تقارير

القمح المصري بين الاستقلال وترسيخ التبعية

تمهيد: (1)

في يوم ١٦ مايو من عام ٢٠١٣ احتفل الرئيس محمد مرسى بيوم الحصاد فى أحد حقول القمح المصرية بقرية بنجر السكر، التابعة لمدينة برج العرب بالإسكندرية، وكانت هذه أول سابقة في العصر الحديث يذهب خلالها رئيس مصري ليحتفل مع الفلاحين بموسم حصاد القمح، وبعد أن تفقد الرئيس مرسي إحدى “شون” تخزين القمح، والتي كانت مهبطاً للطائرات، استخدمه الرئيس السابق حسنى مبارك، أثناء زيارته الوحيدة للمنطقة فى ١٩٨٧ لتسليم أراضي شباب الخريجين. وقف الرئيس مرسي يخطب في حشد كبير من الفلاحين وقال لهم أن كميات القمح التي اشترتها الحكومة من الفلاحين بلغت ٢مليون طن، وهي نصف الكمية المستهدفة، بزيادة ٣٠٪ عن العام 2012، ووعد المصريين بأنه خلال ٤ سنوات ستُحقق مصر الاكتفاء الذاتي من القمح.

وأشار الرئيس مرسي إلى أن إنتاجية الفدان من القمح في العام 2012/2013 ارتفعت من ٥٠ إردباً إلى ٢٤ و٣٠ إردباً، وكشف أنه قبل أن يتسلم مهام منصبه كان إنتاج القمح يقدر ب ٧ مليون طن، وقفز إلى ٩.٧ مليون طن، وسيقفز تباعا خلال الأعوام الثلاثة 2013 ـ 2016، ليصل إلى ١٢مليون طن لكي يسد الاحتياجات بنسبة ٨٠٪ وتحقق مصر بعدها الاكتفاء الذاتي الكامل (2).

القمح بين عهدين:

بعد الإنقلاب انكمشت مساحات القمح من ٣.٥ مليون فدان في عام 2012/2013، حتى وصلت ٢.٥ مليون فدان في ديسمبر 2016(3). وفي ٢٧ أبريل 2016، أصدرت وزارة الزراعة المصرية بياناً يشير إلى أن المزارعين وردوا إلى “شون وزارة التموين 99 ألف طن قمح فقط على مستوى الجمهورية، في الوقت الذي تم توريد عشرين ضعفاً في العام 2012/2013(4).

وفي شهر مايو ٢٠١٣ نشرت “بوابة الأهرام” خريطة لإنتاج القمح عامي ٢٠١٢-ـ ٢٠١٣، العام الأول من حكم الدكتور مرسي تشير إلى أن القمح من واقع تصريحات المسئولين وصل إنتاجه إلى 9.7 مليون طن في 22 محافظة بزيادة 1.6 مليون طن عن ٢٠١٢(5).

إلا أن تقرير لوزارة الزراعة الأمريكية ذكر أنه” وفقاً للإحصاءات الرسمية الحكومية، زاد إنتاج القمح فى مصر زيادة كبيرة من 7.2 مليون طن متري في العام الحصادي 2010-2011 إلى حوالي 8.4 مليون طن متري في العام الحصادي 2011-2012 نظراً للظروف الجوية الجيدة في ذلك العام، ولكن ذهب عدد من الخبراء والتجار إلى أن الإنتاج الفعلي لذلك العام لا يتجاوز 7 مليون طن متري (6).

وقد أعلن الرئيس مرسي في عيد الحصاد أن الحكومة رفعت سعر إردب القمح إلى ٤٠٠ جنيه واشترته من الفلاحين مباشرة دون وسيط، واشترى خلال ٤ أشهر مليون طن من الفلاح المصري بدلا من استيراده من الخارج، وأعلن أنه سيتم بناء صوامع جديدة تستوعب ما يقرب من نصف مليون طن ضمن مشروع وطني للصوامع التي سيتم تشييدها تدريجياً لاستيعاب الزيادة في الإنتاج، في المقابل خرجت المطبوعة الزراعية لمؤسسة الأهرام (الأهرام الزراعي) في أبريل 2016، لتقول: “القمح في ذمة الله. وزيرا الزراعة والتموين يعلنان نهاية عصر زراعة المحصول في مصر”(7).

خطة حكومة مرسي للاكتفاء:

في النصف الأول ممن 2013، أعلن وزير التموين المصري د. باسم عودة، عن خطة الوزارة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح لمصر، قائلا: “إنه بالعمل الجاد سيتم تحقيق ذلك خلال ثلاث أو أربع سنوات على أقصى تقدير”، وذلك بعد نجاحه في القضاء على طوابير الخبز، وتوفيره بجودة عالية للمواطنين، ومراقبته للمخابز والمطاحن. وفي العديد من المؤتمرات التي عقدها عودة، تحدث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي ووسائل تحقيق ذلك، لافتا إلى مافيا الدقيق ومافيا الاستيراد، واصفا إياها بأنها أحد وأهم خصوم الاكتفاء الذاتي من القمح.

وأشار عودة إلى أن من أولى خطوات الاكتفاء أن “الدولة قدمت للفلاح سعرا عادلا ومحترما بـ 400 جنيه للأردب، أي أن سعر طن القمح 2680 جنيها، وهذا أعلى من السعر العالمي بحوالي 15٪، كما قدمت الحكومة للفلاحين سلالات جيدة أنتجت منتجا أكثر وفرة، كما سهلت الحكومة على الفلاحين عملية التوريد إلى صوامع غلال أنشأتها الوزارة، وتم رصد مكافآت للمزارعين المتفوقين في إنتاج القمح، سيوزعها رئيس الدولة عليهم بنفسه”(8).

في المقابل قال حمدي العاصي، وكيل أول وزارة الزراعة الأسبق، بأن هناك خطة ممنهجه لضرب زراعة القمح في مصر، وأن قرار دعم مزارعي القمح بـ 1300 جنيه للفدان، مع الشراء من المزارعين وفقا للأسعار العالمية، ما هو إلا “منحة مُغلفة” لضرب الزراعة التعاقدية الوحيدة الناجحة في مصر، مثلما حدث مع زراعة القطن والذرة الشامية والصفراء، حيث تم تحديد سعر 300 جنيه للأردب، إلى أن وصل السعر إلى 180 جنيها فقط؛ لانخفاض الأسعار العالمية.

ولفت العاصي إلى أن الدعم يتراوح بين 55 و60 جنيها للأردب، وفي وقت حصاد إنتاج القمح المصري تنخفض الأسعار العالمية، بحيث تصل إلى ما بين 200 و250 جنيها، يضاف إليها 60 جنيها قيمة الدعم، أي أن السعر 310 جنيهات للأردب (الذي كان 400 جنيه للأردب في عهد مرسي)، وهذا من شأنه أن يدفع الفلاح للعزوف عن زراعة القمح في المواسم القادمة، مشيرا إلى أن هذا سيجعل مصر سوقا استهلاكيا بدلا من أن تكون منتجة للقمح.

وبحسب صحيفة “التعاون الزراعي” الحكومية، فإن هناك مخططا لوزارة التموين في مصر تسعى من خلاله لتدمير زراعة القمح لصالح “مستوردي القمح وشركاتهم المرتبطين بدوائر السلطة. وتعد شركة “فينوس إنترناشيونال” المملوكة لرجل الأعمال المصري “محمد عبد الفضيل” ورئيس الجانب المصري في “مجلس الأعمال المصري الكازاخستاني” ومستشار وزير الصناعة السابق من أكبر الشركات المتخصصة في استيراد القمح حيث تتعامل تجاريا بنحو 3 ملايين طن سنويا أي نصف ما تستورده البلاد تقريبا (9).

وفي المرتبة الثانية يأتي رجل الأعمال “رفعت الجميل” صاحب شركة «حورس» الذي أصبح يستورد الآن ما يقرب من مليون طن سنويا من القمح بجانب استيراد الذرة وبعض المحاصيل الأخرى وتقدر أرباحه بما يقرب من نصف مليار دولار (10).

وتدخل شركة “علوان عبدون” الإماراتي الجنسية «الاتحاد التجارية» المنافسة حيث يستورد مليون طن سنويا يليه “حمدي النجار” صاحب “شركة النجار لاستيراد الحبوب” ويمتلك 18 شركة تعمل في مجال استيراد اللحوم والعصائر وتوجد أيضا شركة رجل الأعمال “عاطف أحمد حسن” والذي يمتلك شركة لتجارة الغلال ويشغل منصب رئيس مجلس إدارة “شركة مطاحن الأصدقاء”.

وقد جاءت تصريحات “رولان جيراجوسيان”، مدير مكتب جمعية فرنسا لتصدير الحبوب في الشرق الأوسط، والذي أكد لرويترز أن صادرات بلاده من القمح لمصر بلغت 500 ألف طن خلال 4 شهور فقط ممن 2015، بما يمثل أكثر من 8 أضعاف ما استوردته مصر من فرنسا خلال العام المالي 2013-2014، والبالغ 60 ألف طن قمح، وهو العام الذي أعلن فيه الرئيس مرسى عن زيادة 30% فى إنتاجية القمح (11).

وفي ذات السياق يقول “وليد غانم” (نائب رئيس الهيئة المصرية للمطاحن): ما حدث في عام ٢٠١٥ فيما يتعلق بمحصول القمح كان كارثة فساد وذلك عبر إستيراد قمح أجنبي رخيص وخلطه بالمصري وبيعه للدولة على انه منتج مصري واخذ فارق السعر ألف جنيه في الطن، ورفع الجهاز المركزي للمحاسبات تقريراً بذلك إلى السيسي في ١١ أكتوبر ٢٠١٥.

وأضاف “غانم”: الدولة حددت سعر القمح المحلي وتوريده ٢٨٠٠ جنيه للطن أو ٤٢٠ جنيها للأردب وسعر المستورد انخفض وقت التوريد إلى ١٨٠٠ جنيه للطن فهناك فارق ١٠٠٠ جنيه والفلاح ليس له دور في ذلك، وقام التجار بإدخال القمح المستورد في شون القطاع الخاص وتوريده، وحدث تدليس علي الدولة وكانت الكمية مليونا وسبعمائة ألف طن، ودخل على القمح المحلي وتم أخذ دعمهم. والخلاصة أن القمح المستورد في مصر زاد، وقام وزير التموين بالسحب من المخزون الاستراتيجي للقمح حيث سحب من 2.8 مليون طن ووصل هذه المخزون إلى ٤٥٠ ألف طن في أبريل 2016.

وطبقا لتصريحات خالد حنفي وزير التموين في ٤ مارس ٢٠١٤ فان إجمالي ما تم تسريبه من الدقيق المدعم هو ٥٠٪ أي ما يقرب من ٣٧٥ ألف طن شهريا من إجمالي الاستهلاك في عام ٢٠١٤ والمقدر ب٧٥٠ ألف طن شهريا. وفي مارس 2016، أي بعد ما يقرب من عامين فان الاستهلاك الشهري زاد ليتراوح ما بين ٨٥٠ إلى ٩٠٠ ألف طن شهريا أي أن ما تم تسريبه الآن يزيد عن ٤٠٠ ألف طن شهريا أي ما يقارب ٥ ملايين طن سنويا وهذا رقم مفزع يقارب عشرة مليارات جنيه سنويا وحتى يتم التسريب في هذه المنظومة، يجب ان يتم ذلك بالاتفاق بين ثلاثة أطراف هم المطحن والمخبز والشركة المصدرة للكروت الذكية ولكن في كل الحالات تنال الاتهامات أصحاب المخابز فقط دون المساس بالأطراف الأخرى.

القمح والإطاحة بالرئيس مرسي:

إن كافة المحاصيل الإستراتيجية ومن بينها الحبوب وخاصة القمح استهدفتها هيئة المعونة الأمريكية، ولازالت حتى الآن، وخططت للقضاء عليها لصالح المنتج الأمريكي، ولكن في العام 2012-2013، رفضت حكومة الرئيس مرسي الرضوخ لشروط هيئة المعونة الأمريكية وتشكيلاتها بمصر من آلاف الموظفين (12). هذا في الوقت الذي كان مبارك يقدم مبررات واهية للإعلاميين حول سبب عدم المقدرة على تحقيق الإكتفاء الذاتي من القمح (13).

ولذلك يؤكد الدكتور حمدي عبد العظيم: “إن القمح محصول إستراتيجي يستخدم ورقة ضغط للتأثير فى القرار السياسي وتهديد الأمن القومي لمصر، وأن هناك مخططا للحيلولة دون تحقيق مصر الاكتفاء الذاتي من القمح، وأن اتفاقات المنح والقروض التي تقدمها واشنطن لمصر تشترط عدم استخدام المعونة فى كل ما من شأنه تحقيق الاكتفاء الذاتي لمصر من القمح”. وأن دولة مثل الولايات المتحدة “تستخدم القمح كأهم وسيلة للضغط على مصر فى اتباع سياستها فى المنطقة”. وفي نفس السياق يقول الخبير “وسيم السيسي” إن يوسف والي منع المزارعين من زراعة الساحل الشمالي وهو سلة الإمبراطورية الرومانية من القمح (14).

خلاصة

في إطار هذه الاعتبارات، تبرز أحد التفسيرات حول أسباب التخلص من الرئيس مرسي، عندما بدأت تصريحاته حول تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وقيامه بزيارة السودان، وإعلانه عن عدة مشروعات زراعية مشتركة من بينها القمح ()، فقامت وسائل إعلام أمريكية ومصرية بحملة للتشويه والتشكيك في تلك التصريحات، والتحرك الفاعل والحاسم لإسقاط مرسي.

—————————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

(2) رئاسة جمهورية مصر العربية، كلمة الرئيس محمد مرسي فى يوم حصاد القمح، تاريخ النشر ١٦ مايو ٢٠١٣، الرابط، تاريخ الزيارة للموقع ٢٧ أبريل ٢٠١٦.

(3) عز النوبي، تقرير حكومي يكشف تراجع مساحات زراعة القمح، اليوم السابع، ١٤ ديسمبر ٢٠١٥، الرابط. تاريخ الزيارة ٢٧ أبريل 2017.

(4) وزير الزراعة: الحكومة مسئولة عن استلام كل حبة قمح من المزارعين وفقاً لكشوف الحصر الفعلي، موقع وزارة الزراعة، ٢٧ أبريل 2014، الرابط، تاريخ الزيارة 27/4/2017.

(5) بوابة الأهرام ٢٨ مايو ٢٠١٣ انفوجراف للمقارنة بين المساحات المزروعة بالقمح لعامي ٢٠١٢- ـ ٢٠١٣، الرابط، تاريخ الزيارة 27 أبريل 2016.

(6) THIS REPORT CONTAINS ASSESSMENTS OF COMMODITY AND TRADE ISSUES MADE BY USDA STAFF AND NOT NECESSARILY STATEMENTS OF OFFICIAL U.S. GOVERNMENT POLICY, 4_2_2012, Egypt, Grain and feed annual, Approved by jonathan b gressel, link

(7) القمح في ذمة الله” الأهرام الزراعي، الثلاثاء, 09 فبراير 2016 ـ جهاد الأنصاري، الرابط

(8)باسم عودة وزير التموين إنجازات زراعة القمح المحلي ـ ٣٠ أبريل ٢٠١٣، الرابط

(9)مجالات عمل شركة فينوس إنترناشيونال، الرابط

(10)كايرو ثرى ايه للتجارة-رفعت الجميل وشركاه، الرابط

(11) فاطمة بركة، مافيا القمح نهبت ٤٫٢ مليار جنيه. العام الماضي، خبراء ل «مائدة أخبار اليوم للحوار»: كارثة. «لقمتنا» مستوردة وليست نظيفة، أخبار اليوم ٨ يناير ٢٠١٦، الرابط

(12) مبارك: لا يمكننا تحقيق الإكتفاء الذاتي من القمح – صفحة أنا اسف ياريس – 19مايو 2013، الرابط

(13) في عام 1996 كنت في زيارة للعاصمة السودانية الخرطوم والتقيت مع الدكتور حسن الترابي، ووقتها كان رئيسا للبرلمان السوداني، وتطرق الحديث للتعاون بين مصر والسودان، وقال الترابي: “عرضنا علي الرئيس مبارك أن نزرع مليون فدان بالقمح بحيث تساهم مصر بالخبرة والعمالة وليبيا بالأموال ونحن بالأرض، إلا أننا فوجئنا بالرئيس مبارك يرفض ويبلغنا بوضوح شديد أن الولايات المتحدة لن تسمح لنا بذلك ومن الممكن أن تقوم بضربنا”.

(14) وسيم السيسي، برنامج البلد اليوم، صوت البلد، 27 أكتوبر 2013، الرابط

(15) المؤتمر الصحفي للرئيس مرسي والرئيس السوداني عمر البشير – ٥ابريل ٢٠١٣، الرابط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى