أكثر تحديدا ووضوحا، ومتوافقة ومتطابقة مع الحال. فثورة الشعوب التي عشناها وعايشناها كان جوهرها وركيزتها في: مواجهة الاستبداد والفساد والحكم القمعي والتبعية وخيانة مصالح الناس لصالح حسابات ومصالح وأجندات أخرى، لقد كانت قيم العدالة والكرامة والحرية والاحتكام لإرادة الناس وحقوقها الأساسية -التي تُستنزف وتُسحق- هي الشرعية التي فقدتها النظم القمعية الحالية، وكانت هي أساس وشرعية التحرك الذي أربك هذه النظم، وعلى أساس ذلك أعادت هذه النظم تنظيم نفسها لمزيد من القمع والقهر ولمزيد من ترسيخ حكم الفرد والاستبداد والظلم والخيانة والتبعية.

لذا يمكننا القول بشكل واضح أنه طالما وُجد الاستبداد، وجدت شرعية الثورة عليه. وطالما تم استبعاد وعدم احترام إرادة الناس والشعب والأمة فهناك شرعية للثورة. وبرأيي طالما وجدت الخيانة وجدت شرعية للثورة. وطالما وجد تأصيل ودعم وحماية الفساد وجدت شرعية للثورة. وطالما وجد القمع والمهانة والتعذيب والقتل والتصفيات وجدت شرعية الثورة.  وصدق الله تعالى حين قال في سورة الحديد:” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط”.

إن أي نظام ظالم قمعي فاسد خائن لا شرعية له -كائنا من كان- ولو تسمى بأسمائنا وقدم المشايخ والعلماء وقرأ القرآن صباح مساء. هذه هي الشرعية الواضحة حسب ما أرى، وحسب ما أراه جوهر الشريعة وأساسها الذي بدونه لن تفتح أبواب الاجتهادات ولن يتمكن علماء الشريعة من تطوير الأفكار والمنهجيات وطرق البحث والاجتهاد ليواكبوا الزمن وتطوراته عمليا لا نظريا، ولا أعتقد أن هناك عالما يرى الشريعة مخالفة لهذه القيم أو مختلفة عنها، وصدق الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين حين قال عن الشريعة أن: “مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في العاجل والآجل، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل والجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل”. (1 ).

 —————–

الهامش

1 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close