fbpx
تحليلاتقلم وميدان

المنظورات الفكرية في العلاقات الدولية الجزء الأول

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

توضح أدبيات العلاقات الدولية، فى إطارها الغربي، أن جهود التنظير حول طبيعة العلاقات الدولية تمتد جذورها إلى فلاسفة اليونان (أفلاطون وأرسطو) وإيطاليا (ميكافيللي)، وكتابات “بيير دبوى” فى القرنين 14 و15، و”إيميرى كرييه” فى القرنين 16 و17، و”ديو دو سولي” و”سان بيير” و”وليام بن”، و”جان جاك روسو” و”جيرمي بنثام” فى القرنين 17 و18، وتؤكد الأدبيات الغربية أنه فيما عدا هذه الكتابات لم تتطور نظرية العلاقات الدولية حتى الحرب العالمية الأولى.

وكانت القضايا التي تناولها هؤلاء المفكرون فى الفترة الممتدة من 1648 (توقيع صلح وستفاليا وبداية الدولة القومية بمفهومها الحديث في أوربا) إلى 1914 (بداية الحرب العالمية الأولى) انعكاسًا للأوضاع السائدة فى أوروبا، حيث ركزت هذه الأدبيات على الدولة القومية ذات السيادة من حيث أصولها ووظائفها والقيود المفروضة على السلطة الحكومية، وتقرير المصير القومي والاستقلال، وارتبط الاهتمام بالدولة القومية بافتراضهم أن هيكل المجتمع الدولي غير متغير وأن تقسيم العالم إلى وحدات ذات سيادة أمر طبيعي وضروري فى ذات الوقت.

وهو ما دفع البعض إلى القول إن هدف هؤلاء المفكرين لم يكن تقديم تحليل عام للعلاقات بين الدول بقدر ما كان إسداء النصح للحكام من أجل التوصل إلى أكثر الأشكال فعالية فى إدارة الدولة وتفاعلاتها الخارجية.

إلا أن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولي (1919) وحتى نهاية الحرب الباردة (1991)، شهدت عدد من الجدالات حول المنظورات الكبرى لعلم العلاقات الدولية، وقبل تناول هذه الجدالات، يجدر بنا ابتداء الوقوف على معني “المنظور” وأهمية المنظورات في إطار البنية الفكرية للعلم، ثم نتناول أهم هذه الجدالات وذلك على النحو التالي:

مفهوم المنظور وأهميته:

المنظور (Paradigm) في أحد تعريفاته، هو إطار فلسفى يستخدمه منظرو الحقل المعرفي للعلاقات الدولية، لتحديد رؤيتهم للعالم، وما ينبغي أن يكون عليه، ويدل على ما إذا كانت نماذج التحليل التطبيقي متوافقة مع تلك الرؤية الكونية الشاملة أم لا. وفي إطار السعي نحو وضع منظورات فكرية لتحليل العلاقات الدولية، تعددت مداخل تحليل وتفسير هذه العلاقات، حيث حاول كل منها أن يرسى ركيزة فلسفية كبرى، تستند إليها سلسلة من النظريات الوسطى والصغرى ومجموعة من الافتراضات التي يمكن أن يجاب عنها من خلال مقولات “النظرية العليا”.

ويطرح البعض مفهوم “النظرية العليا”، بديلاً لمفهوم المنظور الذي استخدمه توماس كون “Thomas Kuhn” فى كتابه “The Structure of Scientific Revolutions” حيث استخدم مصطلح Paradigm فى الطبعة الأولي من الكتاب التي صدرت عام (1962) بأكثر من عشرين دلالة مختلفة، وفى الطبعة الثانية (1970)، اختصرها فى دلالتين:

الأولى: اجتماعية ثقافية: تشير إلى مجموعة الاعتقادات والقيم وطرائق البحث المشتركة بين مجموعة كبرى من الباحثين فى حقل معرفي ما.

الثانية: فلسفية: ترى أن ما يسمى بالعلوم الطبيعية أو العلوم الخالصة، هي علوم مشبعة بالقيم الذاتية (subjective)، وأنها لذلك لا تستحق أن تسمى علوماً عقلانية بمعنى الكلمة لأنها فى الواقع مشروع غير عقلاني (Irrational enterprise).

وإذا كانت السيطرة فى تحليل العلاقات الدولية، ولفترات طويلة، للمنظور الواقعي، إلا أن القرن العشرين قد شهد بروز منظورات أخري قدمت إسهامات فلسفية مناهضة لمقولات المنظور الواقعي، وتمثل شبه انقلابات فكرية عليه. وأصبح التركيز في إطار اتجاهات دراسة العلاقات الدولية على تناول السياسات الدولية من خلال عدة محاور، في مقدمتها: الفاعلون الدوليون، نطاق وأولوية الموضوعات، العمليات الدولية. إلا أن هذا لم يقف حائلاً دون تعدد الجدالات الفكرية بين المنظورات الرئيسية في إطار علم العلاقات الدولية، والتي يمكن تناول أبرزها على النحو التالي:

الجدال الأول: بين المثالية والواقعية:

ساد المنظور المثالي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولي والثانية، وتحديداً خلال الفترة بين (1919 ـ 1939) وهي المرحلة التي تؤرخ لبداية دراسة العلاقات الدولية بوصفها علماً متخصصاً مستقلاً. واتجه المثاليون إلى تأكيد مكانة العقل والأعراف والمؤسسات الدولية بوصفها أدوات لمنع الحروب والصراعات، وشجبوا ما يسمى بسياسة الأمر الواقع، وسياسة توازن القوى التي لم تحل دون اندلاع الحروب الأوروبية، والحرب العالمية الأولى.

ويستمد أنصار هذا المنظور رؤيتهم للعلاقات الدولية من الأديان السماوية، والتعاليم والفلسفات الإنسانية التي تهتم بوضع الضوابط والمعايير الأخلاقية العامة للسلوك الإنساني، وتركز على مخاطبة عقل الإنسان وقلبه، واستثارة الجوانب الخيرة فى الطبيعة البشرية، بهدف الارتقاء بالسلوك الإنساني، والعمل على أن يأتي هذا السلوك متمشيا مع القواعد الأخلاقية التي تحض على قيم التعاون بدلا من الصراع، وعلى السلام بدلا من الحرب، وعلى العدالة بدلا من الظلم، وعلى الحب والإخاء والكرم بدلا من الكراهية والحقد والأنانية.

واستلهاما لهذه القيم طرح عدد من المفكرين رؤى أو نظريات عن الحرب والسلام، أو اتخذوا مواقف مناهضة للاستعمار أو للنظم العنصرية، أو غير ذلك من ظواهر العلاقات الدولية المختلفة، ولم يتردد عدد من الأساقفة وعلماء اللاهوت من التنديد بالاستعمار، وتفنيد الأسس التي يقوم عليها من منظور ديني. بل وذهبت بعض المجالس الملية الكنسية إلى حد تقديم مساعدات مادية ومعنوية لدعم حركات التحرر فى أمريكا اللاتينية. وفى المقابل، برزت رؤى ومواقف مماثلة مستوحاة من تعاليم الدين الإسلامي أو اليهودي أو من التراث الثقافي والأخلاقي لديانات غير سماوية أو حتى لفلسفات إنسانية عامة.

ولكن انهارت آمال المثاليين باندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 – 1944)، وظهور نظريات مناقضة بدأت التأسيس الجديد للمنظور الواقعي، وكان ظهور كتاب “السياسة بين الأمم: الصراع من اجل القوة والسلم”، لهانز مورجنثو، بمنزلة البداية الصلبة لتأسيس نظريات جديدة هيمنت على دراسة العلاقات الدولية، وأثرت تأثيراً بالغا فى مؤسسات صنع قرارات السياسة الخارجية فى معظم الدول الغربية.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الستينيات من القرن العشرين، هيمن المنظور الواقعي، وأصبحت أية دراسة تنطلق من أرضية الواقعيين وتستلهم مسلماتهم الأولى، حتى في إطار التجديد الذي تم داخل المنظور، كالذي قام به “كينيث والتز” الذي أسس مبدأ الواقعية الجديدة أو الواقعية البنيوية، فى كتابه “نظرية السياسة الدولية”.

وتستند منطلقات الواقعيين لإسهامات ميكافيللي وهوبز وروسو، الذين تصوروا أن حالة عدم الثقة هي الحالة التي تسود بين الدول، فلا أحد يثق بالآخر، ومن ثم فلابد أن يأخذ كل طرف احتياطاته تحرزاً لأي خطر أو هجوم من الآخرين، سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء. ولا يمكن، والحال كذلك، أن يثق حتى بإمكانية وفاء الآخرين ممن تدخل الدولة معهم فى أحلاف أو مواثيق مكتوبة.

حيث يرى مورجانثو إن السياسة الدولية هي صراع فى سبيل القوة، لأن القوة سبيل كل أمة من أجل البقاء والنمو، وتوازن القوى هو السبيل لإدامة السلم، وأنه لا سبيل إلى تطبيق القوانين والمثل الخلقية فى ساحة العلاقات الدولية، وذلك فيما عدا ما يتطابق من تلك القوانين والمثل مع مصالح الطرف الأقوى. ولذلك فإن على قادة الدول أن يركزوا على الاعتبارات الأمنية التي تصون مستقبل بلدانهم لا على مجرد المطالب والقيم القانونية والأخلاقية.

