الطوائف الدينية والأمن القومي الإسرائيلي
قبل المضي في شرح الطوائف الدينية ينبغي الإشارة إلى أن اليهود في إسرائيل عادة ما ينقسمون إلى فئتين رئيسيتين، وهما: العلمانيون والمتشددون.
وفي الوقت الذي لا تمثل فيه الجماعة الأولى من العلمانيين كتلة معروفة ومحددة من الأفراد، فإن المتشددين من الحريديم يشكلون بالفعل جماعة دينية في إسرائيل لها من ينتمي إليها ولهم سلوكياتهم وعاداتهم المنفصلة.
في حين أن المسلمين في إسرائيل أغلبهم سنة، كما أن هناك أتباع الديانة الدرزية، ويمثل العرب والبدو إجمالي المسلمين السنة في إسرائيل، ومن ثم فلن يتم العرض لأوضاع اليهود العلمانيين، باعتبار اليهودية العلمانية تيار فكري ينضوي تحت لوائه جماعات مختلفة من اليهود الأشكناز والروس والسفارد، أكثر منه جماعة مستقلة لها أوضاعها الخاصة، ولن يتم العرض في نفس الوقت لأوضاع للمسلمين من السنة باعتبار أن العرض لأحوال الأقلية العربية والبدو هو في حد ذاته عرض لأحوال المسلمين في إسرائيل.[1]
(1اليهود المتشددون “المتدينون” والأمن القومي في إسرائيل
لابد من إدراك أن المعسكر الصهيوني الديني “أي صاحب الديباجات الدينية” ليس معسكرًا واحدًا، فالانقسام السفاردي الأشكنازي يجد أصداءه داخله، فحزب شاس حزب ديني سفاردي، بل ويمكن القول بأنه سفاردي أكثر من كونه دينيًا، إذ ينضم له المهاجرون من البلاد الإسلامية بغض النظر عن مدى تدينهم. وهناك أيضًا الانقسام بين ممثلي حركة “حبد الحسيدية” من أتباع شنيرسون “ديجيل هاتوراه” وممثلي الجناح الديني الليتواني “المتنجديم” من أتباع الحاخام شاخ “أجودات إسرائيل”، وهناك الحزب الديني القومي أقدم الأحزاب الدينية وقد تعاون مع المؤسسة الصهيونية منذ البداية، وهناك المتدينون العاديون والحريديم الذين يوصفون عادة بالتطرف الصهيوني، إلا أن الحريديم منهم هم الأبرز والأظهر في إسرائيل، خاصة وأنهم هم المسؤولون عن المؤسسة الدينية (رئاسة الحاخامية).
يشار عادة إلى الحريديم باعتبارهم اليهود الأرثوذكس،· وفي بعض الأحيان الأصولية اليهودية، وهي عبارة عن: فرق دينية ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر، وجاءت كرد فعل للتيارات التنويرية والإصلاحية بين اليهود، وتعد الأرثوذكسية هي الامتداد الطبيعي الحديث لليهودية الحاخامية التلمودية، وما بين اليهود الميتناجديم واليهود الحسيديم عداء شديد واختلاف في المظهر والعادات والتقاليد، إذ يعارض الفريق الثاني كل البدع والتجديدات، سواءً في الزي أو في النظام التعليمي، فيما يتبنى الفريق الأول سياسة الحفاظ على نمط الحياة التقليدية، ولكنه يقبل مع ذلك الزي الحديث والتعليم العلماني العام، ولذا يشار إليهم بالأرثوذكس الجدد، في حين يشار إلى الحسيديم باعتبارهم الأرثوذكس المتطرفون وهم الأغلبية في إسرائيل حيث يشكلون 41% من يهود العالم.[2]
يتميز أتباع هذه الفرقة في أنهم أكثر تشددًا في الممارسة الدينية وتطبيق الشريعة اليهودية حيث يطبقون أوامرها ونواهيها بكل تفصيلاتها وحذافيرها كما يفهمونها هم. كما أنهم يؤمنون بأن التوراة كلها بكلماتها وحروفها قد أنزلت على موسى وأوحيت له من قبل الرب ولم يزد عليها ولم ينقص منها شيء وهي معصومة من الخطأ.
كما يؤمن هؤلاء بقدسية التلمود وأنه هو الكتاب الثاني في قدسيته بعد التوراة، بل إنهم يطلقون عليه اسم التوراة الشفوية أي أنه أوحي به ونقله الأجداد شفاها ثم وضع في كتاب. ومن اليهود الأرثوذكس مجموعة تطلق على نفسها اليهود المحدثون وطريقتهم في تطبيق الشريعة اليهودية تعد مذهبا، ولكنهم أخذوا يبتعدون شيئًا فشيئًا عن الاتجاه العام لليهود الأرثوذكس وليس بعيدًا أن يصبحوا فرقة مستقلة في المستقبل.
هذا بالإضافة إلى عدد من الطوائف اليهودية الدينية الأخرى، بعضها قديم وبعضها حديث، وأهم الفرق القديمة هي السامرة وهم يمثلون الآن أصغر وأقدم طائفة في العالم، ويملكون أقدم نسخة خطية للتوراة، ويتكلمون العبرية القديمة، ويؤمنون بقدسية جبل جرزيم، ويعتبرون اتخاذ الملك سليمان القدس مكاناً مقدساً مسألة سياسية أكثر منها دينية، وتقوم ديانتهم على خمسة أركان “الإيمان بوحدانية الله، والإيمان بنبوة موسى عليه السلام، والإيمان بأسفار التوراة الخمسة ، وبقداسة جبل جرزيم كقبلة لهم، و بيوم الحساب والعقاب”، وقد تعرضوا لقمع من اليهود المتشددين حيث يرون أنهم كفرة. [3]
وفرقة اليهود القرائين، وكانت هذه الفرقة قد نشأت في بغداد في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وكان الذي أنشأها عالم يهودي اسمه عنان بن داود وكان عنان قد رفض قدسية التلمود واعتبره كتابا كبقية الكتب ألفه الحاخامون ومن اختلافاته مع اليهود الأرثوذكس أن يعترف بيهودية اليهودي الذي ولد لأب إلى جانب من ولد لأم.
