المكر والماكرون بين النصوص القرآنية والسنن الكونية
من سنن الله في الأنفس سننه تعالى في المكر والماكرين وهذه السنة ماضية إلى يوم القيامة تناولها القرآن الكريم وأيدها الواقع المعيش؛ وقبل الحديث عن سننيتها ومضامينها نعرفها أولا فنقول: معنى المكر في اللغة: قال الليث: المكر احتيال في خفية…. وقال ابن سيده: المكر الخديعة والاحتيال، وقال ابن الأثير: مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه،… وأصل المكر الخداع.[1] ومن تعاريف المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان: محمود ومذموم [2] وللجرجاني تعريف لطيف يجمع بين صورتي المكر، يقول فيه: المكر من جانب الحق (تعالى) هو: إرداف النعم مع المخالفة، وإبقاء الحال مع سوء الأدب، وإظهار الكرامات من غير جهد، ومن جانب العبد إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر[3].
ورود المكر في القرآن الكريم
وقد ورد في القرآن الكريم الحديث عن المكر والماكرين أربعا وأربعين مرة، شملت الفترتين المكية والمدنية، فورد الحديث عنه في الفترة المكية ستا وثلاثين مرة، وفي الفترة المدنية ثماني مرات.
وقد كان وروده بصيغ: الماضي والمضارع، والمصدر، واسم الفاعل، ووردت المادة مسندة إلى المخاطب والغائب، والمتكلم، والمذكر والمؤنث، وورد مضافا ومقطوعا عن الإضافة. كما ورد مضافا إلى البشر بأصنافهم السابقة، ومضافا إلى الله (تعالى).
ومن خلال هذا الرصد يمكن أن نتلمس الملامح الآتية:
- أن المكر حادث في بداية الدعوة وأثنائها، ومستمر في الحياة ما بقي في الحياة بشر، وما كان على الأرض حياة وأحياء.
- أنه وقع في الماضي، ويقع في الحاضر، وسيقع في المستقبل، وكأنه لازمة من لوازم صنف من البشر، تملكه الضعف، ولم يقو على المنافسة الشريفة والخصومة النبيلة، خصومة الفرسان النبلاء، والأبطال الشجعان، على الرغم مما يكون معهم من خلاف، فيلجئون إلى المكر والخديعة، والكيد والمراوغة، (وقد مكر الذين من قبلهم)، النحل: 26.
- أنه يقوم به أفراد وجماعات ورجال ونساء يجمعهم قاسم مشترك، وهدف واحد، هو الرغبة في الانتقام من خصم مشترك، وعدو واحد فيجتمعون عليه، لا فرق بين رجل وامرأة وفرد ومجموعة.
- أن ورود لفظة المكر ومشتقاتها في الفترة المكية أكثر على عكس ما قد يتوقع بعض الناظرين؛ اعتمادا على تصور أن المكر يقوم به الضعفاء في فترة ازدهار الدولة، والدولة كانت في المدينة، والدعوة كانت في مكة فيتوقع أن يكثر في المدينة، كما كثر النفاق،،لكن العجيب أن وروده في الفترة المكية أكثر، وهذا دليل على ضعف الماكرين لا على قوتهم كما سيأتي، وكما هو واضح من وصف الماكرين في كل مدينة بـ: (أكابر مجرميها)، وضعف الماكرين لا يأتي من نقص قوتهم المادية بل هم يملكون القوة المادية الحسية الظاهرة، والعتاد والسطوة القاهرة، لكنهم يفقدون الشرعية، ويفقدون سند الحق، وصولة الصدق وبرهان الحقيقة، فمهما حازوا من سلاح إلا أنهم من داخلهم ضعاف مهازيل، محاويج، يلجئون إلى الكذب، والكذب لا يلجأ إليه إلا الضعيف، ويلجئون إلى التلبيس والتعتيم والإخفاء، كما سيأتي بعد.
- أن الله يمكر بالماكرين ولا يدعهم يفسدون في الأرض، بل يأتي بنيانهم من القواعد: ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)، من سورة: النحل.
- أن مكر الماكرين مرصود ومكتوب: (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون)، يونس: 21.
- أن المكر من سنن الله في الصراع بين الحق والباطل على تباعد الأمصار، ومر الإعصار، وأن الله (تعالى) غير غافل عن مكرهم، وأنه عالم بما يبيتون، وأنه يمكر بهم مكرا يليق بذاته (تعالى): (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)،الأنفال: 30.
- أن المجرمين يمكرون بكل ما أوتوا من قوة (ومكروا مكرا كبارا) نوح:22.
- ويمكرون في الليل والنهار، (بل مكر الليل والنهار)، سبأ:33، وأن مكرهم شديد: (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال)، إبراهيم: 46.
10-أن مكر الماكرين إلى بوار: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ)، فاطر: (10).بهذه الصورة القاعدية البينة، وتلك التركيبة البيانية الباهرة، وفي الآية الكريمة من الاختصار والإيجاز ما يلفت النظر، فهي أربع كلمات لكنها صاعقة من صواعق الصدق، وقذيفة من قذائف الحق،(ومكر أولئك)، (هو يبور)، باستخدام ضمير الفصل، للتنصيص والرصد، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار بوارهم وعدم انقطاعه.
11-المكر يكون له رأس تدير معركته، ومجموعة (رهط) يجتمعون على هدف وإن كانوا في الأصل متفرقين، يقومون على الفساد والإفساد؛ لأنهم لا يعملون في جو طيب، ولا مناخ صحيح، يحلفون على الكذب، ويقسمون على الباطل، لكن عاقبة مكرهم دمارهم، ومن لف لفهم وشايعهم، وساندهم وأيدهم، ثم يكونون آية لمن حولهم ومن بعدهم، ثم ينجي الله المؤمنين.
(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)، النمل:48- 53.
12- أن الله (تعالى) يتدخل لحماية عبده الذي مكر به، ويحيق بعدوه سوء العذاب، في الدنيا والآخرة: (فوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ )، غافر: (45).
تلك هي أهم ملامح قضية المكر كما صورها القرآن الكريم، لكن هناك كما يقول المفسرون آيات تعد العمدة في الباب، والأساس في رصد القضية، ومفتاح السننية في قضية المكر والماكرين، ومن خلال التأمل في الآيات الأربع والأربعين التي تناولت قضية المكر والماكرين يمكن أن نجد الآيات التي تعد عمدة الباب هي:
1- قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) الأنعام: 123، (124))
والعجيب أن الآيتين تأتيان في مقام واحد يسبقهما النص على أنه لا يستوي من كان ميتا فأحياه الله (تعالى) بالإيمان، ومن كان مقيما في الظلمات ليس بخارج منها، وعقب عليها بأن من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء.
ومن عجيب رصد تلك السنة أن هناك علاقة طردية بين المكر، والإجرام، والإعلام، فالماكر ليس من عموم المجرمين، بل من أكابر المجرمين، ويستخدم التزوير والتلفيق والكذب الممنهج، للتلبيس على الناس، وكونهم من أكابر المجرمين؛ لأنهم ( أفسدوا عقائد الناس وأخلاقهم وصرفوهم عن الهدى بزخرف القول والاحتيال والخداع، هم في الواقع يمكرون بأنفسهم إذ سوف تحل بهم العقوبة في الدنيا وفي الآخرة؛ إذ لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، ولكنهم لا يدرون، ولا يعلمون أنهم يمكرون بأنفسهم.)[4]
فهل في هذا الكلام السنني القرآني البديع قرب من الواقع الذي يعيشه الناس اليوم ويكتوون بناره وسعاره، حتى لكأني أشعر بآيات القرآن توشك أن تخبر بأسماء المجرمين الماكرين، إلا أنها السنن الماضية والنواميس المطردة، التي تتلاقي فيها مضامين المسطور مع المنظور ويتآلف فيها قول الخبير مع صنعه، بصورة باهرة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.
ضعف الماكرين علاماته ودلالاته
إن الماكرين ضعاف، مهازيل، ضعاف مهما ملكوا القوة والتزوير، ومهما أمعنوا في التلبيس والتضليل، مهما سيطروا على الإعلام الكاذب وسخروه لمصلحتهم، ووجهوه لصنع غير الحقيقة، ومهما سعوا إلى تكميم كل فم يعارضهم؛ لأنهم لا يقبلون النقد ولا يقوون على المواجهة الحرة النزيهة، والخصومة النبيلة، وشرف المنازلة.
والدلالة اللغوية لمادة المكر تؤكد ذلك والواقع المعيش يؤيده ويسنده، يقول علامة العصر الشيخ الشعراوي (رحمه الله): (المكر: مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافاً بحيث لا تستطيع إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع؛ لأن الأغصان والفروع ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك لأنه يريد أن يلف تبييته حتى لا يُكشف عنه، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر؛ لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر:
وضعيفةٍ فإذا أصابت فرصة قتلت؛ كذلك قدرة الضعفاء
والضعيف عندما يملك فهو يحدث نفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفاً من ألا تأتي له فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه. إذن فلا يمكر إلا الضعيف. والحق (سبحانه وتعالى) في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم.)[5]
وفي ضعفه هذا طمأنة للمؤمنين الصابرين الصامدين، أن مكر أولئك إلى زوال وبوار، مهما عظم واشتد، وأن الله (تعالى) يمكر لأوليائه مكرا يليق بجلاله، وشتان بين قدرة الخلق وقدرة الخالق، كما يظهر من الآية الكريمة أن مكر هؤلاء المجرمين عائد إليهم ومنقلب عليهم، بتلك الصورة الحاصرة، (وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون)، الأنعام: 123.
والمتأمل للقرآن والواقع يدرك لماذا يمكر هؤلاء، ولماذا يطرد ذلك في كل أمة من الأمم، ومع كل رسالة وإصلاح؛ (إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية – وهي المدينة الكبيرة والعاصمة – نفر من أكابر المجرمين فيها، يقفون موقف العداء من دين الله. ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس، ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب، ويرد هذا كله إلى الله وحده.. رب الناس.. ملك الناس.. إله الناس.
إنها سنة من أصل الفطرة.. أن يرسل الله رسله بالحق.. بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية. فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله. ثم يمكرون مكرهم في القرى، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى، وفي نشر الباطل والضلال، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي.
إنها سنة جارية. ومعركة محتومة. لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله – وهي رد الحاكمية كلها لله – وبين أطماع المجرمين في القرى. بل بين وجودهم أصلا..
معركة لا مفر للنبي أن يخوضها، فهو لا يملك أن يتقيها، ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها.. والله سبحانه يطمئن أولياءه.. إن كيد أكابر المجرمين – مهما ضخم واستطال- لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف. إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها، وهو حسبهم، وهو يرد على الكائدين كيدهم:{ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون}.فليطمئن المؤمنون!)[6].
وفي نص القرآن على إصابة المجرمين الماكرين ببعض العقوبات في الدنيا والآخرة تناسب عجيب، وتلطف بقلوب عباده الممكورين بديع: (فالصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع، والاستكبار عن الحق، والتطاول إلى مقام رسل الله!.. والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد، والعداء للرسل، والأذى للمؤمنين.)[7]
2- والآية الثانية التي تعد عمدة في قضية سنة الله في الماكرين هي قوله تعالى: ( اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّت اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّت اللَّهِ تَحْوِيلاً)، فاطر:43.
ومن العجيب في آية فاطر تلك أن لفظ السنة فيها ورد ثلاث مرات وورد مفتوح التاء، وهذا يدل على الوقوع في السابق وما وقع يقع وما حدث يحدث؛ فالزركشي في البرهان له كلام بديع في الفرق بين التاء الممدودة والمقبوضة، ( فهذه الأسماء لما لازمت الفعل صار لها اعتباران أحدهما من حيث هي أسماء وصفات وهذا تقبض منه التاء والثاني: من حيث أن يكون مقتضاها فعلا وأثرا ظاهرا في الوجود فهذا تمد فيه كما تمد في قالت وحقت، وجهة الفعل والأمر ملكية ظاهرة وجهة الاسم والصفة ملكوتية…. ويدلك على أنها بمعنى الانتقام قوله (تعالى) قبلها: (ولا يحيق المسكر السيء إلا بأهله)، وسياق ما بعدها[8]
فهو يرى أن الممدودة إشارة إلى أن هذه السنة طبقت ووقعت في عالم الناس، وأن المقبوضة قدرية لم تنزل ولم تطبق، وتلك من روائعه، ومن طمأنات الممكورين المقهورين الذين مكر بهم أكابر المجرمين واستعملوا معهم أكذب التهم وأقبح الأوصاف، حتى يحملوا الناس على بغضهم وعدم رحمتهم إذا نزل بهم مكر هؤلاء الماكرين، ولكن ربك بالمرصاد.
ومعنى الآية الكريمة: (فَهَلْ يَنْتَظِرُ هؤلاءِ المُشْرِكُونَ إِلاَّ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ بِهِمْ نِقْمَتَهُ وَعَذَابَهُ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمَكْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ رَبِّهمْ، كَمَا أَنْزَلَ نِقْمَتَهُ وَعَذَابَهُ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ المكذِّبينَ؟، وتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ في كُلِّ كَافرٍ مُسْتَكْبِرٍ مُكَذِّبٍ، ولا تبديلَ لِسُنَّةِ اللهِ، وَلا تَحوِيلَ لها، فَلَنْ يَجْعَلَ الرَّحْمَةَ موضعَ العذابِ، ولنْ يُحوِّلَ العَذَابَ مِنْ شَخْصٍ إِلى آخرَ.)[9]
ملامح السننية في قضية المكر والماكرين
ومما يدل على سننية تلك القضية وهذه الأحكام التي تتعلق بها
1- تكرارها واطرادها في جميع الأمم ومع كل المرسلين والمصلحين، (فأمر هؤلاء(الماكرين)، ليس ببدع ولا خاص بأعداء هذا الدين، فإنه سنة المجرمين مع الرسل الأولين.
.. ووضع السنن الكونية، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشر في كل مجتمع؛ لأن كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهم في هذا الخبر؛ ليعلم أهل مكة أن حالهم جرى على سنن أهل القرى المرسل إليها.
ولقصد تسلية الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأنه ليس ببدع من الرسل في تكذيب قومه إياه، ومكرهم به، ووعده بالنصر.)[10].
2- النص على السننية في آية فاطر، وبتلك الصورة البديعة، (ممدودة التاء)، التي تبين وقوع العقاب للماكر الخالف، كما وقع للماكر السالف.
3- تركيبة آية الأنعام (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، الأنعام: 122-123 ). بالنص على الحصر بالنفي والاستثناء، وتصدير الآية ب(وكذلك) بما يدل على أنه كما حدث في كل بيئة مكر وجوزي الماكرون يحدث في دعوتك وبيئتك مكر، وسيجازى الماكرون.
4- فاء الفصيحة في (فلن تجد)؛ (لأن فيما قبلها لما ذكَّر الناس بسنة الله في المكذبين أفصح عن اطراد سنن الله تعالى في خلقه. والتقدير: إذا علموا ذلك فلن تجد لسنة الله تبديلا.)[11]
5- عمومية الخطاب في فلن تجد، بما يدل على الشمول (فالخطاب في (تجد) (لغير معين فيعم كل مخاطب، وبذلك يتسنى أن يسير هذا الخبر مسير الأمثال. وفي هذا تسلية للنبي (r) وتهديد للمشركين.)[12].
6- تعليل العقوبة بالعمل وترتيبه عليه كما ورد في قوله (تعالى): (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) الأنعام:123. فترتيب الإصابة بالصغار والعذاب الشديد على المكر، وجعل المكر علة للإصابة دليل السننية.
ومن بدائع صاحب المنار أن يربط في سبك راق متين بين آيتي الأنعام (123، 124) وبين آية فاطر، فيقول: (إن من يدعو إلى الحياة فهو يدعو إلى الاستقلال والمساواة، ومن يدعو إلى الحق فهو مقاوم للباطل، وأن أبغض الأشياء إلى الرؤساء المستبدين استقلال الفكر، والتساوي بين الناس في الحقوق، وأبغض الناس إلى الكبراء المترفين مَن يدعو إلى نصرة الحق ومقاومة الباطل، وإلى جعل التفاضل بين الناس بالأعمال والفضائل، فالسادات العالون والكبراء المستكبرون أعداء المصلحين في كل زمان، وخصماء الحق والفضيلة في كل مكان، غروراً بالقوة وطغياناً بالغنى، { اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } ( فاطر : 43.
ليتذكروا بهذه الآيات كلها أن الله تعالى بيَّن للناس أن له سُنناً في حياة الأمم وموتها، لا بد لمعرفتها بالتفصيل من الرجوع إلى التاريخ الذي يبين مصداق آياته في الغابرين، ومن السير في الأرض لمعرفة تأويلها في الأولين والآخرين، وقد نطقت سير البشر بتصديق قوله تعالى : { إنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد : 11 ) وأنه ما وقع تغيير إلا بدعوة، وأن دعاة الخير والإصلاح في كل أمة كانوا ممقوتين من أصحاب السلطة، ومضطهَدين من رؤساء الأمة، أولئك الذين حُبس خيارهم مثل الإمام أبي حنيفة حتى مات في السجن، وجلدوا الإمام مالكاً، وألزموه بيته حتى ترك الجمعة والجماعة، واضطروا الإمام الشافعي إلى الفرار من بغداد خوفاً على دينه أو نفسه، ووطئوا الإمام أحمد بالنعال.[13]
ولكن سنة الله ماضية، وناموسه لا يتخلف، وعينه باصرة، وهو للماكرين بالمرصاد، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والواقع المصري يشهد بذلك، فكل خطوة من خطوات الظالمين تبوء بالفشل، وتعود بالخسران؛ ذلك أن التوفيق الرباني خلاهم، والسند الإلهي ودعهم وقلاهم، ويكفي حرمة الدماء التي انتهكت، والبيوت التي فُزّعت ورُوّعت، والنساء التي أيمت، والأطفال الذين يتموا، لا لجريرة ولا لذنب، إلا أنهم أحرار أطهار، يأبون الضيم، ويرفضون الدنية، ويعشقون بلدهم، ويتعشقون العزة والكرامة.
الهامش
[1] – لسان العرب: (17 / 362).
[2] – مفردات غريب القرآن للأصفهاني: (1 / 471)، وانظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز:(1 / 1423).
[3] – التعريفات للجرجاني: (1 / 293).
[4] – أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير: (3 / 15).
[5] – تفسير الشعراوي: 901.
[6] – في ظلال القرآن :(3 / 140).
[7] – في ظلال القرآن: (3 / 141).
[8] – البرهان في علوم القرآن: (1 / 410-413).
[9] – أيسر التفاسير لأسعد حومد: (1 / 3583).
[10] – التحرير والتنوير: (8 / 47)، وانظر تفسير ابن كثير: (3 / 331).
[11] – تفسير التنوير والتحرير لابن عاشور: (26 / 4).
[12] – السابق جزءا وصفحة.
[13] – مجلة المنار لمحمد رشيد رضا: (8 / 1).
مناظرة عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد: قراءة وتحليل