العِصْيَانُ السِّيَاسِيُّ وَحَقُّ مُقَاوَمَةِ الطُّغْيَانْ
تقوم الحركات الاجتماعية والسياسية والدينية المطالبة بالإصلاح والتغيير في مختلف المجتمعات البشرية بممارسة العديد من الأفعال السياسية، وذلك لبلوغ أهدافها وتحقيق مطالبها، وتتمحور هذه الأساليب في الوقت الحالي حول محاولة قيادة حركة الرأي العام في مجتمعاتها، والذي يتحرك بدوره في مسارات متنوعة قد تكون مشروعة من وجهة النظر القانونية التي تحميها السلطات القائمة في هذه المجتمعات أو غير مشروعة.
ولكن الرأي العام في حركته لا يلتفت كثيرا إلى سؤال الشرعية؛ بل قد يسعى إلى تحطيمها واستبدال شرعية جديدة بها، تتأسس على تحقيق المطالب التي يحملها ويدعو إليها، ومن هذه الوسائل: الاحتجاجات والتمردات والمظاهرات والثورات… إلخ، وغيرها من مظاهر السلوك الجمعي والتعبير عن الرأي العام. ومن وجهة النظر المبدئية فإن الكثير من الأنظمة السياسية والقانونية تقر بهذه المظاهر والأشكال للتعبير عن الرأي العام على مستوى المثال والشعار السياسي والمبدأ القانوني والنظامي، خاصة في ظل خطابها اللفظي الرسمي حول تحولها للديمقراطية، ولكن من الناحية العملية والواقعية تسعى هذه الأنظمة إلى استيعاب مظاهر التعبير وتقليص الآثار التي يمكن أن تحققها إلى أدنى حد ممكن، كما تسعى إلى حصارها كي لا يتحول الرأي العام فعليا إلى أداة من أدوات تغيير المعادلات الأساسية للأوضاع القائمة في أي مجتمع من المجتمعات.
وما نحاول إلقاء الضوء عليه هنا هو العلاقة بين مظاهر التعبير عن الرأي العام ومضمونها أو المطالب التي تمثلها وتعبر عنها من ناحية، وردود أفعال السلطة السياسية الحاكمة والدولة تجاه هذه المظاهر والتعبيرات من ناحية أخرى، وهي العلاقة التي تأخذ درجات متفاوتة من الشدة بدءا من التعبير الحر السلمي، مرورا بالنقد المصاحب لحركة تغيير سياسية واجتماعية واسعة، ووصولا للثورة لتغيير الأوضاع وموازين القوى بالقوة.
أولاً: ماهية العصيان السياسي وحق مقاومة الطغيان
يُعد العصيان هو النقيض لمبدأ الطاعة السياسية، وكلاهما متقاطع مع فكرة الالتزام السياسي المبنية على تصور الأصل التعاقدي لنشأة السلطة السياسية واستمرارها، أي الرضاء والقبول الطوعي للنظم السياسية بجوانب ثلاثة متكاملة:
الأول: قبول ما تمثله هذه الأنظمة وتعبر عنه من نظام قيم تتربع على قمته قيم عليا محورية كالحرية والمساواة والعدالة.
والثاني: القبول بأشخاص الحاكمين من حيث امتلاكهم للأهلية السياسية والجدارة، والقبول بشرعية آليات إسناد السلطة إليهم واستمرارهم فيها.
والثالث: القبول بالممارسات السياسية للأنظمة من حيث إجراءاتها، وغاياتها ومقاصدها، ومآلاتها.
والعصيان السياسي يعبر عن رفض قاطع وصريح للمستويات الثلاثة فرادى أو مجتمعة؛ وبالتالي إسقاط واع لفكرة الطاعة السياسية، ومن جانب آخر يعني أن يتبلور هذا الرفض فيما يطلق عليه حق مقاومة الطغيان الذي هو الأساس الفلسفي والحقوقي للعصيان السياسي، ورغم وجود العديد من محاولات التأصيل النظري القانوني لهذا الحق فإننا نركز على المدلول السياسي.
ثانياً: حق للأمة بموجب العقد السياسي:
يعتبر العصيان السياسي ومقاومة الطغيان السياسي حقا ثابتا للأمة ككل، وحقا للرأي العام كحقيقة رقمية وظاهرة كمية متحركة -كما يقول أستاذنا العلامة أ.د.حامد ربيع-والتي تمتلك الحق المطلق في رفض ومقاومة النظام السياسي في مستوياته الثلاثة السابقة وتغييره لآخر تراه محققا لذلك، وبالتالي فإن حق مقاومة الطغيان هو الصياغة الأكثر تحديدا ونظامية لفكرة العصيان السياسي.
ثالثاً: أشكال حق مقاومة الطغيان السياسي
يتخذ حق مقاومة الطغيان السياسي العديد من الصور والأشكال الشعبية المعبرة عن حركة الرأي العام منها: الإضراب العام، والتظاهر السلمي، والهبات الجماهيرية، والثورات الشعبية، ولا يدخل فيه من وجهة نظرنا بعض المظاهر السلوكية السلبية لحركة الرأي كالذعر الجماعي، والمقاومة السلبية أو المقاومة بالحيلة –وإن كان جيمس سكوت يذهب لأنها تدخل في إطاره-وكذلك ظاهرة الانقلاب العسكري.
1ـ ظاهرة الإضراب العام:
وقد برزت في الحركة العمالية والنقابية ثم تغلغلت في الحركة السياسية خلال القرن التاسع عشر قبل أن يتم إقرارها وإضفاء المشروعية القانونية عليها لاحقا، ويعرفها البعض باعتبارها تمثل توقف مجموعات مهمة من الأفراد عن تأدية أدوارهم المؤسسية؛ الأمر الذي يؤدي إلى حدوث نوع من الشلل المؤسسي، في حين يعرفها آخرون بأنها تتمثل في منع مساهمة مهمة يعتمد عليها الآخرون في النظام وبالتالي تمثل مصدرا للضغط عليهم.
وتعتمد فعالية الإضراب على عناصر منها: مدى أهمية المساهمة التي تم منعها، ووجود موارد يمكن التنازل عنها لدى الطرف الآخر في التفاوض بشأن تسوية ما، ومدى قدرة المضربين على حماية أنفسهم من الانتقام.
ولم يعد الإضراب مرتبطا فقط بالظاهرة النقابية أو بهدف الحصول على تنازلات ومزايا اقتصادية فقط، وإنما اتسعت تطبيقاته كآلية لتنظيم عملية المواجهة مع السلطة الحاكمة، وأداة لتكتيل الرأي العام للإعلان عن الاستياء والرفض لسلوك أو أداء الطبقة الحاكمة وتذكيرها بأنها فشلت وأخفقت ولم تعد تحوز الثقة وتتمتع بالدعم من جانب المحكومين؛ وبالتالي يصبح الإضراب الأداة الحقيقية المعبرة عن حق مقاومة الطغيان من خلال التحرك السلمي.
2ـ الانقلاب العسكري:
ظاهرة الانقلاب العسكري بأنواعه وصوره المختلفة فهي تغيير غير شرعي في الأداة الحكومية، أي لا يأخذ الانقلاب العسكري بالأسلوب الذي يسمح به نص القانون الوضعي، ولا يتعدى إلى تغيير أو تجديد المثالية السياسية والنظام القيمي الذي يحكم النظام القائم، أي لا يتعدى إلى تغيير المفهوم السياسي العام الذي يسيطر على المجتمع المعين بل محض استبدال النخبة الحاكمة بأخرى.
والانقلاب بهذا المعنى ظاهرة قديمة متجددة فقد عرفتها الحضارات اليونانية والرومانية -ما يعرف بالنمط البريتوري- ومصر الفرعونية عن طريق الكهنة وتدخلهم في تغيير الأسر الحاكمة، كما عرفتها الحضارة الإسلامية في معظم تطبيقاتها، كما تشهدها العديد من دول العالم النامي ومنها العربي والإسلامي سواء عبر المؤسسة العسكرية أو بدونها كما في الانقلابات الداخلية أو انقلابات القصر، غير أن الملاحظ هو أن المؤسسة العسكرية الرسمية هي التي قادت في العقود الماضية عملية الانقلابات العسكرية وبالتالي ازداد تدخلها في الحياة المدنية والسياسية لاعتبارات منها: أنها الأداة الوحيدة القوية والمنظمة المعبرة عن روح التضامن والتجانس والانتماء العصري، واختفاء الأحزاب الحقيقية والقوى السياسية غير العسكرية، وعدم فعالية إن لم يكن عدم وجود الطبقة المثقفة، واختفاء تأثير الرأي العام.
ولكن الانقلاب الذي تقوده المؤسسة العسكرية مهما قيل في وصفه فهو لا ينبع من حق مقاومة الطغيان؛ فالمؤسسة العسكرية تمثل مهنة محددة وتعبر عن جزء ليس من حقه أن يعبر أو يتحدث باسم الكل، فهو يمثل أقلية لا تملك إرادة الأغلبية ولو قيل بعكس ذلك لكان معناه منح حق الوصاية لفئة على الجميع أو الكل، فليس من حق هذه المؤسسة أن تتحدث باسم المجتمع وتبدو وكأن إرادتها حلت محل الإرادة العامة، وبالتالي لا تستطيع المؤسسة أن تزعم أنها صاحبة الاختصاص الأصيل أو الوحيد في استخدام حق مقاومة الطغيان.
لأن المنطق الديمقراطي الذي ينبع منه مفهوم وظاهرة مقاومة الطغيان هو سيادة الكم على الكيف أي جعل منطلق الإرادة السياسية هو الحقيقة الرقمية، ومهما قيل في حق هذه المؤسسة أن تقود أمتها فعليها أن تبحث عن تبرير آخر غير حق مقاومة الطغيان من قبيل: الضرورات التي تبيح المحظورات، أو حكم الفئة المختارة، أو الأقلية المتميزة، أو أصحاب الشوكة… إلخ وجميعها تصلح تبريرات لانقلاب العسكر بالأساس وهو كما رأينا لا يعبر عن حق مقاومة الطغيان ولا يقوم على الأصول الديمقراطية للعلاقة السياسي.
3ـ الثورة:
ظاهرة الثورة هي أوضح صور ومظاهر التعبير عن حق مقاومة الطغيان، وهي رد الفعل العنيف الذي يرتبط بالعنف الجماعي ليعلن عن التغيير في النظام السياسي، وهي تفترض التغيير الكلي في المفهوم الفكري الذي يسيطر على المجتمع السياسي، وهي في أحد جوانبها إعادة تأسيس للشرعية السياسية وتصور جديد لمقوماتها، وأيضا تغيير في الغايات التي يسعى لتحقيقها النظام السياسي، فهي تغيير في مفهوم الوظيفة القانونية والسياسية للدولة، وقد تعني انقطاعا بين الحاضر والمستقبل أو عودة إلى الماضي عقب تحطيم الحاضر، ولكنها تعني دائما بناء مفهوم سياسي يختلف عن السائد لحظة الانفجار؛ فالثورة تعني حقائق ثلاثة:
الأولي، تغيير في الفئات الحاكمة ووصول الفئات المحكومة إلى ممارسة السلطة، فهي ممارسة قوى الرأي العام لحقوقها بأسلوب واضح وصريح، فلا تعرف انقلاب القصر ولا تعترف بشرعية المماليك الجدد.
الثانية: أنها تغيير عنيف حيث سدت السبل البديلة لحماية حقوق المواطن الأساسية.
الثالثة: التأكيد لقيم جديدة ودفاع عن القيم الثابتة التي خضعت لعملية اعتداء؛ فهي ربط للمستقبل بالماضي من خلال تخطي المغالطات القائمة المرتبطة بالحاضر.
وتقاس مدى قوة ممارسة الأمة وقوى الرأي العام لحق مقاومة الطغيان -أيا كان شكله أو نوعه-بحجم التأثير السياسي الذي يفرزه ويقع على السلطة الحاكمة بحيث يدفعها تحت ضغوطه المختلفة إلى التبني، أو العدول أو على الأقل “تعديل” سياسة معينة أو محددة وذلك في الاتجاه المرغوب، وأحيانا يمكن أن يؤدي إلى إسقاط هذه السلطة الحاكمة في حالة الثورة خاصة إذا توافرت شروطها ومقوماتها من حيث: الاتساع، والشمول، والاستمرارية، ووجود قيادات وتنظيم فعال، وشعارات تحريضية… إلخ. ولقد جاءت كل الحركات الإصلاحية والتغييرية من منطلق حق ممارسة مقاومة الطغيان (1).
—————————————-
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.