كما حرم الزواج من بنت الأخ وبنت الأخت كما أن عدد صلاتهم يختلف عن اليهود الأرثوذكس إلى غير ذلك من اختلافات كثيرة، ومنذ نشأتها أصدر الحاخامون قرارا بإقصائه من اليهودية وحرموا الزواج من فرقته والتعامل معها ومازال هذا الأمر باقيا إلى اليوم. ويوجد الغالبية العظمى من القرائين في إسرائيل ويقدرون بعشرات الآلاف.
وفي بداية القرن التاسع عشر ظهرت فرقة جديدة في ألمانيا حيث اعتقد مجموعة من اليهود في ألمانيا بأن اليهودية يجب أن تصلح حتى تكون ملائمة للعصر الحديث فهي قد مر عليها أكثر من ألفي سنة ولابد من تجويدها ومنذ قرنين وهذه الفرقة مستمرة في تطبيق اصلاحاتها ولذلك سميت فرقة اليهودية الإصلاحية وهذه الفرقة لا تؤمن بعصمة التوراة وتعتقد بوجود أخطاء وتناقضات فيها كما أنها لا تعتقد بقدسية التلمود تجيز أن تكون المرأة حاخامة تؤم الصلاة وتقوم بأداء عقود الزواج والطلاق إلى غير ذلك. ويوجد أكثر أتباع هذه الفرقة الذين يزيد عددهم على المليون ونصف في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي بداية القرن العشرين انشقت مجموعة من هذه الفرقة وأطلقت على نفسها اليهودية المحافظة والفروق ليست كثيرة بين الفرقتين إلا أن اليهودية المحافظة ترى أن الوحي مازال مستمرا ولم ينقطع، وأحكام هذه الفرقة أقل تحررًا من الفرقة الأم، ويوجد أتباع هذه الفرقة في الولايات المتحدة أيضا وعدد أتباعها أكثر من عدد أتباع اليهودية الإصلاحية، وللفرقتين نشاط صهيوني كبير وهما ممولان رئيسان لإسرائيل.
وهناك فرقة أخرى خرجت من فرقة اليهودية المحافظة تسمى فرقة إعادة بناء اليهودية وهي فرقة تتميز بأنها لا تعتبر اليهودية شريعة فقط وإنما تضم أشياء أخرى غيرها كالأدب والموسيقى والأغاني والتقاليد الشعبية والشريعة اليهودية هي جزء من هذه اليهودية. وهي أيضًا لا تعتقد بعصمة التوراة ولا بقدسية التلمود وتعترف بيهودية من ولد لأب يهودي أيضا. وهذه الفرقة تعتبر فرقة صغيرة إلى حد ما حيث لا يزيد أتباعها عن ثلاثين ألفا. وموطن هذه الفرقة اليوم هو الولايات المتحدة الأمريكية حيث عاش وتوفي مؤسسها الحاخام فرد خاي قبلان، وكانت هذه الفرقة قد ظهرت في منتصف القرن الماضي. [4]
ومن هذه الفرق فرقة اليهود اليسوعيين (نسبة إلى اليسوع عيسى) وما يميز أتباع هذه الفرقة هو أنهم يؤمنون باليهودية كشريعة وتقاليد ويؤمنون أيضًا بعيسى كنبي ومخلص ظهر سابقا وسيظهر مرة أخرى ويخلص العالم من شروره. ومعروف أن كل اليهود لا يعترفون بعيسى نبيا بل ولا ممارسا لليهودية، وكان ظهور هذه الفرقة في بداية القرن العشرين، ولكن أتباعها يعتقدون بأن أصول فرقتهم تعود إلى القرن الأول الميلادي حيث كان هناك يهود آمنوا برسالة عيسى أيضا، ولهؤلاء اليوم معابدهم الخاصة بهم وفقههم وأكثر ما يوجدون اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية وتصل أعدادهم إلى عشرات الآلاف ويحاربهم اليهود الأرثوذكس بشدة ويصدرون البيانات دائما ضدهم.
ومن الفرق الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين فرقة تتميز في أنها تؤمن بأن اليهودية هي من نتاج اليهود كبشر (ولذلك تسمى باليهودية البشرية) وليس هناك أوامر أو نواه إلهية وإنما اليهود أنفسهم هم الذين وضعوها. وهم كذلك ينكرون تاريخية خروج اليهود من مصر وينكرون وجود إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان، وكان الحاخام شيرون هو الذي أسس هذه الفرقة في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الماضي ولهذه الفرقة كنيسها ومؤسساتها وهي منتشرة في أمريكا وأوروبا ويصل عدد أتباعها إلى ما يقرب من ثلاثين ألفا، ولها مراكز في إسرائيل أيضًا.
وبالحديث عن اليهود الحريديم، لابد من الإشارة إلى أنهم لم يكونوا ليقبلوا بفكرة إقامة دولة إسرائيل، وكانوا معادين للصهيونية بشكل صريح وواضح لعدة أسباب أهمها على الإطلاق أنهم يرون في إقامة دولة إسرائيل هو خروج عن الحتمية التاريخية بأن إقامة دولة اليهود مرة أخرى سوف يأتي على يد المسيح وليس غير ذلك.
وفي عام 1912، اجتمع حوالي 200 فرد من الحريديم لتأسيس منظمة معادية للصهيونية تدعى أغودات إسرائيل، والتي تحولت فيما بعد إلى حزب سياسي معاد للصهيونية في إسرائيل، ولوبي في العديد من دول العالم، ويرى الحريديم أن تعريف الدولة الإسرائيلية “كوطن قومي لليهود” هو تعريف خاطئ لأنه يؤدي إلى ضمور الهوية اليهودية. [5]
وترى بعض الجماعات، وعلى رأسها ناطوري كارتا، أن الدولة الصهيونية هي عبارة عن خطيئة لأنها ترى أن اليهود أمة، واليهود ليسوا أمة عادية، لأنهم شعب الله المختار، ووجودهم في المنفى ليس نتيجة للنظام العالمي ولكن لأنهم أذنبوا، وخلاصهم من الذنب سوف يتأتى على يد المسيح المخلص، وليس عن طريق إقامة دولة إسرائيل.
ولكن بعد أحداث الهولوكوست، تقبل الحريديم إقامة الدولة الجديدة على مضض، فهم على الرغم من عيشهم بالدولة والمشاركة في أنشطتها، إلا أنهم يرون أنها غير ذات أهمية دينية، ويمكن القول بأن الحريديم لا يشكلون خطرًا على الأمن القومي الإسرائيلي لعدة أسباب أهمها: تعايشهم داخل الدولة بعد رفضهم للتواجد بها ولنشأتها من الأساس، السبب الثاني يتمثل في أن الحريديم، كغيرهم من المتشددين الدينيين، لا يشغلون بالهم بالأمور السياسية للدولة، بل يهتمون بالأمور التي تخص الطابع الديني للدولة، ومن ثم، فإن هناك شبه توافق بينهم وبين الحكومات المتوالية على ترك الأمور الدينية الطابع مثل العمل في يوم السبت، للحريديم، في مقابل عدم تدخل الحريديم في باقي الأمور السياسية[6].
**ومن الجدير بالذكر أن مكمن الخلاف بين المتدينين والعلمانيين في إسرائيل يقوم بالأساس حول هوية الدولة ما بين ديمقراطية ويهودية، ففي الوقت الذي يحاول فيه الحريديم الحفاظ على الهوية اليهودية للدولة، فإن العلمانيين يركزون على الطابع الديمقراطي لها، وهذا ما يولد خلافات قد تتصاعد إلى توترات تمس الأمن القومي للدولة، ويعد هذا من أخطر الخلافات والصراعات.
(2المسيحيون والأمن القومي الإسرائيلي
منذ القرن السابع ميلادياً، ومع دخول الإسلام إلى بلاد الشام، أصبح المسيحيون في تلك المنطقة من فلسطين جزءًا لا يتجزأ من العرب والثقافة العربية، حتى القرن التاسع عشر والمسيحيون يعيشون إلى جانب المسلمين في ود وتراحم، ومع مجيء الاحتلال إلى البلاد العربية أصبح المسيحيون يرتبطون بعلاقات مع وكالات للمؤسسات الغربية، خاصة في المجالات الاجتماعية والتعليمية، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر بدأت البعثات التبشيرية وبناء الكنائس الأوروبية تنتشر في فلسطين، وهو ما ساهم في الارتقاء بالوضع التعليمي، والمستوى الحضاري ومستوى المعيشة للمسيحيين العرب، وزيادة تأثيرهم في الحياة العامة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المسيحيين بدأت أوضاعهم تسوء مع الدولة الجديدة، وإن كانت أفضل من العرب المسلمين، ويرجع ذلك إلى الكنائس المتعددة التي تعمل على دعم المسيحيين داخل إسرائيل.
**ولا يشكل المسيحيون في إسرائيل خطرًا رئيسًا على الأمن القومي الإسرائيلي.[7]
(3الدروز والأمن القومي الإسرائيلي
يتوزع الدروز باعتبارهم طائفة دينية على كل من سوريا ولبنان وإسرائيل، ولقد عاش الدروز تحت حكم الدولة العثمانية ومن ورائها الدول الاستعمارية دون نزوح من أماكنهم، وغالبًا ما كان يعقد الدروز تحالفات مع أي سلطة تحكمهم شريطة الحفاظ على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وأراضيهم الخاصة بهم، ويأتي ذلك تمشيًا مع الممارسات الدينية الدرزية التي تنص على خدمة الدولة التي يعيشون فيها، خلافًا لنظرائهم المسيحيين والمسلمين، ومع مجيء الهجرات اليهودية، لم يشارك الدروز في موجات الهجوم عليها مع غيرهم من القوميين العرب.
بل عقد الدروز تحالفات مع عصابات الهاجاناة، ووصل ذلك التحالف إلى حد القتال بجانب الدولة الجديدة في حربها مع الدول العربية 1948، ونقل الحرب للأراضي العربية وهكذا اكتسب الدروز مكانتهم في الدولة الجديدة التي راعتهم وضمت أبنائهم إلى جيشها، ويشكل الدروز حوالي 8% من الأقلية العربية في إسرائيل، ويعيشون في شمال إسرائيل.
** ويمكن القول بأن الدروز على قلتهم العددية لا يمثلون تهديدًا للأمن القومي الإسرائيلي، وإن كانت الخلافات تنشب بينهم وبين الدولة مرارًا وتكرارًا على ملكيتهم للأراضي التي يقطنون عليها.
** وإجمالاً نجد أن عرب 48 ينظر لهم على أنهم أكثر العرقيات التي تشكل تهديدًا أساسيًا وصارخًا للأمن القومي في المجتمع الإسرائيلي، ومن ثم الصراع بين العلمانيين والمتدينين.
ثانياً: المفهوم الإسرائيلي للأمن القومي
يمكن القول بأنه لا توجد دولة في العالم شغلت بأمنها القومي بنفس المقدار الذي شغلت به إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، فلقد خاض البلد في أول خمسة عقود منذ نشأتها ستة حروب واسعة النطاق وهي حرب فلسطين 1948 وحرب العدوان الثلاثي 1956 وحرب النكسة 1967 وحرب الاستنزاف 1969-1970 وحرب أكتوبر 1973 وحرب لبنان 1982، تلك الحروب جميعها جعلت من حالة الأمن القومي في إسرائيل قضية ذات أولوية كبرى، يتم تناولها في كل القضايا.[8]
إن أفكار ومبادئ وقواعد الأمن القومي الإسرائيلي قد تم وضعها في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، من قبل مجموعة صغيرة من القادة والمسئولين بقيادة رئيس الوزراء ووزير الدفاع بن جوريون، وتعبر نظرية الأمن القومي الإسرائيلي عن قواعد تخص أهداف السياسة القومية العليا تم الاتفاق عليها ولكنها لم تدون وهي تشبه في ذلك الدستور البريطاني غير المكتوب [9].
ومنذ وضعها كان يتضح للعيان أن إسرائيل قد نشأت من رحم الصراعات، ونظراً لضبابية الرؤية المستقبلية، فكان الاعتقاد بأن حالة الصراع تلك سوف تستمر لأكثر من عقدين من الزمان على أقل تقدير، وأن إسرائيل أصبحت كالجزيرة المحاطة بمحيط من الأعداء وأنها عليها الاعتماد على ما لديها من قدرات في صد أي هجوم أو تدشين آخر.
وفي بادئ الأمر، فإن تصميم استراتيجية مناسبة وطويلة الأجل للأمن القومي يتم السير على نهجها كان أمراً مستحيلاً، ولكن تم وضع العديد من الاستراتيجيات التي تتطور بمرور الوقت وتراكم الأحداث، ولقد كانت استراتيجية الأمن القومي التي تم الاعتماد عليها تقوم على مبدأ قدرة الدولة الإسرائيلية على البقاء بقوة السلاح طالما حاولت الدول العربية إضعافها أو القضاء عليها، وهو ما عرف “بمبدأ الردع”.
ويقوم مبدأ الردع على: منع الدول العربية من شن هجوم على إسرائيل، والانتصار عليها في الحرب إذا ما أثبت الردع عجزه، من هنا يمكن القول بأن هدف الردع هو منع الحرب من الوقوع، ولكن إذا وقعت الحرب، فلابد وأن يكون النصر حليفها بشكل سريع وحاسم حتى تظهر الدولة الإسرائيلية بشكل الدولة القادرة على ردع غيرها ونقل الحرب للأراضي العربية، وبهذا الشكل لن ينتصر العرب، ولن يفكروا في الدخول في حرب مع إسرائيل.[10]
ولقد أدركت إسرائيل أن العالم العربي أثقل منها وزنًا في الساحة العالمية لما له من علاقات قوية مع الدول الأخرى، فضلاً عن تأييد الدول الإسلامية الأخرى في آسيا وأفريقيا.
من هنا كان الاعتماد على وجود الحلفاء الأقوياء لإسرائيل في الساحة العالمية كوسيلة لكسب التأييد العالمي، ولقد أثبتت الولايات المتحدة أنها أفضل حلفاء إسرائيل على الإطلاق. ويرى “ماتي ليشم”، العقيد بالجيش الإسرائيلي أن استراتيجية الردع كانت عبارة عن خطوط حمراء لم يكن يسمح بتجاوزها، وتتمثل تلك الخطوط الحمراء باختصار في التالي:[11]
(1التهديد العسكري:
على القوات الإسرائيلية أن تكون مستعدة لأن تحقق الضربة العسكرية الأولى في أقصر وقت لأي من الجيوش العربية التي تمثل تهديدًا لإسرائيل، ونظراً لأن قوات الدفاع الإسرائيلية هي عبارة عن “جيش مدنيين”، فإن إسرائيل لا يمكنها أن تتحمل تبعات استدعاء جيش الاحتياط وتكوين خطط ومواقع دفاعية ضد العدو لأوقات طويلة، ففي تلك الحالة فإن اقتصاد إسرائيل ونظام حياتها سوف يصاب بالعجز، فضلاً عن تدهور صورة الردع الإسرائيلي.
(2الاستنزاف:
ترى العقيدة العسكرية الإسرائيلية أن “أي استراتيجية لاستنزاف إسرائيل تتبناها الدول العربية من ناحيتها مثل فتح النيران على المستوطنات على الحدود، أو الإرهاب، أو حرب استنزاف طويلة المدى، كل ذلك سوف يتم الرد عليه من خلال قوات الدفاع الإسرائيلي، والرد هنا يمكن أن يتنوع بين التفجيرات، أو العمليات العسكرية أو حرب واسعة النطاق”.
(3حرب واسعة النطاق ضد إسرائيل:
إسرائيل لن تتردد في الهجوم أولاً، كل المناطق والأهداف الحيوية والتجمعات السكانية هي في متناول الطيران الإسرائيلي، على الدول العربية أن تعي أن الدخول في حرب مع إسرائيل سوف يكبدها خسائر كبيرة وأن الطيران الإسرائيلي قادر على الوصول لعمق تلك البلاد.
(4الحرب الشاملة:
في حالة الهجوم غير المحدود الذي سوف يسبب خسائر كبيرة في الحياة ويسبب دماراً شاملاً والذي يضع حياة الدولة اليهودية في خطر، فإن الدولة الإسرائيلية حرة في أن تستخدم جميع السبل والوسائل الممكنة لحماية الدولة اليهودية دون قيود على أي من المستويات وبشتى الوسائل.
ويمكن القول بأن حرب 1967 قد أكسبت استراتيجية الردع الإسرائيلية الكثير من القوة والثبات[12]، ولكن سرعان ما تغير الأمر في حرب أكتوبر 1973 عندما دشنت مصر وسوريا حرباً على إسرائيل بهدف استرداد سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية، وعلى الرغم من الإنهاك الذي عانت منه الدولتان، إلا أنهما استطاعتا مباغتة الجيش الإسرائيلي بشكل غير متوقع، خاصة مع عدم وجود جيش الاحتياط وهو ما أفقد استراتيجية الأمن القومي توازنها بشكل غير مسبوق، ولقد كان للنصر الذي حققته مصر وسوريا في حرب أكتوبر 1973 أثر كبير على الصراع بين إسرائيل ومحطيها العربي، حيث أظهرت الحرب أن الدول العربية وحركات المقاومة قد أقلعت عن فكرة تدمير إسرائيل،[13] وبدلاً من ذلك بدأت في تدشين الحروب صغيرة النطاق التي تهدف لتحقيق مكاسب محدودة مثل استرداد سيناء والضفة الغربية، وهو ما أعطى الضوء الأخضر لظهور الانتفاضة الفلسطينية لاحقاً، ومن ناحية أخرى أثبتت الحرب أن فكرة الردع الإسرائيلية لم تكن فعالة كما ظن الجميع، بل اعتبر البعض ومنهم “أهارون ليفران” أحد مسئولي المخابرات الإسرائيلية ونائب قائد كلية الدفاع الوطني، أن حرب 1973 كانت بمثابة بداية النهاية لسياسة الردع الإسرائيلية.[14]
لقد كانت للثلاثين عاماً الأولى في تاريخ إسرائيل أثر كبير على رؤية النخبة والرأي العام لوضع الدولة ومحددات علاقتها بالخارج وطبيعة الحالة الأمنية التي تعيشها الدولة، ومع تدشين مصر وإسرائيل لاتفاقية السلام في عام 1979، بدأت مجريات الأمور في التغير على ثلاث نواحي مختلفة كالتالي:[15]
- أصبح هناك قدر من الاستقرار الإقليمي النسبي، ساهمت في توطيد أركانه وجود الحرب الباردة، وارتأت القيادة في إسرائيل أن الحلول السياسية أصبحت مطروحة كخيار في التعامل مع المحيط العربي بدلاً من السلاح.
- قلت الحروب بشكل كبير واقتصرت على عمليات عسكرية بسيطة كل ثلاثة أو أربعة أعوام، بشكل أكسب المحيط الداخلي قدراً من الاستقرار.
- أن التهديدات ضد إسرائيل قد تغيرت، وبدأت تتسع دائرتها من مجرد تهديدات عسكرية إلى أنواع جديدة من العمليات القتالية التي تعتمد بالأساس على العمليات الفدائية والتفجيرات داخل إسرائيل من قبل الجماعات الفلسطينية، وهي الأعمال التي لم يعتاد عليها الجيش الإسرائيلي من قبل.
وعلى الرغم من تلك التغييرات، إلا أن أساسيات استراتيجية الأمن القومي في إسرائيل لم تتغير كثيراً، وظل الإيمان بأن السلاح هو الوسيلة المثلى لتطبيق أهداف الدولة الإسرائيلية والدفاع عنها. وبدأت استراتيجية الأمن القومي في إسرائيل في تبني اقتراب جديد يقوم على فكرة “الحروب منخفضة الحدة”، وتعني الحروب التي تدخلها إسرائيل من نفسها لتحقيق بعض الأغراض والأهداف، ولقد أظهرت تلك الاستراتيجية بوضوح غياب الرؤية في إسرائيل بين حالة الحرب ووضع السلام، وسمحت إسرائيل لنفسها من خلال تلك الاستراتيجية بالعمل على نطاق مفتوح لضرب الأهداف التي تهدد أمنها القومي، مثل الهجوم على المفاعل النووي العراقي في 1981، وتدشين الحرب على لبنان في 1982، والحرب على لبنان في عام 2006 والهجوم على قطاع غزة في 2008.[16]
إلا أنه يمكن القول بأن أهم التغييرات التي شهدها الأمن القومي الإسرائيلي هو أنه في مرحلته الأولى كان يقوم على مفهوم “الضربة المضادة الاستباقية”، الذي كان يرتبط بانعدام العمق الاستراتيجي لإسرائيل، وينطلق هذا المفهوم من مقولة مفادها أن من الحيوي عدم السماح مطلقاً بأن تدور الحرب في أرض إسرائيل، بل يجب نقلها وبسرعة إلى أراضي العدو، وفي هذا الصدد يتم الاعتماد على الطيران كوسيلة لتقليص الخسائر البشرية من ناحية، وتقليص الدمار الحربي من ناحية أخرى، ولقد كانت حرب العدوان الثلاثي مثال واضح على ذلك.[17]
ويرى بعض الباحثين أن الدول الصغيرة عادة ما تلجأ في بناءها لأمنها القومي للاعتماد على وجود قوة كبيرة توفر لها غطاءً أمنيًا حال تعرضها للقتال، وفي هذا الصدد يرى المسيري أن الدولة الوظيفية-كالدولة الإسرائيلية- تسعى إلى وجود راعياً يحميها ويكفل لها أمنها ومستواها المعيشي المتميز نظير أن تقوم هي على خدمته، ويدفع في ذلك الصدد بالقول بأن “هيرتزل” بدأ نشاطه الدبلوماسي بالبحث عن دولة راعية لفكرة الدولة الصهيونية في روسيا وألمانيا والولايات المتحدة وإنجلترا وحتى الدولة العثمانية نفسها،[18] وعلى الرغم من أن الاختيار وقع في بادئ الأمر على الإمبراطورية البريطانية، إلا أن الأمر سرعان ما تغير وأصبحت الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا هي الراعي للدولة اليهودية.
لكل هذا يرى خبراء الاقتصاد في بنك إسرائيل، في محاولتهم تقييم الأداء الاقتصادي الإسرائيلي والتنبؤ بمساره الاقتصادي، أن أهم حدث في السنوات الأخيرة ليس التحولات الاجتماعية وظهور طبقة من المستهلكين تتمتع بالتبرعات المجانية وترتدي جلداً سميكاً من عدم الاكتراث الاجتماعي، وليس انخفاض إنتاجية الإسرائيليين أو ارتفاعها أو حجم الاستيراد أو التصدير، أو الميزان التجاري أو غيرها من المعايير المستخدمة في تقييم الأداء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الأخرى، فأهم حدث هو زيادة الدعم الأمريكي من 10% إلى 20%. وفي هذا الصدد يدفع الصحفي الإسرائيلي “شنيتسر” بالقول بأن: “وزير الخارجية الأمريكية يلعب دور غير عادي في توجيه السياسة الاقتصادية الإسرائيلية”، وهو ما أطلق عليه المسيري (المعادل الأمريكي الحديث لبلفور)[19].
لقد لعبت الحروب المتلاحقة التي خاضتها إسرائيل خلال تاريخها الصغير دوراً كبيراً في تشكيل الرأي العام وتوطينه على فكرة الحرب ووجود المرشح العسكري في الانتخابات، فضلاً عن أن الحروب المتلاحقة جعلت من جهازي الموساد والشاباك طرفي معادلة في أغلب السياسات التي يتم تبنيها في إسرائيل، فضلاً عن ذلك فإن كثرة المخاطر الخارجية قللت من شأن القضايا الداخلية وأطلقت يد السلطات الإسرائيلية في التعامل معها على أنها قضايا من الدرجة الثانية.
ولذا نجد أن العسكريين الذين يعملون من خلال هيئة أركان عسكرية مركزية يهيمنون على التخطيط الاستراتيجي بل يحتكرونه، خاصة في ظل غياب تحديد واضح للسلطات بين رئيس الحكومة والقيادات العسكرية والمخابرات في عملية صنع القرار كما أوضحت لجنة أجرانت على خلفية تحقيقها في أسباب الخسارة في حرب أكتوبر 1973[20] ، فهذه الهيمنة هي التي تضع التخطيط الاستراتيجي وتتخذ الخطوات التكتيكية.
ويرى “المسيري” أنه باستثناء العسكريين في الاتحاد السوفيتي السابق، فإن الجيش الإسرائيلي هو المؤسسة العسكرية الوحيدة في العالم التي لديها سلطة تامة تقريباً في المسائل الاستراتيجية والتكتيكية، وقد تحولت وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى أهم مركز من مراكز القوى في إسرائيل، وازدادت أهمية هذه الوزارة في أعقاب حرب 1967، واقترنت في الغالب بمنصب رئيس الوزراء، حيث إن كثيراً من رؤساء الوزراء يأتون عن طريق وزارة الدفاع مثل “آرييل شارون” وغالباً ما يحتفظون برئاستهم لها إلى جانب رئاسة الوزارة مثلما فعل “ابن جوريون” وتمسك بالمنصبين طوال حياته، وكذلك “بيجين” ثم “إسحق رابين” الذي اغتيل وهو يجمع بين المنصبين.
ويمكن فهم حالة الهاجس الأمني التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي على أساس أنه ثمة إحساس عميق بأن العربي الغائب لم يغب، فالكيان الصهيوني محاصر بالفعل ومهدد دائماً، والعرب في واقع الأمر لا يمكن “الثقة فيهم”، لأنه لا يمكن الافتراض بأن الجماهير العربية سوف تقبل حالة الظلم باعتبارها حالة نهائية رغم توقيع معاهدات السلام الكثيرة، وعليه يصبح أقصى ما يطمح إليه المستوطنون الصهاينة هو هدنة مؤقتة تنتهي عادةً بمواجهات عسكرية، فالصراع مع الكيان الصهيوني صراع شامل على الوجود، لأن وجود الشعب الفلسطيني لا يهدد حدود الدولة الصهيونية أو سيطرتها على أجزاء من الأرض الفلسطينية، وإنما يهدد وجودها كله، كل هذا يعمق إحساس المستوطنين الصهاينة بأن دولتهم كيان مكروه، ُفرض فرضاً على المنطقة بقوة السلاح، وهم يدركون أن ما بني بالسيف يمكن أن يسقط به.
وبسبب هذا الهاجس الأمني، فيصبح من الضروري زيادة القوة العسكرية والدعم الاقتصادي والتفوق التكنولوجي والمزيد من السيطرة على الأراضي، وبسبب حجة الأمن يطالب الإسرائيليون بالاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة وإنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وباسم هذا الهاجس الأمني يحق للإسرائيليين اللجوء للإغلاق الأمني للقرى الفلسطينية وحصارها وتجويعها، وفي أية مفاوضات مع العرب يطرح الإسرائيليون دوماً بند الأمن والأخطار التي تهددهم وضرورة وجود محطات إنذار مبكر ومناطق فصل، وعندما تعقد أية اتفاقية مع العرب يصر الإسرائيليون على ضرورة امتحانهم للتأكد من نيتهم خوفاً من الخديعة دون أن يكون من حق الفلسطيني أو العربي أن يفعل المثل.[21]
هذا الإدراك الأمني يعبر عن نفسه في كثير من المفاهيم التي تشكل ركائز نظرية الأمن في إسرائيل التي تدور جميعها حول فكرة (إلغاء الزمان والارتباط بالمكان).
فهناك فكرة الأمن السرمدي، أي أن أمن إسرائيل مهدد دائماً، وأن حالة الحرب مع العرب حالة شبه أزلية، وأن البقاء هو الهدف الأساسي للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، وقد عبر “حاييم أرونسون” الكاتب اليهودي، عن تلك الفكرة بأن أن هذه الحرب لا تزال مستمرة، ويفسر هذا الاستمرار على أساس أن إسرائيل بلد غربي حديث يعيش في وسط عربي لا يزال يخوض عملية التحديث، ومن ثم فهو معرض للقلاقل ولا يمكن عقد سلام معه، ويتوقع “أرونسون” أن تستمر الحرب لفترة أخرى إلى حين الانتهاء من تحديث العالم العربي، وفي نفس النطاق تحدث “موشيه ديان” عن حالة عدم الاختيار، فعلى المستوطنين أن يستمروا في الصراع إلى ما لا نهاية.
ويمكن القول بأن استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي تسعى لتحقيق عددًا من الأهداف الرئيسية كالتالي:[22]
- أن تظل إسرائيل وطنًا قوميًا ليهود الشتات.
- تطوير الجيش الإسرائيلي كمًا وكيفًا، من أجل التماشي مع الموقف الذي تتواجد به إسرائيل؛ القلة اليهودية أمام الكثرة العربية.
- إن إسرائيل كدولة صغيرة، عليها أن تجد لها دولة كبيرة تلعب دور الحامي والمدعم لها إذا ما تطلب الأمر، وقد كان ذلك وقت نشأة الدولة إلى أن تغير الأمر حيث أصبحت إسرائيل واللوبي اليهودي هو من يتحكم في سياسات الدول الكبرى وأنظمتها كالولايات المتحدة ودول أوروبا.
- تحويل القدس إلى عاصمة يهودية تستهدف العالم: مصرفيًا وصناعيًا.
- تقسيم دول منطقة الشرق الأوسط وتعزيز النزعات العرقية والطائفية فيها المؤدية للانقسام.
وفيما يتعلق بالهدف الثالث، فإن إسرائيل على دراية تامة بأن الولايات المتحدة تسعى لتحقيق مصالحها وأهدافها في المنطقة، وأنها تجد في إسرائيل الوسيلة المثلى لتحقيق تلك المصالح والأهداف باعتبارها دولة وظيفية، إلا أن الولايات المتحدة سوف تسعى إذا ما تطلب الأمر إلى التحالف مع الدول العربية إذا ما ارتأت مصلحتها معها، فهي لن تضحي بمصالحها كلية لحساب دولة أياً كانت أهميتها، ومن جانبه فإن العالم العربي سوف يحقق التقدم الاقتصادي والاجتماعي إن آجلاً أم عاجلاً، وأنه بذلك يضع نفسه في مكانه أفضل بالنسبة للولايات المتحدة من إسرائيل، ومن ثم فإن إسرائيل عليها تفتيت العالم العربي إلى كيانات ذات طابع طائفي وديني[23]، ومن هنا فإن مفهوم إسرائيل للسلم هو عبارة عن وسيلة يتم بها استيعابها في النظام الإقليمي، بحيث يصير الوجود الصهيوني بجانب الوجود العربي في كل ما له صلة بإدارة المرافق الإقليمية حقيقة ثابته تتعامل معها جميع الدول الإقليمية، ليصبح التعامل المباشر مع العنصر الإسرائيلي أمرًا طبيعيًا بالنسبة للجميع.
ويلاحظ هنا أن تلك الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي الإسرائيلي نابعة بالأساس من الأشكناز وتصوراتهم دون غيرهم، حيث تقف رؤية الإسرائيليين لحالتهم الاستثنائية، في قلب مفهوم الإسرائيليين لأمنهم القومي، ومن ثم تعريفهم للمخاطر التي تواجه بلدهم داخلياً وخارجياً من زاوية سياسياً واقتصادياً واجتماعيًا وثقافياً من زاوية أخرى.[24]
ساهم ذلك كله في تشكيل رؤية الإسرائيليين من ناحية أخرى للمصلحة القومية، واستراتيجياتها الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية، بل وساهم في تشكيل عدد من التوجهات، ورؤية الذات، والمعتقدات ورؤية الآخر، وشكل العلاقة معه.
وكانت أهم زوايا الأمن القومي في ذلك المجال هي رؤية الإسرائيليين للعرب والعلاقة معهم، والتي حددها “إسحاق شامير” في 1988، أي بعد أربعين عاماً من تأسيس دولة إسرائيل، بالإشارة إلى فكرة “أن العرب يريدون إلقاء اليهود في البحر” أن “لو أننا ننظر بعناية لواقعنا، فإنه لم يتغير كثيراً، العرب هم العرب أنفسهم، البحر هو نفس البحر، الهدف هو نفس الهدف، محو “الدولة الإسرائيلية”.[25]
ولقد كانت لتلك النظرة الاستثنائية للأمن القومي دوراً كبيراً في تشكيل أهداف الأمن القومي بشكل متطرف للغاية، عبرت عنه الشعارات المختلفة مثل “ليس مرة أخرى” في إشارة واضحة للهولوكوست، “مسادا لن تسقط مرة ثانية” في إشارة إلى واقعة استيلاء الرومان على قلعة مسادا وكبت التمرد اليهود في عام 66 ميلاديًا، تلك الشعارات كانت تحمل وجهة النظر الإسرائيلية للصراع على أنه يدخل في نطاق “اللعبة الصفرية” التي لابد لطرف ما أن ينتصر مكلفاً الطرف الآخر حياته في المقابل، وتلك الرؤية الاستثنائية وإن كانت تحمل بالأساس رؤية للعلاقات الخارجية مع الدول العربية المحيطة بإسرائيل، إلا أنها في نفس الوقت حملت رؤية المجتمع للعرب أصحاب الأرض الأصليين المتواجدين في إسرائيل وشكل العلاقة معها وكيفية التعايش معها على أرض واحدة.
الهامش
[1] Daniel Bar-Tal, Political Psychology in Israel, Political Psychology, Vol. 9, No. 4 (Dec., 1988), pp. 737-742
- أرثوذكس هو مصطلح مسيحي يعني الاعتقاد الصحيح، ومن ثم، فإن لفظة اليهود الأرثوذكس يعني اليهود ذوي الاعتقاد الصحيح، أو الذين يتمسكون بالشريعة اليهودية.
[2] عبد الوهاب المسيري، مرجع سبق ذكره، ص 1830
[3] http://felesteen.ps.
[4] http://www.alhak.org.
[5] Benjamin Beit-Hallahmi, Israel’s Ultra-Orthodox: A Jewish Ghetto Within the Zionist State, available on: http://www.merip.org/mer/mer179/israels-ultra-orthodox
[6] عبد القادر عبد العالي، التصدعات الاجتماعية وتأثيرها في النظام الحزبي الإسرائيلي (بيروت: مركز الوحدة العربية، 2011)، ص 315-316
[7] Paul Charles Merkley (ed.), Christian Attitudes towards the State of Israel (Quebec: McGill-Queen’s University Press, 2001), p. 51
[8] David Rodman, “Israel’s National Security Doctrine: An Introductory Interview”, Middle East Review of International Affairs, Vol. 5, No. 3 (September 2001), p. 70
[9] عطا محمد حسن زهرة، “نظرية الأمن القومي في التقاليد الإسرائيلية”، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،1981، ص 10-15.
[10] Gerald M. Steinberg, “The Vanunu Myths and Israeli Deterrence Policy”, Jerusalem Issue brief, Vol. 3, No. 22, April 2004, p. 2
[11] Mati Leshem, Israel’s National Security Strategy: Past and Future Perspectives (Pennsylvania: US Army War College, 1998), p. 3
[12] ميشيل ب. أورين، إبراهيم الشهابي (مترجم)، ستة أيام من الحرب: حزيران 1967 وصناعة شرق أوسط جديد (الرياض: مكتبة العبيكان، 2005)، ص 557
[13] Mati Leshem, Op. Cit., p. 9
[14] Aharon Levran, “The Decline of Israeli Deterrence”, ACPR Policy Paper, No. 113, 2011, p. 3
[15] منيب عبد الرحمن شبيب، “نظرية الأمن الإسرائيلية في ظل التسوية السلمية في الشرق الأوسط وأثرها على عملية التحول السياسي والاقتصادي للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في الفترة (1991-2002)، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والتنمية السياسية، جامعة النجاح، نابلس، 2003، ص 104
[16] Avner Yaniv, National Security and Democracy in Israel (Colorado: Lynne Rienner Publishers, 1993), p. 13
[17] محمد حسنين هيكل، حرب الخليج: أوهام القوة والنصر (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1992)، ص 257.
[18] عبد الوهاب المسيري، اليهود واليهودية والصهيونية: المجلد السابع (القاهرة: دار الشروق، 1999)، ص 55
[19] المرجع السابق، ص 85.
[20] محمود محارب، عملية صنع قرارات الأمن القومي في إسرائيل وتأثير المؤسسة العسكرية فيها (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2011)، ص 13
[21] Charles D. Freilich, “National Security Decision-Making in Israel: Processes, Pathologies, and Strengths”, Middle East Journal, Vol. 60, No. 4 (Autumn, 2006), p. 635
[22] عبد الوهاب المسيري، مرجع سبق ذكره، ص 412.
[23] منيب عبد الرحمن شبيب، مرجع سبق ذكره، ص 76-78
[24] Charles D. Freilich, Op. Cit., p. 636-637
[25] جريدة هآرتس، 25 يناير 1988.