fbpx
الشرق الأوسطتحليلات

المعضلة الليبية والأمن القومي المصري: المعادلات والأولويات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقدمة:

يأتي التجييش الأخير للنظام السياسي الحاكم في مصر ضد التدخلات الدولية لصالح حكومة الوفاق الليبية وحلفائها الإقليميين في ظل طارئ جديد هو الاتفاق التركي الليبي الذي وقع في نوفمبر 2019، وهو اتفاق يشمل شقا عسكريا وشق آخر مرتبط بالغاز في منطقة شرق المتوسط واختلاف الرؤيتان المصرية والتركية في هذا الموضوع، وتتساءل هذه الورقة حول معادلات الأمن القومي التي نتجت عن التدخل المصري في ليبيا بعد ست سنوات من هذا التدخل وأية مصالح قومية تعززت جراء هذا التدخل؟ ومحاولة تفنيد بعض المغالطات التي تستخدم للترويج لهذه الرؤية.

الرؤية المصرية للثورة الليبية مغالطات تأسيسية:

يرتكب الكثير من المسؤولين والباحثين المصريين مغالطات كثيرة في رؤيتهم للثورات السورية واليمنية والليبية، ترتبط هذه المغالطة في محاولة اجترار الواقع المصري وأدوات تحليليه وتطوراته أو انتكاساته على وقائع قلما تتشابه مع السياق المصري، لا من حيث بنية الدولة ولا تطورها ولا التركيبات القبلية والاجتماعية حتى، فيتم تحليل اللحظة الراهنة وكأنها وليدة الصدفة، فبينما يندر أن تجد دراسات مصرية معمقة للوضع الليبي قبيل 2014 تجد سيلا من التحليلات السطحية لما يسمونه الحرب الأهلية الليبية تارة وحرب ما يسمى “الجيش الوطني الليبي ضد الإرهاب أو المليشيات المسلحة” تارة أخرى، وصولا لرؤية التدخل والدعم العسكري لحفتر باعتباره “الدفاع عن الأمن القومي المصري في ليبيا” بينما هذا الأمن القومي ينكمش تماما عند ذكر التهديد الأثيوبي لماء المصريين أو الاستيلاء الإسرائيلي على غازهم وتصديره لهم عبر شركات وسيطة تابعة لجهات سيادية مصرية في استعادة تامة لإرث فساد نظام مبارك في ملف الغاز.[1]

هذه الرؤية مأزومة فمن ناحية هي أسيرة إذ هي تتلبس الرؤية الرسمية للثورات العربية باعتبارها مؤامرة كونية على دول عربية لا يزال زعماء أكبرها يصفونها بأشباه الدول بعد ادعائهم إنقاذها من الفوضى والسقوط، ومن ناحية ثانية تستكثر هذه الرؤية على الليبيين أو السوريين أو اليمنيين الحق في الثورة والتحرر والمطالبة بالعيش الكريم والحرية والكرامة الإنسانية أسوة بالمصريين أو التونسيين وكأن المركزية المصرية تحتكر الثورة أو باعتبارهم أرقى عرقا وأنقى سلالة منهم، هذه الرؤية للثورات باعتبارها مؤامرة أخذت زخما كبيرا بعد موجة الثورات المضادة في 2014 وتدهور الأوضاع في مصر واستفحال أزمة الإرهاب في العراق وسوريا بظهور وانتشار تنظيم داعش ثم التدخلات والتحالفات الدولية لمحاربته، حيث خفتت لافتة الثورات العربية لصالح لافتة النظم التي رفعت وعنوانها الرئيسي الحرب على الإرهاب والمؤامرات الكونية على الدول العربية، وارتباطها بتفسيرات سطحية  للتاريخ وحركة البشر الحالية ضمن عمليات اتهامية متبادلة بين أنساق فكرية مختلفة توظف تعبويا للتراشق بين تيارات قومية ووطنية ودينية مأزومة، والمؤامرة بهذا المعني تملك حجية سحرية في الوصف والتفسير للتاريخ بل وحتى للحاضر ممثلا بالثورات العربية.[2]

الإشكالية هنا أننا قلما نجد تركيزا مصريا على الأزمة الليبية منذ تدحرجها من خانة الثورة في الفترة من 2011 إلى نهاية عهد المؤتمر الوطني العام وحتى انتخاب البرلمان الليبي إلى ما يشبه حالة حروب المدن والقبائل ضد بعضها صراعا على النفوذ في الدولة الجديدة محاطة بمحاولة انقلابية تسوق لذاتها باعتبارها حرب على الإرهاب ومحاولات توافق لم تنجح بعد، الأزمة هنا انه نادرا ما تستضيف المراكز البحثية المصرية أو الخليجية الحليفة باحثا ليبيا وقلما يوجد باحث متخصص في الشأن الليبي ويندر أن توجد صلات بين مراكز الفكر والرأي تلك ومراكز من ليبيا ان اعترفت أصلا أن ثمة مراكز بحثية في ليبيا، بينما تتواجد بعض هذه المراكز الليبية في مراكز جيدة في تصنيف جامعة بنسلفانيا لمراكز الفكر والرأي رغم ما تمر به البلاد من ظروف قاسية.[3]

وهذا ينتج عنه تحليلات سطحية لا تدرك أثر الجغرافيا والديموغرافيا في الصراع والحل في ليبيا فلم يكن القطر الليبي المعاصر من جهة الاجتماع والسياسة والإدارة والاقتصاد نتاج تطور كامل للعوامل المحلية في ليبيا وإن وجدت ملامحها الأولى وبماهية لا تتطابق مع التعريف الحديث للدولة، والذي ربما بدأت تتشكل معالمه بعد الاستقلال في 1951 إبان الاحتلال الإيطالي جراء النضال ضد المستعمر الواحد وجراء لقرارات التي أصدرها الاحتلال بشأن التعامل مع ليبيا موحدة، ثم عندما زال خطر المستعمر عادت أقاليم ليبيا الثلاث (برقة- فزان-طرابلس) بحكم التباعد الجغرافي وبدائية وسائل النقل لتطوير اتجاهات اجتماعية وأنشطة اقتصادية خاصة بهم دون تعزيز ارتباطهم بمدن ومناطق أخرى.[4]

ولم يكتمل هذا التشكل إذ كانت فترة الديكتاتورية العسكرية لأربعين سنة فترة انقطاع عن مسار تكوين الدولة وأبعد ما تكون عن مفهومها وجوهره وهي فترة إدارة بالتناقضات وتعزيز التفاوتات المناطقية والقبلية وبالتالي سقطت مع سقوط رأس النظام الذي فكك جيشه بيده باستعماله في حرب ضد ثورة شعبية.

الإشكالية الأخرى أن الكثيرين يكيفون مصطلحات علمية مستقرة في العلوم السياسية كالأمن القومي والدولة والقوة والشرعية وفقا للرؤية الرسمية فيرون الجيوش هي الدول والنظم السياسية هي الدول ومساندة الشرعية في اليمن مسألة ثابتة كثابت بلانك أو ثابت الجذب العام في الفيزياء، بينما مساندة هذه الشرعية في ليبيا هو مسألة نسبية ومحض دعم لإرهاب هو في معظمه تنظيمات أشبه بلجان شعبية قامت لحماية مدنها في إطار المواجهات مع نظام القذافي، ولا تدعم أرقام الإرهاب وضحاياه هذا الزعم، بخلاف أن المجموعات المسلحة تلك أشبه بكتائب مدينية مسلحة قبلية شكلت للدفاع عن مدنها ولم يتمكن أطراف الصراع السياسي من دمجها في جيش وطني ليبي كجزء من توافقات المرحلة الانتقالية إذ كان الحديث عن نزع سلاح هذه الكتائب وتحول أفرادها لمجرد مجندين في جيش وطني أمر ينظر إليه بعين الريبة من قبل بنية قبلية تتوزع على مدن متباعدة جدا ولا تضمن تلك التوافقات.

جذور التوتر في العلاقات وتطوراتها:

يعود التوتر في علاقات الحكومات الليبية والحكومات المصرية ما بعد الثورة إلى وقت مبكر من تاريخ الثورة الليبية فقد جاء اعتراف المجلس العسكري المصري بالمجلس الوطني الانتقالي كممثل وحيد للشعب الليبي متأخرا جدا، إضافة إلى ذلك فإن مصر استضافت بعض كبار رموز نظام القذافي مثل أحمد قذاف الدم الذي فر مبكرا إلى مصر في محاولة لاستمالة قبائل أولاد على التي تقطن الحدود الشرقية الليبية ومحافظة مطروح المصرية وتجييشهم ضد الثوار ومناصرتهم لنظام القذافي.[5]

كما ضيقت السلطات المصرية على الليبيين الفارين من قصف نظام القذافي لمدنهم وشهدت الحدود المصرية الليبية تكدسا شديدا وأزمات حتى في استقبال وإجلاء العمالة المصرية التي كانت موجودة بكثافة وقت اندلاع الثورة الليبية بالإضافة للمعاملة السيئة لليبيين على الحدود وهو الأمر الذي أزعج قوى الثورة الليبية وكتائبها وجعلها تشكك في النوايا المصرية تجاه الثورة وخلق حالة عداء مبكر بين كتائب الثوار الليبيين والمجلس العسكري المصري في وقت كان النظام الليبي يرتكب مجازر بحق المدنيين لقرابة التسعة أشهر.

ازدادت حساسية العلاقات المصرية الليبية بعد ترتيبات انقلاب الثالث من يوليو 2013 حيث يمكن القول إن الثورة المصرية المضادة شجعت حفتر على خطوته في إعلان انقلابه الأول الذي وصف ب”التلفزيوني” في14 فبراير 2014 ثم الانقلاب الثاني في يونيو من العام ذاته، المعزز بتحالفات قبلية محسوبة على النظام الليبي السابق المضارين من قانون العزل السياسي والتيار السلفي المدخلي المعادي لحركة الإخوان المسلمين وللتيار المدني وغير المعترف بالسياسة والانتخابات والبرلمانات عموما كوسيلة للتغيير إضافة إلى من يئسوا من سوء إدارة المؤتمر الوطني العام وعدم قدرته على إنجاز مهام المرحلة الانتقالية وصوغ الدستور قبل انقضاء الدستورية، الفيدراليين الراغبين بفرض الفيدرالية وإعادة توزيع الثروة بالقوة متمثلين في المنتمين لمجلس برقة الانتقالي الذي أفضت محاولاته الانقلابية إلي سقوط موانئ النفط في أيدى ميليشياته وأربك المشهد السياسي وأضعف قدرة المؤتمر الوطني على بناء الجيش أو إنهاء مهام المرحلة. هذه التطورات قادت لفراغ دستوري وتأخر عملية البدء ببناء الجيش والأجهزة الأمنية والسيطرة على الكتائب القبلية والمدينية المسلحة وعمق الخلاف الوطني.[6]

 وقد شكلت ليبيا مصدر قلق للنظام المصري الجديد بعد 2014 من حيث قراءته الخاطئة للمشهد باعتباره صراعا بين قوى وطنية ذات ظهير عسكري يمكن الاعتماد عليها وتيار إسلام سياسي معادي بظهير مسلح، وهو تبسيط مخل دون قراءة تطوراتها وتعقيداتها منذ اندلاع الثورة ضد نظام القذافي وحتى 2014، حيث أزمة الشرعية الحادة والانقسام بين برلمانين وحكومتين وعمليتين عسكريتين متصارعتين وراحت مصر تروج للرؤية الروسية القائلة بأن تدخل الناتو في ليبيا كان خطأ، وكأن المجتمع الدولي كان يجب عليه أن يترك الليبيين لنظام القذافي كي يؤدبهم على مسعاهم للتغيير ويظل يقصفهم حتى فناء سلاحه ويستعين بمن يناصره كما فعل النظام السوري حتى يغير المعادلة الداخلية لصالح استقراره على جثة ليبيا والليبيين، وقد كان هذا واضحا في عدة محافل دولية فبينما عززت فرنسا جهودها الدبلوماسية لخلق حل سياسي للحرب الليبية وشددت على ضرورة احترام نتائج اجتماعات باريس وباليرمو وأبوظبي والالتزام بالحل السلمي، عبّرت مصر عن عدم ارتياحها لأن يشمل هذا الحل شخصيات ومجموعات إسلامية بعينها.[7]

يتغافل الكثير من الباحثين أساس المعضلة الليبية وتطوراتها وتعقيداتها وتحولاتها فالحالة الليبية حتى فبراير 2014 كانت تسير في مسار تحول ديمقراطي ربما أفضل كثيرا من المسار المصري الذي انهار تماما وتحول لنقيض الثورة بكل آمالها وأهدافها في العيش والحرية والعدل الاجتماعي، من عدة نواحي فرغم الصراع المسلح ضد النظام والتدخلات الدولية للمساعدة في إسقاطه فقد نظمت نفسها في مجلس وطني انتقالي وشكلت حكومة انتقالية منذ مارس 2011 وأنجزت التحول من “المجلس الوطني الانتقالي” كسلطة انتقالية إلى “المؤتمر الوطني العام” كسلطة منتخبة وشرعت في انتخاب لجنة كتابة الدستور وانتخبت برلمانا لا يسيطر فيه تيار على دفة الأمور فيما ظهر ما يسمى “الجيش الوطني الليبي” وحلفاؤه الفيدراليون ليقلبوا طاولة هذا المسار في ظل انسحاب شخصيات وطنية هامة وانزوائها وتخليها عن مسئولياتها والذهاب باتجاه مناطقي ونقل البرلمان إلى طبرق ما أدى لطعون في دستورية انعقاده وانتخابه وهو الأمر الذي أدى لحكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا الليبية بحل مجلس النواب المنتخب وقبول الطعن المتعلق بعدم شرعية مقترحات لجنة فبراير التي شكلها المؤتمر الوطني العام وفخخت المرحلة الانتقالية بتأجيلها مسألة الانتخابات الرئاسية، واعتبار الخصومة منتهية في الطعنين الآخرين المتعلقين بقانون انتخاب البرلمان وبشرعية انعقاد جلساته في طبرق تم الرجوع إلى النقطة الأساس في الصراع الليبي الراهن وهي الشرعية وهل تعود للقوة أم للثورة أم للقوانين والوثائق الدستورية المتوافق عليها.[8]

وتشير تقارير للأمم المتحدة أنه يوجد في ليبيا ما يقرب من 29 مليون قطعة سلاح بين خفيفة ومتوسطة وثقيلة، وبدوره يقدر رئيس الوزراء الليبي الأسبق، المحسوب على التيار المدني، محمود جبريل، عدد الميلشيات المسلحة بأكثر من 1600 ميليشيا مسلحة، بعد أن كانوا 18 تشكيلاً عسكريا فقط يوم سقوط العاصمة في أغسطس 2011 وهي ميليشيات وكتائب ثوار المدن ولجانها التي تشكلت لمجابهة القذافي بالإضافة لبعض التنظيمات الجهادية المنتشرة في المنطقة مثل أنصار الشريعة والقاعدة وداعش والجماعات المتحركة في الصحراء جنوب وغرب البلاد.[9] هذه المبالغات في تقدير أعداد المليشيات المسلحة تصب في صالح رؤى ترى أن لا حل للأزمة سوي بدعم خارجي متواصل ومكثف لطرف عسكري من أجل الحسم.

 وفي إطار تحوله من شرعية الانقلاب العسكري تحول حفتر تدريجيا على خطى السيسي إلى شرعية الحرب على الإرهاب فتوسع هو وبرلمانه وحكومته في الشرق الليبي في تصنيف العديد من الكتائب والشخصيات غير المؤيدة له ولعملية الكرامة، التي كانت حتى العام 2014 في السلطة سواء في رئاسة الوزراء أو مجلس النواب أو المؤسسات الليبية المختلفة كتنظيمات إرهابية[10]ومعظم هذه القوائم يتعامل معها العالم كشخصيات عامة في فترة انتقالية وككتائب قاومت العدوان المسلح لنظام القذافي ولا يتفق مع حفتر في تصنيفه هذا سوى التصنيفات الإماراتية والمصرية والتي تتزامن وتتطابق مع التصنيف والتحديث الخاص بحكومة حفتر لهذه القوائم، في حين أن المساعي الدولية كانت تتبنى فكرة ضرورة دمج كتائب الثوار والمدن والمناطق في الجيش وأجهزة الأمن الليبية الوليدة كجزء من أية معادلة استقرار.

بعض هذه القوات هي تحالف من كتائب ثوار المدن ولجان أمنية أشبه بالشرطة المحلية، وعلى سبيل المثال قوة حماية طرابلس وهي تحالف يضم مجموعات موالية لحكومة الوفاق وأبرزها: “كتيبة ثوار طرابلس” وتنتشر في شرق العاصمة ووسطها، قوة الردع: قوات سلفية غير جهادية تتمركز خصوصاً في شرق العاصمة وتقوم بدور الشرطة ولها ميول متشددة. كتيبة أبو سليم: تسيطر خصوصا على حي أبو سليم الشعبي في جنوب العاصمة. كتيبة النواسي: إسلامية موجودة في شرق العاصمة حيث تسيطر خصوصا على القاعدة البحرية. حتى وإن بدى لبعضها ميول متشددة لا يمكن تصنيفها بالكلية كمليشيات إرهابية أو تنظيمات جهادية وهذا ما اتجهت إليه العديد من الدول الأوروبية.[11]

الأمن القومي المصري خطأ التأسيس وخطيئة الاصطفاف:

لا يدرك العديد من مروجي الرواية الرسمية المصرية أن ليبيا التي لا يرون شعبها يستحق الديمقراطية ولا الحرية ولا العيش الكريم الذي شارك بكثافة في التصويت في الانتخابات الأولي منذ 1965، وأنهم انتخبوا مجالس بلدية فاعلة وتمارس فعليا سلطة الدولة في مدنها وبلدياتها ويسيرون حياة الليبيين إلى الآن رغم القتال المتجدد والأوضاع المتفاقمة بينما مصر التي حلت المحليات في 2011 لا تزال بعد تسع سنوات من ثورة أو ثورتين -وفقا لأغلب هؤلاء- لم تنتخب أيا ممن يتحكمون في مواردها المحلية ولا يوجد فيها محافظ واحد أو رئيس بلدية منتخب ولا يبدو في الأفق أن هذا ممكنا قبل توافق الأجهزة السيادية على اختيار من يحق لهم خوض هذا الانتخابات المحلية وما يقولون أو لا يقولون قبل حتى التوافق على قانون المحليات.

ليس الليبيون أقل استحقاقا من بقية الشعوب العربية الأخرى لنظام ديمقراطي تعددي يستوعب الجميع، فعندما وضع الليبيون أمام أول  اختبار ديمقراطي بعد حكم ديكتاتوري دام أكثر من 40 عاما لنظام القذافي وترك شبه دولة بجيش منقسم، شارك قرابة 62% منهم في انتخابات المؤتمر الوطني العام الذي كان مسؤولا عن اختيار الجمعية التأسيسية وتسمية رئيس الوزراء وتنظيم استفتاء الدستور، بل اختاروا 16.5% من تشكيلة هذا المؤتمر من السيدات، وبالرغم من سياق صعود تيارات الإسلام السياسي بقوة في العام 2012 سواء في مصر أو تونس أو المغرب وحتى في الأردن، فإن تحالفا ليبراليا هو الذي فاز بأغلبية حزبية الانتخابات الليبية الأولى عقب الثورة التي أدت لإنهاء حكم القذافي ومقتله شخصيا. وبلغ عدد المقترعين (1,768,605) وبنسبة مشاركة (62)% من عدد المسجلين بالسجل الانتخابي.[12]

وتتأسس والرؤية المصرية الرسمية وحتى البحثية والإعلامية على مغالطة مفادها أن الإسلاميين وتحديدا تيار الإخوان المسلمين وحزب العدالة والبناء كانوا يسيطرون على الاستحقاقات الانتخابية السابقة على انطلاق عملية الكرامة التي أطلقها حفتر، وهذا زعم غير صحيح على الإطلاق، حيث فاز تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل ب39 مقعدا من أصل 80 خصصت للأحزاب السياسية وبفارق كبير عن تاليه حزب العدالة والبناء الذي حصل على 17 مقعدا فقط من المقاعد المخصصة للأحزاب، فهم لم يكونوا أغلبية في الاستحقاق الأول.

المعضلة الليبية والأمن القومي المصري المعادلات والأولويات-1

جدولين  منقولين من دراسة للكاتب الليبي زهير حامدي http://bit.ly/35CIM1u

ويمكن القول أن نفوذ الإسلاميين الذي يختزله النظام المصري في تيار الإخوان المسلمين قد تقلص بشدة في الانتخابات الخاصة بالبرلمان والتي جرت في مايو 2014، فمع إصرار التيار المدني على اتباع النظام الفردي لانتخابات مجلس النواب تعمقت التوجهات القبلية والفيدرالية وانخفضت كتلة كلا من التيار المدني وتيار الإسلام السياسي في مقابل ارتفاع الأصوات الجهوية والقبلية والأصوات المحافظة المعادية للثورة، بالإضافة لانخفاض نسبة المسجلين والمشاركين في هذه الانتخابات فقد بلغ عدد المقيدين بسجل الناخبين الالكتروني (1,509,317) ناخباً، بينما شارك (630000) ناخب في عملية الاقتراع أي قرابة ثلث من شاركوا بالانتخابات السابقة بنسبة تصل إلى (41)% ممن سجلوا أنفسهم، ولم يحصل حزب العدالة والناء على أكثر من 30 مقعدا بينما حصل تحالف القوى الوطنية على 0 مقعدا والبقية ذهبت لأنصار الفيدرالية والتوجهات المحلية وهي نتائج ذات دلالة في سياق أجريت فيه الانتخابات في ضوء بوادر صراع مسلح وأعلنت فيه النتائج بينما كانت الحرب مستعرة بين عملية الكرامة وعملية فجر ليبيا واستخدام التيارات السياسية للقضاء تارة وللسلاح تارات أخرى في تعزيز رؤيتها للمرحلة الانتقالية مع تعاظم دوائر من يكفرون بالعملية السياسية وبالثورة أو من يتحسسون من الانقلاب على الثورة.[13]فإذا أضيف إليهم المستقلون المرتبطين بحزب العدالة والبناء وهم 17 فإن الإخوان لم يحصلوا على أكثر من 34 مقعدا فإذا أضفنا مقاعد السلفيين والقوائم الوطنية الصغيرة المرتبطة بهم رغم الاختلاف الجوهري بينهم يصبح مجموع مقاعد التيار الإسلامي 61 من 200 مقعد هي إجمالي مقاعد المؤتمر الوطني العام أي 30% فإذا كان الإسلاميون أغلبية في المؤتمر فكيف لم تحصل حكومة مصطفى أبو شاقور المحسوب على التيار الإسلامي على ثقة المؤتمر وفشل في تشكيل الحكومة لمدة شهر واختفى عن مشهد الحكم؟ بل كيف لم يستطيعوا إقالة حكومة علي زيدان بعد استقالة خمسة من وزرائهم ورفض محاولات الاقالة وظل متمسكا بمنصبه فترة إلى أن أقاله المؤتمر الوطني العام في 3 فبراير 2014 ليحدث أزمة فراغ سلطة قبيل انقضاء المدة الدستورية للمؤتمر الوطني العام بأيام والتي سبقتها احتجاجات واصطفافات جهوية وعلى خطوط مع أو ضد الثورة.

وإذا كان هؤلاء يسوقون أن التدخل المصري بالشكل الحالي في المعادلة الليبية هو لحماية الأمن القومي لمصر فلماذا لا يخبرنا هؤلاء عن نتائج هذا الدعم بعد ست سنوات من بدايته؟ ولماذا لم يجر أي تقييم لهذه العمليات لا في البرلمان المستأنس الذي عينته الأجهزة السيادية المصرية ولا داخل هذه الأجهزة السيادية ذاتها التي يفترض بها المسؤلية عن هذه العملية؟، لا يمكن لأي بلد اتباع سياسة ممنهجة لست سنوات دون تقييم نتائجها ودون إعلانها للرأي العام حتى في إطار الديكتاتوريات العسكرية التقليدية هناك قدر من التعامل مع الجمهور والرأي العام باعتبار أن أبنائه من يقاتلون في هذه العمليات أو أن موارده يتم إنفاقها في هذا الوجه ولا بد لها من مردود، لا يذكر هؤلاء مطلقا أن ليبيا شبه المستقرة في مارس 2013 أقرضت مصر ثلاثة مليارات دولار في صورة 2 مليار وديعة لدى البنك المركزي المصري ومليار دولار وقود حيث كانت مصر تمر بأزمة تمويل وأزمة طاقة طاحنة استغلت لاحقا في الإطاحة بنظام مرسي، فإذا كانت ليبيا شبه المستقرة قدمت لمصر هذا الرقم في ذلك التوقيت الذي لم تكن تتلقى فيه أي دعم مصري يذكر فماذا قدمت ليبيا حفتر لمصر التي دعمت استقرارها طوال 5 سنوات دفاعا عن أمنها القومي؟

يتباكي الكثير من المحللين ورجال الدولة المصرية على المصالح القومية المصرية في ليبيا دون تفنيدها أو إيضاح أبعادها وعلى أفضل تقدير فإنهم يقدمون المعنى الأمني باعتبار النظام المصري يحارب الإرهاب نيابة عن العالم في الداخل المصري وفي دول الجوار، وهي المقولة التي استهلكت لأكثر من ست سنوات وحتى حلفاء مصر الإقليميين في المسألة الليبية لا يبدو أنهم يثقون في هذه السياسة فالإمارات تنفذ ضرباتها الجوية في ليبيا بنفسها سواء بقوات جوية أو عن طريق الدرونز وتبدو أقل اعتمادا على حليفها الاستراتيجي في مصر لتنفيذ مشروعها الذي يدور حول إفشال الثورات العربية بالأساس، كما أن السعودية بدت هي التي تقف خلف هجوم حفتر على طرابلس في أبريل 2019 دون تنسيق مع مصر.

وطوال سنوات سيطرة هذا الطرف شكليا على الحدود الغربية لمصر حدثت أسوأ عمليات اختراق للحدود وأكبر عملية إرهابية تستهدف قوى الأمن المصري وهي عملية الواحات البحرية في 20 أكتوبر 2017 انطلاقا من الأراضي الليبية والذي راح ضحيته 16 من قوات الأمن المصري وإصابة 13 آخرين وفقا للبيانات الرسمية المصرية.[14] وهي العملية الأكبر ضد قوى الأمن والجيش في الصحراء الغربية، والتي سبقتها عمليات في المنيا بصعيد مصر كان آخرها حادث أتوبيس المنيا الذي أسفر عن مقتل 29 وإصابة 23 آخرين، وهي العملية التي قالت المصادر الأمنية المصرية أن التخطيط لها تم بمساعدة جماعات ليبية تعتنق فكر داعش.[15] وهي العملية التي تضمنت دخول وخروج هذه العناصر عبر الحدود الغربية لمصر في الوقت الذي كان يدعى حفتر سيطرته التامة على الحدود وحماية مصر من الإرهاب أي أن هذا الطرف الذي ندعمه غير قادر على حماية الحدود، بل إنه يمكن القول إن هذا الدعم هو أحد أسباب تأليب تنظيم داعش وأنصار الشريعة المتطرف ضد مصر واستهدافه للمصريين في ليبيا وخارجها وهي ما يقتضي مراجعة هذا الدعم وتنسيق أكبر مع حكومة الوفاق في استهداف هذه المجموعات تحديدا أو القيام بعمليات مباشرة لتصفية الحركات المتطرفة غير المنخرطة في العملية السياسية.

كما أن هذه الرؤية المحدودة للأمن القومي قوضت الجهود المصرية المتعثرة للوساطة فمنذ بداية أزمة الشرعية في ليبيا وتدخلها بدعم حفتر وانحيازها لبرلمان وحكومة طبرق فقدت مصر صفة الوسيط الذي يمكنه إحداث أي فارق في المعادلة الليبية فبرغم دعمها وبقوة لمسار مجموعة دول الجوار الليبي[16]، والذي عقد أكثر من 12 اجتماعا إلا أنه لم يتوصل لأي اتفاقات بين الأطراف الليبية وبعضها كان يتغيب عنه بصفة متكررة، أيضا فإن اعترافها على مضض بنتائج المسار الأممي واتفاق الصخيرات لم يمنعها من دعم حفتر رغم تزايد الاستياء الدولي من سلوكه المتكرر وتحذيره من الغارات المتكررة على طرابلس والمدن الليبية.[17]

وهذا الموقف أفقد الجهود الدبلوماسية المكثفة أية قدرة على التأثير رغم كثافة الحركة سواء في المحيط الإقليمي والدولي فمن ناحية لا تستطيع إيجاد غطاء دولي للعمليات المصرية في العمق الليبي ومن ناحية أخرى فإن دعوات وقف التدخل الأجنبي في ظل التدخل الفعلي تصبح بلا معني ومن ناحية ثانية تعقيد الحوار تارة بطرح تقاسم السلطة والثروة على أجندته وتارة أخرى بربط مسألة غاز شرق المتوسط بالتدخل العسكري التركي، وهي ليست في صالح مصر لآن هذا الربط صب باتجاه توافق روسي تركي أفضى لدور أكثر قدرة على فرض وقف إطلاق النار قبل مؤتمر برلين المزمع انعقاده في 15 يناير مع تجميد الأوضاع، ومن ناحية ثانية فالتحركات المصرية لا تضمن موقفا أوروبيا موحدا في المسألة الليبية فالجانبان الفرنسي والإيطالي يمتلكان مصالح متناقضة بين عملاقي النفط التابعين لهما فشركة إيني إيطالية وتستحوذ على الحصة الأكبر من استخراج وتكرير وتصدير النفط الليبي وتحتفظ بعلاقات قوية مع المؤسسة الوطنية للنفط التابعة لحكومة الوفاق، بينما تسعى فرنسا لتعزيز حصة شركة توتال والشركات الفرنسية الأخرى سواء في البحث والتنقيب أو عمليات إعادة الإعمار، بينما تقف مصر خاسرة وسط هذه المصالح الاقتصادية المتعاظمة والمتناقضة.

وبينما التدخل المصري المؤسس على فكرة عداء الثورات والتيار الإسلامي الذي صعد في أعقابها وتحويله لعدو إقليمي مستباح ويجب القضاء عليه في المنطقة بشكل أفشل كافة التوافقات الليبية دون أن يحقق أية مصلحة قومية مصرية أو يفرض استقرارا في ليبيا هو تدخل لحماية الأمن القومي المصري فإن التدخل التركي هو غزو عثماني وكأننا في عهد مملوكي من التعامل مع الدولة القطرية القومية التركية باعتبارها دولة احتلال بينما تملك مصالح اقتصادية وتجارية في ليبيا أكبر بكثير مما تملكه مصر دولة الجوار المباشر لليبيا الأقوى عربيا والأعرق جذورا في تاريخ الدولة والبيروقراطية والجيوش، وتبحث لها عن شريك تعتمد عليه في دفوعها بأحقيتها في حصة دون استبعادها من مسألة غاز شرق المتوسط مستغلة علاقاتها بروسيا والانقسام الأوروبي حول المسألة الليبية حيث تختلف الرؤية الفرنسية عن نظيرتها الإيطالية والألمانية للأوضاع في ليبيا بينما لا يوجد موقف أوروبي موحد.[18]

البعد الاقتصادي للأمن القومي عندما يغيب الاقتصاد لصالح الأمن:

بمعايير بسيطة غير عسكرية وأمنية فإننا يمكن أن نكتشف أن السنوات الست الماضية تمخضت عن ضعف حقيقي في المصالح المصرية الليبية المشتركة مقارنة بالمصالح المناوئة بمؤشرات العمالة والاستثمار والتجارة، فبينما تخطط الحكومة التركية لرفع صادرات تركيا إلى ليبيا بأكثر من 571 في المائة، لتصل إلى 10 مليارات دولار، مقابل نحو 1.49 مليار دولار في 2018 وفقا لجمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين الأتراك (موسياد)[19]، فإننا لا نجد خططا مصرية في هذا الصدد بل تراجع ملحوظ في هذه الاستثمارات للحد الذي يجعل منتدى الأعمال المصري الليبي مستاء من تراجع الاستثمارات المصرية بليبيا لحدود 520 مليون دولار وتراجع الاستثمارات الليبية بمؤشر عدد الشركات في مصر بنحو 25% بينما يفترض أن ليبيا مقبلة على إعادة إعمار.[20]

المعضلة الليبية والأمن القومي المصري المعادلات والأولويات-2

وتظهر البيانات المتاحة حول التجارة التراجع الشديد لمؤشرات الصادرات المصرية لليبيا إلى اقل من نصف ما كانت عليه في 2009 وحوالي ثلث ما وصلت إليه في 2012 و2013، حيث تطورت هذه العلاقات كثيرا في هذين العامين بفعل الاستقرار النسبي للسلطة في كلا البلدين، فقد شكلت ليبيا مصدرا مهما لمحاولة الرئيس مرسي حل أزمة الوقود وتراجع التمويل الدولي وفي أبريل من العام  2013 أقرضت الحكومة الليبية مصر 2 مليار دولار دون فائدة ويسدد على خمس سنوات وبفترة سماح ثلاث سنوات بهدف دعم الاقتصاد المصري والموازنة العامة للدولة والاحتياطي النقدي الأجنبي.[21] فإذا لم يكن لهذا التعاون ثمنا سوى وعود بالمشاركة في إعادة بناء الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة بليبيا، فماذا قدم حفتر وتحالفه الهش في الشرق الليبي لمصر بعد ست سنوات من الدعم الكبير بالتسليح والتدريب والتدخلات المباشرة لصالحه؟

ويحاول الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء التحايل على هذه الأرقام بتحويلها للعملة المحلية فتظهر بيانات الجهاز أن هناك تزايدا مطردا في قيمة التبادل التجاري بالجنيه المصري فيما انخفضت قيمة العملة المصرية للنصف عقب قرار التعويم في نوفمبر 2016 وهو الأمر الذي لا يغير من حقيقة الانخفاض الحاد لقيم التبادل التجاري مع ليبيا منذ 2013 كما نلاحظ في الرسم البياني التالي[22]:

المعضلة الليبية والأمن القومي المصري المعادلات والأولويات-3
رسم بياني من إعداد الباحث بناء على بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء

وتقر الهيئة العامة للاستعلامات المصرية أيضا أن ثمة تراجع حاليا تشهده مؤشرات التعاون وحركة التجارة بين البلدين في السنوات الأخيرة، حيث تراجع حجم التبادل التجاري من 2.5 مليار دولار عام 2010، إلى نحو 500 مليون دولار في 2018، وتشير إلي أن ثمة معيقات لتفعيل اتفاقية التجارة المشتركة بينهما  والموقعة عام 1990، وكذلك الاتفاقية التي وقعت على هامشها والخاصة بالنقل والركاب حيث اصبحت الاتفاقية في حاجة ماسة للتعديل والتطوير لتتواكب مع التطورات والتغييرات التي طرأت على آليات الاقتصاد العالمي على وجه العموم، وعلى اقتصاد البلدين بشكل خاص.[23] أي أننا بصدد علاقات غير مخططة ولا يوجد توقعات قوية بشأنها بينما الطرف التركي يوثق علاقاته بليبيا كمستقر لاستثماراته وتجارته وكمعبر لهذه التجارة إلى بقية دول الوسط الأفريقي.

أمن قومي مصري مباشر هل يحمي حفتر المصالح المصرية من لإرهاب؟

تمتلك مصر حدودا مباشرة مع ليبيا بطول 1200كم وهي حدود صحراوية وجبلية وعرة في معظمها وحمايتها مسألة معقدة وشديدة الصعوبة، وفي ظل الانتشار الكثيف للسلاح والمليشيات وضعف الدولة الليبية تبدو المخاوف المصرية من خطورة هذا الوضع على أمنها القومي منطقية، خاصة إذا أضفنا أن التطورات السياسية في يوليو 2013 في مصر رتبت مخاوف من أن يستغل الإسلاميون الأوضاع في ليبيا لزعزعة استقرار النظام، وأيضا فإن تحركات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر بعدها بسبعة أشهر بدت استلهاما للانقلاب الذي حدث في مصر، ثم توالت استهدافات الجماعات المتطرفة للمسيحيين المصريين في ليبيا إلى حد بدت فيه العلاقات متوترة وبدت الأولوية الأمنية تغلب على ما عداها من أولويات الاقتصاد والاستثمار والتجارة والعمالة.[24]

ولكن إذا علمنا أن تنظيم الدولة الإسلامية كان يتواجد بقوة بالقرب من مدينة أجدابيا، الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر، وأن مهربي البشر سواء مهاجرين أو منتسبين للتنظيمات الجهادية ينشطون في المدن الشرقية الواقعة على الحدود المصرية الليبية، دون أن يحرز حفتر تقدما ضد هذه المجموعات في مقابل استهدافه للقوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني في الوسط والغرب والجنوب الليبي فإنه يحق لنا التساؤل أية معادلة للأمن يحققها حفتر في مواجهة الإرهاب؟ بل كثيرا ما تقوم الحكومة التي تؤيدها مصر في الشرق الليبي باعتقال عشرات المصريين واتهام الكثيرين من المهربين بإلحاقهم بتنظيمات إرهابية.[25]

 رغم أن المهاجرين المصريين عبر طرق التهريب عمالة يتم تهريبها بمقابل مالي وفي ظروف غير آدمية، بدلا من إيجاد صيغ قانونية وتيسير عملية انتقال هذه العمالة المهاجرة للشرق الليبي كرد جميل لدولة مؤيدة، لكن فيما يبدو أن سيطرة الجيش الوطني الليبي متآكلة ولا يتمتع بالقوة والحزم الكافيين للهيمنة على الدروب الصحراوية المنتشرة عبر المناطق غير الحضرية القريبة نسبيًا من جنوب ليبيا بالمقارنة بالمدن الساحلية، وهو ما يعرض الأمن القومي لمصر لمزيد من المخاطر سواء من ناحية ازدياد نشاط التهريب للأسلحة والبشر أو من ناحية انخفاض العمالة الرسمية وانحسار ما يصدر من تصاريح عمل على تلك المتوجهة للمنطقة الشرقية وبصعوبة شديدة.

معادلة الأمن القومي

إن بيئة مصر الإقليمية مليئة بالتحديات والتهديدات الكبيرة، فمن ناحية تصاعد التوتر بين إيران والولايات المتحدة على مساحة نفوذهما بالمنطقة وحساسية دول الخليج التي تملك تحالفات استراتيجية مع مصر، يرتب على مصر التزامات إقليمية ناحية الخليج الداعم الأكبر للنظام السياسي المصري بمركب معقد يشمل العمالة والاستثمار والتمويل الدولي بشقيه المنح والمعونات والقروض، ولا يملك النظام رفاهية التخلي عن هذه الدول وخياراته محدودة جدا تجاه أية اضطرابات محتملة بينها وبين إيران، والنظام تورط في الأزمة الخليجية دون داع قوي سوى استضافة قطر لرموز المعارضة المصرية.

لدي النظام مشكلة جوهرية في موضوع المياه إذ يتهدد أمنه المائي والبيئي والاقتصادي والغذائي وتتهدد السيادة الغذائية المصرية، حيث ستسهم أزمة المياه في انخفاض المساحة المنزرعة وانخفاض قدرة مصر على الوفاء باحتياجاتها من الغذاء فضلا عن تدهور صادراتها الزراعية وتأثيرات ذلك على الميزان التجاري، فضلا عن تأثير هذا الشح في المياه على حركة السكان وهجراتهم الداخلية والخارجية ومؤشرات البطالة والفقر، وبالتأكيد فإن أمن المياه أولوية أولى تسبق كافة الأولويات أو هكذا يفترض أن تكون.

خاتمة:

التدخل المصري في ليبيا بدعم أي طرف يجانبه الصواب في أكثر من ناحية فهو يغذي صراع الشرعيات الذي بدأ منذ فبراير 2014 وكان يفترض باتفاق الصخيرات المدعوم أمميا والتوافقات الدولية اللاحقة إنهاؤه، وليبيا دولة جوار مباشر وبالتالي عدم الاستقرار فيها يضر مباشرة بالأمن القومي المصري ويجلب مزيدا من التدخلات الإقليمية والدولية، كما أن الصراع هناك ليس صراعا بين إخوان مسلمين أو إسلام سياسي وجيش وطني كما تتأسس الرؤية المصرية فالإخوان  وحزبهم العدالة والبناء كانوا الرقم الثالث في المعادلة السياسية الحزبية الليبية بانتخابات المجلس الوطني الانتقالي بعيد الثورة مباشرة وهناك مكونات محلية وجهوية وفيدرالية قوية ثم تيار ليبرالي مدني كبير.

 ثمة استنتاج دولي حول ليبيا مفاده أن لا حل عسكري ممكن في ليبيا والطرف الذي تدعمه مصر غير معترف به دوليا وطوال ست سنوات من الدعم لم يستطع السيطرة على مساحة ثابتة من ليبيا وسيطرته شكلية ومساحة ليبيا تتجاوز 1.7 مساحة مصر وسيطرة هذا الطرف على كامل التراب الليبي شبه مستحيلة كما هو الحال بالنسبة للأطراف المناوئة له.

على مصر أن تعيد التفكير في خططها وأن تبتعد عن أجواء المكايدات السياسية مع تركيا وتعود لموقع الطرف الوسيط الضاغط باتجاه تسوية ما للأزمة الليبية على أساس اتفاق الصخيرات والجهود الأممية، وأن تدخل على خط التوافقات الروسية التركية الأخير، فاستقرار ليبيا يعني البدء بشكل أسرع في عملية إعادة الإعمار، وإذا كان هناك دور إيجابي لمصر في التسوية هذا يعني نصيبا أكبر لشركات المقاولات المصرية في كعكة إعادة الإعمار، ليبيا قبيل الثورة كانت تستوعب قرابة مليون ونصف مليون عامل وعلينا أن نتخيل أنها بحاجة لضعف هذا الرقم حال اتجاهها للاستقرار وبدء عملية إعادة الإعمار وهو ما يعني إنعاشا اقتصاديا لمصر بتحويلات أكبر من الرقم السنوي لصافي الاستثمار الأجنبي المباشر وبما لهذه العمالة المهاجرة من أثر في تخفيض مؤشر البطالة والفقر.

فيما يتعلق بالاتفاق الأمني والعسكري والبحري التركي الليبي، كان الأولي بمصر أن تعقد هي اتفاق تعاون أمني وعسكري مع حكومة الوفاق، لكنها تركت المجال لأطراف تعتبرها مناوئة للذهاب بهذا الاتجاه، وعلى الأقل فإن الجزء الخاص بترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا لا يضر بالمصالح المصرية، وهو بالتأكيد يضيف لمصر مساحات وحقوق بحرية أوسع من الترسيم المصري القبرصي اليوناني الإسرائيلي للحدود البحرية فحسب الترسيم التركي قد تقع بعض حقول الغاز الإسرائيلية داخل المياه الإقليمية لمصر، وعلى مصر إعادة النظر في هذا الشق من الاتفاق التركي الليبي فإن كان يعزز مساحاتها البحرية ومصالحها فلا مجال للمكابرة أمام الاعتراف به بل ومراجعة ترسيماتنا السابقة مع إسرائيل واليونان وقبرص.

مصر تحتاج لنظرة مستقبلية تأخذ في الحسبان الأبعاد غير الأمنية لمفهومها عن أمنها القومي تستهدف مضاعفة مصالحها الاقتصادية في دول جوارها المباشر وهو ما يعني تعظيم المصالح السياسية والاقتصادية وأن تدرك أن تكلفة الحل العسكري باهظة وغير واقعية وتخصم من رصيدها لدى الليبيين وأن المسألة أعقد من سيطرة ظاهرية على بعض المدن حيث تتشابك القبائلية مع المناطقية مع وجود مجالس بلدية ومجموعات مسلحة تقوم بأدوار الجيش والشرطة الغائبين ولديها شرعيات في مدنها وأن هذا الطرف الذي تدعمه لن يستطيع الحسم ولا حماية وضمان أية مصالح مصرية لأن سيطرته على كامل التراب الليبي شبه مستحيلة كما هو الحال بالنسبة لخصومه.

علينا النظر كباحثين مصريين لخبراتنا البحثية في شئون دول جوارنا المباشر بشيء من التواضع فهي خبرات محدودة، ومعظمها خبرات مكتبية غير مطلعة على الصحافة وإنتاج مراكز الفكر والرأي في تلك الدول وتقوم على تحليلات لا تصدر عن ليبيين أو سودانيين، وهي أكثر محدودية وتواضعا من حجم اهتمام دولنا بتجارتها ونفوذها الاقتصادي في هذين البلدين الغاية في الأهمية لأي دور مصري ولمعادلة أمن قومي مستقرة لمصر[26].


الهامش

[1] حسام بهجت، من يشتري غاز إسرائيل؟ شركة مملوكة للمخابرات المصرية، موقع مدى مصر بتاريخ 21/10/2018، http://bit.ly/30fYIpo

[2] سيف الدين عبد الفتاح، المؤامرة وتفسير التاريخ: بين المدخل السنني والتفسيرات الليبرالية، المعهد المصري للدراسات، بتاريخ 8/6/2018، http://bit.ly/2tahgez

[3] على سبيل المثال تتواجد مراكز (المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات–  معهد صادق) بشكل دوري في تقارير جامعة بنسلفانيا حول مراكز الفكر والرأي في العالم، لمزيد من التفصيل يمكن مراجعة أحدث نسخة للتقرير والصادرة 2019، http://bit.ly/39ZXxPf

[4] إسماعيل رشاد، أثر الديمغرافيا والجغرافيا في الصراع والحل في ليبيا، المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات، يوليو 2016، http://bit.ly/36Pa7il

[5] Lina Atallah, On the frontiers of two revolutions: Awlad Ali on Libya and Egypt, Egyptian Independent, 25/2/2011,http://bit.ly/2trHZ6a

[6] زهير حامدي، ثلاث سنوات على الثورة الليبية: التحديات والمآلات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مجلة سياسات عربية عدد 7، صـ88-95، مارس 2014، http://bit.ly/35CIM1u

[7] أسمهان سليمان وشريفة معتز، مصر وفرنسا في ليبيا.. تباعد بين مساري حليفين: «القاهرة» تدعم حفتر في مسار موازٍ لجهود باريس الدبلوماسية ومبعوث الأمم المتحدة، موقع مدى مصر، بتاريخ 29/6/2018، http://bit.ly/2FEtGhm

[8] عمر سمير، تنازع الشرعيات هل من مخرج للأزمة الليبية؟، المركز لليبي للبحوث والتنمية، نوفمبر2014، http://bit.ly/2R9qoYW

[9] قناة دويتشه فيله، تقرير مصور حول أبرز القوى المسلحة المتصارعة على النفوذ في المشهد الليبي، بتاريخ5/4/2019، http://bit.ly/2ZXNyWd

[10] محمد العربي، ليبيا تصدر ملحقاً لقائمة الإرهاب يضم 75 اسماً و9 كيانات، العربية نت، 10/6/2017، http://bit.ly/2sJuD5n

[11] على سبيل المثال  في نوفمبر 2019 صوت مجلس العموم البريطاني لصالح قرار يقضي برفع اسم الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة من قائمة المنظمات الارهابية واعتبارها منظمة مارست المعارضة السياسية المسلحة ضد نظام معمر القذافي، لمزيد من التفاصيل حول هذا القرار يمكن مراجعة  موقع مونت كارلو الدولية، بعنوان “الجماعة الليبية المقاتلة ليست إرهابية في بريطانيا: ما أسباب القرار وتداعياته؟”، بتاريخ 6/11/2019، http://bit.ly/300dLU3

[12] انظر موقع المفوضية الوطنية العليا للانتخابات الليبية، https://hnec.ly/?page_id=7537

[13] السنوسي بسيكري، ليبيا في مرحلتها الانتقالية الثالثة: صراع الإرادات وتنازع الشرعيات، مركز الجزيرة للدراسات،

11/8/2014، http://bit.ly/30e1sna

 [14] أشرف عبد الحميد، الإعدام لإرهابي ليبي والسجن لـ 32 بقضية حادث الواحات، قناة العربية، بتاريخ 17/11/2019، http://bit.ly/2NffLm6

[15] محمد راضي ودسوقي عمارة، مصادر خاصة: الإرهابيان عمرو ومهاب خططا لحادث المنيا بمشاركة عناصر ليبية، أخبار اليوم، بتاريخ 29/5/2017، http://bit.ly/2uHpEmp

[16] مجموعة دول الجوار الليبي تأسست عام 2014 بعضوية الجزائر ومصر وليبيا، وتونس والسودان وتشاد والنيجر وتم تشكيلها أثناء القمّة الإفريقية في غينيا الاستوائية، تعمل دول الجوار الليبي، خاصة دول الجوار المباشر كمصر والجزائر وتونس بغرض تقديم الدعم السياسي والأمني لليبيا من خلال  العمل الجماعي للتعامل مع الموقف في ليبيا  وفق آلية مشتركة لدول الجوار، بالتنسيق والتعاون مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، ورئيسة مفوضية الاتحاد الإفريقي من أجلى بلورة رؤية مشتركة وخارطة طريق وفق إرادة الليبيين وأولوياتهم تعرض على دول الجوار لاعتمادها.

[17]  Patrick Wintour, Libya: international community warns Haftar against Tripoli attack, the Guardian, 6/4/2019, http://bit.ly/2ujwA8Q

[18] Pascale Davies, EU Divisions In Libya Leaves Space Wide Open For Turkey, Forbes, 31 Dec, 2019, http://bit.ly/2FsxMJv

[19] سعيد عبد الرازق، تركيا تسعى لزيادة صادراتها إلى ليبيا إلى 10 مليارات دولار، جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/1/2020، http://bit.ly/2QWXdIC

[20] انظر موقع القناة الاقتصادية الليبية، بتاريخ 7/3/2019، http://bit.ly/2FrbkQY

[21] العربية نت، بعد قطر.. ليبيا تمنح مصر ملياري دولار دون فوائد، بتاريخ 11/4/2013، http://bit.ly/35JLIcQ

[22] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الميزان التجاري مع الدول العربية 2008-2018.

[23] الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، العلاقات المصرية الليبية، http://bit.ly/2R4ewHt

[24] Mohamed Elmenshawy, Bad Neighbor, Good Neighbor: Libya-Egypt Relations, Middle East Institute, March 21, 2014, http://bit.ly/2SYqOE4

[25] مها اللواطي، السلطات الليبية تلقي القبض على 131 مصري.. وتعلن عن شبكة تهريب تلحق مهاجرين بـ «مجموعات مسلحة»، مدى مصر بتاريخ 19/7/2018، http://bit.ly/39XUh79

[26] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close