تقارير

المقاربة الإيرانية الجديدة تجاه “طالبان” وأفغانستان

العلاقات بين إيران وأفغانستان قديمة قدم البلدين، فالأخيرة كانت في فترات زمنية جزءاً من الإمبراطورية الساسانية ثم تمكن نادر شاه أحد أكبر الفاتحين في تاريخ إيران الحديث من الاستيلاء مجدداً على أفغانستان عام 1737. وبقيت هذه البلاد جزءاً من الدولة القاجارية الإيرانية في القرن التاسع عشر إلى أن احتلتها بريطانيا في سياق الصراع الأنجلو-روسي على النفوذ في آسيا الوسطى.

ولإيران نفوذ ثقافي وديني وسياسي واقتصادي على جارتها أفغانستان، التي تحتل موقعاً ذا أهمية جيو-استراتيجية حسَّاسة للغاية؛ فهي تقع في وسط المناطق الآسيوية الرئيسية، ما يجعل منها ومنطقة آسيا الوسطى منطقتين محوريتين للسيطرة على مختلف المناطق الأخرى. (1)

وتتمتع أفغانستان بموقع جغرافي مهم تستفيد منه إيران، حيث تعتبر ممرا مهماً لصادرات النفط والغاز الطبيعي من وسط آسيا إلى بحر العرب. بالنسبة لخطوط أنابيب الطاقة في أفغانستان، هناك خط تابي (TAPI)، وهو امتداد خط أنابيب الغاز الطبيعي من تركمانستان عابراً أفغانستان إلى باكستان، ثم الهند. والخط الثاني هو خط إيران-باكستان-الهند (IPI). وقبل أيام قليلة من هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، قدَّمت إدارة معلومات الطاقة الأميركية تقريراً يقول: “يأتي تميّز أفغانستان، حسب منظور الطاقة، من موقعها الجغرافي كطريق محتمل لنقل النفط والغاز الطبيعي المُصدَّر من آسيا الوسطى إلى البحر العربي. وتشمل هذه الإمكانية إنشاء خط أنابيب لتصدير النفط والغاز الطبيعي عبر أفغانستان”.

وتمتلك أفغانستان موارد وثروات طبيعية عديدة: نفط وغاز، وثروات منجمية كالذهب والنحاس والحديد والكوبالت والليثيوم، إضافة إلى اليورانيوم والعناصر الأرضية النادرة. وكان الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي قد قدّر قيمة ثروات بلاده بتريليون دولار. واستند في تقديره هذا على عمليات مسح جغرافي قامت بها مؤسسات أميركية في أواخر عام 2006.(2)

علاقات إيران وطالبان من التوتر إلى الدعم

تختلف الآراء والتحليلات حول طبيعة العلاقة التي ستربط إيران بحركة طالبان المتشددة، والتي أعلنت أخيراً سيطرتها على كامل أفغانستان بعيد الانسحاب الأميركي الدرامي من هذا البلد.

لكن السمة العامة للاستراتيجية الإيرانية تجاه أفغانستان في مرحلتي سيطرة حركة طالبان والاحتلال الأميركي لهذا البلد كانت التدخل “الحذر والمرن” بحسب التطورات والتحوّلات السياسية والأمنية، لحماية المصالح الإيرانية، وتحديداً أمن إيران القومي، من أي تأثيرات سلبية بفعل التحولات المتسارعة، خصوصاً بعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان في العام 2001، بُعيد هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، والذي استمرّ لعقدين تقريباً.

في مرحلة حكم طالبان القصيرة (1996-2001)، اتّسمت العلاقة بين إيران وطالبان بالطابع  الصدامي، والتي كادت أن تتطوّر إلى حرب مباشرة، قبيل الغزو الأميركي لأفغانستان، بسبب الدعم الإيراني لـ”تحالف الشمال”، بقيادة أحمد شاه مسعود، والهزارة الشيعة، حيث أسقط الأميركيون حكم طالبان وأقاموا حكومة موالية لهم، وغير صديقة لإيران.

 إلاّ أن العلاقة تغيّرت بين الطرفين فيما بعد على خلفية تفعيل المواجهة مع قوات الاحتلال الأميركي، حيث دعم الإيرانيون قوات “طالبان” وانخرطوا في مفاوضات سياسية سريّة معها، تحوّلت إلى علنية لاحقاً، بعدما أثبتت “طالبان” حضورها السياسي والميداني خلال السنوات الأخيرة، في مقابل تقهقر واضح لخصومها، ومن بينهم موالون لإيران، من الأفغان الشيعة وغير الشيعة.

في هذا الإطار، كشفت تقارير إعلامية عدة عن اتفاق أبرمه القائد السابق لفيلق القدس الجنرال الإيراني الراحل قاسم سليماني، مع حركة طالبان، قبل سنوات من اغتياله بغارة أميركية مطلع عام 2020، وأن سليماني أبرم بشكل شخصي اتفاقات مع طالبان، عام 2015، تقضي بأن تحمي الحركة الأقليّة الشيعية في أفغانستان، في مقابل أن تتلقى تمويلاً وتدريباً من حرس الثورة الإيراني وتقديم المشورة لهم، وسمحت لهم بإقامة معسكرات وملاذات آمنة لقادة الجماعة داخل الحدود الإيرانية.

وفي المقابل، تمنع طهران عودة مقاتلي ميليشيا “لواء فاطميون” الشيعة الأفغان إلى بلادهم، والذين أرسلهم سليماني للقتال في سوريا إلى جانب حكومة الرئيس السوري بشار الأسد ضد فصائل المعارضة المسلحة.

ومع سيطرة طالبان على أفغانستان، سارعت الميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران في العراق إلى إصدار بيانات تهديدية، تلمح إلى استعدادها في أي لحظة التوجه إلى أفغانستان لحماية الشيعة هناك. لكن بعد يومين، بدأت تلك النبرة بالتراجع، وانخفضت درجة التوتر بشكل كبير. ونقل التقرير عن قادة وسياسيين ورجال دين عراقيين تأكيدهم أن إيران أعطت الجماعات شبه العسكرية والفصائل السياسية المتحالفة معها تعليمات صارمة، تقضي بأنه يجب ألاّ يكون لهم أي دور على الإطلاق في أفغانستان، ويجب ألاّ يتدخلوا بأي شكل من الأشكال تحت أي ذريعة.

وأنه في المرّة الأخيرة التي سيطرت فيها طالبان على كابول، قبل 11 سبتمبر والغزو الأميركي عام 2001، كانت الجماعة عدواً شرساً لإيران. لكن الأمور تغيّرت في السنوات الأخيرة، ولم يكن لدى طهران أي نيّة للسماح بتقويض الاتفاقات التي تم الحصول عليها بشقّ الأنفس، والتي طال أمدها مع طالبان، لا سيما الآن بعد أن سيطرت الجماعة المتشددة على كامل أفغانستان، وتستعد لإعادة العلاقات عبر المنطقة، وعلى الرغم من أن نوايا طالبان الحقيقية تجاه الشيعة في أفغانستان لم تتّضح بعد، فإن إيران ُترسل لحلفائها رسالة مفادها أن الاضطهاد الذي تعرّضوا له في الماضي لن يتكرر، على الأقل في الوقت الحالي.

إن علاقة إيران بطالبان تمتد إلى عقود سابقة، وتتأرجح بين الأعمال العدائية والتحالف. وعلى الرغم من ظهور طالبان فقط في عام 1994، إلاّ أن أسلافها كانت لهم روابط دائمة مع جار أفغانستان الغربي. وأثناء الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، دعم الإيرانيون حركات المقاومة الإسلامية وأرسلوا لاحقاً ضّباط حرس الثورة عبر الحدود لتدريب وإرشاد المجاهدين الأفغان، الذين انضمّ بعضهم لاحقاً إلى طالبان.(3)

وفي عام 1998، انفصلت العلاقة بين إيران وطالبان تماماّ، بعد اتهام الجماعة بقتل 10 دبلوماسيين إيرانيين وصحافي في أفغانستان. وأدّى قمع حركة طالبان العنيف للأقليّة الشيعية في أفغانستان، والتي تشكّل اليوم نحو 20 بالمئة من السكان وفق بعض التقديرات، إلى تدهور العلاقات بشكل أكبر.

ولكن في عام 2015، ومع ظهور فرع من “تنظيم داعش” في أفغانستان، زار وفد من قادة “طالبان” طهران لمناقشة فتح مكتب سياسي هناك، وبدأت الصفحة القديمة تُطوى. وفي ذلك العام، زار سليماني أفغانستان، وأبرم اتفاقيات عدة مع قادة طالبان، وفقاً لقادة فصائل عراقية مسلّحة مدعومة من إيران، كانوا مقرّبين من سليماني.

وبحسب التقرير، تضمّن الاتفاق بنوداً أخرى، كان أبرزها منع إنشاء قواعد عسكرية أميركية قرب الحدود الإيرانية، ووقف تهريب المخدّرات إلى منطقة الخليج العربي عبر إيران، وزيادة ورفع مستوى الهجمات التي تستهدف القوات الأميركية المنتشرة في أفغانستان.

ونقل الموقع عن قائد بارز في فصيل مسلّح كان مقرّباً جداً من سليماني قوله إنه منذ ذلك الاتفاق “لم تستهدف طالبان الشيعة هناك، ونفّذ تنظيم داعش جميع الهجمات ضدّهم”. وأشار إلى أن “غالبية طالبان من الصوفيين، وليس لديهم مشكلة أيديولوجية مع الشيعة، وهم من عقدوا اتفاقات مع سليماني”(4).

ونقل الموقع عن قائد كبير في ميليشيا مدعومة من إيران قوله إن “الشيعة هناك الآن في مأمن من هجمات طالبان. إيران أبرمت عدّة اتفاقيات مع طالبان قبل سنوات، تشمل عدم مهاجمة الشيعة؛ والأشياء تسير وفقاً لهذه الاتفاقيات، حتى الآن”. وأضاف: “لا يُسمح لفصائل مسلّحة، عراقية أو غير عراقية، بالتدخل في هذه المرحلة. الإيرانيون قالوا ذلك علناً خلال لقائنا معهم قبل أيام في بغداد”. ففي ذلك الاجتماع أوضح الإيرانيون لحلفائهم كيف أن القرى الشيعية مُعرّضة للخطر، ويمكن لطالبان أن “تبيدهم” بسرعة إذا انهار اتفاق طالبان – إيران (5).

