العلاقات المصرية ـ السورية 2014-2021
تمهيد:
تُمثّل مصر وسوريا قوّتين عربيتين أساسيتين، في الدائرتين العربية والإقليمية، سواء فيما يتعلق بالصراع العربي والإسلامي–الإسرائيلي، أو القضايا والشؤون العربية البيْنية، وفي هذا الإطار يمكن تعداد الكثير من المعطيات أو الميزات الذاتية والموضوعية (الموقع الجيوسياسي، الموارد الطبيعية والبشرية، التماس المباشر مع إسرائيل،…)، التي تجعل كلاً من مصر و سوريا قوّة لا يمكن تجاهل تأثيرها الحاسم في تطورات المنطقة وتحوّلاتها، سواء في حالات السلم أو في حالات الحرب.
وفي السياق، تُعدّ العلاقات المصرية-السورية نموذجاً يُحتذى به لعلاقات قوية ووثيقة منذ القدم، حيث ترتبط الدولتان بأواصر تاريخية ثقافية وعلاقات متميزة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي ساعدت على انتقال الأفراد والمبادلات الاقتصادية والحضارية بين البلدين، مما يؤكد المصير الواحد والمشترك لهما.
أولاً: تحولات العلاقات المصرية ـ السورية قبل 2014
اتسمت العلاقات المصرية- السورية على طول تاريخها بأنها علاقات متميزة تجد جذورها في التاريخ المشترك؛ ولذلك لم تأتِ تجربة الوحدة التي قامت بين مصر وسوريا في عام 1958 من فراغ. ولم يكن قيام الجمهورية العربية المتحدة إلاّ حلقة في سلسلة طويلة ومتصلة، تشكّل رباطاً تاريخياً قدرياً وحتمياً يربط بين مصر وسوريا، ويصنع ملامح وتفاعلات العلاقات بين البلدين.
وعلى الرغم من قيام حركة الانفصال في سوريا في عام 1961، ثم قيام ثورة 8/3/1963، لم يكن من المستبعد أن تلي ذلك محاولات أخرى لإعادة وضع إطار تنظيمي آخر يحكم العلاقات المصرية–السورية، مثل ميثاق 17 نيسان / أبريل 1963، وهو ما سمّي باتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا والعراق، وكذلك اتفاقية اتحاد الجمهوريات العربية الموقّعة في بنغازي في17 نيسان / أبريل 1971 بين مصر وسوريا وليبيا. وإذا كانت هذه التجارب جميعاً لم يُكتب لها النجاح، فإن المغزى الواضح منها هو تأكيد أهمية العلاقة المصرية-السورية كعلاقة حيوية ومحورية إزاء التحديات المشتركة على الساحتين الإقليمية والدولية [1].
وقد بلغ التكامل والتعاون أعلى مراحله، حيث كانت الوحدة في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عام 1958، وشهدت علاقات البلدين مراحل شدّ وجذب كثيرة، كان أخطرها وأقواها انفصال البلدين عن بعضهما في 28 أيلول / سبتمبر 1961، بعد الوحدة التي جمعتهما وتمخّض عنها “الجمهورية العربية المتحدة”. لكن قيام انقلاب عسكري في دمشق أنهى حلم الوحدة العربية، وعلى الرغم من إعلان سوريا انتهاء الوحدة، وسمّت نفسها “الجمهورية العربية السورية”، إلاّ أن مصر احتفظت باسم “الجمهورية العربية المتحدة” حتى عام 1971، حيث غيّر السادات الاسم إلى “جمهورية مصر العربية”.
ودخلت العلاقات مرحلة جديدة عقب نكسة 1967، التي فقدت فيها مصر سيناء وفقدت سوريا الجولان، بعد أن احتلّتهما إسرائيل. وبلغت العلاقات مستوىً مرتفعاً عقب قيام حافظ الأسد بانقلاب عسكري أطلق عليه حركة التصحيح في 16/11/1970، واستمر تحسّن العلاقات والتعاون الإيجابي الذي بلغ ذروته مع انطلاق حرب السادس من تشرين الأول / أكتوبر عام 1973، وتحقيق نصر عسكري عربي على إسرائيل.
ثم عادت العلاقات إلى نقطة الصفر مرّة أخرى، ووصلت حدّ التناقض في وجهات النظر السياسية بين دمشق والقاهرة حول قضية التسوية السلمية مع إسرائيل. وظلّت العلاقات شبه مقطوعة، خاصة بعد قيام مصر بتوقيع سلام منفرد مع إسرائيل وتوقيع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد (17 أيلول/سبتمبر 1978). إلاّ أن الرئيس السوري حافظ الأسد عرف كيف يتجاوز هذه القطيعة تجاوزاً توّج بعودة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة ودمشق في أواخر عام 1989؛ وتحسنت العلاقات بصورة غير مسبوقة وازداد التعاون السياسي والاقتصادي، حتى رحيل حافظ الأسد في 10 يونيو / حزيران 2000.
وكانت مصر قد تدخلت لإنقاذ سوريا من حرب مع تركيا بعد تدهور العلاقات بين أنقرة ودمشق بفعل فاعل؛ وكانت إسرائيل هي التي دفعت البلدين للعداء. ولعبت مصر دور الوساطة الجادّة حتى أنهت الاحتقان [2]. [بسبب قضية لواء إسكندرونة، وحزب العمّال الكردستاني-1998].
وفي مرحلة حكم الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، التي تلت الثورة الشعبية العارمة ضد حسني مبارك (يناير/كانون الثاني 2011)، بادر مرسي، الذي فاز في الانتخابات التي جرت بعد إسقاط مبارك، في خطاباته إلى إدانة النظام السوري، وأعلن تأييده للثورة الشعبية ضده.
ولاحقاً، قال مرسي إنه وقادة الاتحاد الأوروبي “مصمّمون” على رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، وجاء ذلك خلال مؤتمر صحافي عقده مرسي مع رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه باروسو، في أوّل زيارة يقوم بها مرسي لأوروبا منذ أن أصبح رئيساً لمصر، وشدّد الطرفان على ضرورة تغيير نظام الرئيس السوري بشار الأسد، حيث قال باروسو: “لا بدّ أن يرحل الأسد”؛ ومن جانبه، أكد مرسي ذلك بقوله: “نحن مصرّون على أن يتغير النظام في سوريا. رحيل الأسد أمرٌ تم الاتفاق عليه، حيث لا مجال للحديث عن إصلاحات في سوريا. النظام يجب أن يتغير”[3].
وبعد مضي أقل من عام، قال مرسي في كلمة ألقاها في مؤتمر “لنصرة سوريا” إن مصر “قرّرت قطع العلاقات تماماً مع النظام الحالي في سوريا وإغلاق سفارة النظام في مصر وسحب القائم بالأعمال المصري” في دمشق. وأكد أن بلاده بدأت اتصالات مع دول عربية وإسلامية “لعقد قمّة طارئة لنصرة” الشعب السوري.
وفي كلمة ألقاها أمام الآلاف الذين احتشدوا في إستاد القاهرة في مؤتمر “لنصرة سوريا”، دعا مرسي مجلس الأمن الدولي إلى “فرض (منطقة) حظر جويّ” فوق سوريا. وأكد أنه “لا مجال ولا مكان” للنظام السوري الحالي في سوريا مستقبلاً، معتبراً أن هذا النظام ارتكب “جرائم ضد الإنسانية”[4].
لكن حكم مرسي لم يستمر طويلاً، حيث تم الانقلاب عليه بعد عام واحد فقط من قِبل الجيش بقيادة وزير الدفاع آنذاك عبد الفتّاح السيسي. وفي 8 يونيو/حزيران 2014، بعد تسلم السيسي الحكم رسميا عقب انتخابات رئاسية أجرِيت على عجل، أعلن السيسي عن إعادة جزئية للعلاقات مع سوريا، مع أخذه جانب الجيش السوري الذي يواجه الجماعات المسلّحة، وبما يناقض تماما مواقف مرسي.
وكان الصحافي المعروف محمد حسنين هيكل قد كشف أن السيسي عارض قرار قطع علاقات مصر مع نظام بشار الأسد حين كان وزيراً للدفاع في عهد الرئيس مرسي. وقال هيكل إن مرسي قام بإخبار السيسي بقطع العلاقات مع نظام دمشق قبل الإعلان رسمياً بمدة زمنية قصيرة.
وخلال حواره مع فضائية “سي بي سي”، صرّح هيكل أن وزير الدفاع السيسي عارض قرار الرئيس مرسي في قطع العلاقات مع النظام السوري، وأكد له أن سوريا انتقلت لمرحلة صراع بين قوّتين، وقطع العلاقات المصرية لن يفيد أياً من الطرفين في الوقت الحالي؛ ولكن رئيس الجمهورية مرسي رفض الانصياع لنصيحة السيسي، على حدّ تعبير هيكل.
وكانت وكالة “رويترز” قد نقلت عن ضبّاط مصريين إقرارهم بأن موقف الجيش تغيّر من عهد الرئيس مرسي على خلفية مواقفه الأخيرة من الثورة السورية، ولاسيّما قرار قطعه العلاقات مع نظام بشار الأسد، الذي أعلن عنه ضمن مؤتمر حاشد تحت مسمّى “نصرة سوريا”[5].
ثانياً: مؤشرات تحول العلاقات المصرية-السورية بعد 2014
1ـ تصريحات السيسي
أكد عبد الفتّاح السيسي للوفد الإعلامي الذي رافقه في زيارته الأولى للولايات المتحدة (أيلول / سبتمبر 2014) في خضمّ الحرب السورية، بوضوح أن سوريا تمثّل عمقاً استراتيجياً لمصر، ودعا إلى احترام وحدة أراضيها، وأكد ارتباط الأمن القومي المصري بوحدة الدولة السورية وعدم تقسيمها أو تفتيتها، بغضّ النظر عن النظام الذي يحكمها، سواء النظام الحالي أو غيره من الأنظمة التي تحقّق هذه الوحدة.
كما أكد اللواء محمد الغباري، مدير كليّة الدفاع الوطني الأسبق في أكاديمية ناصر العسكرية، أن مسألة الارتباط بين البلدين على اعتبار أن سوريا تمثّل عمقاً استراتيجياً لمصر، تنبع أولاً من وجود اتفاقية للدفاع المشترك بين البلدين، وأن هذه الاتفاقية مقدّمة في أهميتها على معاهدة السلام، اتفاقية “كامب ديفيد”، مع إسرائيل.
وأكد الغباري أن سوريا تمثّل تهديداً مباشراً على العمق الإسرائيلي، وأن وجود تحالفات بين مصر وسوريا يعنى إمكانية الوصول إلى العمق الإسرائيلي في أي لحظة إذا ما بادرت بخرق اتفاقيات السلام، وأن هذا التعاون ساهم بشكل مؤثّر أثناء حرب أكتوبر / تشرين الأول 1973.
وأوضح الغباري أن من مصلحة مصر حالياً استمرار وجود الدولة السورية مستقلة ومتماسكة، بغضّ النظر عن الصراعات السياسية وبعيداً عن الفصائل المتناحرة، وبغضّ النظر عن النظام الذي يقودها [6].
2ـ مصر تدعم الجيش السوري في مواجهة “الإرهاب”
مع تواصل الحرب في سوريا من دون حصول تحوّل حاسم، بدأت القاهرة تتحدث عن أهمية إيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، وعدم المساس بما سمّته “الجيش الوطني السوري”؛ وفي الوقت نفسه، ضمّت بعض التيارات السياسية السورية المعارضة، مثل “تيار الغد” و “منصّة القاهرة”.
ونهاية العام 2016، أكد بشار الأسد، في تصريحات صحافية، أن العلاقات السورية-المصرية بدأت تتحسن، موضحاً أن هذه العلاقات تقتصر حالياً على التعاون الأمني، ومعترفاً بالدعم الذي يتلقّاه جيشه من الجيش المصري [7].
في الأعوام الأخيرة، وبعدما ثبّت النظام السوري وجوده في مواجهة الجماعات “الجهادية” المسلّحة وفصائل المعارضة، ونجح الجيش السوري في استعادة مساحات واسعة على امتداد الأراضي السورية، بدعم من حلفائه الروس والإيرانيين، بدأت حركة تواصل عربية وإقليمية باتجاه نظام الأسد، على صعد دبلوماسية أو أمنية أو اقتصادية، من قِبل الأردن والإمارات وتركيا ودول أخرى، ولو ضمن سقف دولي معيّن.
وكانت للنظام المصري أيضاً تحركات جديدة باتجاه النظام السوري، ففي بداية 2017، كان شكري قد جدّد موقف بلاده الرافض للانخراط في أي صراع عسكري في سوريا. وأوضح قائلاً في تصريح لوكالة الأنباء الألمانية: “لا بدّ أن يقرّ المجتمع الدولي بأن الصراع العسكري ليس السبيل لحل الأزمة في سوريا. ولن ينتهي هذا الصراع في ظل وجود تنظيمات إرهابية استطاعت النفاذ إلى الساحة السورية، وستظل تعمل على زعزعة استقرار سوريا، إذا لم تكن هناك مصداقية في جهود المجتمع الدولي المبذولة للقضاء عليها بشكل كامل”. وأضاف شكري أن “مصر تحارب الإرهاب دفاعاً عن العالم وعن الأمن والاستقرار في محيطنا المتوسطي وعلى الساحة الدولية”.
وكان عبد الفتاح السيسي قد قال يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، إن بلاده تدعم الجيش السوري في مواجهة العناصر المتطرفة؛ وأضاف أن “الأولوية الأولى لنا أن ندعم الجيش الوطني، على سبيل المثال، في ليبيا لفرض السيطرة على الأراضي الليبية والتعامل مع العناصر المتطرفة وإحداث الاستقرار المطلوب، ونفس الكلام في سوريا.. ندعم الجيش السوري، وأيضاً العراق”.
كما نفى أحمد أبو زيد، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، الأخبار التي تتحدث عن إرسال قوة عسكرية إلى سوريا، قائلاً “الحديث عن إرسال قوات عسكرية مصرية إلى سوريا لا يمتّ للواقع بصلة”.
وكانت وكالة أنباء “تسنيم” الإيرانية قد نشرت أن “الحكومة المصرية قامت بإيفاد قوات عسكرية إلى سوريا في إطار مكافحة الإرهاب والتعاون والتنسيق العسكري” مع قوات النظام السوري [8].
وفي أواخر نيسان /أبريل من العام 2020، جرت محادثة هاتفية بين وزير الخارجية المصري سامح شكري وبين مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسن، حيث أكد الأول خلال تلك المحادثة أن “مصر تعتزم إعادة سوريا إلى موقعها الطبيعي على الساحتين الإقليمية والدولية”.
ويُعدّ هذا تكريساً لالتزام مصري بدا واضحاً حيال سوريا منذ عقد، رغم ما اعترى هذا الالتزام من خمود واضطراب في أحيان عديدة، لأسباب تراوحت ما بين الانشغال بالذات، وموازنة الضغوطات [9].
3ـ لقاء مملوك والسيسي
في إطار اللقاءات غير المعلن عنها رسمياً، والتي سبقت إعادة الإحياء الجزئي للعلاقات بين مصر وسوريا أخيراً، كشفت صحيفة “الأخبار” اللبنانية عن تفاصيل لقاء جمع رئيس مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي مملوك بالرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي في القاهرة. وأوضحت الصحيفة أنه في نهاية شهر أغسطس / آب من العام 2015، زار اللواء مملوك القاهرة بعيداً من الأضواء، والتقى إلى جانب الرئيس المصري عدداً من كبار المسؤولين في الجيش المصري والاستخبارات والأمن. وقد نقلت الصحيفة عن مصادر وصفتها بالمطّلعة قولها إن الزيارة كانت ناجحة جداً، وإن الطرفين راضيان عن نتائجها. كما ذكرت المصادر أن المملوك بحث مع القيادات المصرية سُبل التعاون الأمني بين البلدين في مواجهة الإرهاب، وآفاق الحل السياسي للأزمة السورية إلى جانب المبادرات المطروحة وخطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا والمساعي لعقد لقاء “موسكو3”. كما أشارت المصادر إلى أنه تم التوافق على ضرورة أن تلعب دولة مصر دوراً أكبر فيما يخص الأزمة السورية، لما تشكّله سوريا من عمق استراتيجي يرتبط بالأمن القومي المصري؛ وهو ما سمعه المملوك من المسؤولين المصريين، إذ أكدوا بأن القاهرة ترى أن الحلّ للأزمة السورية لا يمكن إلاّ أن يكون سياسياً، بحسب جريدة الأخبار.
الزيارة جاءت لتؤكد ما أعلنه بشار الأسد في لقاء مع قناة المنار اللبنانية، يوم ٢٥ أغسطس / آب 2015، أن العلاقات بين سوريا ومصر تحقّق التوازن في الساحة العربية؛ كما أن سوريا تجد نفسها في خندق واحد مع الجيش والشعب المصريين في مواجهة الإرهاب [10].
4ـ مصر “تتوسط” لوقف النار في سوريا
في تطوّر سياسي وأمني لافت، نجحت مصر، في شهر آب /أغسطس من العام 2017، في إنجاز اتفاقين لتهدئة الأوضاع في سوريا في فترة وجيزة، وذلك في ظل رضى من الأطراف المتصارعة، وقبول من الفاعلين الدوليين في الأزمة، فبعد ترقّب للموقف وخلافات مع السعودية بشأن بقاء الرئيس بشار الأسد ونظامه من عدمه، وتصويت في الأمم المتحدة أثار جدلاً شديداً، توسطت مصر، وبمباركة سعودية وروسية، في إبرام اتفاق الهدنة في الغوطة الشرقية ثم اتفاق الهدنة شمالي حمص، فيما يبدو أنه محاولات مصرية حثيثة لتوسيع دورها في الأزمة السورية، بالتنسيق مع قوى إقليمية ودولية، ما قد يعزّز من رغبة الفاعلين في الملف السوري في تعظيم الدور المصري على حساب دور تركي أو إيراني يبدو أنه فشل حتى الآن في تهدئة الأوضاع على الأرض، ويرى تيّار “الغد السوري” المعارض، المقيم في القاهرة، أن مصر طرف مقبول من جانب طرفي الصراع في سوريا، خاصة وأنها ليس لها أي أطماع أو مصالح خاصة وتهدف إلى الحل السياسي السلمي، بحسب ما يرى التيار.
وقال أحمد الجربا، رئيس تيّار الغد السوري: إن “اختيار مصر كدولة راعية لاتفاقيتي وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، كان نتيجة طبيعية وضرورية لدورها الفاعل باعتبارها الأكثر حرصاً على حُرمة الدم السوري”[11]. وأضاف أن “مصر لم تشارك بأيّ وسيلة من الوسائل في سفك الدماء، وتعتبر سوريا جزءاً لا يتجزأ من تاريخها وسلامة أمنها القومي؛ كما أنها أكثر الدول التزاماً بحلّ الأزمة السورية بالطرق السلمية، ولم تشارك نهائياً في سفك الدماء بسوريا”.
الرئيس السوري بشار الأسد من جانبه يستريح لدور مصر الحالي، التي أعلنت أكثر من مرّة مساندتها لوحدة الدولة السورية وتأييدها للجيوش الوطنية، حيث عقِدت العديد من الاجتماعات بين القاهرة ودمشق، حضرتها وفود أمنية رفيعة المستوى من الدولتين لم يُعلن عن أغلبها؛ كما قدّمت مصر مساعدات فنيّة وخبرات أمنية كبيرة لسوريا.
ويقول مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة إن الحكومة المصرية بعد ثورة كانون الثاني / يناير 2011، مروراً بفترة المجلس العسكري، والآن تحت حكم السيسي، كان موقفها مسانداً للنظام السوري وترفض انقسام سوريا، وتؤيّد بقاء الجيش السوري موحّداً بصرف النظر عن بعض الخلافات مع نظام بشار الأسد، الذي ترى أنه يحارب تنظيمات إرهابية [12].
5ـ مصر تسعى لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية
في يناير 2021، كشف وزير الخارجية المصري، سامح شكري، أمام البرلمان، عن أسباب تأخر عودة العلاقات مع سوريا. وقال إن “عودة العلاقات المصرية-السورية فيها بعض التعقيد، مُعرباً عن أمله في عودة سوريا إلى محيطها العربي، ومشيراً إلى أن “ما تعرّض له الشعب السوري “من كوارث ونزوح” يضع قيوداً على تحركات الإقليم تجاه دمشق”. وأكد الوزير شكري تطلعه لعودة سوريا لمكانتها “التي نعتزّ بها جميعاً”، وأوضح أنه قد أوشكت المسألة على الانفراج بشكل كبير لعودة سوريا إلى موقعها العربي والجامعة العربية وعلاقاتها الطبيعية مع مصر والدول العربية[13].
وفي السياق نفسه طالبت روسيا بطرح مسألة عودة سوريا إلى عضوية جامعة الدول العربية من دون شروط، كواحدة من القضايا التي يجب على مصر العمل على حلّها بأسرع وقت والسعي لإحراز تقدم فيها، وأكدت مصر خلال الاتصالات حرصها على عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ولكن في الوقت ذاته عدم قدرتها منفردة على حلحلة المسألة لارتباطها في الأساس بإشكالية العقوبات الأميركية المفروضة على نظام بشار الأسد.
وفي هذا السياق، تتعاون مصر مع دولة الإمارات العربية المتحدة ودول أخرى في محاولة إقناع الولايات المتحدة بتخفيف هذه القيود، بحجّة ضرورة ذلك لضمان المشاركة العربية الفعّالة في إعادة إعمار سوريا من خلال الجهات الرسمية أو القطاع الخاص. وأجرى دبلوماسيون مصريون وإماراتيون اتصالات بالدول العربية الرافضة لاستطلاع شروطها لعودة سوريا، وما إذا كان من الممكن تحقيق ذلك قريباً في ظل تغيّر الظروف السياسية، نافية في الوقت نفسه ارتباط هذا الملف من وجهة النظر المصرية، سواء بالإيجاب أو السلب، بتطوّر العلاقات مع تركيا أو إيران[14].
6ـ لقاء شكري والمقداد
أثار اللقاء الوزاري الأول من نوعه منذ 10 سنوات بين وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره السوري فيصل المقداد، في مدينة نيويورك الأميركية، بتاريخ 24/9/2021، تساؤلات حول دلالات وتداعيات التحوّل المفاجئ في موقف القاهرة من التأييد الضمني للنظام السوري إلى التأييد المعلن، في ظلّ تحوّلات المنطقة وتشابك قوى دولية وإقليمية مختلفة في الملف المتأزم منذ عام 2011.
لقاء الوزيرين شكري والمقداد جاء على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، الذي بحثا خلاله سُبل الوصول إلى حلٍ للأزمة السورية، من دون مزيد من التفاصيل عن مخرجاته، علماً بأن شكري كان خامس وزير عربي يلتقي المقداد في نيويورك، بعد لقاء المقداد بنظرائه من موريتانيا والأردن وسلطنة عُمان والعراق.
وأوضح شكري أن لقاءه مع المقداد “هام بعد هدوء المعارك العسكرية، لاستكشاف الخطوات التي تؤدّي للحفاظ على مقدّرات الشعب السوري والخروج من الأزمة واستعادة سوريا كطرف فاعل في الإطار العربي”.
وقد أبدى الأكاديمي المصري حسن نافعة عدم استغرابه من اللقاء الرسمي المعلن، مشيراً إلى أن الاتصالات بين النظام المصري ونظيره السوري لم تنقطع، وهي مستمرة منذ عدة سنوات، وقال نافعة إن مصر مهتمة جداً بما يحدث في سوريا، حيث تعتبر أن ما يحدث فيها نتاج عملية تخريب ومؤامرة كبرى شاركت فيها دول عربية وأخرى من خارج الإقليم؛ وبالتالي فهي ضد فكرة تنحية بشار الأسد [15].
ثالثاً: تحديات ومعوقات
تتحكم في مسارات العلاقات بين الدول عوامل جيو-استراتيجية وسياسية وأمنية واقتصادية مختلفة. وعادة ما تشهد هذه العلاقات صعوداً وهبوطاً، أو مداً وجزراً، وذلك بتأثير كلّ أو بعض العوامل المذكورة آنفاً، ناهيك عن الظروف الموضوعية والأحداث المفصلية أو الآنيّة التي تُسهم أيضاً في تقدّم أو تراجع العلاقات بين الدول.
وليست العلاقة “الصعبة” بين مصر وسوريا خلال العقود الماضية استثناءً، حيث مرّت تلك العلاقة بتحوّلات عديدة، ومعظمها في المنحى السلبي، على الرغم من الروابط التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية العميقة التي تربط بين الدولتين، كما يصرّح قادتهما في مختلف المناسبات، ومن أهم العوامل التي تفرض على النظام المصري الحالي، تحت حكم السيسي، السعي، ولو تدريجياً، لاستعادة العلاقات الطبيعية مع نظام بشار الأسد، الذي تمكّن، بدعمٍ من حلفائه الروس والإيرانيين، من مواجهة الجماعات والدول المناهضة له والتغلّب عليها إلى حدٍ ما – هي قضية العداء المشترك لجماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية الأخرى.
كما أن الصراع العربي المفتوح مع الكيان الإسرائيلي والمشروع الصهيوني في المنطقة، بأبعاده الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والثقافية، يلقي بتداعياته السياسية والأمنية على مصر، على الرغم من استمرار اتفاقية كامب ديفيد بينها وبين الكيان الإسرائيلي؛ أي بمعنى أن النظام المصري الذي لم يستطع فرض التطبيع بين المصريين والإسرائيليين طيلة عقود مضت، يدرك أن من مصلحته في المقابل عدم قطع التواصل مع سوريا تحت أي ظرف، كما يظهر في مواقف المسؤولين في مصر وسوريا، أو في التحليلات المواكبة لها.
لكن تبرز عدة عقبات تحول دون عودة العلاقات الطبيعية بين مصر وسوريا، من بينها:
1: الرفض الأميركي، المعلن وغير المعلن، لفك عزلة النظام السوري المرتبط بعلاقات متينة مع أعداء الولايات المتحدة في المنطقة، أي مع إيران وحلفائها؛ والأمر عينه ينطبق على الكيان الإسرائيلي الذي تربطه اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع النظام المصري منذ عقود، وهو لا يُحبّذ عودة العلاقات بين مصر وسوريا إلى سابق عهدها، لدوافع استراتيجية، أمنية وسياسية واقتصادية معروفة.
ولا يمكن التقليل من تأثير الموقف الأميركي الرافض لاستعادة العلاقات المصرية-السورية طبيعتها، بسبب النفوذ الكبير الذي يمارسه الأميركيون في مختلف المراحل، عبر “سلاح ” المساعدات العسكرية والمالية المتواصلة للجيش أو الدولة المصرية، فضلاً عن الغطاء السياسي الأميركي للنظام المصري الحالي الذي يحافظ على “التزاماته” مع الكيان الإسرائيلي ودول الخليج، المحميّة أميركياً، في مختلف الظروف.
2: أن لدول الخليج عموماً، وللسعودية تحديداً، تأثير كبير في دوائر صنع القرار السياسي والاستراتيجي في مصر، أيضاً من خلال “سلاح” المساعدات المالية السخيّة للنظام المصري طيلة عقود، باستثناء مرحلة حكم جماعة الإخوان المسلمين التي لم تستمر أكثر من عام واحد فقط (2012/2013).
3: هناك اعتبارات أو عوامل داخلية عديدة تقف حجر عثرة أمام إقامة علاقات استراتيجية أو حتى طبيعية بين مصر وسوريا، على الأقل في المدى المنظور، وهي تتعلق بظروف البلدين والدولتين، السياسية والأمنية والاقتصادية، كما بعلاقاتهما الخارجية، حيث لم تستطع سوريا الخروج من دائرة الحرب والصراع الداخلي بشكل كامل ونهائي بعد، فيما يواجه النظام المصري أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة، في عهد السيسي تحديداً، تُلزمه بالمزيد من التقرّب من “أعداء” النظام السوري؛ فضلاً عن تواصل “الحرب” التي يشنّها الجيش المصري على الجماعات الإسلامية المسلّحة في شبه جزيرة سيناء وبعض المدن المصرية، والتي تستنزف جزءاً من طاقات النظام وأجهزته المختلفة، العسكرية والأمنية والسياسية، كما هي حال النظام السوري.
4: يتموضع طرفا العلاقة قيد البحث، مصر وسوريا، ضمن محورين أو إطارين متصادمين أو متصارعين على مستوى المنطقة، ولأسباب أو دوافع استراتيجية أو غير استراتيجية، سواء ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية والصراع مع الكيان الإسرائيلي، أو فيما يخص قضية أمن الخليج العربي والممرّات البحرية والمائية، وصولاً إلى العلاقة مع إيران والدول أو القوى الحليفة لها أو المتخاصمة معها، وفي طليعتها السعودية. وتكشف مراجعة مواقف المسؤولين المصريين الحاليين حول أهمية أمن دول الخليج العربية بالنسبة لمصر، عن استعداد الأخيرة الدائم لحماية تلك الدول من أي خطر خارجي، وتحديداً من إيران، في مقابل استمرار السخاء الخليجي المالي لدعم النظام المصري المثقل بالأزمات.
5: فيما يخص الصراع مع الكيان الإسرائيلي تحديداً، لم تتغيّر المواقف السياسية، المصرية والسورية، من الناحية الجوهرية. وهذه مسألة استراتيجية بالنسبة للطرفين المصري والسوري، لأنها ترتبط بخيارات كبرى تؤثّر في مصير الدولتين أو النظامين، بحسب رؤية كلٍ منهما لمصالحه وأولوياته؛ فمصر لم ولن تتخلّى عن اتفاقية كامب ديفيد مع “إسرائيل”، برغم فشل التطبيع السياسي والشعبي معها، فيما لم يغيّر النظام في سوريا من مواقفه بضرورة عقد اتفاقيات سلام جماعية ومتوازنة مع “إسرائيل”، باعتبار أن الاتفاقات المنفردة لم تحقّق مكاسب مهمة للأطراف العربية، في مقابل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وبعض الأراضي السورية واللبنانية، والتهديد الإسرائيلي لأمن دول وشعوب المنطقة كما كانت الحال منذ نشأة الكيان، وصولاً إلى مرحلة التطبيع الإسرائيلي المصطنعة مع بعض الدول الخليجية والعربية، والموجّهة أساساً ضد إيران، حليفة النظام السوري الأولى في المنطقة، والخصم السياسي للنظام المصري منذ انتصار الثورة فيها في العام 1979.
خاتمة
شهد شهر نوفمبر 2021، تحولات مهمة في الملف السوري، يمكن أن تنعكس على العلاقات المصرية ـ السورية، منها زيارة وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد دمشق ولقائه بالرئيس السوري بشار الأسد (9/11/2021)، في نفس الوقت الذي تُسرّع فيه دولة الإمارات من خطط ومشاريع التطبيع الشامل مع الكيان الإسرائيلي، الذي يستهدف سوريا سياسياً وعسكرياً وأمنياً بشكل مباشر خلال الأعوام الأخيرة.
ومع هذا التحول تبقى على عاتق صانعي القرار في مصر وسوريا مسؤولية اتخاذ القرارات الحاسمة، والتي تصبّ في مصلحة البلدين والشعبين الشقيقين، اللذين تحمّلا الكثير الكثير بسبب الافتراق المديد الذي حصل بينهما، والذي لم يعد بالنفع سوى على أعداء المنطقة.
الهامش
[1] العلاقات المصرية- السورية، الهيئة العامة للاستعلامات، مصر، 30 حزيران / يونيو 2010.
[2] العلاقات المصرية السورية.. بدأها الفراعنة ووحّدها عبد الناصر وأعادها السادات وحافظ عليها مبارك وقطعها مرسي، عبد المنعم حلاوة، موقع صدى البلد، 15 حزيران / يونيو2013
[3] تصريح الرئيس المصري الراحل محمد مرسي: “مصمّمون” على رحيل الأسد، سكاي نيوز عربية، 13 أيلول سبتمبر 2012
[4] محمد مرسي يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا وإغلاق سفارتها في القاهرة، فرانس 24، 15/6/2013
[5] هيكل يكشف ويؤكد.. السيسي عارض مرسي في قطع العلاقات مع نظام بشار، موقع زمان الوصل، 5 تموز / يوليو 2013
[6] سوريا .. العمق الاستراتيجي لمصر، إسماعيل جمعة، موقع الأهرام اليومي، لا تاريخ نشر
[7] مصر توضح أسباب تأخر عودة العلاقات مع نظام الأسد، موقع منصّة تلفزيون سوريا،27.01.2021.
[8] على عكس تصريحات السيسي الداعمة لنظام الأسد: وزير الخارجية المصري ينفي انخراط مصر في حرب سوريا، شبكة شام، 12 يناير / كانون الثاني 2017.
[9] مصر وسوريا، ياسر عبد العزيز، موقع المصري اليوم، 26-04-2020.
[10] هل ستكون عودة العلاقات المصرية- السورية بداية عزلة الرياض عربياً؟ موقع مرآة الجزيرة، 18 أيلول / سبتمبر2015.
[11] ماري مراد، الجربا: استبعدنا «داعش» و«النصرة» فقط من حوار القاهرة، موقع مبتدأ، تاريخ النشر 5/8/2017، تاريخ التصفح 16/11/2021، الرابط
[12] الدور المصري في سوريا.. وساطة نزيهة أم بحث عن زعامة غائبة؟ موقع دويتشه فيلله DW الألماني،7/8/2017
[13] أكاديمي مصري: مصر ستلعب دوراً مهماً جداً خلال الفترة القادمة لعودة العلاقات السورية – العربية، موقع سبوتنيك الروسي 27.01.2021
[14] ملف عودة سورية للجامعة العربية يعقّد الاتصالات المصرية الروسية، العربي الجديد، 20 آب / أغسطس 2021
[15] الأول منذ الثورة السورية.. ماذا وراء لقاء سامح شكري وفيصل المقداد؟ موقع الجزيرة نت، 29 أيلول / سبتمبر 2021.