واهتم الواقعيون بالقوة بدعوى غياب الحاكمية العالمية العليا التي يمكن أن تقوم بكبح الفوضى، حتى جاء “كينيث والتز” بنظرية النظام الدولي، التي تقوم على أن شكل النظام الدولي يختلف اختلافاً بيناً عن شكل النظام الداخلي للدولة القومية. فالنظام الدولي يقوم على وحدات ومؤسسات مستقلة، لا تحتكم إلى منظومة واضحة من القوانين ذات القوة النافذة، ولذلك فإن كل دولة تعتمد على نفسها فى تحقيق أمنها فى حالة شيوع الفوضى فى العالم.

ويعتقد الواقعيون أن وحدة التعامل على المستوى الدولي هي الدولة القومية فقط، ولا يعتبر قادة تلك الدول إلا مجرد ممثلين لدولهم، ولا ينظر للمنظمات الدولية إلا على أنها تكوينات صورية تستمد قوتها من اشتراك الدول فى تسيير شئونها، فالدولة هي الكيان الوحيد المستقل الذي يملك المشروعية القانونية كما يملك مصادر القوة التي تمكنه من تنفيذ إرادته.

وتمثل نظرية “ميزان القوى” أهم نظريات الواقعين، وتشير فى شكلها الكلاسيكي إلى أن توازن القوى هو ضمانة لتحقيق السلم، فإذا اختل الميزان لصالح دولة ما فإنها هي التي تتجه إلى إعلان الحرب، وتشير فى شكلها المعاصر إلى أن هناك صلة قوية بين معدل النمو الإقتصادي والقوة والحرب، فطبيعة النمو الإقتصادي وسرعته يزيدان من مقدرات الدول، وذلك من شأنه أن يؤدى إلى وقوع الصراع ونشوب الحرب بين الدول.

ويرى الواقعيون أن الحرب هي قدر الإنسان الأبدي، فالسلام مطلوب دائما، ولكنه مطلب عسير التحقيق، لأن حالة الحرب هي الوضع الطبيعي، فبدلا من شجب الحرب وبيان أضرارها بالجنس البشري، وبدلا من صرف الجهود فى الدعوة إلى السلام، يجب التركيز على دراسة ظاهرة الحرب للخروج بقوانين موضوعية عامة عن قضايا القوة النسبية، والتحالفات الدولية والاحتواء، والأداء الدبلوماسي، وأسباب اندلاع الحروب ومحاولة التنبؤ بلحظات اندلاعها وبما يعقبها من تسويات وأوضاع.

ولذلك يهمش الواقعيون القانون الدولي، ويجردون العلاقات الدولية من كل مضمون أخلاقي أو اعتبار قيمي، لأن الحرب والسعي إلى اكتساب القوة لا يعرفان أيا من تلك الاعتبارات، فالأخلاق عملة فاسدة فى هذا المجال؛ وبتعبير كيسنجر: “فإن الأخلاق لا حساب لها هنا”.

وعلى الرغم من الانتقادات التي تعرض لها المنظور الواقعي من جانب أنصار المنظورات الأخرى، يبقي التأكيد على ما ذهب إليه البعض من أن هذا المنظور كان أكثر تماسكاً واستقراراً مقارنة بالمنظورات الأخرى فى تناوله للعلاقات الدولية، التي يرد جوهر أنماطها التفاعلية إلى حقيقة أساسية هي القوة فى علاقتها بالمصلحة القومية مهما كانت المسميات التي تطلق عليها.

قراءات إضافية

(أ) قراءات باللغة العربية:

1ـ د. محمد وقيع الله، “مداخل دراسة العلاقات السياسية الدولية”، مجلة إسلامية المعرفة، واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، السنة الرابعة، العدد الرابع عشر، ص 73 ـ 111.

2ـ د. إسماعيل صبري مقلد، نظرية العلاقات الدولية، (الكويت، مطبوعات جامعة الكويت، 1985).

3ـ نيقولا ميكافيللي، الأمير، ترجمة فاروق سعد، (بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1982).

4ـ هانز كينج، الحوار بين الأديان والأمم، مجلة التسامح، (مسقط، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، العدد السابع عشر، شتاء 2007 هـ /1428م)، ص ص 201 ـ 204.

(ب) قراءات باللغة الإنجليزية:

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close