الصراع في بوروندي الجذور والتداعيات
مقدمة(1):
تعد دولة بوروندي من أكثر الدول الأفريقية المُعجة بالصراعات، والحروب الأهلية بين أكبر جماعتين عرقيتين فيها هما الهوتو والتوتسي، وترجع هذه الصراعات إلى العديد من القضايا والمشكلات، التي كان من أبرزها النزاع على السلطة بين الأغلبية من الهوتو والأقلية من التوتسي، والتي على آثارها زادت حدة التوترات بين الجانبين، أعقبها صراع، ثم نشوب حرب أهلية، وعمليات إبادة جماعية راح ضحيتها مئات الآلاف من الطرفين. حيث كان الدور الاستعماري أحد أبرز العوامل في تأجيج الصراع العرقي، والصراع على الهوية منذ التسعينيات من القرن الماضي، خاصة مع عمليات الفصل، والمفاضلة بين الجانبين في عمليات تقاسم الثروة والسلطة، والتي مُورست على شعب الدولة بشكل متعنت وقمعي، وهو الأمر الذي زاد من حدة الصراعات في بوروندي وجارتها رواندا التي لها نفس النمط السياسي والعرقي، حيث ظلت تعاني منها حتى الآن.
كما أن العوامل الاقتصادية المتدهورة، وازدياد الفقر، والجفاف، والمجاعات، فضلاً عن المشاكل السياسية، والكراهية العرقية، كان لها الدور البارز أيضاً في نشأة الصراع في الدولة، وذلك بالرغم من عقد العديد من اتفاقيات السلام لتسوية هذه النزاعات، ولكن بدون جدوى. إلا أنه مع تفعيل اتفاق أروشا للسلام منذ عام 2000م اتجهت البلاد إلى التحسن النسبي، والاستقرار الأمني، والاتجاه نحو تفعيل النشاط الاقتصادي شيئاً فشي، إلا أن الفقر مازال عاملاً أساسياً في الدولة، يعاني منه الشعب البوروندي أي كان انتمائه، سواء في ظل حكم التوتسي منذ التسعينيات، أو حتى في ظل حكم الهوتو مابعد الألفية، ليظل التأجج السياسي كامناً، نتيجة حراك المعارضة الداخلية، والخارجية، في ظل عمليات القمع، والاعتقالات، والتهميش، من قبل النظام الحاكم، والتي كانت سيدة الموقف على الساحة السياسية في البلاد، لنصل إلى نمط أخر من الصراع اتخذ شكلاً سياسياً أكثر من كونه عرقياً، مع بروز قضية التعديلات الدستورية، التي اتخذتها الأنظمة الأفريقية منذ عام 2014م، لتولية نفسها لفترات رئاسية أخرى بعد انتهاء مدتها الرئاسية في البلاد.
ليكون النظام في بوروندي أحد تلك الأنظمة، التي سارت على نفس النهج في قضية التعديلات الدستورية، حيث استطاع الرئيس البوروندي “بيير نكورونزيزا”، وهو من الهوتو، أن يولي نفسه لفترة رئاسية ثالثة في البلاد، متحدياً في ذلك المعارضة الغاضبة، والشعب الراغب في التغيير. والذي عانى بدوره من نفس الممارسات السياسية، والاقتصادية العقيمة، التي لم تتغير مع تغير الرؤساء، واختلاف الجماعات، فبالرغم من تولي الهوتو الحكم في البلاد منذ عام 2005 ممثلة في رئيس حزب المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطية بيير نكورونزيزا، إلا أن الوضع السياسي، والاقتصادي، وكذلك الاجتماعي، ظل كما هو في التراجع، وإن اختلف عن فترات حكم التوتسي، بانتهاء فترات الحرب الأهلية، التي عاني منها الشعب البوروندي من خلال عمليات الإبادة الجماعية من كلا الطرفين.
ليتجدد الصراع في الفترة الأخيرة على إثر التعديلات الدستورية، ويتخذ نمطاً مغايراً عما كان في السابق، وهو نمط الصراع السياسي ليس بين النظام والمعارضة من التوتسي فقط، بل أيضاً بين النظام والمعارضة من الهوتو، وضد بعض المعارضين من الحزب الحاكم نفسه، ليصل الوضع السياسي إلى حد الأزمة مع محاولة الانقلاب على النظام الحاكم في الدولة، وصولاً لتصاعد الاحتجاجات، والتظاهرات، وهو الذي أدى إلى تصاعد العنف، وعمليات مواجهة مسلحة، تكبدت الدولة على إثرها خسائر متعددة على كافة الأصعدة.
تقسيم الدراسة:
يقوم هذا الجزء من الدراسة على رصد وتحليل الأزمة في بوروندي بداية من عرض جذور الصراع في الدولة، انتهاءاً بالأزمة الأخيرة، التي عصفت بها، ووجهت أنظار العالم إليها، لتعاظم تداعياتها ليس على الدولة فحسب، وإنما على الصعيد الإقليمي، وذلك وفق المحاور التالية:
المبحث الأول: جذور الصراع
المطلب الأول: التطور التاريخي
المطلب الثاني: الصراع العرقي
المطلب الثالث: دور الاستعمار في تعزيز الصراع العرقي
المبحث الثاني: أسباب الصراع
المطلب الأول: الأسباب السياسية للصراع
المطلب الثاني: الأسباب الاقتصادية للصراع
المبحث الثالث: تسوية النزاع
المبحث الرابع: تداعيات الصراع وسُبل المواجهة
المطلب الأول: تداعيات الصراع في الدولة
المطلب الثاني: سُبل المواجهة
خريطة رقم (1) دولة بوروندي
المبحث الأول: جذور الصراع
تعتبر بوروندي من الدول الداخلية، التي لا سواحل لها، وتقع ضمن هضبة البحيرات في وسط أفريقيا، يحدها من الشمال رواندا، ومن الشرق والجنوب تنزانيا، وفي غربها الكونغو، وتطل على القسم الغربي الشمالى من بحيرة تنجانيقا حيث تسير حدودها مع الكونغو الديمقراطية، (خريطة ـ 1)، يبلغ تعداد سكانها حوالي 10.6 مليون نسمة (يوليو 2016). خضعت للإستعمار الألماني في نهاية القرن الماضي، حيث أضيفت للمستعمرة الألمانية تنجانيقا (حالياً تنزانيا)، وبعد الحرب العالمية الأولي وضعت تحت انتداب بلجيكا، وأعلنت بها الجمهورية بعد عامين من استقلالها؛ وأكبر جماعتين عرقيتين فيها هما الهوتو والتوتسي.
والتفوق العرقي، والصراع على السلطة السياسية كانت من أهم عوامل الصراع في الدولة، التي زادت من حدة النزاعات، بل كانت أهم القضايا البوروندية، فالأغلبية من الهوتو شعرت وكأنها مقهورة، وحقوقها مهدرة، وذلك في مقابل وضع الأقلية من التوتسي، التي تتمتع بالحقوق السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فامتلاك تلك الأقلية للموارد، ومعظم ثروات الدولة جعلها قوة كبيرة اقتصاديًا، وسياسيًا، ومنحها شرعية سياسية مع تولي مناصب عليا في الدولة، ومن ثم مارست الضغط على سكان الهوتو للقبول بسياسة الأمر الواقع، بالتالي كان إحساس الأخيرة بالقهر، والظلم، وسلب حقوقهم، جعلهم يقفون أمام هذه الأقلية التي تتمتع بالنفوذ والثروة والسلطة لاسترداد حقوقهم الشرعية في الدولة، وقد أدي هذا التوتر بين الجانبين لازدياد حدة الصراعات التي انتهت بحروب أهلية أعقبها انهيار لكافة دعائم الدولة.
المطلب الأول: جذور الصراع تاريخيًا
في بعض الأساطير التاريخية البوروندية كانت بداية الصراع بين الطرفين راجعة إلى القوة، والثروة، التي استأثر بها التوتسي، واستطاعت أن تسيطر بها على الأغلبية من السكان الأصليين وهم الهوتو، ومارست ضدهم أعمال قهرية، في بداية الأمر كان الاسم الصحيح للهوتو هو “البانتو” وهم السكان الأصليين، وكانوا يعملون بالزراعة، أما التوتسي فكانوا جماعات تعمل بالرعي، أتت من الشمال الشرقي إلى منطقة البحيرات العظمى (الأخدود الأفريقي)، من أجل إيجاد الكلأ لقطعانهم، وطلبوا من البانتو (أي الهوتو، السكان الأصليين) أن يكون لهم ولقطعانهم مكاناً يقطنونه، وبدأ التوتسي يتوطدون في الأرض 2، وذلك من خلال عمليات التبادل، والمقايضة بين الطرفين (كان يعطي التوتسي الروث، أو السماد، وحليب الأطفال للهوتو في مقابل توطنهم في أرض الأخيرة)، ونتيجة للثروة التي تمتع بها التوتسي، وذكاءهم في إدارة النشاط الاقتصادي، عمل معهم الهوتو من أجل الحصول على الطعام، ومن ثم حدث تزاوج بينهم (حيث كان يتزوج الرجل من الهوتو امرأة من التوتسي، ومعها اثنين أو ثلاثة من البقر)، واعتبر هذا التزاوج وسيلة لبقاء التوتسي، وتمكنه من الأرض، ومن ثم ازداد نفوذ، وقوة، وثروة التوتسي، والتي كان يمثلون أقلية، في مقابل الأغلبية الفقيرة من السكان الأصليين.