وقد أكد هذه المعطيات الباحث الإيراني سيد محمد مراندي في مقالة له نشرت في موقع “الميادين” باللغة الإنجليزية تناول فيها صعود حركة طالبان بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان. وقال إنه منذ نحو عشرين عاماً، بعد الهزيمة الساحقة لطالبان في أفغانستان والسحب الكامل للدعم لها من باكستان والسعودية تحت ضغط الولايات المتحدة، بدأ “فيلق القدس” في حرس الثورة الإيراني حواراً مع هذه المنظمة. في ذلك الوقت، اعتقد الكثيرون أن هذا مسعى لا معنى له لأن المشهد السياسي في جميع أنحاء المنطقة كان يتغير بشكل كبير. فضلاً عن أن قتل طالبان لـ11 دبلوماسياً وصحافياً إيرانياً داخل القنصلية الإيرانية في مزار الشريف، كان سيجعل هذا الاتجاه الجديد يبدو غير مناسب تماماً في نظر الكثيرين في طهران، إذا تم الإعلان عنه. لكن الغزو الأميركي لأفغانستان، ومن ثم العراق، قد أرغم الأميركيين على تحمل وجود ودور لحلفاء أقوياء لإيران في كلا البلدين. ففي أفغانستان، كان على الولايات المتحدة أن تلجأ إلى تحالف الأحزاب السياسية أو ما يسمى بالتحالف الشمالي، الذي كان يكافح بشدة في مقاومته ضد “طالبان” الوحشية المدعومة من الخارج. لذلك، عندما هُزمت طالبان وهربت القوات المتبقية منها من البلاد، اتخذ حلفاء إيران مناصب رئيسية في الحكومة الأفغانية. وكان يبدو أنه لم تكن ثمة حاجة أو مبرر للحوار مع “طالبان”. ومع ذلك، اعتقد الجنرال قاسم سليماني أن “طالبان” لا تزال تحظى بدعم شعبي بين شريحة كبيرة من قبائل البشتون والسكان في جنوب أفغانستان وأجزاء من باكستان، وشعر أن السبيل الوحيد للاستقرار الإقليمي طويل الأمد هو في دخول جميع الأطراف في حوار.(6)

يضيف مراندي أن سليماني رأى أنه في ظل تلك الظروف، كانت طالبان هي القوة الوحيدة التي كانت مستعدة لرفع كلفة الاحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة بشكل كبير، وهو هدف إيراني استراتيجي رئيسي. كان يعلم أنه في ظل هذه الظروف، سيصبح احتلال كل من العراق وأفغانستان تدريجياً إشكالياً للغاية وغير شعبي في الدول الغربية، وفي نهاية المطاف، سيضرب مثل هذا العبء الضخم الاقتصادات الغربية بشدة ويجبرها على سحب قواتها من كلا البلدين. كان هدف “قوة القدس” خلق تفاهم متبادل بين إيران و”طالبان” وتشجيع الفصائل الأكثر اعتدالاً داخلها على السيطرة على الحركة. اعتقد سليماني أنه من المحتم أن تُجبَر القوات الأجنبية في مرحلة ما على مغادرة البلاد، وأنه بعد تحرير البلاد، من الضروري ألا تدفع قوات الاحتلال المنسحبة أفغانستان مجدداً إلى حرب أهلية مدمرة.(7)

وأشار الباحث الإيراني إلى أن عام 2011 كان نقطة تحول مهمة في العلاقة، وبدأت وفود رفيعة المستوى من “طالبان” تزور طهران. ومع مرور الوقت، أصبحت العلاقات أكثر دفئاً وذات طابع شخصي، إلى درجة أنه عندما قتل سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما في مطار بغداد الدولي في غارة أميركية، سافر وفد رفيع المستوى من طالبان إلى طهران وزار منزل سليماني لتقديم العزاء لأسرته. وعلمت الاستخبارات الإيرانية و”طالبان” أن الفصائل المرتبطة بأميركا داخل “داعش” الذي كان ينهار بسرعة قد تم انتزاعها من سوريا وإدخالها في أفغانستان. وطلبت طالبان من “قوة القدس” مساعدتها على هزيمة ما رأت أنه تهديد وجودي. في المقابل، قدمت “طالبان” أربعة التزامات لـ”قوة القدس”: أنها ستحافظ على الاستقرار على الحدود مع إيران، ولن تتنازل عن معارضتها لوجود أي قوات أجنبية في أفغانستان، ولن تستهدف مجموعات أو طوائف عرقية أخرى، وأن “الإخوة لن يقتلوا الإخوة”. وخلال هذه السنوات التزمت قيادة طالبان الحالية بوعودها(8).

انقسام الإيرانيين بشأن الموقف من طالبان

في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي أخيراً من أفغانستان، برز رأيان متباينان في إيران حيال التعامل المستقبلي مع طالبان. فقد رحّب النظام السياسي في طهران بانسحاب القوات الأميركية من الأراضي الأفغانية، واعتبره انتصاراً لمحور المقاومة، وللمشروع الإيراني في إزالة الوجود الأميركي من دولة على حدود إيران. وجاء هذا الانسحاب وسط تصاعد الخلافات بين إيران وحكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني، حيث شكّلت تلك الخلافات دافعاً للتقارب مع طالبان من باب الضغط على حكومة غني. واستضافت طهران جولات من الحوار مع قادة طالبان إلى جانب حوارات أفغانية-أفغانية، ما أمكن اعتباره تطوراً نوعياً في العلاقات بين الجانبين.(9)

وعلى الرغم من الترحيب الظاهري بالانسحاب الأميركي، وجد صانع القرار السياسي في إيران نفسه أمام موقف مقلق لأسباب عدة، منها: احتمال هيمنة طالبان على أفغانستان؛ حيث تُنذر التجربة السابقة لسيطرة الحركة على مقاليد الحكم في أفغانستان بالعديد من المخاطر والتحديات للمصالح الإيرانية في هذا البلد، علاوةً على احتمال تشكُّل بؤر اضطراب مزمن على مقربة من الحدود الأفغانية-الإيرانية، إلى جانب تداعيات اقتصادية، وأمنية متعددة.

وضاعفت هيمنة طالبان على معابر حدودية مشتركة مع إيران، المخاوف السياسية والأمنية الإيرانية؛ وذلك على الرغم من خطوات حركة طالبان الأخيرة لطمأنة الجيران، ومن ضمنهم إيران. لكنّ العقلية الإيرانية لا تزال تتوجس خيفةً من طالبان الذي يحمل أيديولوجية سلفية جهادية متشدّدة، تُعتبر منافساً لأيديولوجية ولاية الفقيه الشيعية. وتنبع المخاوف الإيرانية من حركة طالبان من الرؤية الإيرانية للحركة، وطبيعتها، وتعقيدات التعامل معها.

وبالنتيجة، انقسمت الآراء في طهران حول كيفية التعامل مع التطورات الجديدة في أفغانستان إلى اتجاهين أساسيين: اتجاه يدعم فكرة التقرّب من طالبان، والبحث عن سُبل للتعامل معها كواقع مفروض، واتجاه آخر يعارض هذه الفكرة تماماً، ويدعو إلى اتخاذ موقف رافض، ومناهض لسيطرة طالبان في أفغانستان. فقد هيمنت فكرة التقارب مع “طالبان” على مراكز صنع القرار الإيراني. ويجادل مؤيّدو هذا التوجه بأن طالبان حركة تمتلك نوعاً من الشرعية، ومقداراً لافتاً من التمثيل الاجتماعي في أفغانستان؛ وبالتالي يتعيّن التعامل معها، مؤكدًا على التطوُّر النوعي الذي حدث في طبيعة الحركة.(10)

وأظهرت بعض مؤسسات صنع القرار في إيران موقفاً متعاطفاً مع طالبان؛ إذ أعلن أحمد نادري، عضو في لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، في أكتوبر 2020 أن طهران بحاجة إلى إعادة النظر في مواقفها من الحركة، بوصفها حركة متأصلة ذات قاعدة اجتماعية واسعة. بينما أشار قائد عسكري في الحرس الثوري إلى المصالح المشتركة بين طالبان وإيران، والمتمثلة في مناهضة الوجود الأميركي في المنطقة. وأشارت صحيفة “كيهان” المرتبطة بمكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، وباعتبارها الصحيفة التي تمثّل توجهاً قوياً في مراكز صنع القرار في إيران، إلى التطوّر النوعي في طبيعة حركة طالبان، مؤكدةً أن الحركة لم تعد نفس الحركة المتطرفة التي سيطرت على البلاد من قبل، ومشيرةً إلى مواقف تدلّ على هذا التطوُّر، حيث أعلن المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد، في حوارٍ له مع وكالة “تسنيم” الإيرانية المقرّبة من الحرس الثوري، أن الحركة “تضمن للإخوة الشيعة أنهم لن يتعرضوا إلى تمييز”، مبيّناً أن طالبان غيّرت توجهاتها، وتشهد تطوراً جوهرياً مقارنة عمّا كانت عليه في عام 2000.

وإلى جانب التأكيد على هذا التغيير الجوهري، فإن التوجه الذي يدعم ضرورة تليين الموقف الإيراني تجاه طالبان، والتعاون مع الحركة، يورد أسباباً مختلفة للانفتاح على طالبان، والتنسيق والتعاون معها، من ضمنها: منع صعود تنظيم “داعش” بالقرب من حدود إيران، عبر دعم طالبان بوصفها الحركة البديلة، والدور الذي يلعبه التعاون مع الحركة في تسيير شؤون المشروع الإيراني بإخلاء أفغانستان من الوجود الأميركي، ثم استثمار العلاقة مع طالبان في الضغط لتسوية بعض الملفات الخلافية العالقة بين البلدين الجارين.(11)

لكن هناك اتجاهاً آخر يرفض المقاربة السابقة، ويدعو إلى التعامل مع ملف طالبان بحذر أكبر، وهو اتجاه له أصداء في صفوف الحكومة والحرس الثوري على حدٍ سواء. وتُجادل بعض الأسماء البارزة في الجهاز الدبلوماسي الإيراني بأن التعاون مع طالبان يظل أمراً صعباً. وانتقدت صحيفة “جوان” موقف حكومة الرئيس السابق حسن روحاني في الانفتاح على الحركة، واستضافتها وفداً رسمياً من طالبان في وزارة الخارجية في طهران(12).

في السياق، يعتقد الخبير في الشؤون الأفغانية وشبه القارّة الهندية، بير محمد ملازهي، أن الاتجاه الأول في طهران -الذي يضم جزءاً من الحكومة والجماعات المقرّبة للمحافظين- يعتقد أن طالبان طردت الولايات المتحدة من أفغانستان بسبب قتالها ومقاومتها ضدّها، ولها مواقف مماثلة لمواقف إيران ضدّ الغطرسة العالمية ويمكننا التعامل معها.

أما الاتجاه الثاني -ويمثّله المقرّبون من الإصلاحيين – فيعتقد أن طالبان ليست سوى جماعة أيديولوجية سلفية، وأنه لا ينبغي التعامل معها بما يعزّز احتكارها للسلطة في أفغانستان. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنه يجب إقامة قوة متوازنة في أفغانستان تتوافق مع أمن إيران، وبمشاركة أقوام مختلفة، كالطاجيك والهزارة والأوزبك والناطقين بالفارسية، وغيرهم من الأقوام والأقليّات.

وأشار ملازهي إلى أن علاقة طالبان بإيران ستعتمد على سلوك طالبان المستقبلي، وهل ستحترم الحركة حقوق الأقليّة الشيعية بموجب دستور عام 2001 وكذلك الناطقين بالفارسية. وفي رأيه، فإن تطورات وقضايا أفغانستان ستبقى حيوية ومهمة لإيران، سواء بسبب الحدود المشتركة بين البلدين (نحو ألف كيلومتر)، فضلاً عن القواسم المشتركة ثقافياً وتاريخياً والعلاقات الواسعة مع الشعب الأفغاني، وكذلك بسبب وجود نحو ثلاثة ملايين لاجئ أفغاني في إيران.(13)

ويعتقد عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني جليل رحيمي جهان آبادي أن لدى إيران سلسلة من المخاوف تتعلق بكيفية حكم طالبان لأفغانستان. وفي رأيه، إن هذه المخاوف تتجلّى في عدة نقاط: أوّلها أن أفغانستان تصّنف مركزاً لإنتاج المخدّرات في العالم، وأن إحدى طرق مرور المخدّرات منها لأوروبا تمر عبر إيران، فضلاً عن المخاوف بشأن الأضرار الأمنية والاجتماعية؛ وبالتالي فإن طهران تنتظر سلوك طالبان على الأرض.

المسألة التالية -حسب جهان آبادي- هي قضية الجماعات المتطرفة والانفصالية التي تعمل في المناطق الحدودية بين البلدين، وهناك طلب إيراني لطالبان بعدم دعم هذه الجماعات. كما “أن جزءاً آخر من اهتمام إيران بأفغانستان يتمثل في احترام حقوق الأعراق الدينية والثقافات المختلفة، وأن أي نوع من عدم الاستيعاب والاندماج الديني والعرقي والثقافي وتجاهل حقوق هذه الأعراق سيخلق توترات وتحديات في علاقات الطرفين”. أما الجزء الآخر من قلق إيران هو نمو تنظيم داعش في المنطقة. فالتنظيم يتغذّى على ضعف الحكومة المركزية في كل مكان، وبالتالي إلحاق الضرر بالأمن والتنمية المستدامة في الشرق الأوسط. وأضاف جهان آبادي أن من القضايا الأخرى التي تهم بلاده هي مسائل الحدود والأنهار بين البلدين والاتفاقات والالتزامات الأخرى القائمة بين طهران وحكومة أفغانستان ومدى التزام طالبان بها.(14)

وفي هذا الإطار، أكّد الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، ضرورة أن تكون الحكومة الأفغانية موسّعة وشاملة وتعبّر عن كلّ القوميات والأطراف السياسية الفاعلة الموجودة في أفغانستان، معتبراً أن الحكومة المنبثقة عن قومية معينة أو مجموعة سياسية معينة لا يمكنها حلّ مشاكل البلاد. وفي مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الطاجيكي، إمام علي رحمان، في دوشنبه في 18 سبتمبر 2021، رأى رئيسي أن التدخّل الأجنبي هو سبب المآسي في هذا البلد، معتبراً أنه “لا بد من منع الأجانب من التدخّل في شؤون أفغانستان لأنهم لم ولن يحققوا لها الأمن والاستقرار”.

كذلك اعتبر الرئيس الإيراني أن القضية الأفغانية يجب أن تحل من قبل الشعب الأفغاني وتعاون دول الجوار والدول ذات العلاقة بهذه القضية، مشدداً على أن “تواجد الإرهابيين في أفغانستان ليس خطراٍ على هذا البلد لوحده بل على كل المنطقة”، وقال إن “الأميركيين الذين أوجدوا داعش ودعموا أعماله الإرهابية في العراق وسوريا أرادوا لهذا التنظيم أن يستقر في أفغانستان”. ودعا إلى اجتثاث كل ما من شأنه أن يساهم بتنامى الإرهاب في أفغانستان، مؤكّداً رفض إيران لأي تيار يمكن أن يساعد في وجود جماعات إرهابية في هذا البلد.(15)

الرؤية الإيرانية لمستقبل أفغانستان

يعتقد بعض الباحثين أن طهران تفضّل حكومة مركزية قوية في أفغانستان تسيطر بين “الجهاديين” لكنها ضعيفة كفاية كي تكون مرنة سياسياً ولا تشكّل تهديداً عسكرياً لها.  ويرى الباحث الأميركي كيفين ليم، كبير مستشاري المخاطر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في IHS Markit، في مقالة في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، أنه في اليوم الذي استولت فيه طالبان على كابول، رحب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي “بالهزيمة العسكرية للولايات المتحدة وانسحابها”. وأضاف: لكن على الرغم من أن إيران قد تكون سعيدة بسحب القوات الأميركية من حدودها الشمالية الشرقية، إلا أن إمارة أفغانستان الإسلامية المعاد تشكيلها تطرح مجموعة أخرى من التحديات التي كان صناع القرار في طهران مترددين في الخوض فيها علانية. وبقدر ما دعمت إيران حركة طالبان في السنوات الأخيرة، فإن السيناريوهات المقلقة لطهران تشمل انقلاب طالبان ضد إيران أو ضد الأقلية الشيعية في أفغانستان وكذلك شبح الجهاد السني الذي ينتشر غرباً”.(16)

وأوضح ليم أن إيران وطالبان كانت عدوين لدودين في أواخر تسعينيات القرن العشرين. عندما كانت حركة طالبان التي يهيمن عليها البشتون في السلطة خلال المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية الأفغانية، والتي كانت صراعاً عرقياً بقدر ما كانت صراعاً مذهبياً، لم يسحقوا المعارضة فحسب، بل سحقوا أيضًا الأقليات، مثل الهزارة الشيعة. وهكذا انضمت إيران إلى الولايات المتحدة وروسيا والهند في دعم التحالف الشمالي ضد طالبان. وفي عام 1998، كادت إيران وأفغانستان التي تحكمها حركة طالبان تنجران إلى الحرب بعد قتل العديد من الدبلوماسيين والصحافيين الإيرانيين في مزار الشريف في أفغانستان. وصوت المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني لصالح الحرب، لكن المرشد الأعلى علي خامنئي رفض ذلك. وعندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان للإطاحة بحركة طالبان والقاعدة في عام 2001، تعاونت إيران ضمناً مع واشنطن وزودت الجيش الأميركي بمعلومات استخباراتية في ساحة المعركة. كما ساعدت طهران في تأمين الدعم اللازم لقيام حكومة ما بعد طالبان المعترف بها دولياً في كابول، بحسب الباحث نفسه.(17)

ويشير ليم إلى أنه مع صعود تنظيم “داعش ولاية خراسان”، في عامي 2014   و2015 في أفغانستان، بدأت إيران في دعم وتمويل وتدريب وتسليح طالبان ضد “داعش” وكذلك ضد القوات الحكومية الأميركية والأفغانية. فعلى الرغم من أن طالبان وتنظيم “الدولة الإسلامية في خراسان” كلاهما ميليشيا جهادية سنية، إلا أنهما يختلفان في الأهداف السياسية والعقائد، مما يجعلهما متنافسين شرسين. كما استفاد تنظيم داعش من انشقاق مقاتلي طالبان الساخطين وربما يقوم بذلك مرة أخرى. ويكشف أن حركة “طالبان” قد احتفظت بمكاتب لها في إيران، بما في ذلك في زهدان ومشهد واشترى بعض قادتها وكوادرها منازل في إيران. وهذا ما دفع نائب وزير الخارجية الإيراني آنذاك، عباس عراقجي، في عام 2020، إلى إنكار وجود مجلس لطالبان في مشهد، على غرار مجالس قيادة طالبان في مدن كويتا وبيشاور وميرانشاه الباكستانية. وفي عام 2016، قتلت غارة أميركية بطائرة بدون طيار المرشد الأعلى لطالبان آنذاك الملا أختار محمد منصور أثناء عودته إلى باكستان من إيران.(18)

وسعياً منها للتأثير في مستقبل أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، استضافت طهران وفداً من ممثلي طالبان من المكتب السياسي المؤقت للجماعة في الدوحة بقيادة الملا عبد الغني برادار، الذي يشغل حالياً منصب النائب الأول لرئيس الوزراء بالإنابة في أفغانستان. كانت إيران كذلك موقعًا للمحادثات بين طالبان والحكومة الأفغانية. ويبدو أن القيادة الإيرانية قد حددت فصيلاً براغماتياً من المحتمل أن يكون مرتبطاً بالجناح السياسي لطالبان. وحتى لو لم تتماشَ الأيديولوجيات الدينية، فإن إيران تقدم لحكام أفغانستان الجدد نموذجاً للانتقال من حركة ثورية خشنة – أو بالأحرى رجعية – إلى هياكل دولة دائمة.( 19)

ومع ذلك، أثارت حركة طالبان، في الأشهر الأخيرة، آراء متناقضة بين النخبة في المؤسسة الإيرانية. فقد أشاد عضو بارز في البرلمان الإيراني، أحمد نادري، بطالبان لتخليها المفترض عن الوهابية وعن السعودية الداعية الرئيسي لتلك الأيديولوجية. نشرت وسائل الإعلام الإيرانية التابعة للقيادة المتشددة أو الحرس الثوري الإسلامي، مثل كيهان وجوان، افتتاحيات مماثلة تشيد بالتحول المفترض لطالبان.

أما في الفترة التي سبقت سقوط كابول، فقد تأرجحت الرسائل الرسمية لطهران بين التحذير والطمأنينة. ففي 8 يوليو، سيطرت طالبان على معبر إسلام قلعة الحدودي، الذي يربط إيران بهرات، وهي مدينة شديدة التأثر بالفرس في غرب أفغانستان. بعد أيام، في دوغارون على الجانب الإيراني من الحدود، ظهر قائد الجيش الإيراني عبد الرحيم موسوي لطمأنة الإيرانيين – وربما تحذير طالبان – بأن الحدود آمنة. في الأول من أغسطس، حضت السفارة الإيرانية في كابول جميع الإيرانيين على مغادرة أفغانستان. وبعد أن استولت طالبان على هرات بعد أيام قليلة، غرد مسؤول كبير في وزارة الخارجية الإيرانية بأن سادة هرات الجدد “ملتزمون” بحماية موظفي القنصلية الإيرانية في المدينة. ومع اشتداد القتال، نقلت إيران دبلوماسييها من قنصلياتها الأفغانية الأخرى في مزار الشريف وقندهار وجلال آباد إلى سفارة كابول.

إن أقل ما تسعى إليه إيران هو علاقات العمل الودية مع الحكومة الجديدة في أفغانستان. وكما هو الحال في العراق، تفضل طهران حكومة مركزية قوية بما يكفي لكبح جماح “الجهاديين” هناك، لكنها ضعيفة بما يكفي لتكون مرنة سياسياً ولا تشكل تهديداً عسكرياً للجمهورية الإسلامية. يعرف قادة إيران أنه على الرغم من التأكيدات، لا يزال بإمكان الحركة الأصولية السنية أن تنقلب ضد إيران الشيعية.(20)

وتريد طهران تجنّب حرب أهلية أخرى قرب حدودها، لذلك تواصل الدعوة إلى حكومة أفغانية شاملة تضم جميع الأعراق والمكوّنات الأفغانية، بمن فيهم حلفاؤها الطاجيك والأوزبك والهزارة. ورغم أن حكومة طالبان المؤقتة المشكلة حديثاً لا تضم ​​أي أقليات عرقية، بل البشتون فقط وقادة طالبان المتشددين أنفسهم. لكن الحركة امتنعت إلى حد كبير عن مضايقة الهزارة، وخلافاً لحكم طالبان قبل عام 2001، سمحت لهم حتى بإحياء بمناسبة عاشوراء. لكن عندما احتلت طالبان بازارك، عاصمة وادي بنجشير الذي تسيطر عليه المعارضة، وجهت طهران انتقادات إلى طالبان لأخذها بازارك بالقوة بدلاً من التفاوض، وحذرت القوى الأجنبية من التورط في حملة طالبان العسكرية بعد مزاعم بأن باكستان ساعدت في معركة بنجشير بطائرات مسيّرة.( 21)

بالنسبة إلى إيران، فإن تجدد الحرب الأهلية من شأنه أن يهدد مجدداَ حدودها الشرقية لإيران، وتدفق المزيد من اللاجئين والأسلحة والمخدرات عبر الحدود، ناهيك عن الجهاديين الموالين لمجموعة من الميليشيات السنية المتطرفة ذات الأجندات المختلفة. ويبدو أن رهان إيران الحذر على تعاون “طالبان” يؤتي ثماره حتى الآن. بناء على طلب حكومة طالبان، استأنفت إيران شحنات البنزين والديزل إلى أفغانستان. وعادت تجارة إيران مع أفغانستان – التي تعد حالياً من بين أكبر خمسة أسواق للصادرات الإيرانية خارج النفط – إلى طبيعتها في جميع المعابر الحدودية الرسمية الثلاثة. كما دعت “طالبان” إيران إلى حضور تنصيب الحكومة الجديدة، إلى جانب باكستان والصين وروسيا وتركيا وقطر.(22)

مع ذلك، لا تزال إيران تحتفظ بأوراق قوة في أفغانستان، فهي وإن طلبت من حلفائها الطاجيك والأوزبك والهزارة عدم مواجهة “طالبان”، إلا أن بإمكانها تحريك جبهة الشمال في حال تدهورت العلاقات مع حكومة كابول الجديدة. كما تحتفظ إيران بنفوذها في أفغانستان من خلال “لواء فاطميون”، وهو واحد من عدة وحدات قتالية أنشأها “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني للتدخل في الحرب السورية. يتألف اللواء من آلاف المقاتلين الشيعة الذين تم تجنيدهم بكثافة بين اللاجئين الأفغان في إيران في مقابل حصولهم على الجنسية والمزايا الاقتصادية. ويمكن لإيران نشرهم بسهولة في أفغانستان إذا لزم الأمر. في 28 يوليو، نفى مسؤول في “لواء فاطميون” تقارير تفيد بأن الوحدة ستعيد انتشارها في أفغانستان ضد “طالبان” واتهم بدلاً من ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل بمحاولة إثارة الصراع الداخلي.(23)

كما أن قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني يتمتع بخبرة عميقة وعلاقات عميقة في أفغانستان وآسيا الوسطى، وقد أشار في جلسة إحاطة مغلقة في البرلمان الإيراني، إلى أن إيران تبذل جهداً لتجنب الصراع مع “السنة” في أفغانستان واتهم الولايات المتحدة بمحاولة إثارة النعرات المذهبية.(24)

الحكمة الإيرانية في التعامل مع “طالبان”

أظهرت إيران حكمة وحنكة بالغتين في التعامل مع تطورات الساحة الأفغانية الساخنة منذ عقود، والتي حملت معها تحديات ومخاطر عديدة لإيران، بسبب الحدود المشتركة الطويلة بين البلدين، والصلات الدينية والعرقية التي تجمع بعض مكوّنات الشعبين الإيراني والأفغاني، والعلاقات التاريخية بينهما على مختلف الصعد.

ولم يضطر الإيرانيون للدخول بشكل مباشر في الصراع داخل أفغانستان (وعليها)، وذلك منذ الغزو السوفياتي لهذا البلد (1979/1989)، والذي تبعه بعد عقد ونيّف غزو أميركي مشابه في العام 2001، بحيث دفعت هاتان القوّتان العظميان أثماناً باهظة على كل المستويات، فيما تجاوزت إيران مختلف الأزمات أو “القطوعات” التي تعرّضت لها من ساحة الصراع الأفغاني المستديم، بأقل الأكلاف الممكنة.

واليوم، تجد إيران نفسها أمام تحديات جديدة بعد سيطرة حركة طالبان المتطرفة على أفغانستان، في مقابل احتمالات كبيرة لحصول تغيير جذري وإيجابي في العلاقة مع طالبان، حسبما توحي التطورات والمواقف الأخيرة لمسؤولين كبار من الجانبين.

لا يزال آخرون ينتقدون بشدة طالبان. حذر آية الله العظمى صافي غولبايجاني، رجل دين شيعي بارز، من “الوثوق بميليشيا لديها سجل من الحقد والقتل”. عكست كيهان تأييدها الأولي، وحذرت (التي رئيس تحريرها تابع وثيق للمرشد خامنئي) من أن طالبان سعت إلى السلطة المطلقة والقمع العنيف للأقليات العرقية في أفغانستان. زعم الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد أن طالبان سعت للسيطرة على خراسان الكبرى، المنطقة التاريخية التي تضم أجزاء من أفغانستان اليوم وآسيا الوسطى وكذلك شمال شرق إيران.

خلاصة

مثلما يسعى الإيرانيون لحماية أمنهم القومي ومصالحهم الحيوية في أفغانستان ودرء المخاطر المتأتية من سيطرة طالبان على البلاد، من دون التورّط في الشؤون الداخلية الأفغانية بعمق، فإن طالبان يبدو أنها تسعى، بلحاظ إمكاناتها المتواضعة والتحديات التي تواجهها داخلياً وخارجياً، إلى تجنّب أي صراع سياسي أو عسكري أو ديني مع الدول الغربية أو تلك المجاورة لأفغانستان، بموازاة العمل على حصولها على اعتراف إقليمي ودولي بالحركة التي شكّلت أخيراً حكومة موقتة، سواء عبر إطلاق المواقف الإيجابية تجاه المكوّنات الأفغانية الأخرى، أو باستدراج الاستثمارات لمشاريع استراتيجية في أفغانستان، والتي تثير لعاب الدول الكبرى وغيرها على الدوام. وأوّل تلك الدول “المحظوظة” قد تكون الصين، إضافة إلى تركيا وقطر، فيما تظل إيران في المرتبة الثانية أو الثالثة في حسابات حركة طالبان، لأسباب دينية وسياسية معروفة، مع ربط أي تطوير نوعي للعلاقة بين إيران وطالبان بما سيجري داخل أفغانستان من تحولات في موازين القوى، وبالسياسات الغربية والإقليمية التي ستُعتمد حيالها خلال السنوات المقبلة.

تمثل إعادة تشكيل أفغانستان نقطة تحول في سياسات المنطقة شبيهة بتدخل الولايات المتحدة عام 2001، وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، والانتفاضات العربية عام 2011. وقد أجبرت هذه الأحداث السابقة إيران على التعامل مع التهديدات والفرص سريعة التطور. وقد كان لطهران البصيرة النافذة لدعم حركة طالبان سابقاً تحسباً لانسحاب الولايات المتحدة. ربما تكون أميركا قد خسرت أفغانستان، لكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا هو مكسب إيران.

الهوامش

  1. أحمد دياب، “مستقبل الصراع الإقليمي على أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي”، مركز الإمارات للسياسات، منشور في 27 يوليو 2020.
  2. المرجع السابق.
  3. موقع بريطاني يكشف تفاصيل “اتفاق مثير” بين قاسم سليماني وطالبان، موقع صحيفة القدس العربي، تقرير منشور في 21 أغسطس 2021.
  4. المرجع السابق.
  5. م. س.
  6. سيد محمد مراندي، “الفرار من كابول وإرث الفريق سليماني”، منشور في موقع قناة الميادين بتاريخ 20 أغسطس 2021: الرابط
  7. المصدر نفسه.
  8. المصدر نفسه.
  9. الموقف الإيراني في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأميركية، تقرير منشور في موقع مركز الإمارات للسياسات في 15 أغسطس 2021.
  10. المصدر نفسه.
  11. المصدر نفسه.
  12. المصدر نفسه.
  13. محمد رحمن بور، “علاقة متوترة تاريخياً.. لهذه الأسباب إيران حذرة من سيطرة طالبان على أفغانستان”، موقع الجزيرة نت، مقالة منشورة في 19/8/2021.
  14. المصدر نفسه.
  15. وكالات الأنباء في 18 سبتمبر 2021 نقلاً عن موقع قناة الميادين: الرابط
  16. Kevjn Lim, Afghanistan Is a Bigger Headache for Tehran Than It Is Letting On”, in Foreign Policy, on Sept 15, 2021: link
  17. المصدر نفسه.
  18. المصدر نفسه.
  19. المصدر نفسه.
  20. المصدر نفسه.
  21. المصدر نفسه.
  22. المصدر نفسه.
  23. المصدر نفسه.
  24. المصدر نفسه.
الوسوم

د. هيثم أحمد مزاحم

أكاديمي وباحث لبناني، مؤسس ومدير مركز الدراسات الآسيوية والصينية، مؤسس ومدير مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط، دكتوراه الفلسفة، الجامعة اللبنانية، 2015، من مؤلفاته: الصراع على الشرق الأوسط، لماذا تحدث الثورات؟، العلاقات الأوروبية الإسرائيلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى