المعهد المصري للدراسات

المكارثية في مصر: التحولات والمؤشرات

مدخل:

الاستبداد، العصف بالحقوق والحريات، اجتثاث الخصوم والطعن في وطنيتهم واغتيالهم سياسياً ومعنوياً، زراعة الخوف في الناس باستدعاء أعداء وهميين وتضخيم المخاطر الخارجية، إهدار الدساتير والقوانين، التفتيش في الأفكار والضمائر، منع التعدد والاختلاف وتحريم الرأي الآخر، مطاردة المعارضة وعزلها وحظرها وتشويهها، تلفيق وفبركة التهم، محاكمات وإدانات بالجملة خارج أسس وقواعد وضمانات العدالة، أجواء من التحريض والكراهية، هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية والقضائية، وسيطرة كاملة على كل المنابر الإعلامية الصحفية والشعرية والفنية والتعليمية، نفاقٌ مأجور أو بالإكراه، قوانين وإجراءات استثنائية، سقوط آلاف من الضحايا الأبرياء، انتشار الخوف من الجميع، الهجرة والانسحاب لقطاعاتٍ واسعة من المثقفين والسياسيين الشباب والعبث بمصائر الناس وأمنهم والقذف بهم في مهب الريح.

هذه هي بعض خصائص ما يُسمى بالمكارثية. (1)

يقول الكاتب الفرنسي “جوستاف لوبون” في كتاب (سيكولوجية الجماهير): “أما الذين لا يُشاطرون الجماهير إعجابهم بكلام الزعيم يعتبرونهم هُم الأعداء”، منطق جماهيري قديم لا يعرف غير الولاء المطلق للحاكم، ووَصْم كل مخالف لسياسته بالخيانة وعدم الوطنية، إن حرية الرأي ليست جريمة، والاختلاف في الرؤى والمواقف ليست دليل خيانة، بل إن الخيانة الحقيقية هي تجميل الفساد، وتبرير العدوان، والتنكّر لِما يَمُر به الوطن من أزماتٍ طاحنة وتضيق في الحريات، تحت ذرائع واهية، فالأنظمة المستبدّة تتفنّن في صناعة عدوٍ لها من أجل البقاء في شرعيتها الزائفة، والحفاظ على تماسكها والسيطرة على الجماهير، ويساعدهم في ذلك كافة الشرائح من كافة المجالات (2).

فمن الطبيعي، أن الاختلاف في الرأي، لا يُفسد للود، قضية، ولكن لدينا في مصر يُنفَى المختلف والمعارض، ويُقتل ويُسجن ويُعدم أيضاً. فسلامة الوطن لديهم تستدعي عدم المعارضة باعتبارها ترفاً فكرياً، وانتهازية سياسية، والبعد عن الشعور بالمظلومية، والحلم بمجتمعٍ ديمقراطي وآمن وحُر، وهذا ما يروجون له. فلا ديمقراطية مع هيمنة الفكر الواحد، وعندما يُقحم الوطن في البناء الأيديولوجي لهذه الهيمنة، فلابد من أن نتخوف من الاستعمال السهل والرخيص والمبتذل لتُهم الخيانة والعَمالة، وعندما تتسلل هذه الاستعمالات الزائفة لبعض الصحف أو لخطابات بعض السياسيين، فلابد من أن نتخوف أيضاً لمقاربة “مكارثية مَقيتة” في معالجة قضايانا السياسية، وتزيد إرهاصات هذه “المكارثية الجديدة” في ترادف بين حياة الوطن وموت السياسة، وتريد أن تجعل من الوطن فكرة مناهضة للاختلاف والتعددية وأن تُحوّله في النهاية إلى حُجة ضد الديمقراطية، عِوَضاً على أن تكون حُجةً لها مُنطلقٌ لبقائها وأُفُقٌ لترسيخها.

فالواقع أن التجارب الإنسانية، توضح بجلاء، كيف يرتبط الغباء الديمقراطي بنموذج الدولة الوطنية، وكيف أعادت الديمقراطية تعريف الوطن بعيداً عن الادعاءات السلطوية، بتَمَلُك الحقيقة الوطنية في المواجهة الدائمة للمعارضين تحت يافطة “أعداء الوطن أو الخونة”. ففي هذا الزمن، يَصعُب جداً، أن نقتنع بأن أعداء الديمقراطية وحقوق الإنسان هُم في الواقع مدافعون جيدون عن المصلحة الوطنية، لأنهم في الأصل أعداء حقيقيون للوطن، وثمة – بالتأكيد – تهديداتٍ جدية ومُحدقة بالأمن والاستقرار، لكن تحويل هذه التهديدات إلى مبررٍ سياسي لغلق مساحات النقاش العام والرمي بالأصوات المعارضة في الخانات الجاهزة للتخوين وتوزيعها حسب السياق والمزاج على واحدة من أجندات الخارج،  ويُعتبر أمراً ليس فقط مرفوضاً من حيث المبدأ، ولكن من شأنه كذلك أن يَمُسّ بمصداقية الحديث عن هذه التهديدات نفسها.(3)

لقد مرّت مصر، بعد ثورة 25 يناير بأحداثٍ جسام، ومخاطر عسيرة، خرج منها مولودٌ ثوري، تَأمّل فيه المصريون غداً أفضل ووطناً ينعمون فيه بالديمقراطية والمساواة، ولكن سُرعان ما تم قتله عبر إجهاض أول تجربة ديمقراطية، لتبدأ مصر بعدها عصراً جديداً من الظلم السياسي ساد فيه نمط السلطوية في ظل مؤسسات

الدولة، فكُمّمت الأفواه، وزادت حِدّة التوتر السياسي بين شرائح المجتمع المختلفة، وتَراجَع دور مصر الإقليمي في المنطقة، وتعمقت تبعيتها المالية والسياسية لدولٍ أخرى، وتحوّل الوطن لمقبرةٍ بحجم دولة. (4)

وتَطوّر الأمر، بشيطنة فريقٍ من الناس، بهدف تسهيل القضاء عليهم وشرعنة قتلهم ومطاردتهم، فكانت أولها تموز/يوليو/2013 حيث تم شيطنة الإخوان والنشطاء والمناضلين عبر وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، وبلغت ذروتها في مذابح الاعتصامات الكبرى (رابعة، النهضة، المنصة، والحرس، رمسيس وغيرها)، فكان القتل على الهوية، وبموجب حال المكارثية تم قتل الآلاف في مصر بدم بارد ولا يزال القتل مستمراً، وتم حبس الآلاف ومطاردة وإخفاء الكثيرين إخفاءً قسرياً سواءً من القُوى الإسلامية خصوصاً أو من عموم الشعب، كما كانت حالات الانتقام الجماعي وتطورها باختراع قوائم (الكيانات الإرهابية) التي تم إدراج المئات فيها وحرمانهم من حقوقهم الأساسية، كما طالت موجات المكارثية شخصياتٍ عامة كانت جزءاً من نظام السيسي ذاته مثل؛ (عالم الفضاء عصام حجي، والفنانين عمرو واكد وخالد أبو النجا) بسبب مشاركتهم مع نشطاء مصريين آخرين في حلقة نقاشٍ في الكونجرس الأمريكي حول حالة حقوق الإنسان والديمقراطية في مصر، كما استخدمت القنوات المصرية ظهور الفنانين في قاعات الكونجرس، فكان الاتهام بالخيانة والعمالة والإسراع بشيطنة تلك الشخصيات.

وغيرهم مثل (الفريق سامي عنان، السفير معصوم مرزوق ويحيى القزاز وعبد المنعم أبو الفتوح ورائد سلامة ويحيى حسين) إلى جانب عشرات الآلاف من سجناء الرأي سواءً أكانوا إخوان أو غير إخوان، فالمكارثية، لا تُفرّق بين معارضٍ وآخر، فكل مَن يعتبره النظام خطراً عليه مكانه السجون إن لم تكن القبور. (5)

المكارثية، تعريفها، وأصولها، وتطورها:

المكارثية:

تُعرّف باختصار بكونها تلك الطريقة في اغتيال الخصوم السياسيين معنوياً (وربما بدنياً) والتحريض على ذلك، عبر اتهاماتٍ بالجملة تطعن في شرفهم ووطنيتهم ثم التنكيل بهم وإقصائهم، كما تُعرف العنصرية: بأنها الاضطهاد لاختلاف اللون أو العِرق أو الطائفة أو الأيدلوجيا، وبكونها الاضطهاد لاختلاف الدين، والمكارثية قد تشترك مع العنصرية والطائفية بكونها اضطهاد ولكنها تكون على أساس الأفكار، فهي اضطهاد ضد فئة من البشر لكونهم يؤمنون بأفكارٍ مختلفة عن أفكار المتحكمين في السلطة والإعلام، وهي اتحاد سياسي رجعي ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1950م هَدف إلى تشديد الخناق على الشيوعيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة. (6)

ويُنسب لفظ المكارثية إلى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي “جُوزيف مكارثي” فى خمسينات القرن الماضي، والذى أسّس لمرحلةٍ سوداء سُمّيت لاحقاً باسمه تم فيها حشد الرأي العام بجملةٍ تخويفيةٍ شرسة، طالت فيها محاكمات مئات المواطنين أصحاب الميول اليسارية، ناشراً فاشية ثقافية حقيقية، صاعداً بنجوميةٍ سياسية، كان أساسها، التخوين والافتراء للحصول على المكاسب السياسية. (7)

والمكارثية، كما ورد فى موسوعة “ويكيبيديا”، هي سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة، دون الاهتمام بالأدلة. (9)

إن المكارثية هي شيطنة الفكر المعارض، وإحدى وسائل الأنظمة السياسية ورجالها لاغتيال خصومها، وقتلهم معنوياً، عبر اتهامهم، والطعن في شرفهم ووطنيتهم، بهدف التمهيد للتنكيل بهم وإقصائهم، وفي كثيرٍ من الأحيان، سجنهم وإعدامهم.

ومن عواقب المكارثية:

المكارثية على الطريقة المصرية:

المكارثية أسهل الطرق للحشد والتجييش، عن طريق التخويف والتخوين والتفزيع، باستدعاء المنطلقات الشيطانية ل”جوزيف مكارثي” واستخدامها لاغتيال الخصوم معنوياً، وترويج الشائعات والاتهامات حولهم، والتي تنال من شرفهم، وتطعن في سمعتهم، وتضع علامات الاستفهام أمام حقيقة أنشطتهم، بهدف فصلهم عن محيطهم، بل واستعداء الجماهير عليهم. (10)

ولقد أخذت تلك المكارثية فرصتها من التشهير، وادّعاء القدرة على حماية مَن يُوالونها، وتخوين الآخرين والتلاعب بالمعلومات السرية التى يحصلون عليها من الأجهزة الأمنية وغيرها، وفق الأهواء، والعمل بموجبٍ عدائي يقوم على التأجيج وملاحقة الخصوم واستدعاء كل عنف التاريخ والأصولية في استخدام الظلم والأخطاء بأساليب غوغائية لتمرير الأذرع التي يتميز بها، ولكن القول بأن النسخة العربية من هذه المكارثية، جاءت ومازالت مستمرةً بأوعيةٍ مُستمدةً سطوتها من طروحاتٍ طائفية، ونصوصٍ سياسية، هدفها الاستيلاء على المشهد العام، برغم أنها تحمل كل الجذور للمشاكل التي تعصف بهذا البلد العربي أو ذاك، ومنها النسخ المكارثية في العراق، وسوريا، ولبنان، وليبيا، ضمن محاولاتٍ متواصلة من النشاط السياسي الذي يَهدُف إلى الإفلات من الحقيقة لصالح الفوضى والتشكيك، وادّعاء العصمة وفرض الأجندة الطارئة على الحياة في تلك الدول. (11)

أما فيما يحدث في مصر، يُعتبر مكارثية حقيقية بمعنى الكلمة، فإن لم تكن معي فأنت ضدي وعدوي، وعدو الجميع، استقرت تلك الظاهرة في كافة الأوساط السياسية، ويرجع السبب إلى فقدان الثقة في أحد، وغياب مفهوم العدل الناجز،(12) فلقد مَرّت مصر، بعد ثورة يناير بأحداثٍ جسام، ومخاطر عسيرة، خرج منها مولودٌ ثوري، حلُم معه المصريون بغدٍ أفضل، ووطنٍ ينعمون فيه بالديمقراطية والمساواة، لتبدأ مصر عهداً جديداً من الظلم السياسي ساد فيه نمط السلطوية في كل مؤسسات الدولة والمجتمع. (13)

وتَبارَى إعلاميو النظام فى شيطنة المعارضين والرافضين له، في خلفية مكارثية تتجاوز بمراحل “المكارثية” الأصلية كما شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تمت في إطارٍ مؤسسي لم يصل إلى حد القتل على الهوية،  ناهيك عن التحريض عليه، والتصفيات الجسدية فى البيوت والطرقات، وممارسة شتى صنوف التعذيب بصورة ممنهجة واعتيادية وبشكل واسع الانتشار، لافتةً إلى تورط أفراد بالجيش المصرى فى عمليات التعذيب منذ ثورة يناير وحتى الآن، كما أعلنت ذلك لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة (أعلى هيئة دولية أممية تعمل على مناهضة التعذيب فى العالم فى تقريرها فى أغسطس 2017. إذ مَنَح قطاعٌ عريضٌ منهم لعقولهم إجازةً أن اذهبوا فاقتلوا “الإخوان الإرهابيين” والمتعاطفين معهم، واعتدوا عليهم وعلى ممتلكاتهم، وانتهكوا حرماتهم، اسحلوا نساءهم وبناتهم، بل وأخرجوهم من قريتكم، إنهم قومٌ إرهابيون، لا تخشوا فيهم لومة لائم، ويساندهم فى ذلك قضاءٌ منحاز للنظام، فقد نظارة العدل، ويرى القشة في عين الإخوان ومناصريهم، ولا يرى الجذع في عيون غيرهم من المُحرّضين والقتلة والبلطجية ومنتهكي الأعراض والحرمات، ويُعزز موقفهم اللاإنساني شيوخ السلاطين، الذين لم يُجر الله الحق على ألسنتهم، ويستدعون من كل نصوص القرآن وأحكامه “حد الحرابة”، الذي لم يُطبقه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ولا خلفاؤه الراشدون من بعده رضوان الله عليهم أجمعين، إلا فى أضيق الحدود على قاطعي الطرق، وأصبح من المعتاد الثأر والتصفيق لكل اعتداء على الحقوق والحريات. (14)

ولم تقتصر المكارثية المصرية على “الإخوان المسلمين” فحسب، بل تحولت إلى حالةٍ من الإرهاب الفكري، شملت كل معارض، حتى لو كان الاختلاف مبنياً على أساسٍ واقعي، أو سندٍ قانوني، فالانتهاكات والتهديدات، إذا ما أبدى صاحب رأي أو فكر أو متعاطف مع الإخوان أي رفضٍ لِما يحدث بحقهم، بينما وصل بعضهم حد المطالبة بالإعدامات والمناداة بالتطهير. (15)

لم يكن أحد من المصريين يتخيل في أسوأ كوابيسه أن يتحول مشهدٌ كوميدي يسخر من الأنظمة الشمولية وممارساتها إلى واقعٍ حقيقي نَئنّ جميعاً تحت وطأته، لم يكن كاتبوا أفلام “إحنا بتوع الأتوبيس”، و”البريء”، و”وراء الشمس” بعيدين عن واقعنا البائس، حين نسجوا تفاصيل دامية  لمآسي المصريين في معتقلات الأنظمة الباطشة، منها هذا الزمن فقد دار دورته، وعُدنا، حيث يصرخ المعتقلون والمحبوسون ظلماً “إحنا بتوع أي حاجة بس مش إخوان”، وأصبح الملتحون يضطرون إلى حلق لِحاهم، فيما يخرج الشباب إلى الطرقات حاملين معهم ما يدل على سوء سلوكهم، حيث صار البعض يتندّر أن وجود قطعة الحشيش في طيّات الملابس أصبح مبعثاً للأمان، من وجود المصحف الشريف! وذلك كي ينجو المرء بنفسه من ظروف اعتقالٍ مُهينة، وممارساتٍ ليس فيها شيءٌ من الإنسانية، حيث يَئنّ المظلومون بلا مُجيب، ويَمرضون بلا مداوٍ، بل ويموتون حيث لا يستطيع ذووهم متابعة جنازاتهم، أو حتى مواساتهم في حال دفنهم، وإن كان البعض يُدفن سراً أو ليلاً وبدون حدٍ أدنى من وخز الضمير أو الخوف من المساءلة والرجوع لمَتَى وكيف ولماذا قُتل؟.

ولقد قالوا في تسويغ الانقلاب أنه لإنقاذ البلاد من جحيم الحرب الأهلية لكنهم، بعد أيامٍ قلائل، كانوا يغذون ماكينة الاحتراب المجتمعي بكمياتٍ هائلة من الوقود المُعد فوق خطابٍ عنصري تفوّق بشاعةً على المكارثية الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي، فنرى لعبة صناعة العدو، والتعليق عليه بالأخطاء والكوارث السابقة والحالية، لكى ينعم من عداه بالملائكية، فريق يفتح المجال للفسدة والمُطبّعين والمجرمين لكي يغسلوا تاريخهم ويُداروا سوءاتهم ويدفنوا فضائحهم وجرائمهم. ولقد نجح البعض في استدعاء الجزء المعتم من الوجود الإنساني وإطلاق أسوأ ما في الشخصية المصرية من نوازع وحشية، بحيث صار المجتمع يمور برغباتٍ وحشية، ورغبات محمومة بالانتقام، والتلذذ بالدماء والتضليل ليَنعَم المجرم بإجرامه، ويُساق الضحايا إلى الجحيم، فهناك رعاية رسمية للمكارثية والعنصرية على الطريقة المصرية. (16)

1-مظاهر المكارثية على الطريقة المصرية:

2-كيف انتقل الغرب من المكارثية إلي البوليميك:

ولقد اختص الغرب نفسه بنوع من السجال الإيجابي، للانتقال من حالة الجدل العقيم الذي لا يبني المجتمعات بل يهدمها، ولا يرى فيه الإنسان إلا نفسه، إلى ذلك النوع الإيجابي وهو ما يُسمى: (البوليميك) وهو ذلك الانفتاح الذهني على رأي الخصم، دون شجار أو خصام، بل بجدال خلّاق بنّاء يهدف الداخل فيه إلى الخروج بنتيجة مختلفة جدلياً عن تلك التي انطلق منها وينتمي إليها حالياً. ولا يسعى إلى دحر أفكار الآخرين وتثبيت فكرته وحده كما هي. فهناك منتصر بطبيعة الحال، لكن المنتصرين عليهم أن لا يشعروا بالهزيمة، بمعنى أن الانتصار البوليمكي، يُدخل مَن انتصر عليهم في معادلةٍ جديدة مفتوحة، قد تؤدي بعد فترة إلى عودتهم إلى سِدّة الانتصار، فالمنتصِر والمنهزم يدخلان ضمن دينامية استراتيجية وتجعل نشاطهما السياسي متكاملاً، وعليه فإن الانتصار لا يؤدي إلى القضاء على فكرة السلطة عند الخصم أو القضاء عليه، بل يؤدي إلى فتح معادلةٍ سياسيةٍ جديدة، حيث يلجأ المنهزم إلى الاستعداد لعودته إلى السلطة للأخذ بالأساليب الديمقراطية، ويسمح البوليميك النمطي بالتناقض المطلق بطريقه للتوليف كأفُق للجدل، فيصبح الصراع السياسي خلافاً لا اختلافاً، وينبع المشروع البديل على الدوام من أنقاض المشروع السابق ليُمهّد ضمناً ودون اعتراضٍ جوهريٍ منه لمجيء مشروعٍ لاحق.

وتتلخص الشروط الموضوعية للبوليميك، في خطوتين: الأولى في وجود مناخٍ يسمح بحُرية التفكير والتعبير، والثانية هي الوصول إلى زمام السلطة في الدولة. وكان المناخ بعد سقوط حكم مبارك مُهَيّأً لتلك الحالة بشكلٍ أو بآخر، فقد انهار نظامه وطبقته الحاكمة، وأصبح المجال العام أكثر انفتاحاً وساد الحراك الفكري والسياسي، حيث دخل الجميع في المعادلة بشكلٍ غير مسبوق، لكن مَن وصلوا للسلطة كانوا أبعد ما يكونوا عن البوليميك، بالإضافة إلى التحالفات القائمة، ويصبح حلفاء الأمس، أعداء اليوم، وعاد الجميع إلى الشارع الذي تَحوّل لساحة حربٍ دائمة وانتهى الأمر بسقوط النظام والدخول في أُفُق مرحلةٍ غامضة يشوبها الصراع وتتصدرها مفاهيم التشكيك والتخوين في ظل حالة من الانتقام، وتبنّي المزيد من التردّي والانهيار، وغاب عن هذا التصور عقول الفرقاء، فأخذ كلٌ يعمل بمَعزلٍ عن الآخر، ويسعى إلى القضاء على مشروعه من خلال النقد غير الموضوعي. (17)

وحَشْد الشارع للدخول في مواجهاتٍ دامية، وغاب التصور الديمقراطي عَمّن كافحوا من أجل التعددية…، وأصبحت الديمقراطية مجرد أداة للسلطة وسُلّم خشب يُلقِي به، عقب الوصول كي لا يستخدمه الآخرون، بل

ظهر مَن يعلن صراحة فاشية فجّة، ولا يعترف بالديمقراطية، لكنه مضطرٌ لاستخدامها كوسيلة لبلوغ الهدف.

وهكذا، فهنا مدخل، لتلافي ما نحن فيه، من تلك المرحلة التاريخية والتي باتت مؤسفةً، ذلك الانزلاق المُخزي نحو مستنقع المكارثية، فضاقت مسافات المناورة السياسية، و انتشر الانشغال البائس للقضاء على الخصوم، والاستمرار العبثي في دوائر الطعن ورَدّ الطعن، والتيه في فزاعة الانتصار ليغدو الانتقام مشروعاً أوجَد ثورةً قامت في الأساس من أجل الإنسان.

3-ممارسة مكارثية:

أمعن النظام فى مصر فى القيام بممارسات مكارثية ضد معارضيه، ورافضيه، على جميع الأصعدة، الاقتصادية والسياسية والقانونية والحقوقية وغيرها مثل:

4-آليات تصحيح المسار:

تخيّلوا عندما تُقرر المكارثية المصرية أنها تُعادي قطاعاً عريضاً من الشعب، وتُحوّل أكثر من ثلاثة ملايين إلى إرهابيين (فهناك دولٌ عدد سكانها ثلاثة ملايين فقط)، هذا الموضوع جد خطير، ومصر كلها تدفع ثمن ذلك. (18)

فالخوف من انتشار الشيوعية، قَضى على الحقوق المدنية، وانتهك الحريات العامة، وأدّى إلى حبس الكثيرين ظلماً، وأدى لانتشار التجسس. لذا انتبه المجتمع الأمريكي بعد سنواتٍ إلى أنهم وضعوا بتلك المكارثية حجر الأساس  لدولةٍ قمعية بحُجة مكافحة الشيوعية أو حماية القيم الأمريكية.

لكن وقفت تلك الإجراءات القمعية بعد سنواتٍ وتم انتقادها بقوة داخل المجتمع الأمريكي، والخوف أيضاً من الإخوان أسفر فعلياً عن مكارثية مصرية أَشَدُ وطأةً من تلك الأمريكية الأصلية، والاختلاف بين هذه المصرية وتلك الأمريكية، هي أنه فى التجربة المصرية – بخلاف الأمريكية – فإن المحرك لهذه المكارثية رأس السلطة، والذى يستمد شرعيته وقوة نظامه من نشر حالة الخوف والفزع من المعارضين، بل ويعتبر بقاء حكمه ما بقى تغذية هذه الحالة، لذلك لا يخلوا حديثه الكثير من تناول مَن يسميهم بـ “أهل الشر”، فى  إشارة واضحة إلى معارضيه، والرافضين للانقلاب على الديمقراطية، والكارهين لإهدار الإرادة الحرة للجماهير. ثمة فارق آخر هو أن المجتمع الأمريكي به من الآليات ما يُمكنه من تعديل مساره سريعاً، إذا ما أدرك فساد هذا المسار وخطورته على سلمه وأمنه الاجتماعي، وهو ما حدث بعد أربع سنواتٍ عندما تم توجيه اللوم إلى “جوزيف مكارثي” ووقف قراراته والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يملك المجتمع المصري من آليات لتصحيح المسار؟ وهل يقبل الاختلاف كبديل عن الإقصاء؟

فالبديل يصبح أصعب مع الاستسلام لمشاعر النفاق والخوف، لا مكان فيه للتنوع والاختلاف. (19)

وخاصةً مع ازدياد حالة الشوفينية، والتهويس، والتخوين لكافة التيارات الوطنية،(20) والتي ينتهزها البعض سعياً لتحقيق رغباتهم تحت ذريعة المصلحة العامة والأولويات الوطنية، فإن توحيد الأطياف والأفكار والقيم لا يُقوّي الوطن، ولا يحمي جيوشها ولا أمنها، فالأوطان تكون أقوى بتنوعها، وبتعزيز روح الانتماء لدى أبنائها، لا بالنفاق وإظهار الولاءات الزائفة. (21) إنها واحدةٌ من المعارك الإنسانية الكثيرة، والمتعددة التي تُلهم شعوب العالم، الثقة في قدرتها على النضال والانتصار على كل أنواع القهر والاستبداد، والتبعية تحت أي اسم، والحفاظ على مصداقية الطرح، والموضوعية في التناول، والبعد عن الفوضى الممنهجة والوقوع في تيار الوقيعة الذي استمر ولا نزال ندفع الثمن باهظاً. (22)

إن انتشار تيار المكارثية الذي يدعمه ويرعاه النظام الحالي فى مصر، يقوم فعلياً بتجريف البنية التحية الإنسانية المصرية الموغلة فى القدم، وربما تُؤخر تلك الممارسات الوحشية البلاد سنوات عن تجاوز آثارها السلبية، ولكن تبقى إرادة المصريين قادرة بوعي جمعي ناضج على استيعاب الدروس والعبر، بل والاستفادة من تجارب أمم أخرى مرت من هذا الطريق، ورسخت بعد ذلك لعدالة انتقالية حفظت المستقبل للبلاد بعدما ضيعت الممارسات المكارثية والفاشية ماضيها، بل إن الشعب المصرى لابد أن يدرك يوماً أن العدل أساس الملك، وأن التعايش فنٌ إنساني ترعاه الأمم المتحضرة، وأن الغِشاوة لابد وأن تزول يوماً، وأن أثر ما تنفثه الآلة الإعلامية من السموم وتغييب الوعى وتكريس الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، لأجل بعض المنافع المادية أو السياسية حتما سيزول، وسيبقى وحي “جوزيف مكارثي” للمكارثيين الجدد علماً على الانحطاط البشرى حينما تخالطه الأنانية وحب الذات وتفضيلها على القيم العليا ومصلحة الوطن(23).

الهوامش:

(8) منار الشوربجي، المكارثية، المصرى اليوم، 6 أغسطس 2013.

لقراءة ملف الPDF إضغط هنا

Exit mobile version