وقد أوضحت معظم حركات المعارضة من الهوتو أنه في ظل النظام الملكي كان يتمتع التوتسي بالتفوق العرقي، ومن ثم كان هذا أساسًا في استحواذهم على السلطة، وقد ترتب على ذلك تدني سلطة الهوتو، حتى وصل الوضع بهم إلى حد العبودية. وبالتالي جاء اسم الهوتو على هؤلاء السكان (الذين كانوا يعرفون باسم البانتو)، والتي عرفت في لغة التوتسي وهي ” الكيهاميت Kihamite ” بمعنى الخادم أو الرقيق، حيث استخدمها سكان البانتو حتى ولدت معهم، وأصبحوا يعرفون باسم الهوتو بدلاً من مسماهم الأصلي وهو “البانتو”، خاصة بعد شعور التوتسي بأنهم أعلى منهم في المرتبة، نتيجة إعطاءهم الهدايا والأبقار لضمان بقاءهم في الأرض 3.
على إثر ذلك استطاع التوتسي من خلال ثروتهم السيطرة على الدولة، وأصبحوا حاكمين لها، بل وتولى معظمهم المناصب السياسية الكبرى في البلاد؛ على الجانب الأخر شعر سكان الهوتو بأن حقوقهم أُهدرت، وأصبحوا عبيد لقبائل التوتسي، الذين توطدوا في أرضهم، وقام الهوتو بحركات تمرد لاسترداد تلك المناصب، وخاصة السلطة، وبالتالي ظلت هذه الحروب بين الجانبين حتى يومنا هذا. ليست بوروندي فقط من عانت من هذا التفوق العرقي، وإنما العديد من الدول الأفريقية في تلك المرحلة، خاصة منطقة البحيرات العظمى لاسيما رواندا والكونغو، وهي الدول المجاورة لبوروندي، والتي عانت هى الأخرى من هذا الانقسام، والتفوق العرقي، وسوء توزيع الثروة، مع امتداد جماعات الهوتو والتوتسي إليها، ومن ثم شهدت هي الأخرى العديد من الحروب العرقية، وعمليات الإبادة الجماعية، التي أثرت بشكل كبير على شكل الدولة، وكيانها، والتي مازالت تعاني من تبعات هذه الحروب حتى الآن.
المطلب الثاني: الصراع العرقي:
يعتبر العامل الإثني هو الأساس في الصراع البوروندي، حيث يمثل الهوتو Hutu 85% من تعداد السكان، فيما يمثل التوتسي Tutsi 14%، وتمثل قبيلة التوا Twa 1% من تعداد السكان، وبالتالي من الصعب تصور وجود الكثير من القواسم المشتركة من حيث اللغة، والثقافة، والتنظيم، والتاريخ الاجتماعي، فالمجتمع البوروندي مجتمع غير متجانس، ففي عام 1995م كان هناك إشارة لرسم الخريطة الإثنية، ما جعل بوروندي نموذجاً للانفصال، والتطهير العرقي على الجانبين، حيث وُجِدَت أعداد كبيرة من التوتسي المشردين في شمال شرق كلاً من (كاينزا – نوجوزو – كيروندا)، وفي الشمال الغربي يقطن الهوتو وهم يعيشون في التلال، وهذا يوضح الانقسام الاجتماعي والهوة بين المجتمع البوروندي لاسيما بين المناطق والعشائر4.
الإشارة إلى الكراهية والرجعية، وكذلك العدوانية هي أبرز الأمثلة على جرائم الإبادة الجماعية في عمليات القتل الجماعي، فالصراع العرقي يجعل بوروندي مختلفة عما يمكن ملاحظته في باقي المناطق التي مزقتها الصراعات العرقية والقبلية، لأن الاختلافات العرقية لم تكن متجذرة بقدر ما تم استيرادها من الأيديولوجيات القبلية، وهي أدلة أكثر دراماتيكية في الصراعات العرقية، حيث تحاول السلطات البوروندية إيجاد هويات عرقية منفصلة تحت إطار معين، وتغلفها بغطاء وطني ظاهري5.
هذا يوضح أن الصراع يكمن في الخلافات التي تدور حول ثلاثة قواعد أساسية وهي 6: أهمية ووضوح الاختلافات العرقية بوصفها مصدر للتوتر، وطبيعة التمايز الثقافي بين الهوتو والتوتسي، ودور التاريخ في تشكيل العداوات العرقية. ووراء هذه المصادر يكمن بناء الواقع الاجتماعي، والذي يعود جزء منه إلى الأقلية الحاكمة، وهم عناصر التوتسي غير المتأثرة بشكل عام باتهامات الهيمنة العرقية، وموجهة إلى تضليل مطالب الهوتو عن المشاركة السياسية، وعدم تطبيق الديمقراطية، وبالتالي فهناك نظرة تشاؤمية يعاني منها سكان الأغلبية بسبب المظالم والقهر، الذي تعرضوا له من قبل الأقلية الحاكمة، وذلك كما قال الرئيس بويويا “هناك مجتمع وطني يضم الطرفين، وقد وضح تعليقه على الصراعات الفوقية في المجتمع البوروندي، والتي كانت لها وجهات نظر متطرفة أثرت بشكل كبير على المواقف الشعبية، وعملت على زيادة، واستمرارية الصراع 7.
إن الهويات العرقية كان لها الدور البارز في زيادة حدة الصراعات على أساس التفوق العرقي للأقلية على الأغلبية، والذي أدى إلى اشتعال الحرب الأهلية على مدار سنوات عدة راح ضحيتها مئات الآلاف من الجانبين، كان من أبرزها الإبادة الجماعية، التي قامت بها جماعات التوتسي ضد الهوتو، وذلك بهدف تغيير المعادلة السكانية، حيث قامت بعمليات تصفية جسدية لمئات الآلاف من المدنيين الهوتو حتى يكون تعدادهم 50% بدلاً من 85%، ومن ثم قامت حروب ضارية بين الطرفين، كالمذابح التي وقعت عام 1969، 1972م، 1988م، وغيرها الكثير8.
المطلب الثالث: دور الاستعمار في تعزيز الصراع العرقي
اتبع الاستعمار العديد من السياسات، التي أثرت على البناء الاجتماعي في العديد من الدول الأفريقية، وخلقت معها حروب كان أساسها الصراع الإثني، حيث مارس المستعمر عمليات تهجير قسري لبعض الجماعات الإثنية خارج مناطقها الأصلية، وإعلائه من شأن أقليات على حساب أغلبيات متعددة، ما زاد من حدة التوتر، والكراهية بين الجماعات، مع تقسيم القارة دون اعتبار للتمايز الاجتماعي، والاقتصادي، والعرقي، وأكثر الأدلة وضوحًا على السياسات الاستعمارية هي حالة بوروندي، التي مارس الاستعمار في حق الجماعات فيها أبشع صور التقسيم، والتي عانت منها الدولة حتى الآن9.
فقد تعزز هذا الصراع من خلال الدور الاستعماري الألماني والبلجيكي في بوروندي، الذي كان له الدور البارز في تأجيج العنف، واستمرار صراعات السلطة، وبالرغم من أن الاستعمار لم يخلق هذه الانقسامات العرقية بشكل مباشر، فإنه أعاد تشكيل الطرق المؤدية إليها، والتي زادت من حدة الكراهية، واضطراب الأوضاع، وأدت إلى وجود عواقب وخيمة على الوحدة الوطنية.
ففي عام ١٩٢٦، وضع البلجيك سياسات لزيادة التمييز العرقي بين الهوتو والتوتسي. فكان من يمتلكون أكثر من ١٠ بقرات يُصنفون على أنهم توتسي، ويصنف الآخرون على أنهم هوتو، مع عدم وجود إمكانية للتنقل بين الجماعتين. وكان هذا تمييزًا بسيطًا، إلا أنه تطور بمرور الوقت والعادات، ليحل محله فجأة تصنيف دائم غير مرن10.
بالإضافة إلى ذلك، حابى البلجيك الطبقة العليا من التوتسي، وعرضت على أثريائهم فرصًا أفضل للتعليم، والتقدم الاقتصادي، وتوظيفهم كإداريين لفرض الحكم الاستعماري البلجيكي، حتى تعزز وضعهم في الدولة، وأصبح لهم القوة، والمنعة، وسلطة اتخاذ القرار.
وبين 1925م و1933م) قام المستعمرون البلجيك بإقصاء عناصر الهوتو النادرة الموجودة في إدارة البلدية، وفي منتصف 1950م اهتموا باحتواء الحركة المستقلة التي كان قادتها ينحدرون من الطبقة الأرستقراطية المحلية، وحاولوا دعمهم أو مساندتهم في المشهد السياسي، وهؤلاء القادة يعتقد بأنهم لا يكنون عداوة لعمل “التمدن” الذي يقوم به الاستعمار 11.
وبالتالي كانت السياسات، والإجراءات، التي اتخذتها القوة الأوروبية أثناء هذه الفترة كفيلة بإزكاء العداوات، والريبة، التي كانت حتمًا ستهز أسس السلام في الدولة، وتشعل العنف الحقيقي، كما حدث في رواندا من عمليات الإبادة الجماعية عام ١٩٩٤.
المبحث الثاني: أسباب الصراع
تعددت أسباب الصراع في الدولة، بالإضافة للصراعات العرقية، ما بين صراعات نتيجة العوامل السياسية، وأخرى اقتصادية، والتي اعتبرت من أهم أسباب الصراع في الدولة، حيث نتج عنها حروب ضارية بين الجماعتين العرقيتين، وظلت إرهاصاتها حتى الآن، بالتالي نورد هذه الأسباب في مطلبين، حيث يعرض المطلب الأول، الأسباب السياسية للصراع، فيما يعرض المطلب الثاني، الأسباب الاقتصادية للصراع.
المطلب الأول: الأسباب السياسية للصراع:
تعتبر العوامل السياسية من أهم العوامل في نشأة الصراع بين الهوتو والتوتسي، والتي تكمن في النزاع على السلطة، فضلاً عن أن التركيبة السكانية، وما ترتب عليها من وضع قبلي، واجتماعي، أدى إلى خلق مشكلات سياسية حادة أعقبها حرب إبادة جماعية.
1- الصراع على السلطة:
من المتعارف عليه أن سكان الهوتو يمثلون 85% من تعداد السكان، أما التوتسي فهم يمثلون 14% فقط، ويمتلكون (أي التوتسي) النفوذ السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، أيضاً، ما مكنها من احتكار السلطة، والحكم في البلاد منذ الاستقلال عن بلجيكا عام 1962م، الأمر الذي أدى إلى سعي، وتخطيط الهوتو للانقلاب على السلطة عام 1969م، وقد أعقب ذلك قيام رئيس الدولة “مايكل موتشمبيرو (1966- 1976)” بمذابح دموية ضد الهوتو من الفترة 1969م حتى عام 1972م، راح ضحيتها مايقرب من 300 ألف شخص 12.
كما تقدر إحصائيات أخرى أن الفترة من 1965 – 1973 وصل عدد الضحايا من الهوتو من 103000 إلى 205000 جراء الصراعات الاثنية، والتي أثرت بشكل كبير على الأمن الإقليمي، ومن ثم الدولي13.
هذه الممارسات من قبل الأقلية الحاكمة حالت دون وجود أي مشاركة، أو استقرار بين الجانبين لعقود من الزمان، تزايدت معها عمليات القتل، والعنف في البلاد، وكانت هناك أمثلة عديدة حول احتكار التوتسي للسلطة والنفوذ في الدولة، حتى من الناحية القضائية، وظلت الحالة المتدنية للهوتو في الحصول على حقوقها بشكل مستمر أمر واقعي، حيث وُجد أن 80% من القضايا المعروضة هي نزاعات على الأراضي، وإن القُضاة الذين يحكمون معظمهم من التوتسي، ومعينين من قبل الرئيس، وبالتالي كانوا متحيزين لجماعتهم، ويكرهون إدانتهم، ويفرضون العقوبات القسوى على الهوتو، الذين أصبحت حقوقهم مُهدرة وضائعة، في ظل استئثار التوتسي بالسلطة، واحتكارها لكافة مناصب الدولة، وهو ما جعلها تقوم بمحاولات لإحداث خسائر جسيمة للأغلبية المحكومة، مع استخدام طرق منهجية من قبل التوتسي لوضع الأولى في عبودية دائمة.
الأمر الذي أدي إلى اشتعال الحرب الأهلية بين الطرفين من عام 1965م حتى عام 1972م، وكذلك عام 1988م، 1991م، راح ضحيتها مئات الآلاف من الجانبين، فضلاً عن التدمير الذي لحق بالبنية التحتية للدولة بشكل عام، والهوتو بشكل خاص، ونزوح، ولجوء عشرات الآلاف من اللاجئين إلى الدول المجاورة، والتي قدرت بنسب تقرب من 20 ألف من التوتسي، ومئات الآلاف من الهوتو 14.
هنا استطاعت التوتسي أن تحافظ على هيمنتها السياسية لمدة أربعة عقود، واستطاعت خلال هذه الفترة إبعاد الهوتو من السلطة السياسية بنجاح، ونتيجة لذلك كان لديها تخوف من عمليات الإبادة الجماعية لها من قبل المعارضة المسلحة من الهوتو في تلك الفترة، والتي كان لها الدور في استبعاد أي اتفاق سلام، مع عدم وجود ضمانات أمنية توفر ذلك في ظل هذه الحروب الضارية بين الجانبين، بالتالي كان رفض الجيش الرجوع لثكناته مطلب أساسي لعدم وجود أمن في البلاد 15.
على الجانب الأخر قامت الهوتو بحركات التمرد، ودعم المليشيات، وذلك لإبادة التوتسي، ومحاولة انتزاع السلطة؛ وبالرغم من وجود العديد من جهود الوساطة لتسوية هذا النزاع، إلا أنها لم تجد في إنهاء الصراع الدائر بين الجانبين، وذلك باعتبار أن أي جهود للوساطة ليست لها أي قيمة في ضوء عدم تنازل أي من الطرفين عن مصالحهم الفرعية في مقابل المصلحة الفوقية.
فبالرغم من وجود مسؤولين من الهوتو معروفين بالحكمة والإنصاف من قبل الطرفين (الهوتو والتوتسي معاً)، فإن دورهم كام مهمشاً في تسوية النزاع في الدولة، باعتبار أنهم مستبعدون من الأدوار الرئاسية، ومن ثم كان الفشل في التسوية السياسية للنزاع هو سيد الموقف على الساحة السياسية في البلاد 16.
وفي محاولة لتولي الهوتو السلطة، أقرت بوروندي دستورًا ديمقراطيًا جديدًا في مارس 1992م. وجرت أول انتخابات رئاسية ديمقراطية بالبلاد في يونيو 1993م 17، فاز فيها زعيم الجبهة من أجل الديمقراطية “ملتشور نداداي”، من الهوتو، وأصبح رئيسًا لبوروندي. وفي أكتوبر من نفس العام اغتاله بعض الجنود التوتسي في محاولة انقلابية. أعقب هذه المحاولة حرب أهلية عرقية واسعة عام 1993، وفي محاولة أخرى عام 1994 لتولي الهوتو السلطة ثانية برئاسة “سايبرين نتاياميرا”، إلا أنها باءت بالفشل نتيجة اغتياله مع الرئيس الرواندي، ليظل الحكم للتوتسي مع تأجج المعارضة المسلحة، وانتشار العنف والصراع في الدولة18.
ومع وجود حالة من عدم المساواة على كافة الأصعدة في المجتمع البوروندي، خاصة مع التفاوت، والتمايز العرقي، الذي يعتبر أحد عوائق التماسك الاجتماعي، خاصة وأنه لا يوجد في الكيروندية (لغة المجتمع البوروندي) مايعادل المساواة أو الحرية، والذي شهد اختلافًا جذريًا ليس فقط لأن الأغلبية من الهوتو يرون أنها مرفوضة أخلاقياً، ولكن ينظر إليها من ناحية التفوق العرقي، فالساسة الهوتو يعانون من التمييز بينهم وبين الساسة التوتسي، ومن ثم لا يوجد أي نوع من المساواة ببن المجتمع، فضلاً عن الطبقية، واستبعاد الحراك الاجتماعي مع اتساع الفجوة بين الطبقة والأخرى، والتي تفككت عبر التاريخ، ودمجت في المنافسة العرقية، مع غياب مفاهيم المساواة والحرية في الكيروندية كما ذكرنا سابقاً، بالرغم أن مصطلح “kwmegeka” في اللغة البوروندية يشير إلى “التحرر” 19.
تلاها الصراع السياسي المحتدم على السلطة، الذي زاد من عمليات الاقتتال، وعدم الاستقرار السياسي، والأمني، وهي عوامل غذَّت من الصراع، واستبعدت أي دور للتسوية السلمية للحرب الدائرة، نتيجة التعارض في المصالح المختلفة بين الطرفين.
المطلب الثاني: الأسباب الاقتصادية للصراع
إن العجز الاقتصادي لدولة بوروندي، وفقرها في كافة المجالات سواء التعليم، أو الصحة، أو البنية التحتية بشكل عام، فضلاً عن فقر الموارد الاقتصادية، كالزراعة، والصناعة، والتجارة، والتعدين، كان لها دور فعال في عدم استقرار الدولة، يليها الهوة الكبيرة في الطبقات، الذي أثر على عملية الاندماج الوطني في المجتمع، وزاد من حدة العنف، والنزاع نتيجة عدم تلبية ولو الحد الأدنى من متطلبات الشعب المتمثلة في الغذاء، والمياه، والمسكن، والصحة، والتعليم، وغيرها.
فبالرغم من امتلاك دولة بوروندي العديد من الموارد، والثروات كالحديد، والكوبالت، والمنجنيز، والفوسفات، والأخشاب، ومواردها الزراعية كالبن والشاي، إلا أن هذه الثروة لم تؤهل الدولة للتنمية الاقتصادية في ظل سيطرة، واستغلال السلطة الحاكمة، وكذلك المعارضة المسلحة، التي استولت على جزء منها، ناهيك عن استنزاف الدول الغربية كالولايات المتحدة وفرنسا لهذه الثروات المتعددة، ومن ثم فإن هذه الموارد لم تجلب للدولة سوى المتاعب، والعنف، والدمار نتيجة سيطرة قوى المصالح عليها، وكونها مصدر لتمويل سواء السلطة الحاكمة، أو المعارضة، أو القوى الدولية، مع غياب حق الشعب في هذه الثروات.
1ـ هيمنة التوتسي وسوء الأحوال الاقتصادية:
تدهورت الحالة الاقتصادية في بوروندي خلال عام 1984م حتى عام 2000، نتيجة لعدم القدرة على صرف العملات الأجنبية، وانخفاض نسبة إنتاج المحاصيل الزراعية، مما أدي إلى تضاؤل وانخفاض المواد الغذائية، خاصة مع موجة الجفاف، التي عانت منها البلاد في ذلك الوقت، مما أدى إلى تزايد التعثر الاقتصادي، والتوتر السياسي، وزاد من حدة الخلافات بين الجانبين، مع ممارسة التوتسي إجراءات قمعية ضد الهوتو، وقد حاول الرئيس “جان باتيستا باجازا (1976م- 1987م)” استيعاب الضغوط الداخلية بين الجانبين، إلا أن الوضع ازداد سوءًا مع ارتفاع الأسعار بسبب خسائر المحاصيل الزراعية الناتجة عن الجفاف، الذي تعرضت له البلاد، كما ازدادت الضرائب على المواد الغذائية في المناطق الحضارية، فضلاً عن انخفاض في نسبة الرواتب، وازدياد القروض على الاستيراد من الخارج 20.
وفشلت الحكومة في احتواء الأزمة، ومع تفاقم الحرب الأهلية في التسعينيات، وعمليات الإبادة الجماعية، التي أدت إلى قتل وتشريد ولجوء الآلاف من السكان إلى الدول المجاورة، مما انعكس سلبًا على الوضع الاقتصادي للدولة، التي ظلت تعاني منه حتى بعد اتفاق أروشا للسلام.
ففي الفترة بين عام 1993 و2004 تراجع متوسط العمر المتوقع للسكان من 51 عامًا إلى 44 عامًا، وتضاعف معدل الفقر من 33% إلى 67%، مع انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 142 دولار أمريكي إلى 103 دولار أمريكي 21.
2ـ اتفاق أروشا والتحسن الاقتصادي
مع اتفاق أروشا للسلام عام 2000 استطاعت بوروندي أن تتغلب بعض الشيء على صراعاتها، وتتجه نحو السلام، مع وضع دستور جديد، ومؤسسات منتخبة ديمقراطيًا في عام 2005، وبدء اجراءات الإصلاح الاقتصادي، والمالي، والإداري، حيث بلغ معدل نمو الناتج القومي الإجمالي 5.9% عام 2006، وبالرغم من ذلك إلا أن الاقتصاد مازال يعتمد اعتماداً كبيراً على الزراعة، التي تسهم بنسبة 45% من الناتج المحلي الإجمالي، وتمثل 91% من مجموع الصادرات، خاصة في محصولي البن والشاي، واللذان يعتبران المنتَجين الأساسيين للصادرات، إلا أنهما تضررا كثيرًا نتيجة الصراع، وتقلبات المناخ، وكذلك الأسعار الدولية، فضلاً عن إن زراعتهما لاتزال محدودة، ومتخلفة في الدولة، وبالرغم من زيادة الإيرادات الضريبية، فإنها لم تكن كافية لإعادة إعمار الدولة من جراء الحروب السابقة، ففي الفترة من عامي 2001 و 2006 وصلت الزيادة السنوية في عجز المالية العامة إلى 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما وصل الدَين الخارجي عام 2005 إلى 1.3 مليار دولار أمريكي 22.
وصُنفت بوروندي من البلدان الفقيرة المُثقلة بالديون في أغسطس عام 2005م، كما وصلت في عام 2007 إلى درجة 0.413 على مؤشر التنمية البشرية، وهذا يوضح أن الصراعات والحرب التي استمرت على فترات طويلة، قد انعكست بشكل مدمر على الوضع الاقتصادي في الدولة، ليس ذلك فحسب، وإنما أثرت على المواطن العادي، الذي وقع بين مطرقة الحرب، وسندان الفقر المدقع.
المبحث الثالث: تسوية النزاع:
عُقدت العديد من اتفاقيات السلام بين النظام والمعارضة، لكن كانت بدون جدوى نتيجة تعنت أطراف الصراع في التوصل لتسويات لإنهاء النزاع السياسي، مع استمرار أعمال العنف وإطلاق النار بين مليشيات المعارضة المسلحة وبين الجيش التابع للنظام، حتى تم التوصل لاتفاق أروشا للسلام، الذي عقد في تنزانيا برعاية إقليمية، وبالرغم من دوره في إنهاء الحرب الأهلية الدموية، إلا أن استمرار المواجهات المسلحة بين المعارضة والنظام كانت دليلاً على نجاحه النسبي، حيث ظلت المفاوضات مستمرة بشأن وقف إطلاق النار، وتقاسم الثروة والسلطة، من خلال تعزيز نظام ديمقراطي يتيح المشاركة السياسية لكافة الجماعات العرقية.
1ـ اتفاق أروشا وتسوية النزاع:
كان من أهم الاتفاقيات، التي عقدت حول تسوية النزاع في بوروندي، اتفاق أروشا للسلام، الذي عقد في أغسطس عام 2000م في تنزانيا، والذي يعتبر من أهم الاتفاقيات، التي أثرت في مسار الأوضاع السياسية، والاقتصادية في البلاد. حيث نص اتفاق أروشا، وقرار مجلس الأمن على وقــف إطــلاق النــار بــين الحكومــة الانتقاليــــة لبورونـــدي وحركـــة الـــمجلس الوطـــني للدفـــاع عـــن الديمقراطية CNDD (Council Nation Defense of Democracy ) وقوات الدفاع عن الديمقراطيـة FDD، الموقـع في دار السـلام بجمهوريـة تنزانيـا المتحـدة، في ١٦ تشرين الثاني/نوفمبر 2000، على إحــلال واســــتدامة الســـلام والأمـــن والاســـتقرار في بوروندي، مع تقاســـم الســـلطات السياسـية، والدفاعيـة، والأمنيـة في الدولة، فضلاً عن توثيق البروتوكول المتعلق بالاتفـاق الفـني للقـوات، والاتفاقـات، والـبروتوكولات المبرمـة بين الطرفين لإحلال واستدامة السلام، وذلك لأجل إنهاء الحـرب، وإعادة إعمار بوروندي، والتنفيذ التام لتلك الاتفاقات، والبروتوكولات؛ وقد التزمت أطراف الصراع في بوروندي وهم الحكومة الانتقالية والمعارضة بإقامـة نظـام سياسـي، ونظـام حكـم، موائمـين لواقـع الدولة، وعلى أساس قيم العدل، والتعددية السياسية، واحـترام الحريـات، والحقـوق الأساسـية للفـرد، والوحدة، والتضامن، والتفاهم، والتسامح، والتعاون 23.
وقبل توقيع الاتفاق عام 2000، تم تشكيل حكومة إئتلافية من قبل الرئيس بويويا (الذي تولى السلطة من خلال انقلاب عسكري عام 1996م)، حيث تم الاعتراف بنظام بويويا باعتباره شرعيًا من قبل النظام الدولي، وفُتح الباب أمام تفعيل الاقتصاد البوروندي، وتقديم المساعدات الاقتصادية. وفي يونيو من عام 1998م تم افتتاح مؤتمر النضال السياسي في أروشا في تنزانيا تحت رعاية الرئيس التنزاني جوليوس نيريري، إلا أن هذه المحادثات كانت بطيئة على مدى السنتين المقبلتين، ونتيجة التعقيدات القائمة على طرفي النزاع وضعت اللجنة السياسية في أروشا لجان مفاوضات من أجل السلام، حيث تكونت من خمس لجان هي24:
الأولى، منصبة على حل النزاع والصراع؛ والثانية، كانت حول الديمقراطية والحكم الرشيد؛ والثالثة، منصبة على الأمن والسلم؛ أما اللجنة الرابعة: فهي معنية بإعادة الإعمار، والتنمية؛ واللجنة الخامسة، تهتم بالتنمية والتقدم.
وبالرغم من ذلك فإن هذه اللجان، والمناقشات لم تكن كافية لدعم التنمية، والأمن في البلاد، فقد حاولت هذه اللجان التلويح بوعود كثيرة بشأن تزايد المساعدات بعد اتفاق السلام، وعند تولي الرئيس السابق لجنوب أفريقيا نيلسون مانديلا رعاية اتفاق أروشا قد دفع اللجان الدائمة إلى التوصل لتسوية صغرى لحل النزاعات والصراعات، وذلك برعاية دولية، حيث حضر حفل التوقيع على اتفاق السلام الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وتم الإجماع على اتفاق السلام والمصالحة بين الأطراف المتنازعة، وذلك في 28 أغسطس 2000م، وبالتالي اعتبر هذا الاتفاق أهم الإنجازات لوضع نهاية للخلافات بين أطراف الصراع، كما يعد إطاراً لبناء بيئة أكثر سلمية في بوروندي، وأثار أملاً كبيرًا في التطلع نحو السلام. ولم يحدث هذا الاتفاق من قبل في بوروندي، إلا أنه كان هناك رؤية مشتركة حول الاتجاه المستقبلي للبلاد.
وكانت النقاط الأساسية في الاتفاق تشمل فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات تصل إلى انتخابات ديمقراطية، وإنشاء مجلس للشيوخ، وعمل تعديلات دستورية، فضلاً عن إصلاح قضائي مصمم لتقليل هيمنة التوتسي، حتى يؤدي إلى تقليل حدة الصراع؛ هذا بالإضافة إلى عمل إصلاح عسكري، ودمج الجماعات المتمردة، وجعل القوات المسلحة أكثر تمثيلاً، وإنشاء لجنة تقصي الحقائق والمصالحة، فضلاً عن استقلال التحقيقات في جرائم الإبادة الجماعية، كما شملت الاتفاقية قيام الحكومة بتفكيك المخيمات في ريف بوجمبورا، والسماح بحرية الصحافة، والإذاعة، وتشكيل حكومة مؤقتة يتبادل رئاستها الجانبان (أي الهوتو والتوتسي) 25.
2ـ رفض الاتفاقية ومعاودة الصراع:
بالرغم من التفاؤل الذي ساد نتيجة العملية الانتخابية، والاتفاقيات المبرمة لتعزيز الاستقرار، فإن خللاً حدث في اتفاق أروشا للسلام، وهو عدم حضور رئيس جماعة المتمردين الهوتو “نكورورزينزا” والمعروفة باسم “المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطية” CNDD، حيث رفضت الانضمام إلى المفاوضات، وذلك في عام 2001 أي بعد اتفاق أروشا، كما قامت المعارضة التوتسي بانقلاب لوقف عملية الانتقال السلمي للسلطة (حيث رفض خمسة فصائل توتسية من بين الأطراف الـ19 على التوقيع وذلك لعدم الموافقة على بنود الاتفاق التي تعزز المشاركة السياسية، فضلاً عن مقاطعة فصيلي الهوتو سابقي الذكر لمؤتمر أروشا منذ البداية 26.
إلا أنه في النهاية تم تشكيل حكومة انتقالية لحين الانتهاء من الانتخابات البرلمانية والرئاسية، حيث وافقت الأقلية من CNDD و FDD، بقيادة جان بوساكو (Jean Bosco Ndayikengurukiye ) وقوات التحرير الوطنية FNL، بقيادة ألان (Alain Mugabarabona) على وقف إطلاق النار في أكتوبر وذلك في عام 2002، وتحويل الجناح السياسي لحركة الدفاع عن الديمقراطية إلى حزب سياسي، وانضمام جناحها العسكري للجيش البوروندي، حيث تم التطبيق الفعلي لها بين الحكومة الانتقالية وقوات CNDD في ديسمبر من نفس العام، ولكن تم انتهاك هذا الاتفاق بعدها مباشرة 27.
وشهد هذا الاتفاق بداية دورة جديدة من العنف على الحدود الجنوبية مع تنزانيا حول ريف بوجمبورا، وقد حاول الرئيس نيلسون مانديلا التدخل، وإحلال السلام، ومحاولة وقف إطلاق النار بين المتمردين والحكومة، ولكنها لم تكن ناجحة إلى حد كبير 28.
وأدى رفض قوات المعارضة من الهوتو، وكذلك وقوات التحرير الوطنية FNL، على المشاركة في اتفاق السلام دعى الزعماء الأفارقة المشاركين في التوقيع على اتفاق الهدنة إلى تهديد هذه الحركة بمواجهة عقوبات إقليمية إذا لم تتوقف عن القتال، وتنضم إلى مفاوضات التسوية في البلاد، وهددوا بحرمانها من امتلاك أي قدرة على مواصلة القتال. إلا أنه في عام 2003 وافقت الحكومة الانتقالية على عودة قادة المعارضة إلى بوجمبورا، وهم Ndayikengurukiye و Mugabarabona، وتم الاتفاق بين الحكومة الانتقالية وزعيم المعارضة من الهوتو، نكورونزيزا، على وقف اطلاق النار بين الجانبين، ولكن في فبراير تم انتهاك الاتفاقية من قبل قوات الدفاع عن الديمقراطية CNDD.
وفي أبريل من نفس العام تنحى الرئيس بويويا وسمح لدوميتيان نداييزي بتولي الرئاسة، حيث عملت البعثة الأفريقية في بوروندي على وقف إطلاق النار، ونزع السلاح، وإعادة الإدماج، والاتفاق بين قوات المعارضة في تنزانيا، للمساهمة في الاستقرار السياسي والاقتصادي في بوروندي، وقد حلت بعثة الأمم المتحدة، وقوامها 600 مقاتل محل بعثة الاتحاد الأفريقي في بوروندي، والتي كان قوامها 3000 جندي عام 2004، وذلك لإحلال الاستقرار، حيث كانت هناك حالة من انعدام الأمن ما أدى إلى تأجيل الاستفتاء ثلاث مرات خلال عام 2004م 29.
من ثم فإن المبادرات الإقليمية قد أثرت بشكل كبير على سير المفاوضات بين أطراف النزاع، حيث عقدت قمة في 2003 في دار السلام بتنزانيا شاركت فيها كل من أوغندا وتنزانيا وجنوب أفريقيا وموزمبيق، بالإضافة إلى الرئيس البوروندي وزعيم المعارضة، لإحلال السلام، وتقاسم السلطة؛ كما عٌقد مؤتمر قمة في عنتيبي في إبريل عام 2005 عقده الرئيس الأوغندي يوري موسيفني (رئيس مباردرة السلام الإقليمية لبوروندي)، والذي شارك فيه الرئيس البوروندي، وكلاً من جنوب أفريقيا، وكينيا، وتنزانيا، وزامبيا، ورواندا، وإثيوبيا، والاتحاد الأفريقي، وممثلي الأمم المتحدة، وذلك لاستئناف عمليات التسوية السياسية، والتي دائماً ما تفشل في التوصل لتسويات سياسية، خاصة فيما يتعلق بتقاسم السلطة، ووقف إطلاق النار، ونزع السلاح من المليشيات، والتي قدرت بحوالي 300 ألف قطعة سلاح، ويرجع ذلك لتعارض المصالح بين الحكومة والمعارضة، فضلاً عن أزمة الثقة بين الجانبين، وإرهاصات الكراهية العرقية، والأبعاد السياسية والاقتصادية أيضاً 30.
وتسارعت جهود تنفيذ اتفاق السلام، وذلك في عام 2005م، إذ بدأ الاتفاق بخطوات مهمة على طريق إجراء استفتاء على الدستور الجديد، الذي ينظم الحياة السياسية بعد الفترة الانتقالية، التي استمرت لأربع سنوات، مع تهيئة الطريق لإجراء الانتخابات المحلية، والبرلمانية، وانتخابات مجلس الشيوخ، والانتخابات الرئاسية؛ كما نشرت اللجنة الانتخابية الوطنية جدولاً زمنيًا للاستفتاء الشعبي، وافقت عليه الحكومة الانتقالية، مع المبادرة الإقليمية الخاصة بالسلام في بوروندي، إلا أن هناك بعض العقبات، التي أدت إلى تأجيل الاستفتاء الدستوري، والانتخابات لأكثر من مرة، منها: عدم وجود إطار قانوني لإجراء الانتخابات، أو قانون للحكم المحلي، فضلاً عن وجود شكوك من جانب المعارضة إزاء نوايا الرئيس البوروندي المؤقت “دومتين نداييزي”، والذي تردد أنه يسعى إلى تعديل الدستور الانتقالي بما يسمح لترشيح نفسه في الانتخابات، وذلك بالمخالفة لاتفاق السلام.
وبعد مرحلة من التأجيل نجحت الحكومة في إجراء الاستفتاء بشأن دستور مابعد الفترة الانتقالية، وذلك في 28 فبراير 2005م، وقد بلغ عدد المشاركين في الاستفتاء مايقرب من 2.9 مليون شخص، أي بنسبة 92% من إجمالي الناخبين، وقد بلغت نسبة المؤيدين للدستور حوالي 1،90% . مع إجراء الانتخابات التشريعية، والتي فاز فيها نكورونزيزا قائد المجلس الوطني CNDD (من الهوتو)، مع فوزه برئاسة البلاد في نفس العام، لتنتقل بوروندي إلى عهد جديد مع تولي الهوتو الحكم في البلاد، وانتهاء فترة حروب الابادة الجماعية، التي عانت منها الدولة في التسعينيات 31.
وقد انعكس الاستقرار السياسي على الإصلاحات في مجال الدفاع والأمن، حيث أصدر الرئيس “دومتين نداييزي” قبل الانتخابات التشريعية والتنفيذية، قانونين يرسمان الخطوط العريضة لإنشاء وتنظيم، وتشكيل خطة عمل جديدة للدفاع الوطني، ودائرة جديدة للشراكة الوطنية، كما أصدرت الحكومة البوروندية مرسومًا رئاسيًا يضع جميع المحاربين المتمردين والنظاميين في البلاد تحت مسئولية الحكومة وحدها، كما طالب المرسوم جنود القوات المسلحة البوروندية بالعودة إلى الثكنات، باستثناء اللذين يحافظون على الأمن على الحدود 32.
وبالرغم من الجهود الرامية لإحلال السلام في البلاد، ومحاولة تسوية وحل الصراع الدائر بين الأطراف المتنازعة، إلا أنها لم تحقق النجاح المنشود، والدليل على ذلك استمرار الصراع، والمواجهات المسلحة في الدولة. ويرجع ذلك لعدم تحقيق المشاركة السياسية الفعالة للشعب بشكل عام، مع عدم تحقيق الأمن، والاستقرار في البلاد نتيجة استمرار أعمال العنف لأهداف الحكومة من جهة، والمعارضة من جهة أخرى، خاصة مع تدخل الفاعلين الإقليميين، لا سيما رواندا والكونغو الديمقراطية وأوغندا لدعم أطراف الصراع، وعدم تلبية الحكومة لمتطلبات الشعب لتحقيق الاستقرار الأمني، والتنمية المنشودة، مما زاد من حدة التوتر في الدولة، وهي السمة ذاتها التي تميزت بها حكومات الدول الأفريقية المتعددة. وبالرغم من انتهاء فترة الحرب الأهلية التي عانت منها بوروندي مع تولي نكورونزيزا الحكم في البلاد عام 2005م، إلا أن مرحلة العنف، ومناوشات الصراع لم تنته ووصلت إلى حد الأزمة السياسية في الدولة عام 2015.
المبحث الرابع: تداعيات الصراع في بوروندي:
هناك العديد من التداعيات التى آلت إليها الحرب، فاستمرار الصراعات والحرب الأهلية في المجتمع البوروندي أدى إلى وجود عواقب وخيمة على كافة مظاهر الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية في الدولة ؛ حيث كشفت تقارير عن تدني الأوضاع الاجتماعية في جميع الدول التي تعاني تلك الصراعات، وهناك العديد من المؤشرات التي تؤكد ذلك، وأهمها: تدني مستويات دخول الأفراد، والانخفاض الشديد في نسب الالتحاق بالتعليم الأساسي، وتدهور نصيب الفرد من الغذاء، وتدني مستويات الخدمات العامة.. إلخ:
1ـ ظاهرة اللجوء والتشرد:
لم تؤثر الحرب على بنية الدولة، وتفاقم عمليات التطهير العرقي فحسب، بل تسببت في ظاهرة اللجوء، حيث تعتبر بوروندي ثاني أكبر دولة في القارة متسببة في ظاهرة اللجوء33. حيث نزح ما يقرب من 60 ألف إلى 80 ألف لاجئ من الهوتو إلى تنزانيا، ورواندا، بعد عمليات الإبادة الجماعية عام 1972م في بوروندي، وفي عام 1988م نزح حوالي 30 ألف من اللاجئين الهوتو إلى رواندا، وفي عام 1993 تبعها أكثر من 300 ألف من اللاجئين، الذين عاد معظمهم إلى بوروندي بعد حدوث اضطرابات في رواندا عام 1994م، وبحلول عام 2000م لازال هناك أكثر من 42 ألف لاجئ بوروندي، ومايقرب من مليون و500 ألف أُجبِروا على الفرار في عام 2000م، فضلاً عن 200 ألف من اللاجئين في الكونغو الديمقراطية، وأعداد صغيرة في مدن متفرقة 34.
وعلى ذلك فقد كان الصراع والحروب الأهلية أكبر العوائق في استقرار المجتمع البوروندي، وتسبب في لجوء، ونزوح، وفرار مئات الآلاف من البشر إلى المناطق والدول المجاورة، ما أدى إلى انهيار دعائم الدولة الأساسية، وهم السكان من خلال تشريدهم، ليس ذلك فحسب، وإنما وقوف الدولة على حافة الهاوية، ودخولها في بوتقة الدولة الفاشلة، التي انهارت فيها كافة مؤسساتها جراء الحروب الضارية على مدار سنوات عدة، مع فشل طرق السلام، والوساطة، لتسوية النزاع فيها، لتصبح الحرب، والعنف الدموي، هو سيد الموقف على الساحة الأمنية، والسياسية في البلاد، وتخلف كوارث إنسانية مع تفشي الأمراض والأوبئة، والمعاناة الإنسانية بين أوساط النازحين في الدولة، واللاجئين في الدول المجاورة جراء انتشار الفقر والمجارعة والأمراض.
2ـ تجنيد الأطفال
مع طول سنوات الحرب الأهلية، وسوء استخدام المساعدات العاجلة، التي منحها البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، وكذلك سوء الأحوال الاقتصادية، تزايد معدلات استخدام الأطفال، وتجنيدهم في الحرب، حيث تم إشراك حوالي 14 ألف طفل في الحرب وتدريبهم على فنون القتال في الجيش، كما قامت جماعات المتمردين خاصة قوات الدفاع عن الديمقراطية FDD بخطف الطلاب من المدارس لإلحاقهم بالجيش، وتوريطهم في القتال 35.
3ـ انتشار الفقر والتفاوت الطبقي
بالرغم من فقر الدولة في كافة المجالات والموارد فإن الأقلية الحاكمة كانت تسيطر على ماتبقى من الدولة مع امتلاكها للقوة الاقتصادية والثروة، والأراضي، وهو ما أهلها لزيادة سيطرتها وزاد من حدة الصراعات في الدولة، خاصة مع وجود تضرر في محصول البن، ونتيجة للظروف غير المتكافئة كانت هناك تقارير عن انتشار الجوع، والوفيات خاصة في المناطق الواقعة شمال “نغوزي”، وكذلك منطقة “بويجوها” التي كانت أكثر المناطق تضرراً 36.
وربما كان هناك فرص لحصول الهوتو على امتيازات إلا أن الهيمنة الاقتصادية والسياسية للتوتسي حالت دون ذلك، فالنظام الطبقي الذي خلفه الاستعمار في بوروندي نتج عنه وجود علاقات اقتصادية غير متكافئة، مع فقدان الهوتو الحصول على مطالبها من موارد الدولة، وعدم تلبية الحد الأدنى من متطلبات الهوتو المتمثلة في المياه والأخشاب، والتي لم تستطع الدفاع عنها بشكل واضح 37، فضلاً عن أن الفلاحين أو المزارعين منهم مضطهدين، ولا يملكون أرضاً، ويشكل الكثير منهم عمالة فائضة.
هنا تصبح الصورة أكثر تعقيداً مع الاختلاف الاجتماعي داخل كل مجموعة، فطبقة الفلاحين المعدمين في بوروندي تعد مثلاً صارخاً على تشكيل الطبقة الاجتماعية، وتمثل خطوة كمفتاح للصراع الدائم، الذي يهدف إلى إسقاط هذه التناقضات الطبقية القديمة في سياق تحديث المجتمع 38.
في عام 1986م كانت هناك استراتيجية لمحاولة النهوض بالاقتصاد البوروندي، حيث طلب المجلس الوطني البوروندي من البنوك والمؤسسات المالية دعم البورونديين للنهضة بالاقتصاد حتى تتحسن الظروف المالية، والأعمال التجارية، وهذا بدوره يؤدي إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية، وبالرغم من تشجيع تلك الجهود، فإن التوترات والصراعات التي تمر بها بوروندي قد حالت دون ذلك، وأدت إلى هروب المستثمرين، وخلق نوع من الركود.
وكان هناك قلق من الحكومة إزاء توسيع تجمع صغير من المتعلمين الهوتو والناجحين اقتصادياً، وقررت الحكومة الوقوف ضد استمرار النجاح المشترك لبعض جماعات الهوتو الذي يدعمه برنامج الأمم المتحدة، والذي عزز في كثير من الأحيان من حماية أعضاء الهوتو ضد التوتسي في مواقع السيطرة 39.
والعامل الدولي في دعم كيانات الهوتو المعارضة عزز من موقفها ضد الحكومة، خاصة الدور الأمريكي الذي عزز من توغله في منطقة الشرق الأفريقي لتوسيع نطاق النفوذ الانجلوفوني على حساب الفرانكفوني، تلاه الدور الإقليمي في دعم أطراف الصراع لاسيما أوغندا والتي دعمت أقلية التوتسي لبناء إمبراطورية التوتسي في منطقة البحيرات العظمى، وكان دعمها العسكري واضحاً في الحرب الأهلية في رواندا وبورندي، أما رواندا فقد دعمت حركات المعارضة من الهوتو حيث كان دورها واضحاً نتيجة الامتداد العرقي والإثني.
4ـ تراجع الثروة الحيوانية والمعدنية:
بالرغم من أن أعداد الحيوانات والماشية الضخم، فإنها تضاءلت بفعل الحرب والدمار، كما عانى الإنتاج الزراعي بين عام 1997م وعام 2000م بفعل الجفاف، وذكر التقييم السنوي الذي تجريه الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) بأن إنتاج المواد الغذائية بصفة عامة قد انخفض بنسبة 3%، ويعزي هذا الانخفاض إلى استمرار الحرب الأهلية، وتشريد السكان، والجفاف، فضلاً عن وجود العديد من المحاصيل الزراعية، التي شهدت انخفاضًا حادًا مثل محصول البن، وقلة الإنتاج، وذلك بسبب الحرب الأهلية.
وبالرغم من امتلاك بوروندي ثروات معدنية مثل خام النيكل والنحاس والكوبالت، فقد أدت الصراعات والحروب الأهلية الدائرة في البلاد إلى تراجع العديد من الشركات الأجنبية عن مواصلة المزيد من الاستكشافات، والتخطيط، لأنها مناطق غير أمنة.
5ـ انخفاض مستوى التجارة
مع سوء الأحوال الاقتصادية، وزيادة التوترات في البلاد، فقد أعقب ذلك انخفاضاً مستوى التجارة في الدولة، مع قلة الصادرات، وزيادة الواردات، والذي أدى إلى تفاقم حجم الديون على الدولة، مما زاد من حدة الفقر، والمجاعات 40.
6ـ تداعيات أمنية:
مع زيادة حدة التوترات خاصة مع وجود الحركات التبشيرية، التي تحث الهوتو على الوقوف ضد التوتسي، دق ناقوس الخطر داخل قبائل التوتسي خاصة بعد معرفة المؤامرات، التي تقوم بها الأولى، وبالتالي تم تسليح جيش التوتسي، وفرض حراسة على المناطق، التي يقطنها القيادات، مما أدى إلى ازدياد التوترات، وعدم الاستقرار الأمني داخل الدولة، خاصة في الوسط والشمال، وداخل مناطق تمركز النظام الحاكم، خاصة بعد طلب القوات الفرنسية ضرورة تقلد المواطنين البرونديين العمل معاً، أي أن يكون هناك مساواة في العمل بين موظفي الهوتو والتوتسي 41.
ومع سوء الحالة الاقتصادية، وانتشار الفقر، كانت هناك تقارير عن كثرة السرقات من الغذاء في الحقول، والسطو من قبل الأشخاص بحثاً عن الطعام، وكانت المناطق الأكثر تضرراً من هذه السرقات هي الكونغو.
وفي مواجهة هذه التداعيات فرض “اتفاق أروشا للسلام” على القوى المتنارعة القيام بعمليات نزع السلاح من المقاتلين، وتسريحهم، وإعادة إدماجهم، وتم تسريح 7329 مقاتلاً منهم 6281 رجلاً و409 امرأة و639 طفلاً ما بين 2 ديسمبر 2004 و28 أبريل 2005؛ وحسب اللجنة الوطنية للتسريح وإعادة الإدماج فقد تم دفع أكثر من ملياري فرنك بوروندي على الفور للأشخاص المسرحين دعمًا لعملية إعادة الإدماج. وتجدر الإشارة إلى أن 2300 طفل جندي قد تم تسريحهم قبل الشروع الرسمي في عمليات التسريح في 2 ديسمبر 2004، ونزع السلاح من السكان المدنيين، الذي شمل على الخصوص مليشيات حركتين هما “حراس السلام” وهي مليشيات حكومية، ومليشيات المجلس الوطني من أجل الدفاع عن الديمقراطية/قوى الدفاع عن الديمقراطية، حيث كان تنظيم عملية نزع السلاح هذه بموجب مرسوم رئاسي تم توقيعه في 4 مايو 2005، خاصة من خلال تأسيس اللجنة الوطنية لنزع الأسلحة التي تتكفل بإعداد، وتنفيذ استراتيجيات لهذا الغرض 2004 .
7ـ التداعيات الاجتماعية
أثر الصراع على البنية الأساسية، والوضع الاجتماعي، فلم تعد هناك قيم أساسية تحكم الشعب البوروندي، وتعزز من استقراره، وتوحده، وتدعم الولاء الفوقي على الولاءات التحتية للجماعات المتعددة داخل الدولة، ومن ثم تراجع دور الدولة في العديد من المجالات منها:
(أ) مجال التعليم: مع الفقر وعدم المساواة واستمرار الحرب زادت نسبة الأمية بحوالي 35%، فالهياكل المادية في حالة خراب، بالإضافة إلى أن العديد من المدارس تستخدم كبيوت ليسكنها المشردون، حيث قضت الحرب الأهلية على المعلمين، وهرب أو لجأ من استطاع البقاء إلى الدول المجاورة مثل تنزانيا، فضلاً عن فقر الميزانية الوطنية للمدارس، مع ارتفاع رواتب المعلمين، حيث بدأت الحكومة تطالب من الطلاب تسديد تكاليف تعليمهم، ما أدى إلى ظهور الحركات والتنظيمات المناهضة للحكومة الموجودة42.
(ب) الصحة: كان في بوروندي فقط 34 مستشفى، وبعض المراكز الصحية في الدولة، وبالرغم من قلة عددها إلا أنها تأثرت بالحرب الأهلية، حيث إن 70% من الأطباء تركزوا في مدينة بوجمبورا، مع وجود عدد من المدربين، والعاملين في مجال الرعاية الصحية من اللاجئين الروانديين، كما أجبرت النزاعات المسلحة العديد من المزارعين على العيش في بيئة غير صالحة ما أدى إلى انتشار مرض الملاريا43. وانتشار مرض الإيدز (نقص المناعة المكتسبة) 44.
7ـ تداعيات إنسانية
تتمثل التداعيات الإنسانية بالإضافة إلى التداعيات سابقة الذكر، في وجود انتهاك ممنهج لحقوق الإنسان، والتوسع في عمليات القتل، والإبادة، وعمليات التطهير العرقي، فضلاً عن عمليات الاعتقال، والتعذيب، وعمليات الاختفاء القسري للناشطين السياسيين، والمعارضين في الدولة.
خلاصة:
اتضح من العرض السابق كيف أثر الصراع العرقي والسياسي، والحرب الأهلية في بوروندي على كافة مقومات ومظاهر الحياة، مع تراجع الجهود الرامية لإحلال السلام في المنطقة، ومحاولة استقرار الدولة، بالتالي فقط استخدمت الدولة، بل والعديد من النظم الأفريقية استراتيجيات عديدة لمواجهة هذه التحديات، إلا أنها في النهاية لم تصب إلا في جعبة ذوي المصالح والنفوذ، حيث كانت السبل التي اتخذتها نظم الحكم الأفريقية، تمثلت في الاحتواء، أي عزل الجماعات الإثنية الخارجة عن سيطرة الدولة، أي فصلها، وعدم مساواتها بالجماعة الإثنية الحاكمة، أو تطبيق استراتيجية الاستيعاب، والتي تهدف إلى تقبل قيم الجماعة الحاكمة وثقافتها، أو المسيطرة بالرضا والإقناع، أو استخدام استراتيجيات الاندماج المتعددة، كالاندماج الإكراهي، أي فرض ثقافة، ولغة الجماعة الحاكمة بالإكراه والإجبار، أو الاندماج الوظيفي، والقائم على المصالح المتبادلة، ولكن هذا الأخير كان نطاقه ضيقًا، لتعارضه مع مصالح الجماعات الأخرى.
وهذا يوضح أن كافة السبل، التي تم اتخاذها لمواجهة الصراعات الدائرة لم يكن لها جدوى في ظل تعاظم المصالح لدى القوى المسيطرة، والقوى الأخرى ذات الأهداف، والأجندات الخارجية، وأصبحت هذه الاستراتيجيات أداة في يد من يمتلك القوة، والنفوذ، والسلطة على الشعب، الذي يعاني تبعات هذه الاستراتيجيات، الفاشلة، التي كانت أداة لترسيخ استمرار الصراعات، وعمليات التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، وهذا يدعو إلى تفعيل سُبل مواجهة هذه التحديات بطرق مختلفة من شأنها تعزز من تسوية النزاعات، وهذا محور الجزء التالي من هذه الدراسة.
———————-
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
(2) د. مصطفى كامل السيد، دراسات في النظرية السياسية (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006)، ص 122.
(3) David Apter, ” The meta- conflict: violence as dis course”, in Rene le marchand, Burundi Ethnic Conflict and genocide (Cambridge: Cambridge university press, 2004), p.20,21.
(4) Robert h. brands tetter, ” Burundi a broken country, a broken state”, in colin legum (ed), Africa Contemporary Record (new York: African publishing company, vol. 27, 2000), P. 380.
(5) هذا ما اتضح عام 1988م حين سأل أحد الصحفيين الرئيس بويويا عن نسبة الهوتو والتوتسي، الذين قُتلوا جراء الحروب العرقية السابقة، إلا أنه نحى هذا السؤال جانباً أي مستنكراً تصنيفهم، وقال: “نحن جميعاً بورونديين” وأشار إلى أن مسالة الهويات العرقية والتمييز لم تعد، باعتبارها قضية سياسية، أو مصدر للصراع بين الأطراف المتنازعة، واستطرد قائلاً: “أن التسميات العرقية تنتمي إلى تاريخ المزبلة الاستعمارية” وذلك انطلاقاً من المنظمة الدولية للهجرة، أنظر:
Benedict Anderson, ” the Burundi paradox “, in Rene le marchand, Burundi Ethnic Conflict and genocide (Cambridge: Cambridge university press, 2004), P.p. 3-9.
(6) Idem.
(7) David Apter, Op.cit, p. 18.
(8). Ibid, p.p. 25-27
(9) د. أيمن السيد شبانة، “الصراعات الإثنية في إفريقيا .. الخصائص – التداعيات – سبل المواجهة”، جنوب السودان بين المؤامرة والتخاذل (الرياض: مجلة قراءات أفريقية، المنتدى الإسلامي ، العدد السادس، سبتمبر 2010). ص 94.
(10) برنامج التدريب المهني، “تحليل الصراعات”، (واشنطن: معهد السلام الأميركي، ٣ فبراير/شباط ٢٠٠٦)، ص 14-16.
(11) سيلفيستر تيبانتجانيا، “منطقة البحيرات الكبرى من عصر الاضطربات والعنف إلى الاستقرار”، ورقة بحثية مقدمة من فــي اجتماع لجنة السلام وحل المنازعات، المنبثقة عن رابطة مجالس الشيوخ والشورى والمجالس المماثلة في أفريقيا والعالم العربي (بوجمبورا، لجنة السلام وحل المنازعات، 2 ـ 3 مارس 2009م)، ص4، 5.
(12) د. محمود أبو العينين، “الصراع في بوروندي”، التقرير الاستراتيجي الأفريقي 2001م، 2002م (القاهرة: معهد البحوث والدراسات الأفريقية، سبتمبر 2002م)، ص ص 189- 191.
(13) سـمية بلعيد، “النـزاعات الاثنية في إفريقيـا وتأثيرهـا على مسـار الديمقراطية فيهـا: الكونغـو الديمقراطية نموذجـًا”، رسالة ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية (الجزائر: جـامعة منتوري، كلية الحقوق، 2010/2009)، ص 52-53.
(14) Benedict Anderson, Op.cit, p. 6.
(15) Robert h. brands tetter, Op.cit, p. 373.
(16) David Apter, Op.cit, p. 15.
(17) سيلفيستر تيبانتجانيا،مرجع سبق ذكره، ص 10.
(18) David Apter, loc.cit.
(19) David Apter, Op.cit, p. 16.
(20) Benedict Anderson, Op.cit, P. 11.
(21) شؤون الهيئات الرئاسية، المجلس التنفيذي، جمهورية بوروندي، برنامج الفرص الاستراتيجية القطرية، الدورة 94، روما 10-11 أيلول/ سبتمبر 2008م، ص 1-7 .
(22) Robert h. brands tetter, Op.cit, p.p. 373- 375.
(23) الأمم المتحـدة، مجلس الامن، رسالة مؤرخة ١٩ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٣ موجهة إلى رئيس مجلـس الأمـن من القائم بالأعمال المؤقت للبعثة الدائمة لبوروندي لدى الأمم المتحدة، نوفمبر ٢٠٠٣، ص ص 1-6.
(24) المرجع السابق ذكره، نفسه.
(25) Robert h. brands tetter, Op.cit, p. 381.
(26) حسن ساتي، اتفاقية أروشا ولدت بلا أسنان وواشنطن وباريس غير جادتين في احتواء الحروب الأهلية الأفريقية، الشرق الاوسط، العدد 7954، 7 سبتمبر 2000 .
http://archive.aawsat.com/details.asp?section=4&article=73094&issueno=7954#.VqzjRdIrJdg
(27) Henri Boshof , Waldemar Vrey and George Rautenbach ,The Burundi Peace Process .. From civil war to conditional peace (Institute of Security Studies, June 2010 ), p.p. iv – viii, 51-53.
(28) Robert h. brands tetter, Op.cit, p.p. 373- 375.
(29) Henri Boshof , Loc.cit.
(30) الصراعات في دول الحوض الجنوبي ، شبكة مقاتل.
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/SraaHwdNil/sec06.doc_cvt.htm
(31) African publishing company,” Burundi regime struggles with corruption and ethnic and religious conflicts “, in colin legum (ed), Africa Contemporary Record (new York: African publishing company, vol. 19, 1986- 1987), p.p.252- 254.
(32) د. أيمن السيد شبانة، “الصراع والتسوية السياسية في بوروندي”، في أ.د. محمود أبو العينين (محرر)، التقرير الاستراتيجي 2004م، 2005م (القاهرة: معهد البحوث والدراسات الأفريقية، الإصدار الثالث، يناير 2006م)، ص ص 219- 221.
(33) أ.د. محمود أبو العينين، مرجع سبق ذكره، ص191.
(34) Robert h. brands tetter, Op.cit, p. 381-383.
(35) أ.د. محمود أبو العينين، مرجع سبق ذكره، نفس الصفحة.
(36) African publishing company, ” Burundi the church trapped between hutu-tutsi fears and intra-tutsi feuds”, in colin legume, Africa Contemporary Record (Cambridge: African publishing company, vol. 17, 1984- 1985), p. 195.
(37) Benedict Anderson, Op. cit, P. p.3.
(38) شؤن الهيئات الرئاسية، مرجع سبق ذكره، ص 6، 7.
(39) المرجع السابق، ص24.
(40) Robert h. brands tetter, Op. cit, p.p. 385- 287.
(41) African publishing company, ” Burundi the church trapped between hutu-tutsi fears and intra-tutsi feuds”, Op. cit, p. 195.
(42)Robert h. brands tetter, Op.cit, p. 379.
(43) Idem.
(44) Robert h. brands tetter, Op.cit, p.p. 380- 382.