العلاقات المدنية العسكرية في الديموقراطيات الناشئة
واحد من المواضيع المهمة في أي انتقال سياسي في مصر والتي ستحدد بشكل كبير نجاح هذه الانتقال من عدمه هو شكل العلاقات المدنية العسكرية. في ورقة سابقة تناولت استجابات الجيش المصري المتوقعة في حال إذا ما قامت احتجاجات شعبية واسعه، وما هي العوامل التي يمكن أن تغير من هذا القرار مستقبلا 1 .
أما هذه الورقة فتقدم إجابة عن سؤال رئيسي: بناء على الأوضاع الحالية وشكل العلاقات وموازين القوى في مصر بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات المدنية كيف يمكن أن تكون شكل العلاقات المدنية العسكرية إذا حدث تحول سياسي مستقبلا؟ خاصة إذا بدأ هذا التحول السياسي من خلال المؤسسة العسكرية أو بمفاوضات بين المؤسسة العسكرية وبين مجموعة من القوى السياسية؟
فلنتخيل السيناريو التالي: أنه بسبب أزمة اقتصادية حادة أو عدم قدرة الجيش على إدارة الدولة أو بسبب تغير الأوضاع الإقليمية والدولية وجدت المؤسسة العسكرية نفسها في حاجة إلى إعادة التموضع في المشهد السياسي بشكل جديد ونتيجة لذلك تم فتح النقاش عن شكل العلاقات المدنية العسكرية سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون.
إن إشكالية هذا السيناريو الرئيسية ليست في شكل وأهداف العلاقات المدنية العسكرية، التي يطمح الراغبون في التغيير في تحقيقها والوسائل التي يمكن استخدمها من أجل تحقيق هذه الأهداف، بقدر ما هي في أن المؤسسة العسكرية بكل ما لها من قوة وسيطرة ومصالح متجذرة في مصر ستكون طرف مشارك في صياغة الشكل الجديد لهذه العلاقة مما يصعب من إمكانية تحقيق هذه الأهداف المرجوة كما أنها تجعل من هذا المسار أكثر تعقيدا وتشابكا.
تقدم الورقة إجابة عن هذا السؤال وذلك باستخدام الأدبيات التي تناولت هذه العلاقة في الدول التي عانت من الحكم العسكري وبدأت في مراحل انتقال ديموقراطي وبالأخص في دول جنوب وشرق أسيا من خلال استخدام أفكار إيريل كرواسنت Aurel Croissant ، الذي يُقدم إطاراً لهذه المراحل والمجالات المختلفة، التي يتم من خلالها تحقيق (أو عدم تحقيق) السيطرة المدنية.
وأهم ما يميز هذه التصور أنه قائم على متابعه دقيقة ومستمرة لتجارب التحول الديموقراطي التي تمت في الدول الآسيوية لفترة طويلة، لذلك فهو مبني على الملاحظات العملية والتطبيقية. أيضا هذا التصور لا يجعل سيطرة المدنيين على القرار السياسي مقصورة فقط على المجال العسكري والأمن القومي بل يضيف لها أبعاداً أخرى مرتبطة بالمجال السياسي العام.
الكلمات المفتاحية: العلاقات المدنية العسكرية – التحول الديموقراطي – المراحل الانتقالية – مصر
أولا: طبيعة العلاقات المدنية العسكرية في سياق انتقالي
يتم التمييز في هذه الورقة بين “الانتقال السياسي” و”الانتقال الديموقراطي” لسبب رئيس وهو أنه في حالات كثير قد يحدث انتقال سياسي في بلد ما ولكن بسبب عدم القدرة على إدارة ملف العلاقات المدنية العسكرية أو لأي أسباب أخرى، قد لا يؤدي هذا التحول السياسي إلى انتقال ديموقراطي بالضرورة، وفي بعض الحالات قد لا يحدث نجاح في هذا الملف، أو قد يحدث نجاح جزئي لكنه لازال في حاجة إلى مزيد من الخطوات، كما حدث في مصر بعد ثورة يناير 2011 أو في بعض التجارب المماثلة في الدول الأخرى، فتكون بذلك تجربة الانتقال الديموقراطي غير مكتملة أو لاتزال في حاجة إلى مزيد من الخطوات والإجراءات.
أيضا، فإن الورقة لا تهتم بأشكال العلاقات المدنية العسكرية الموجودة في السياق الغربي أو المتأثرة بالشكل الغربي وطبيعته، فمن المستبعد أن تصلح النظريات التي تناسب دول الديمقراطية الليبرالية المستقرة منذ فترة طويلة للتطبيق مباشرة في بلد لازلت تحت نظام حكم سلطوي أو يمكن أن يمر ببدايات تحول سياسي وبناء نظام سياسي أكثر عدالة وأكثر حرية. أيضا، فإنه عند مناقشة السيطرة المدنية على العسكريين فضلنا اختيار الأدبيات التي تعاملت مع هذا الموضوع في سياق المراحل الانتقال الديموقراطي والتي تبين لماذا نجحت بعض الدول في إدارة السيطرة المدنية بنجاح وحققت تحول ديموقراطي حقيقي كما حدث في كوريا الجنوبية مثلا، بينما توقفت بعض الدول بعد أن قطعت مسافات جيدة، في حين انتكست دول أخرى لتعود السيطرة العسكرية مرة أخرى. وذلك لأن سياق المراحل الانتقالية هو أقرب إلى الطبيعة المستقبلية لشكل العلاقات المدنية العسكرية في مصر.
أخيرا، فإن الورقة لم تتعرض للأشكال القانونية والدستورية والقضائية للسيطرة المدنية على العلاقات المدنية العسكرية، باعتبار أن تغيير موازين القوى وإنشاء شكل جديد هو القادر على تغيير الإطار القانوني والدستوري لهذه العلاقة وليس العكس.
مسارات خروج العسكر من السلطة:
إن العسكر لا يخرجون من السلطة من تلقاء أنفسهم، وإنما يُدفعون إلــى ذلــك دفعــا2 ، ورغم أن الرغبة الأساسية لدى المؤسسة العسكرية في مصر هي البقاء في السلطة، إلا أنه يمكن تصور مساريين رئيسيين قد يؤديا إلى إجبارها على الخروج من السلطة:
المسار الأول: نجاح الاحتجاجات الشعبية:
أي أن تكون المؤسسة العسكرية في مواجهة احتجاجات شعبية واسعة، نجحت في تحقيق أهدافها، وبالتالي فإنه لن يكون هناك خيار آخر أمام المؤسسة العسكرية إلا الرضوخ لهذه الضغوط الشعبية، والخروج من السلطة مع عدم وجود خيارات أخرى بديلة لديها، ولأن نتيجة هذا المسار هي خروج العسكر بلا ضمانات وبلا تفاوض، مع وجود محاسبة على الجرائم السياسية والإنسانية التي تم ارتكابها، لذلك فإنه ليس مستغربا توقع أن الجيش المصري سيقف غالبا مع النظام في وجه أي احتجاجات شعبية ضده، وسيعمل على استخدام كل الوسائل الممكنة لقمع هذه الاحتجاجات وضمان عدم تهديدها للنظام 3.
وفي حالة نجاح هذه الاحتجاجات، فإنه سيكون من المهم وجود تصور عن شكل وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية، التي ينبغي العمل على بنائها والمسارات المحتملة التي يمكن أن تمر بها وأهم التحديات التي ستواجهها، يبدو هذا المسار هو المسار الأفضل والأسهل لكل الراغبين في إحداث تغيير حقيقي في شكل العلاقات المدنية العسكرية إذا ما توافرت لديهم هذه الرؤية، لكن هذا المسار مع أهميته ليس في إطار عمل هذه الورقة.
المسار الثاني: الانتقال التفاوضي:
أن تتغير الظروف وموازين القوى الحالية بما يجبر المؤسسة العسكرية على تغيير موقعها من السلطة ليتخذ أشكال أخرى، ورغم أنها قد تجبر على الانسحاب من السلطة في شكلها المباشر إلا أنها تظل متحكمة في السياسة والمسار السياسي بصورة أو بأخرى، ويكون هذا الخروج من السلطة إما من خلال المؤسسة العسكرية نفسها أو من خلال عملية تفاوضية مع المدنيين وبما يضمن أن تظل محتفظة بجزء من مصالحها ونفوذها، ويأخذ هذا المسار وقت أطول وتكون تحدياته أكثر تعقيدا.
وطبقا للتجربة التاريخية السابقة في الدول المختلفة فإن هذا المسار قد يأخذ أشكال متعددة 4، منها:
1ـ إدراك العسكريين لصعوبة بقائهم في السلطة، كما حدث في البرازيل مثلا، حيث تقوم المؤسسة العسكرية نفسها ببدء مسار الخروج من السلطة بعد أن أصبح السياق الاجتماعي والسياسي غير مواتي للحكم العسكري، وبعد أزمات اقتصادية حادة، حيث ظهر جناح إصلاحي داخل المؤسسة العسكرية مؤيد لخروج العسكريين من السلطة.
2ـ عقد اتفاق وطني للانتقال كما حدث في إسبانيا، حيث يكون ذلك داخل عملية إصلاح ممتدة يشارك فيها إصلاحيون من داخل المؤسسة العسكرية، ومدنيون من خارجها للاتفاق على مسار سياسي وخطوات إصلاحية داخل هذا المسار.
3ـ النجاح (أو الفشل) في الاقتصاد، فبينما قد يكون مفهوم أن الفشل الاقتصادي قد يساهم في تصاعد الغضب الشعبي مما يزيد من الضغط على المؤسسة العسكرية للخروج من السلطة، فإن النجاح الاقتصادي أيضا قد يؤدي إلى الضغط على المؤسسة العسكرية من خلال ظهور طبقة وسطي واسعة ومطالب شعبية للمشاركة السياسية كما حدث في كوريا الجنوبية مثلا.
4ـ تحييد العامل الخارجي أو كسبه/ فإن مساندة العامل الإقليمي والدولي للانتقال السياسي أو عدم ممانعته كان عامل حاسم في عمليات الانتقال في المناطق المختلفة، فدعم الولايات المتحدة وأروبا الغربية للانتقال الديموقراطي في أوربا الشرقية في مواجهه الشيوعية، والاتفاق الذي حدث بين الولايات المتحدة ودول أمريكا الجنوبية التي توقفت فيه الولايات المتحدة عن دعم الحكومات العسكرية المستبدة كانت من العوامل الهامة التي ساهمت في إنجاح عملية الانتقال الديموقراطي. بالإضافة إلى العقوبات التي واجهت جنوب أفريقيا من المجتمع الدولي وغيرها من الأمثلة.
مع هذا لابد من التأكيد أن التغير يبدأ من الداخل، فهو غير ممكن من دون رأي عام داخلي مناد بالتغير، وولادة قوى سياسية قادرة على وضع برنامج سياسي حقيقي بديل للحكم العسكري. ومتى وُجد هذا العامل الداخلي فإنه كفيل بتحييد العقبات التي قد تأتي من الخارج5
وبغض النظر عن الشكل الذي يمكن أن يسير فيه أي مسار من هذه المسارات الأربع السابقة، أو حتى في حالة حدوث شكل جديد يناسب الحالة المصرية فإنه من المهم وجود تصورات وأفكار مسبقة عن الممكنات المتاحة لتغيير شكل العلاقات المدنية العسكرية في مصر، ، فلنتخيل السيناريو التالي: أنه بسبب أزمة اقتصادية حادة أو عدم قدرة الجيش على إدارة الدولة أو بسبب تغير الأوضاع الإقليمية والدولية وجدت المؤسسة العسكرية نفسها في حاجة إلى إعادة التموضع في المشهد السياسي بشكل جديد ونتيجة لذلك تم فتح النقاش عن شكل العلاقات المدنية العسكرية سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون. وفي ظروف كهذه فإن صعوبة هذا المسار تكمن في أن المؤسسة العسكرية ستكون طرف أساسي في عملية الانتقال بحيث لا يمكن استمراره بدونها وهذا هو الذي يزيد من تعقيد هذا المسار ووجوب التفكير فيه بشكل معمق ومن زوايا مختلفة.
ولمعرفة الإمكانيات المتاحة طبقا للمعطيات والظروف الحالية فإن البحث سيجيب عن السؤال التالي كيف أمكن إحداث السيطرة المدنية على العلاقات المدنية العسكرية في دول الديموقراطيات الناشئة؟ وما لذي يمكن الاستفادة منه في مصر؟
ثانيا: السيطرة المدنية في الديموقراطيات الناشئة: مصر نموذجا
ينقسم هذا القسم إلى جزئين، الأول يتناول الإطار النظري المستخدم، وفي الجزء الثاني تطبيق على الحالة المصرية. ولا تهتم الورقة بالعلاقات المدنية العسكرية في مصر طبقاً للظرف السياسي الحالي الذي لا يوفر أي إمكانية لشكل أخر غير السيطرة العسكرية على الحياة المدنية في مصر، لكنها مع ذلك تستهدف مصر كحالة دراسية إذا تغير هذا الوضع الحالي مستقبلا وسمح لإمكانية قيام أشكال جديدة للعلاقات المدنية العسكرية.
1-الإطار النظري
في محاولة لتقديم تصور للمراحل التي يمكن أن تمر بها السيطرة المدنية على العلاقات العسكرية في الدول التي بدأت انتقال سياسي خاصة في دول جنوب وشرق أسيا فإن ايريل كرواسنت Aurel Croissant مع آخرين، يُقدم إطاراً جيداً لهذه المراحل والمجالات المختلفة التي سيتم من خلالها تحقيق (أو عدم تحقيق) السيطرة المدنية. أهم ما يميز هذا التصور أنه قائم على متابعه دقيقة ومستمرة لتجارب التحول الديموقراطي التي تمت في الدول الآسيوية لفترة طويلة، لذلك فهو مبني على الملاحظات العملية والتطبيقية. أيضا أن هذا التصور لا يجعل سيطرة المدنيين على القرار السياسي مقصورة فقط على المجال العسكري والأمن القومي، بل يُضيف لها أبعاداً أخرى مرتبطة بالمجال السياسي العام.
طبقا لهذا التصور فإن سيطرة المدنيين تعني توزيع قوة/سلطة اتخاذ القرار بطريقة تجعل للمدنيين السلطة الوحيدة المسؤولة عن اتخاذ القرارات في السياسات الوطنية وتطبيقها. وتحت سيطرة المدنيين يستطيع المدنيون بحرية تفويض قوة/سلطة اتخاذ القرار وتنفيذها في سياسات معينة للعسكريين لكن في نفس الوقت ليس للعسكريين أي قوة/سلطة لاتخاذ القرار خارج هذه السياسات المحددة من قبل المدنيين. بالإضافة إلى ذلك، فإن المدنيين وحدهم هم من يحدد أي السياسات _أو جزء من السياسات_ التي سيطبقها العسكريون، والمدنيون فقط هم من يضعون الحدود بين صنع السياسات وبين تطبيقها” 6.
وتحقيق سيطرة المدنيين على الشؤون العسكرية واحدة من مواضيع العلاقات المدنية العسكرية، وهي ضامن لنجاح عملية الانتقال الديموقراطي. لذلك فمن المهم أيضا أن نفرق بينها وبين مواضيع أخرى لا تدخل في مفهوم سيطرة المدنيين7 :
- فالسيطرة المدنية لا تعني بالضرورة السيطرة الديموقراطية، فإذا كانت الديموقراطية غير ممكنه من غير وجود السيطرة المدنية، فإن وجود السيطرة المدنية لا يعني بالضرورة وجود السيطرة الديموقراطية. فأغلب الدول الاستبدادية توجد فيها سيطرة مدنية على الجيوش، كما كانت هذه الظاهرة موجودة أيضا في دول الكتلة الشيوعية سابقا. ليس هذا محاولة لتبرير السيطرة المدنية غير الديموقراطية ولكن لتأكيد أن التحول الديموقراطي لن يحدث بدون سيطرة المدنيين ولكن سيطرة المدنيين لا تعني بالضرورة نجاح التحول الديموقراطي.
- السيطرة المدنية أيضا ليست هي الموضوع الوحيد في العلاقات المدنية العسكرية، فهناك المواضيع المتعلقة بالكفاءة العسكرية، ومواضيع أخرى متعلقة بالفاعلية، ومن الأسئلة المهمة في مجال العلاقات المدنية العسكرية من الذي يراقب الحارس؟ وغيرها. من المهم هنا التأكيد على أن وجود السيطرة المدنية لا يعني وجود كفاءة وفاعلية في مجال العلاقات المدنية العسكرية بالضرورة، ولا يعني أيضا وجود حوكمة رشيدة في المجال العسكري
- أن السيطرة المدنية ما تعنية فعليا هو وجود رقابة من المدنيين على أعمال المؤسسة العسكرية، وهذا الرقابة لا تشمل السياسيين فقط بل يجب أن تشمل المدنيين أيضا في المجتمع المدني أو في المؤسسات التشريعية كالبرلمان أو المؤسسات الرقابية. وأن تكون هناك شفافية في اتخاذ القرار داخل المؤسسة العسكرية وغير ذلك من المعايير.
- تعنى فكرة السيطرة المدنية أن الدور الأساسي العسكريين هي حماية المجتمع بالأساس من التهديد الخارجي لكن هذا لا يعني أنه ليس هناك دور سياسي لهم. ففي إسرائيل مثلا _وهي دولة تتبع نموذج الديموقراطية الغربية الليبرالية بسيطرة مدنية على العلاقات العسكرية_ يلعب الجيش دور كبير في السياسة داخل هذا النموذج. لكن وجود هذا الدور السياسي يتم من خلال سيطرة المدنيين على اتخاذ القرار النهائي.
من خلال معرفة ما تعنية السيطرة المدنية ومالا تعنيه فطبقا لهذا التصور فإنه هناك خمسة مجالات رئيسية تتم بها سيطرة المدنيين من خلال إحداث توازن جديد في شكل العلاقة، هذا المجالات هي8 :
- اختيار النخبة وتوظيفها: وهو المجال الذي يحدد القواعد والمعايير والعمليات التي يتم من خلالها توظيف واختيار وإعطاء شرعية للعاملين في الوظائف السياسية. هذه المعايير تحدد إذا ما كان المجال السياسي مفتوح للمنافسة السياسية أم لا، حجم المشاركة السياسية، ومدى قدرة هذا المجال على استيعاب التنوعات المختلفة للفاعلين السياسيين. فإذا كان هناك سيطرة للعسكريين على سبيل المثال فإذا ذلك يعنى أن دخول العملية السياسية ليس متاح لكل السياسيين، وأن الاختيارات تمر من خلال المؤسسة العسكرية وان هذا المجال مقصور على قطاعات محددة مثل العسكريين فقط أو القطاعات المؤيدة لها مع استبعاد أطراف مختلفة.
- السياسات العامة: وتشمل القواعد والعمليات صنع السياسات العامة (وضع الأجندة الحكومية، إعداد السياسات العامة…الخ) وتنفيذ السياسات العامة. إذا كان هناك نفوذ للعسكريين على هذه الإجراءات فإن هذا يعطي فرصة أكبر للعسكريين في التأثير فيها أو وضع فيتو على بعضها أو حتى تحديد السياسات الاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي فإن درجة سيطرة المدنيين تعتمد على مدى قدرتهم على إخراج العسكريين / أو تقليل نفوذهم على هذه الإجراءات.
- الأمن الداخلي: تشمل كل القرارات والمعايير الخاصة بالاستخدام الممكن للجيش من أجل ضبط الأمن والسلام والنظام داخل الحدود الوطنية (الأمن الداخلي) بالإضافة إلى تقديم العسكريين للدعم اللوجيستي وترميم/تجديد البنية التحتية المدنية خلال عمليات التنمية. وتكمن السيطرة المدنية في مدى مقدرتها على وضع الأهداف والوسائل والحدود للعسكريين التي تحكم العمل في هذه العمليات.
- الدفاع القومي: وهي تعني تقليديا الدفاع عن حدود الدولة ضد التهديد الخارجي، وهي تقليديا الوظيفة الأولي للعسكريين. وفي هذا المجال فإنه من المهم من اجل سيطرة المدنيين معرفة مدى قدرتهم على اتخاذ القرارات في هذا المجال.
- المؤسسة العسكرية: وتشمل السياسات التي تحدد الأهداف والأدوار وأشكال العسكريين. وتشمل قرارات حول اللوجستيات والتدريب والمعدات الحربية بالإضافة على إدارة الموارد البشرية والترقيات داخل المؤسسة العسكرية. وعلى الرغم من أهمية أن تحظى المؤسسة العسكرية باستقلال ذاتي لإدارة هذه الملفات فإن من المهم من اجل سيطرة المدنيين إن يكون لديم القدرة على تحديد مدى وحدود هذه الإجراءات.
وحتى نقول إن هناك سيطرة مدنية، على الأقل نظرياً، فإنه يجب أن تكون سيطرة المدنيين موجودة في هذه المجالات الخمسة دون مساءلة أو تشكيك من العسكريين. لكل في الحقيقة/ فإنه في أغلب الديموقراطيات الناشئة لا تكون الأمور على هذا الوضع، ويكون هناك الكثير من الاختلاف والغموض.
كما يقول عدد من الباحثين9 ، فإن عملية مأسسة السيطرة المدنية في الديموقراطيات الناشئة هي عملية تدريجية وممتدة وتتكون من مرحلتين متمايزتين لكل منهم مشاكلها الخاصة بها:
فمشاكل المرحلة الأولى هي تأمين عدم حدوث تدخل عسكري على الحكومة الديموقراطية المدنية، ومأسسة عملية السيطرة المدنية، وهو ما يعني طبقا للمجالات السابقة إحكام المدنيين السيطرة على اختيار النخبة وتوظيفها وعلى السياسات العامة.
أما مشكلة المرحلة الثانية فتشمل توسيع مأسسة السيطرة المدنية لتشمل المجالات الباقية: الأمن الداخلي، الدفاع القومي، والمؤسسة العسكرية. وكما يقول الكثيرون فإنه ينبغي في البداية حل مشاكل المرحلة الأولى قبل البدء في حل مشاكل المرحلة الثانية. فهي متطلب هام ينبغي إنجازه قبل الانتقال إلى المرحلة التالية. وبمعنى أخر فإنه متطلبات المرحلة الأولى ضرورية لكنها غير كافية من أجل ضمان السيطرة المدنية. فطبقا للخبرات التاريخية المختلفة خاصة في دول شرق أسيا (إندونيسيا، الفلبين، تايلاند، كوريا الجنوبية، وتايوان) نلاحظ أن هناك تمايز في حالة كل بلد ومدى قدرتها على إنجاز السيطرة المدنية، وأنه فيما استطاعت بعض هذه الدول إحكام السيطرة المدنية في المجالات الخمسة (كوريا الجنوبية وتايوان) فإن إندونيسيا لم تستطع تحقيق السيطرة إلا في أول مجالين فقط، في حين تتراوح درجة السيطرة بنسب مختلفة في تايلاند والفلبين مما يدل على ضعف السيطرة المدنية الذي يهدد بفشل الانتقال الديموقراطي. 10
جدول رقم (1): قدرة اتخاذ القرار بين المدنيين والعسكريين في تايلاند، الفلبين، إندونيسيا، تايوان، كوريا الجنوبية في دراسة منشورة عام 2012. (Aurel Croissant 2012)
2- الحالة المصرية
في مصر حاليا، تتحكم المؤسسة العسكرية بشكل كامل في المجالات الخمسة الخاصة بالسيطرة المدنية، وهنا تبرز مجموعة من الملاحظات الأساسية:
(أ) في مجال اختيار النخبة وتوظيفها فإن المؤسسة العسكرية من البداية هي التي حددت حدود المجال السياسي ومن المسموح له بالمشاركة إبتداءً فاستبعدت بذلك تيارات إسلامية بالكامل ليس فقط من المشاركة في الحياة السياسية، بل ومن الوجود الفعلي عبر القتل والتصفية الجسدية والاعتقال، وعبر الحرمان من الوصول إلى المناصب التنفيذية المهمة أو الجهات الإدارية المتخصصة.
(ب) السياسات العامة للدولة فتخضع للسيطرة الكاملة للمؤسسة العسكرية بحيث تتحول الوزارات إلى جهات تنفيذية في أحيان كثيرة تُنفذ السياسات والرؤى الموجودة لدى المؤسسة العسكرية أو تعمل بحرية فقط في المجالات التي تترك لها المؤسسة العسكرية حرية الحركة بها. أيضا، تشارك المؤسسة العسكرية في أحيان كثيرة، من خلال الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، في تنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية والمشاريع الكبيرة.
(ج) إذا أراد الجيش التموضع مرة أخرى في المشهد المصري فإنه في المرحلة الأولي قد يتخلى عن السيطرة على المشهد السياسي والانتخابات والنخبة الحاكمة بشكل مباشر ليترك ذلك للمدنيين، ومع هذا فستظل السيطرة غير المباشرة موجودة عبر قيادات الجيش السابقة الموجودة في الأحزاب المختلفة أو عبر التأثير غير المباشر أو التحالفات غير العلنية مع بعض التيارات السياسية.
(د) واحد من التحديات التي ستكون في تلك المرحلة هو وجود انتخابات رئاسية حقيقية بمنافسة جاده بين المدنيين أن المؤسسة العسكرية المصرية لديها مشكلة مع فكرة الانتخابات بالأساس فطوال عهد مبارك كان يتم التمديد له عبر الاستفتاء إلا أن تغير ذلك بسبب الضغط الخارجي في أخر انتخابات رئاسية قبل ثورة يناير، لتتم انتخابات تعددية لكن محسومة النتائج مقدما، وهو الشكل الذي استمر بعد 3 يوليو في انتخابات 2014 و2018. فإجبار موسى مصطفى موسي للدخول في اليوم الأخير للترشح كان يهدف إلى إبقاء “شكل” الانتخابات لكن “بـ”مضمون” الاستفتاء. وإذا كان يمكن تخيل إن يتنازل الجيش عن السيطرة على الانتخابات البرلمانية لصالح قوى مدنية فإنه من الصعب تصور حدوث ذلك على مستوى الانتخابات الرئاسية.
مع ملاحظة، أن السيطرة على الحياة السياسية الحزبية في تلك الحالة ستأخذ شكل أقل وضوحا من خلال التحكم في مجموعة من الأحزاب السياسية التابعة بصورة غير مباشرة للمؤسسة العسكرية. أما على مستوى الرئاسة فإن الحل الذي سيظل حاضر دائما في عقلية المؤسسة العسكرية هو تقديم أحد العسكريين السابقين في صورة مدني كما حدث في حالة شفيق في انتخابات 2012.
(هـ) إن العلاقة الوثيقة بين الأحزاب اليسارية والليبرالية التقليدية من جهة والمؤسسة العسكرية من جهة هي واحده من أسباب استمرار الهيمنة العسكرية على السياسية حتى الآن. فرغم أن هذه القوى السياسية المدنية غير محسوبة على المؤسسة العسكرية بشكل مباشر، إلا أنه طالما تم استخدمها من قبل المؤسسة العسكرية منذ عبد الناصر وحتى السيسي كواجهة مدنية للحكم العسكري.
(و) إن تفكيك هذه العلاقة بين المؤسسة العسكرية والنخب السياسية العلمانية واليسارية التقليدية شرط ضروري لضمان سيطرة المدنيين على الحياة السياسية وإلا فإن إمكانية إعادة تدخل الجيش بشكل مباشر في الحياة السياسية تظل وارده بسبب استدعاء السياسيين له.
(ز) إذا كانت الأزمة الاقتصادية التي سببت هذا التغير في موقف الجيش كبيرة أو الضغط الدولي والإقليمي مرتفع فإن الجيش قد يتخلى عن جزء من السياسات العامة للدولة، لكن المسار التاريخي في مصر والثقافة الموجودة لدى المؤسسة العسكرية سيجعل هذا التخلي جزئيا ليظل الجيش محتفظا بالسيطرة على السياسات العامة للدولة بشكل غير مباشر، وستكون واحدة من أهم الخطوات من أجل ضمان سيطرة مدنية على العلاقات العسكرية هو إحكام المدنيين للسيطرة على السياسات العامة للدولة، وسيتطلب ذلك عدداً من العوامل منها أن تتغير الثقافة الموجودة لدى المؤسسة العسكرية في عدم الثقة بالمدنيين أو أن يُجبر على تغيير هذه القناعات بسبب الظروف المحيطة.
أيضا، أن يكون لدى المدنيين سياسات وأفكار مناسبة تُساهم في حل المشاكل الموجودة بطرق أكثر فاعلية من تلك التي كان يقوم بها الجيش، وأن تستطيع هذه السياسات تحقيق نتائج ملموسة تكسب بها ثقة المواطنين وتعزز من موقفها أمام المؤسسة العسكرية.
(ح) من المستبعد أن يترك المجال بالكامل للنخبة السياسية المدنية وأن تحدث هذه السيطرة على السياسات العامة بدون مقاومة من المؤسسة العسكرية، قد تجبرها الظروف إلى الأساليب الخفية والمقاومة غير المعلنة من أجل الإبقاء على حد مناسب من السيطرة العسكرية على هذه المجالات، لكن على الجانب الآخر فإن رغبة المؤسسة العسكرية في التخلص من الحكم المباشر وتركه للمدنيين قد يضعف هذه المقاومة في أحيان كثيرة.
عموما، فإن نجاح المرحلة الأولي من السيطرة المدنية سيعتمد على عاملين:
الأول، هو مدى عمق وخطورة الأزمة التي تمر بها المؤسسة العسكرية والتي أجبرتها على تقديم هذه التنازلات، فكلما كانت الأزمة كبيرة وواسعه سهل ذلك من نجاح هذه المرحلة.
العامل الثاني: هو مدى قدرة المدنيين (سواء من الأحزاب السياسية أو صناع السياسات أو منظمات المجتمع المدني…الخ) على اقتناص الفرصة من اجل تعزيز نفوذهم داخل المجال السياسي وإضعاف تأثير المؤسسة العسكرية به، وفي السيطرة على السياسات العامة للدولة عبر تقديم أفكار وسياسات بديلة يقوم عليها أفراد مؤهلون لذلك، بحيث تستطيع تحقيق نجاحات في فترات قصيرة تساهم في كسب ثقة المواطنين وتضعف بشكل أكبر من النفوذ العسكري على هذه المجالات.
خاتمة:
توجد مواضيع هامة يجب أن تكون على قائمة أي أجندة مقترحة لتفكيك سيطرة المؤسسة العسكرية على السياسات العامة والبيروقراطية في مصر:
أولا: دور ومواقع العسكريين السابقين في الجهاز الإداري للدولة والسيطرة المباشرة وغير المباشرة التي يتمتع بها هؤلاء في أماكنهم.
ثانيا: سيطرة العسكريين بصورة غير مباشرة على المحليات سواء في صورة المحافظ وسكرتير المحافظ أو في صور أقل وضوحا، أو من خلال أدوار غير مباشرة.
ثالثا: سيطرة العسكريين على تنفيذ المشاريع العامة للدولة من خلال هيئات مختلفة مثل الهيئة الهندسية للقوات المسلحة أو من خلال أدوارها في المشاريع القومية الكبرى، وإلا أي مدى تخضع هذه المشاركة لعملية الكفاءة والجودة.
رابعا: تفكيك سيطرة العسكريين السابقين على عملية صنع السياسات العامة داخل الوزارات والهيئات التنفيذية والخدمية مثل وزارة الصحة أو التموين والضمان الاجتماعي والمالية وغيرها.
بهذا الشكل فإن المرحلة الأولي سوف تحتاج إلى مدى زمني طويل حتى تحدث فيه السيطرة المدنية بشكل كامل، وطبقا للتجارب التاريخية في آسيا فإن هذا قد يستغرق سنوات عديدة، وفي أثناء هذه الفترة فإن احتمالية حدوث ارتدادات في شكل العلاقة تظل كبيرة، ويظل التراجع واردا. ولا يمكن تصور الانتقال إلى المرحلة الثانية من السيطرة المدنية دون النجاح الكامل في المرحلة الأولى.
أما أهم التحديات التي ستكون في هذه المرحلة فهي أن تستطيع النخبة السياسية توسيع المساحات المتاحة لهم في العمل السياسي والعمل على إضعاف تأثير الجيش فيها سواء في الانتخابات أو في تشكيل المجالس المنتخبة أو في السيطرة على الأحزاب السياسية، وهذا التحدي رغم أهميته يظل أقل صعوبة من التحدي الثاني والأهم وهو إخضاع عملية صنع السياسات العامة للدولة سواء على مستوى التخطيط والأهداف أو على مستوى التنفيذ للسيطرة المدنية، أن هذا التحدي يعني عمليا أن يقوم المدنيين باستلام جهاز الدولة الإداري لأول مرة منذ عام 1952 من العسكر ليكون هم القائمين على إدارته(11 ).
الهامش
1 أحمد محسن. 2018. كيف يستجيب الجيش المصري للثورة القادمة؟ المعهد المصري للدراسات، 9 فبراير 2018. تاريخ الوصول 2018. الرابط.
2 عبدالفتاح ماضي. 2017. “الجيوش والإنتقال الديمقراطي: كيف تخرج الجيوش من السلطة؟” سياسات عربية، كانون الثاني/ يناير: 7-27. تاريخ الوصول 2018. الرابط
3 أحمد محسن. 2018. كيف يستجيب الجيش المصري للثورة القادمة؟ 9 فبراير. تاريخ الوصول 2018. الرابط
4 عبدالفتاح ماضي. 2017. “الجيوش والإنتقال الديمقراطي: كيف تخرج الجيوش من السلطة؟” سياسات عربية، كانون الثاني/ يناير: 7-27. تاريخ الوصول 2018. الرابط
5 عبدالفتاح ماضي. 2017. “الجيوش والإنتقال الديمقراطي: كيف تخرج الجيوش من السلطة؟” سياسات عربية، كانون الثاني/ يناير: 7-27. تاريخ الوصول 2018. الرابط
6 Aurel Croissant, David Kuehn, and Philip Lorenz. 2012. “Breaking With the Past? Civil-Military Relations in The Emerging Democracies of East Asia.” Policy Studies 63, No. 63 ed. Link
7 Aurel Croissant, David Kuehn, and Philip Lorenz. 2012. “Breaking With the Past? Civil-Military Relations in The Emerging Democracies of East Asia.” Policy Studies 63, No. 63 ed. Link
8 Aurel Croissant, David Kuehn, and Philip Lorenz. 2012. “Breaking With the Past? Civil-Military Relations in The Emerging Democracies of East Asia.” Policy Studies 63, No. 63 ed. Link
9 Kuehn, Aurel Croissant and David. 2009. “Patterns of Civilian Control of the Military in East Asia’s New Democracies.” Journal of East Asian Studies, 187–217.
10 من المثير للتأمل كيف أوضحت الدراسة المنشورة في عام 2012 أن سيطرة المدنيين في تايلاند هي الأسو بين الدول الخمسة وأنها تعاني من مشاكل كبيرة، ثم يحدث بعد ذلك انقلاب عسكري في 2014 يقضي على الانتقال الديموقراطي في تايلاند ليثبت ما توصلت إليه الدراسة عن المشاكل الكبيرة في السيطرة المدني في تايلاند.
11 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات