fbpx
دراسات

المواطنة في دولة مسلمة: الإشكالات والتحديات ج2

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

سابعا: المدخل الحقوقي وأصول النظام العام وحركة المجال العام:

فكرة النظام العام هي من الأفكار الأساسية التي يرتكز عليها علم القانون إلا أنها ليست فكرة قانونية خالصة ابتدعها علم القانون فانحصرت فيه وتقوقعت داخله بل إنها تطالعنا خارج علم القانون كذلك فجد لها مكانا بين العلوم الإنسانية المختلفة لتقع في منطقة التماس بين علم القانون وعلوم السياسة والاجتماع والاقتصاد،.، فهي مفصل من مفاصل ربط هذه العلوم بعضها ببعض باعتبارها إحدى قوى التأثير داخل المجتمع والدولة. ففكرة النظام العام في وضعها المعاصر توصف بأنها (1 )صمام أمان حافظ لأي نظام اجتماعي مما قد يتهدد أسسه التي ينبني عليها. فضلا عن كونها الغطاء الشرعي لدفع حركة المجتمع تحقيقا لأهدافه.

.. من الثابت أن فكرة النظام العام من نتاج الفكر القانوني الغربي.. إلا أن النظر إلى وظيفة الفكرة ومضمونها يكشف عن أبعاد كونية لها فمهمة الحفاظ على قيم المجتمع الأساسية ومرجعيته العقدية وأسسه الفلسفية الأيديولوجية وهي المعروفة بالأصول والكليات التي تبني عليها الجماعة حركتها، لا شك أن الشريعة الإسلامية تضمنت من الأفكار ما مكنها من الاضطلاع بهذه المهمة.

المجال العام والملف القبطي:

إن سيطرة المؤسسات الدينية على المجال العام يطرح تساؤل هل يعني ذلك أن تبتعد المؤسسات الدينية كلية عن المجال العام ضمن رؤية علمانية؟ الأمر ليس على هذا النحو فكثير من المؤسسات الدينية حتى في الحضارة الغربية شكلت واحدة من الفعاليات التي تدخلت في المجال العام فضلا عن المجال السياسي، الكنيسة في بولندا، وفي أمريكا اللاتينية. ومن هنا فإن الأمر لا يرتبط ربما بانخراطها المباشر في المجال العام بحيث تحل الكنيسة محل مؤسسات أخرى وجب أن يرتبط بها ذلك المجال العام والخطاب العام، أبرز ما في ذلك بروز وتكرار الحديث عن شعب الكنيسة، ومحاولات تسييس ما يسمى بأحداث الفتنة الطائفية، وقد تزامن ذلك مع انسحاب الدولة من مساحة تتعلق بالمجال العام مما أدى إلى فراغ ربما حاولت بعض المؤسسات ملئه خاصة حينما يتعلق الأمر بمنظور توجه بعينه ينظر للأقباط كطائفة أو أقلية

هناك كذلك ما يتعلق بعشوائية النظر فضلا عن عشوائية الواقع الذي يتعلق بالمجال العام على وجه العموم، ذلك أن المجال العام بدا كساحة متنازع عليها ضمن قوى شتى لا تعبر الكنيسة إلا عن واحدة منها.

وفي هذا السياق فإن النشاط القبطي في مصر ليس بعيدًا عن هذه الأرضية الحوارية إلا أنه يجب أن نجيب وبوضوح وتمييز على مجموعة من الأسئلة، هذه الأسئلة التي تطرح أو يُسكت عنها، من المهم أن نخرجها لحال العلن والمكاشفة في إطار شفافية تعكس حقيقة العلاقة بين عناصر النسيج الاجتماعي للأمة وذلك ضمن مدخلين للمرجعية يجب الوقوف عليهما:

مرجعية الجماعة الوطنية وقواعد النظام العام التي لا تستنكف من أن تجعل الثقافة الإسلامية أصلا مرجعيا مكينا.(الاعتراف بالثقافة العامة والثقافات الفرعية المتنوعة).

مرجعية المواطنة في العمل السياسي والشأن العام وقضايا الحقوق والواجبات، بما يؤسس لجماعية المواطنة عبر الوطن ودون أدنى شبهة للاستقواء بالخارج أو العمل خارج قواعد تأسيس الجماعة الوطنية.

ثامنا: تأسيس الدولة ودستور المدينة: المواطنة في دولة مسلمة:

نصت وثيقة دستور المدينة على اعتبار الإسلام أساسا للمواطنة في الدولة الإسلامية الجديدة التي قامت في المدينة المنورة. وأحلت الوثيقة الرابطة الدينية محل الرابطة القبلية، فعبرت عن المسلمين بأنهم “أمة من دون الناس” (م/2) ويجعل هذا النص المسلمين أمة يجمع بين أفرادها الإيمان بالدين الذي جاء به محمد (ص) دون نظر إلى أصولهم القبلية أو النسبية. وهذه ظاهرة يعرفها المجتمع العربي لأول مرة في تاريخه، فلم يجتمع فيه الناس قبل الإسلام إلا على أساس من صلات القرابة والنسب.

والمواطنة للمسلمين مقتصرة على المقيمين بالمدينة من أهلها وممن هاجر إليها مع رسول الله (ص)، أو قبله أو بعده، ولا تشمل المسلمين غير المقيمين في المدينة، لقول الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) {الأنفال:72}.

ولم تحصر المواطنة في الدولة الإسلامية الأولى في المسلمين وحدهم. بل نصت الوثيقة على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة وحددت ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات. ففي فقرتها (25) تقرر الوثيقة أن “يهود بني عوف أمة مع المسلمين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم”. ولا يقف عند يهود بني عوف وحدهم، وإنما تمضي النصوص من الفقرة (26) إلى الفقرة (36) لتقرر باقي قبائل اليهود مثل ما تقرر ليهود بني عوف.بل إن بعض النصوص تشير إلى واجبات على المشركين من أهل المدينة مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة وخضعوا لأسس تنظيمها التي وردت في وثيقتها. وأوضح هذه النصوص هو نص الفقرة (20 ب) الذي يقرر أنه ” لا يجير مشرك مالكا لقريش ولا نفس، ولا يحول دونه على مؤمن “. وهكذا يتبين أن عنصر الإقليم (المدينة) والإقامة المرتبطة به عند نشأة الدولة هو الذي أعطى هؤلاء اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها الوثيقة لهم.

وقد نظمت الأحكام الإسلامية ـ بعد ذلك ـ في القرآن والسنة أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وعرضت لذلك كتب الفقه الإسلامي المتخصصة في موضوع اهل الذمة، والمبسوطة الشاملة لأبواب الفقه كافة تحت عنوان “أهل الذمة” ولا يختلف الباحثون ـ من مسلمين وغير مسلمين ـ في أن الإسلام قد كفل لأهل الذمة حياة كريمة عزيزة لحمتها العدل معهم والمساواة بينهم وبين المسلمين وفق أحكام الإسلام التي تقرر ذلك، وسداها الرفق بهم والتسامح معهم في كل ما لا يخل بأحكام الدين الإسلامي أو يعرض نظام دولته لخطر أو ضرر.

النظام الإسلامي هو النظام القائم على الشريعة الإسلامية، المؤسسة تفاصيله على وفق قواعدها في الاجتهاد والاستنباط والتفسير والتأويل، وغير المسلمين هم شركاء المسلمين في الوطن منذ كانت للإسلام دواته : دولته الأولى في المدينة المنورة، ودوله التي توالت أيامها بعد انتقال النبي (ص) إلى الرفيق الاعلى، وحتى يوم الناس هذا.

من الضروري الإشارة إلى أن هناك أصول مهمة في هذا المقام تجدر الإشارة إليها والتي تتمثل فيما يلي:

الأصل الأول: تحكيم نصوص الشريعة الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، والأصل الثاني: قبول ما تقتضيه المشاركة في الدار، أو الوطن بتعبيرنا العصري، والأصل الثالث: إعمال روح الاخوة الإنسانية، بدلا من إهمالها، فكل قول أو رأي أو فعل نافي روح الأخوة فقد غفل صاحبه عن أصل من أصول الإسلام عظيم نطق به القرآن الكريم، والسنة الصحيحة ( 2 ).

إنهم أمة واحدة من دون الناس.

لا شك أن المراد بكلمة أمة هي الجماعة السياسية المتميزة بقرينة قوله (من دون الناس) والتمايز قائم على معيار جديد غير قبلي وغير دموي، وهو معيار عقيدي..إن وحدة الأمة أمر ثابت لا يمكن التشكيك في ثباته وحرمة الاخلال به، ولكن في إطار وحدة الأمة يمكن أن يتعدد المجتمع السياسي ويمكن أن تتعدد الدولة حسب المجتمع السياسي داخل الأمة الواحدة ( 3 ).

..الإسلام يقبل فكرة تأسيس مجتمع سياسي متنوع في دولة واحدة ونظام حكم واحد، على أساس الإسلام يتمتع الجميع فيها بحق المواطنة الكاملة. ولا يشترط لإقامة دولة أن تكون لمجتمع إسلامي نقي خالص ( 4 ).

عند وصول الرسول صلى الله عليه وسلّم المدينة المنورة مهاجرا، سارع الى ارساء معالم الدولة الاسلامية الاولى، وعزمه على تأسيس التجربة السياسية الجديدة وجد لديه واقعاً لا يمكن بحال حمله كلياً على أساس العقيدة، حتى أنَّ المسلمين المتوحدين بالعقيدة لم يكونوا واقعاً واحداً، فالأنصار كانوا يمتلكون الأرض والإمكانات والإنتماء إلى الأرض على عكس المهاجرين، الامر الذي اقتضى المواخاة بينهم لتجاوز التمايز الواقعي الذي يحول دون صهرهم في بوتقة التجربة الجديدة. وتجلى ذلك في قيامه صلى الله عليه وسلم بازالة اسباب الخلاف بين الاوس والخزرج، وتأسيس المسجد الذي اتخذ مركزا للدولة تقام فيه الصلوات وتتخذ منه القرارات، ثم امر بالمؤاخاة بين المهاجرين والانصار، ذلك الحدث الفريد في العالم الذي وحد مشاعر وآلام المسلمين، وجعلهم فعلا كالجسد الواحد.

كما وجد لديه خليطاً من غير المسلمين من المشركين واليهود.؛ وهنا فإنَّ إسقاط العقيدة كأساس للمشروع السياسي المراد تأسيسه في المدينة سوف تصدق على قسم من الناس ولا تصدق على القسم الآخر، فالإخوة الدينية والمشترك العقائدي يصلح لتكوين رابطة بين المؤمنين فقط وضمن شروط لتجربة أخرى تأخذ بكافة أسباب ومقتضيات التجربة الدينية البحتة، وواقع المدينة لم يكن كذلك كونه يشتمل على غير المسلمين ولوجود واقع آخر يميز التجربة الإنسانية في أبعادها العقدية والإجتماعية، وهنا فإنَّ لوازم المشروع السياسي المراد تأسيسه من خلال هذه التجربة الإنسانية تقتضي إيجاد رابطة أعم تصدق على واقع المدينة المتنوع والمتعدد في أطيافه وألوانه المجتمعية والعقيدية، وهذا ما فعله الرسول(ص) عندما عقـد اتفاقاً مع المسلمين وغير المسلمين، عرف باسم (صحيفة المدينة)، فكان بحق أول من وضع المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة المسؤولة والمحدودة بحدود وضعها الرسول كعلامات توقع مسؤولية من أخل بداخلها تحت دائرة حكم الإسلام ومرجعيته طبقا لأحكام هذه الصحفة (صحيفة المدينة) التي تعد بالمفهوم المعاصر مرجعية دستورية لسكان المدينة النبوية؛ اذ إنَّ تلّمس جوهر هذه الصحيفة – التي تتضمن 47 بنداً- يوضح المشتركات القيمية مع مبدأ المواطنة، من خلال الاعتراف بالتعددية واحترام حقوقها وواجباتها لكل من سكن المدينة مسلماً كان أو غير مسلم. ونلاحظ أنَّ الرسول (ص) وصف المسلمين واليهود وغيرهم ممن دخلوا في هذه الاتفاقية بأنهم أمة من دون الناس، وأنهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها من الجماعات خارج المدينة.

وفي هذا الشأن نصت الصحيفة: “هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلّم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امة واحدة من دون الناس”. وقد أكدت الصحيفة ايضا مفهوم النصرة المتبادلة بين سكان المدينة مسلمين وغيرهم كما في البند (16 – 37)، إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم)). وتعرض الصحيفة في مواضع مختلفة أن الاحتكام حين التشاجر والاختلاف هو لله ورسوله(بند23 – 42) مما يعني تأكيد السيادة الشرعية.

وهذا التعريف الواسع للأمة هو إطار الجماعة السياسية المراد تأسيس مجتمع المدينة على أساسه من خلال بنود هذه الصحيفة التي شكّلت إطاراً واسعاً للتعايش بين الأديان والجماعات الإنسانية المتنوعة.

وهذا يتطابق مع مفهوم المواطنة القائم على فكرة العلاقة العضوية بين أفـراد المجتمع السياسي للدولة والتي تحتمها ضرورات تنوعهم وتعدد أطيافهم؛ مما يقتضي إيجاد رابطة تشملهم جميعا.

من جانب اخر نظمت الصحيفة حقوق الجماعات والافراد، فنصت على ان جميع افراد الامة متساوون في حق منح الجوار لان ذمة الله واحدة، يجير عليهم ادناهم غير ان الصحيفة قيدت هذا الحق بالنسبة للمشركين من افراد الامة بقولها: ” وانه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن” وذلك لان مشركي قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين. واعطت الصحيفة لغير المسلمين الحق في حرية التدين، فقالت (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم)، لقوله تعالى: “لا اكراه في الدين” وقوله عليه الصلاة السلام عندما كتب الى اهل اليمن “انه من كان على يهوديته او نصرانيته فانه لا يفتن وعليه الجزية. وكذلك يتركون وما يعبدون، ويسيرون” (1 :45)

كما منحتهم حرية التصرف في احوالهم الشخصية حسب اديانهم من زواج وطلاق وغيره بل وتعين الدولة لهم قاضيا منهم ينظر في خصوماتهم. واما المطعومات والمشروبات والملبوسات فيعاملون بشأنها حسب احكام دينهم ضمن النظام العام. واما الحقوق الادارية، فسائر رعايا الدولة هم سواء في تقلدها الا في المناصب الدينية، او التي تعتبر من اعمال الحكم. ولكل من يحمل التابعية وتتوفر فيه الكفاية، رجلا كان او امرأة، مسلما او غير مسلم ان يعين مديرا لأية مصلحة من المصالح او اية ادارة وان يكون موظفا فيها، ويجوز لكل حامل التابعية الاسلامية “الجنسية” وبغض النظر عن دينه وعنصره ان يكون عضوا في مجلس الامة. وان ينتخب او ينتخب لهذا المجلس وتنفق لدولة على رعاياها من غير المسلمين الفقراء ما تنفقه على فقراء المسلمين من اموالها بحيث تمكنهم من العيش الكريم اسوة بأي مسلم، وتمكنهم من قضاء لوازم حياتهم الضرورية وتعليمهم كما تمكن المسلمين. ومن حقوق اي فرد في الدولة استخدام المرافق العامة، واحياء الارض الموات ومن واجب الدولة المحافظة على حرماته الشخصية.

ومن الملفت للنظر أنَّ صحيفة المدينة اعتبرت الحقوق هبة الله تعالى وليس لأحد انتهاكها وأنها قرنت الحقوق بالواجبات في تأكيد جازم على ملازمتها لإنتاج حياة مسؤولة وهادفة، وأشارت إلى قدسية حقوق الإنسان من خلال تأكيدها على التعاون ضد الظلم والفساد والطغيان وحماية الضعيف، ولم تعط أي طرف ميزة خاصة، ووثقت مبادئ الإيمان والعدل والمساواة والتعاون بين بني البشر جميعاً.

واذا كانت النصوص الاسلامية قد اسندت المسؤولية الجزائية على كل مسلم بصفته الفردية، فكذلك شملت هذه القاعدة غير المسلمين فجاء في الصحيفة: ” الا من ظلم واثم، فانه لا يوتغ – اي يهلك – الا نفسه” وكذلك وضحت الصحيفة ما هي واجبات (غير المسلمين لا سيما اليهود)؛ حيث اوجبت الصحيفة على اليهود عدم منح الجوار “الحماية” لقريش ولا من نصرها، كما ان من واجبهم مناصرة المسلمين في محاربة من اعتدى على المدينة. اضافة إلى تحديد النطاق الجغرافي الذي يحاسب عليه أي إنسان اقترف جرماً داخل ما يسمى بجوف المدينة كما في البند رقم (39 – 44) ومن تحليل تلك النصوص يتضح ان الاسلام يعتبر الجماعة التي تحكم بموجب أحكامه وحدة إنسانية بغض النظر عن طائفتها وجنسها، فليس في الإسلام ما يسمى بالأقليات، بل جميع الناس لهم الاعتبار الانساني فقط ما داموا يحملون التابعية او الجنسية، فكل من يحمل تابعية الدولة يتمتع بالحقوق التي قررها الشرع له سواء أكان مسلما ام غير مسلم. ويطبق الاسلام على جميع الرعايا باعتباره قانونا للجميع، فحين تطبق احكام المعاملات والعقوبات مثلا، يُنظر الى الناحية التشريعية القانونية، لا الناحية الروحية الدينية.

وهكذا عدتَ صحيفة المدينة أول وثيقة حقوقية نظمت العلاقة العضوية بين أفراد الجماعة السياسية وضمنت الحقوق والواجبات على أرضية التعددية الدينية والعرقية وأنها عقد مواطنة متقدم على عصره بين رأس الدولة ومن معه من المسلمين، وبين سكان المدينة من اهلها الذين لم يدخلوا الاسلام بعد ( 5 ).

تاسعا: المواطنة:

المدخل المفاهيمي بين معطيات اللغة والتاريخ والثقافة والفكر:

لم ير بعض أهل اللغة دلالة لهذا اللفظ على مفهومها الحديث؛ إذ إن (واطن) في اللغة تعني مجرد الموافقة وواطنت فلاناً يعني وافقت مراده، لكن آخرين من المعاصرين رأوا إمكانية بناء دلالة مقاربة للمفهوم المعاصر بمعنى المعايشة في وطن واحد من لفظة (المواطنة) المشتقة من الفعل (واطن) لا من الفعل (وطن) فواطن فلان فلاناً يعني عاش معه في وطن واحد كما هو الشأن في ساكنه يعني سكن معه في مكان واحد.

والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعريب للفظة (Citizenship ) التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق – متبادلة – في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات) ( 6 )

الوطن، المواطن، المواطنة، الوطنية، تعبيرات شائعة يختلط في معناها الوصف بالقيمة. لكنها جميعا تنطوي على اشكاليات اساسية، مصدرها كما اظن هو تطورها خارج الاطار المعرفي العربي، وتطبيقها على نحو متغاير مع حاجات الناس في العصر الجديد. تُعَدُّ «المواطنة» أحد المفاهيم الرئيسية في الفكر الليبرالي منذ تبلوره في القرن السابع عشر كنسق للأفكار والقيم، تم تطبيقه في الواقع الغربي في المجالين الاقتصادي والسياسي في القرنين التاليين، وما ترتب على ذلك من آثار على الترتيبات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية في القرن العشرين ثم مطلع قرننا هذا .

وإذا كانت الليبرالية عند نشأتها قد دارت بشأن فكرة الحرية الفردية والعقلانية وتقوية مركز الفرد في مجتمع سياسي قام على قواعد عصر النهضة على أبنية اجتماعية حاضنة وقوية، فإن مفهوم المواطنة قد تطور وتحوّر عبر مسيرة الليبرالية ليتركز حول خيارات الفرد المطلقة وهواه كمرجع للخيارات الحياتية والسياسة اليومية في دوائر العمل، والمجتمع المدني، والمجال العام، ووقت الفراغ، وليصبح «المفهوم المفتاح» الذي لا يمكن فهم الليبرالية وجوهرها من دون الإحاطة بأبعاده المختلفة وتطوراته الحادثة المستجدة، إذ يستبطن تصورات الفرد، والجماعة، والرابطة السياسية، ووظيفة الدولة، والعلاقات الإنسانية، والقيم والأخلاق .

وقد شهد هذا المفهوم تغيرات كثيرة في مضمونه واستخدامه ودلالته، فلم يعد فقط يصف العلاقة بين الفرد والدولة في شقها السياسي القانوني كما ساد سابقا، بل تدل القراءة في الأدبيات والدراسات السياسية الحديثة على عودة الاهتمام بمفهوم «المواطنة» في حقل النظرية السياسية بعد أن طغى الاهتمام بدراسة مفهوم «الدولة» مع نهاية الثمانينات، ويرجع ذلك لعدة عوامل، أبرزها الأزمة التي تتعرض لها فكرة الدولة القومية التي مثلت ركيزة الفكر الليبرالي لفترة طويلة؛ وذلك نتيجة عدة تحولات شهدتها نهاية القرن العشرين :

أولها: تزايد المشكلات العرقية والدينية في أقطار كثيرة من العالم، وتفجر العنف بل والإبادة الدموية، ليس فقط في بلدان لم تنتشر فيها عقيدة الحداثة من بلدان العالم الثالث بل أيضا في قلب العالم الغربي أو على يد قواه الكبرى، بدءا من الإبادة النازية لجماعات من اليهود، ومرورا بالإبادة النووية في هيروشيما، والإبادة الصربية للمسلمين، والإبادة الأميركية للعراقيين وللأفغان، والإبادة الجارية للفلسطينيين .

وثانيها: بروز فكرة «العولمة» التي تأسست على التوسع الرأسمالي العابر للحدود وثورة الاتصالات والتكنولوجيا من ناحية أخرى، والحاجة لمراجعة المفهوم الذي قام على تصور الحدود الإقليمية للوطن والجماعة السياسية وسيادة الدولة القومية، وكلها مستويات شهدت تحولا نوعيا .

وعلى صعيد آخر فإن نمو الاتجاهات الأصولية المسيحية واليمينية المتطرفة في البلدان التي مثلت مهد التجربة الليبرالية قد أدى إلى مراجعة المفهوم والتأكيد على محوريته لمواجهة هذه الأفكار وآثارها في الواقع السياسي والاجتماعي الغربي المعقد مع وجود أقليات عرقية ودينية منها العرب والمسلمون، هذا فضلا عن وصول الفردية كفكرة مثالية لتحقيق حرية وكرامة الفرد إلى منعطف خطير في الواقع الليبرالي، بعد أن أدى التطرف في ممارستها وعكوف الأفراد على ذواتهم ومصالحهم الضيقة إلى تهديد التضامن الاجتماعي الذي يمثل أساس وقاعدة أي مجتمع سياسي، وتراجع الاهتمام بالشأن العام لصالح الشأن الخاص، وتنامى ما يسميه البعض «موت السياسة» وبروز «سياسات الحياة اليومية ».

والإشكالية التي تهم العقل العربي والمسلم في هذا الصدد هي أن الفكر الليبرالي لم يؤدِّ إلى تأسيس تجارب ديمقراطية في العالم الغربي فقط، بل يطرح نفسه الآن وبشكل شبه منفرد كبديل للواقع السياسي والفكري في دول العالم الثالث التي تشهد تحولا نحو الديمقراطية، كما في أطروحة «نهاية التاريخ» وإعلان انتصار الليبرالية النهائي لباحث مثل فوكوياما، أو كطرف متماسك ومتجانس ومتقدم في مقابل حضارات أخرى (أو أدنى) في أطروحة مثل «صراع الحضارات» لهنتنجتون. فخيار المواطنة صار مثالية تروج لها الرأسمالية الليبرالية في الدول غير الغربية، ويتم تقديمها كحل لمشكلات الجنوب «على طريق التقدم» يرتهن بتحول الرابطة السياسية داخل مجتمعاتها من رابطة تراحمية عضوية أو قرابية – ريفية أو قَبَلية – إلى رابطة تعاقدية علمانية و»مدنية للمواطنة؛ لذا فإن فهم دلالات «المواطنة» كرابطة تزعم أنها تجبّ روابط الدين والعرقية والأيدلوجية لَهُو أمر يحتاج مزيد تأمل وتقص، وتحريرا وتقويما، واختبارا في الواقع التاريخي بين النجاح والإخفاق .

من المواطن الرشيد للمواطن المستهلك

لقد أدت التطورات السالفة الذكر التي شهدتها الساحة الدولية في العقود الأخيرة إلى تركيز بعض الدراسات على ظواهر وحوادث كان لها أكبر الأثر في تغيير مفهوم المواطنة ليشمل أبعادا جديدة. فكتابات النظرية السياسية الليبرالية الأولى التي كان مفهوم العقلانية والرشد فيها مرتبطا بالقيم المثالية والفلسفية ما لبثت أن تناولت مفهوم المنفعة بمعنى ذاتي/نفسي ثم بمعنى اقتصادي/مادي، وربطت في مجملها بين المفاهيم النظرية السياسية والرؤى الاقتصادية وهو ما أسماه البعض بالتحول من الديمقراطية الليبرالية إلى الليبرالية الديمقراطية بتقديم الاقتصادي على السياسي وغلبة المادية على الفكر الليبرالي. وما لبث الاقتصاد الليبرالي أن تحول من ليبرالية كلاسيكية تتحفظ على تدخل الدولة لليبرالية جديدة تؤكد على تدخل الدولة من أجل تحقيق الرفاهية في مجالات الأمن الاجتماعي. وهكذا صارت رابطة «المواطنة» منافع وحقوقا مادية محددة يطالب بها المواطن في مجالات الصحة والتعليم تهبط بالحقوق العامة السياسية لتفاصيل منافع مادية مباشرة، أي تم التركيز على الحقوق وليس الواجبات. ومن ناحية أخرى كان هذا يعني مزيدا من سلطة الدولة في الوقت الذي كانت تحولات الاتصال والعولمة ترشحها فيه للتآكل والذبول، فاستردت دورها في التوزيع السلطوي للقيم – المادية والمعنوية- وما لبثت أن بدلت هذا الدور شكلا في ظل تنامي الحديث عن الإدارة السياسية (Governance)عبر الحديث عن الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني ورجال الأعمال، على رغم أن سلطتها لا تقارن بالطرفين الآخرين، ونفوذها يخترقهما على شتى المستويات .

وعبر تفاعل هذه المعطيات تحول مفهوم المواطنة لدلالات نفعية وذاتية فردانية أعمق، كما صار مؤسسا على واقع معقد لا يثمر نتائجه المثالية الأصلية المنشودة بسبب وجود الدولة الطاغي، على رغم تحول هذا الوجود نوعيا وتغير وجهه وتجلياته بما أوحى للبعض بضعفها أو تراجع دورها لصالح آليات السوق العالمية، وهو ظن غير دقيق.

هذا التناقض توازى أيضا مع بروز تيارين متعارضين :

أولهما: واقعي، يرتبط بالتأكيد المتنامي على المصلحة المباشرة (الآن وهنا) ويهمش المثاليات الكبرى والمنافع الجماعية والمؤجلة (التي انبنت عليها نهضة الرأسمالية الأولى).

ثانيهما: تنويري، يتمثل في مناداة بعض الكتابات بإدخال البعد الأخلاقي في النظرية الاقتصادية، أي تجاوز الاقتراب الاقتصادي المادي النفعي لفهم السلوك الإنساني وتفسيره والتنبؤ به، واستعادة الأبعاد الإنسانية/الاجتماعية/ الأخلاقية في النظرية والتحليل الاقتصادي، وهو ما يستلزم ربط مفهوم المواطنة عند تحليله بالأسئلة الكلية في الفكر الليبرالي، وأبرزها تصورات الفرد وتعريف السياسة وما يترتب على ذلك من تصور لطبيعة المجتمع السياسي. كذلك فإنه على رغم تناول الكثير من الكتابات الليبرالية المعاصرة للتغيرات التي تتعرض لها المجتمعات الليبرالية في المجالات الاقتصادية والتقنية واستخدام مصطلحات جديدة تصف المجتمع والدولة في الواقع الليبرالي، مثل «مجتمع ما بعد الصناعة» أو «الدولة المتسعة» أو «الرأسمالية في شكلها الأخير» واختلاف مفهوم «القوة» في ظل التطور التكنولوجي والاتصالي وما لذلك من انعكاس على مفهوم السيادة – فإن الباحث نادرا ما يجد دراسة تقدم رؤية بانورامية للتحول الذي تم وتفسره بدلا من أن تكتفي بوصفه وحسب. ولعل من أبرز الكتابات باللغة العربية الرائدة في هذا الاتجاه كتابات الاقتصادي المصري الفقيد الراحل رمزي زكي .

مساحات جديدة ومسافات فكرية واسعة

مع تنامي عولمة الرأسمالية وهيمنة الرؤى الليبرالية الجديدة لم يعد ما نحن بصدده عند الحديث عن المواطَنَة هو المفهوم البسيط، ولا بقي السؤال هو: مواطنة أم لا مواطنة؟ على غرار:نهضة أم تخلف؟ حضارة أم ضد الحضارة؟ (أسئلة اللحظة التاريخية الأميركية الراهنة).الواقع أكثر تعقيدا من ذلك وهذه التصورات مضللة… ومضلّة .

أي مواطنة؟ هذا هو سؤال اللحظة الوجودية الإنسانية الحقيقي: مواطنة تنويرية تحترم الفرد وتؤسس مجتمعا يكتسب وجوده الجمعي من تجاوزه لقوى الطبيعة وتصوره الإنساني للإنسان، أم مواطنة رأسمالية مدينية مابعد حداثية؟

مواطنة قانونية شكلية متساوية ذات بعد واحد، أم مواطنة مركبة عادلة اجتماعية ديمقراطية ثقافية في ظل مشروع حضاري إنساني؟

مواطنة تتحدث عن الحرية والمساواة والجسد السياسي والعدل والشورى، أم مواطنة تتحدث عن اختزال القيم السياسية في حرية الجسد وتفكيك المجتمع لصالح نوع ضد نوع أو ثقافة ضد ثقافة ونفي التجاوز في الإنسان والتاريخ، وإعلاء سياسات الجسد واللذة على الجسد السياسي والخير العام والقيمة الإنسانية

مواطنة في أي سياق مكاني؟ مواطنة التنوير والليبرالية في المدن الاجتماعية ذات الطابع الثقافي والمسافات الإنسانية، أم مواطنة المدن الرأسمالية العالمية السرطانية المعادية للمجتمع والقائمة على «التجمع» الذي يحسب حسابات الاقتصاد وتدويله قبل حسابات الهوية والجماعة والثقافة؟

ثم أخيرا، مواطنة التدافع من أجل الغايات الإنسانية والنفع العام والسعي في دروب التطور الاجتماعي التاريخي، أم مواطنة اللحظة المتخيلة في تفاعل الشبكة الاتصالية الفردي التي تعيد تشكيل الوعي بالذات والهويات والأنا والآخر والـ «نحن»، وتعيد تشكيل مفاهيم الزمن والمكان من دون محتوى اجتماعي تفاعلي كما عرفته البشرية، وتعيد تشكيل حدود الخاص والعام وتهدد مفهوم المواطنة في كل تصوراته السابقة؟،هذه هي الأسئلة وتلك مساحات الاجتهاد والجهاد.

وهى مساحات للنقد ومسافات للمقارنة المنهجية الواجبة، مفهوم المواطنة وفق أصول النقد والمقارنة في حاجة لإعادة تشكيل ومداخل تعديل وتأويل ومقتضيات تفعيل ـتجعل هذا المفهوم ضمن مفاهيم الموقف حالة نموذجية لإعادة بناء المفهوم ضمن دواعٍ كثيرة، تفرضها عناصر اللياقة المنهجية والضرورات الواقعية والذاكرة الحضارية والاستنادات المرجعية وعناصر المفهوم في تحقيق مسالك الدافعية والشرعية والجامعية والتجديدية والفاعلية .

المواطنة -في أبسط معانيها- تشيع عدة معان: المساواة القانونية بين المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الجنس أو الدين أو العرق، والمشاركة السياسية دون قيود قانونية أو عرفية تفرض علي حركة المواطنين، وحياة كريمة تتمثل في وجود برامج عامة كفء تطور-دائما- من جودة الحياة التي يعيشها المواطنون. وسارت الخبرة الغربية- في مجملها- علي هذا التسلسل، بحيث حصل المواطن-أولا- علي المساواة القانونية، ثم –ثانيا- الحق في المشاركة السياسية، وأخيرا الحق في رفاهة اجتماعية، وأصبحت تلبية الحكومة لمطالب المواطن في الرفاهة الاجتماعية “دليل” علي الانجاز. ( 7)

عاشرا: المواطنة مفهوم منظومة في إطار الجماعة الوطنية:

موضوع المواطنة، والذي يعبر عن الإطار القانوني والسياسي لممارسة حقوق المواطنة وتحمُّل واجباتها على أرض الواقع.. ومفهوم المواطنة يتطلب وجوده إقرار مبادئ، والتزامًا بمؤسسات، وتوظيف أدوات وآليات تضمن تطبيقه على أرض الواقع. المواطنة -وفق هذا التصور- بنية من المستلزمات والمقومات، وبنية فكرية وقيم، وبنية حقوقية ودستورية وقانونية، وبنية مؤسسية، وكذا بنية تتعلق بالسياسات والممارسات.

وهي من المفاهيم الشاملة، والتي تستدعي غيرها من مفاهيم حقوقية وسياسية. المفهوم بهذا الاعتبار “مفهوم منظومة” يشير إلى الحقوق الإنسانية الأساسية، والحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكذا الحقوق الجماعية، وهي تتعلق بكافة مجالات النشاط الإنساني (الشخصي والخاص والعام والسياسي).

المواطنة في دولة مسلمة الإشكالات والتحديات (2)-1

إنها أمور من الأهمية بمكان حينما ندرس خطاب السلطة والمجتمع كنص بصدد موضوع المواطنة، والذي يعبر عن الإطار القانوني والسياسي لممارسة حقوق المواطنة وتحمُّل واجباتها علي أرض الواقع.. ومفهوم المواطنة يتطلب وجوده إقرار مبادئ، والتزامًا بمؤسسات، وتوظيف أدوات وآليات تضمن تطبيقه علي أرض الواقع. المواطنة -وفق هذا التصور- بنية من المستلزمات والمقومات، وبنية فكرية وقيم، وبنية حقوقية ودستورية وقانونية، وبنية مؤسسية، وكذا بنية تتعلق بالسياسات والممارسات ( 8 ).

وهي من المفاهيم الشاملة، والتي تستدعي غيرها من مفاهيم حقوقية وسياسية. المفهوم بهذا الاعتبار “مفهوم منظومة” يشير إلى الحقوق الإنسانية الأساسية، والحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكذا الحقوق الجماعية، وهي تتعلق بكافة مجالات النشاط الإنساني (الشخصي والخاص والعام والسياسي).

حادي عشر: العقيدة والانسان والهوية:

تجديد العقيدة(الدينية) والانسان/ الفرد: الدافعية، الرافعية، الفعالية: فالعلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطنة والمرجعية يمكن أن تندرج ضمن إشكالية تتعلق بقابلية أى أمر من هذه الامور للانحراف سواء في تلقيه والتفكير به أو في تطبيقه وممارسته أو في مناسبته وملائمته (أخطاء التفكير والتأويل، أخطاء التدبير والتسيير، أخطاء التطبيق والملائمة)

وفي هذا السياق فإن اعتقادا تأسيسيا بأن المجتمع الفاضل المعافي هو المجتمع الذي يستغنى عن تدخل الدولة في شئونه بما يحويه من وعى وقيم ومؤسسات وسيطة، ويترك للدولة الفرصة للقيام بواجباتها الخارجية واالداخلية الخدمية، وفي هذا السياق يقول أحد المفكرين “إن المجتمع وليد فضائلنا وأن الدولة ـ السلطة ـ وليدة عيوبنا “، فالدولة تتضخم على مقدار فساد المجتمع.

وإن ذلك ربما يحيلنا إلى الأطراف التي تتشارك في انتاج جملة الظواهر العشوائية التي تعاني منها النظم والمجتمعات فالدولة أو بالأحرى السلطة تنتج جملة من الظواهر العشوائية حتى يمكن أن تغطى على عناصر استبدادها وفسادها وإفسادها، والجماعات العشوائية تعد مصنعا لتخريج الفرد والانسان العشوائى وحال التهميش الاجتماعى والاقتصادى والسياسي ينتج إنسانا مغتربا يمكن أن يسلك سلوكا يشوه تلك العلاقات بين هذه الابعاد المتنوعة فيراها متصارعة على امكانية الائتلاف الفعال فيما بينها.

يشير مفهوم الدافعية إلى ما يدفع الفرد إلى القيام بنمط سلوكي معين وإلى ما يوجه هذا السلوك توجيها يؤدى إلى تحقيق غاية ما وضمان استمرارية هذا السلوك حتى إنجاز هذا التحقيق وتشير الدافعية إلى تصورات الوجود الانسانى وغاياته وما يحتويه من جهد يحقق هذه الغايات دون أن يغفل الدينامية النشطة للكائن الانسانى وكذلك لا يغفل دور العوائق ومدى تأثيرها سلبا أو إيجابا في تحديد دور المثابرة كما تعنى دافعية الحياة بتهيئة السبيل للحياة الانسانية وصيانتها وعدم تبديدها، وتقوم دافعية الحياة على أساس حفظ ضرورات وتوفير الحاجيات وتيسير التحسينات وتنظيم الجهد المؤدى إلى تحقيق الغاية.

وترتبط الدافعية بمفهوم الجهد القاصد إلى العمل المؤثر الفعال وكأنه حالة من حالات الكدح ( ياأيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ).

إن الدوافع الايمانية الرافعة للهمم والحاملة على العمل قد غشاها الضعف واعتراها الوهن إذ تحلل الفرد من أى التزامات تخدم عملية التغيير وتسهم في مشاريع إنهاض الأمة.

وهناك تحديات كثيرة تحاصر الامة في هذا الواقع الجديد وأسباب مختلفة تقف عائقا أمام استرجاعها لفاعليتها بعد نزعها وخلعها للباس الغثائية الذى التصق بها منذ فترة من الزمن.

المواطن والجماعة الوطنية والهوية :الهوية ـ العقيدة ـ الفرد”الأنا” ـ الجماعة “النحن”: التربية والوعي بالهوية: تربية الهوية: إن “نزيف الحوار حول الهوية” بدا لي من الصعب إيقافه أو توقفه، في حوار استمر طيلة قرن أو يزيد. واستقر أمري على أن أتعرض لدرسين من دروس الهوية والبحث فيه، في هذا المقام تبرز فكرتان: إحداهما تتعلق بوعي الهوية، والأخرى تتعلق بالتربية على الهوية. أما الوعي بالهوية فهو يشمل عناصر ثلاثة:

الأول- منها يتعلق بأسئلة الهوية الحقيقية لا الزائفة، وقال الحكماء: إن السؤال الصحيح نصف الإجابة أو الاستجابة. من نحن؟، ماذا نملك؟، ماذا نأخذ أو نرفض: (الميزان)؟ على أي أرض نقف؟،أسئلة بعضها من بعض تشكل الإجابة الواعية الفاعلة لها.

الثاني- ضرورة توفير العناصر الأساسية لما أسماه الحكيم البشري “التيار الأساس” القادر على الإمساك بوعي بالنواة الصلبة لقضية الهوية، وتحديد الأصول الحوارية في القضايا المصيرية والحضارية الكبرى.

الثالث- ثقافة السفينة التي تقوم على قاعدة من الوطن المشترك والمصير المشترك والبحث في خروفات سفينة الهوية التي تكاثرت وتراكمت بما يؤدي إلى عاقبة الغرق والهلاك: إن أصغر خرق في سفينة الهوية لا يعني إلا أوسع قبر للجماعة بأسرها، فالأمر أمر جد لا هزل.

كل ذلك يوفر البيئة الأساسية الحافظة للهوية القاعدية، وهو مفضٍ لتأسيس عناصر الوعي بالهوية (وعي بالذات، وعي بالغير والآخر، وعي بالموقف)، في تفاعل بين منظومة الوعي وشبكته التي تسهم في بناء المجتمع والحفاظ على شبكة نسيجه الاجتماعي والحضاري ( 9 ).

لا ينظر الإسلام إلى المواطنة بمفهوم (إسلامية المسلم في مجتمعه الخاص ) على أنها حركة مغلقة، بل هي حركة منفتحة ؛ فإقامة المجتمع المسلم المتماسك يستهدف الانفتاح على ما وراءه انفتاحاً إيجابياً.(يأخذ في اعتباره معانى الغيرية واعتبارها والتعامل مع معانى التمايز بمقامها وشروطها نافية لكل استبعاد ناهضة بكل مسالك الاستيعاب وآليات التعارف بما يقتضيه من تشارك وعيش واحد مشترك).. إلى المجتمعات المسلمة للتوحد معها والإسهام في حمل همومها،… وإلى المجتمعات الأخرى للإسهام في إعلاء القيم الإنسانية التي تحقق للعالم تعايشاً سلمياً وتفاعلاً حضارياً نافعاً وتعارفا إنسانيا راسخا فياضا.

أن الإسلام لم يأت ليمنع ما فُطر عليه الناس، لكن ليهذب ذلك المعنى وذلك السلوك؛ فهو يعترف بعملية الانتماء الاجتماعي للأسرة (ادعوهم لآبائهم) والقبيلة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) والدولة (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) وجعلها أحد مقاصد الحياة الاجتماعية. ونسب القرآن الرجل لبلاده، ولكنه في الوقت ذاته أكد على لسان رسوله صلى الله عليه واله وسلم أنه “ليس منا من دعا إلى عصبية” أو جاهلية أو قومية وأحداث السيرة مليئة بشواهد كثيرة في هذا المعنى ( 10 ).

ضمن هذه الرؤى جميعا والتي تتكافل وتتساند مع بعضها البعض، يمكن رؤية هذه العلاقة بين الشريعة والمواطنة، فتعطي لكل منهما حقه الواجب في صياغة الجماعة الوطنية، و

تأصيل حقيقة علاقاتها التعاقدية القائمة على مرجعية الشريعة كقواعد نظام عام وجامعية المواطنة كقاعدة لتشكيل أهم عناصر وأواصر النسيج الاجتماعي، عبر الوطن والمواطنة ( 11 ).

يتبع الجزء الثالث

——————-

الهامش

( 1 ) ـ عماد طارق عبد الفتاح البشري، فكرة النظام العام في التشريع الإسلامي النظرية والتطبيق “دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية “، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في القانون، كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، 2002، ص1، 5 ـ يضا، أانظر وقارن في تقريب فكرة النظام العام في الشريعة الإسلامية للفكرة المبثوثة حول النظام العام في القانون الوضعي ص260، وما بعدها (الخصائص العامة للتشريع الإسلامي ـ أسس المرجعية العامة والكلية ـ المقاصد الكلية العامة) .

( 2 ) ـ د. محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الثانيةة، 2006،  ص237 ـ 239 .

( 3 ) سماحة آية الله الشيخ مهدي شمس الدين، في االاجتماع السياسي الاسلامي، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1999، ص 264 ـ 265

( 4 ) ـ المرجع السابق، ص 266.

( 5 ) ـ أحمد قائد الشعيبى، وثيقة المدينة المضمون والدلالة، كتاب الأمة، قطر: وزارة الأوقاف، عدد110، 2006.

( 6 ) ـ  سامر مؤيد،المعالجة الإسلامية لإشكالات المواطنة، مرجع سابق

( 7 ) ـ  علا أبوزيد، وهبة رؤوف (تحرير)، المواطنة المصرية ومستقبل الديمقراطية، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2005، وكذلك انظر هبة رؤوف عزت،

( 8 ) سيف عبد الفتاح، الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدين، القاهرة: مكتية الشروق الدولية، 2005، ص 92، وما بعدها.

( 9 ) سيف عبد الفتاح، الفرد والعقيدة والدولة

( 10 )   مرجع سابق، المعالجة الإسلامية للمواطنة

( 11 ) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close