النيل وسد النهضة رحلة عبر التاريخ والجغرافيا الجزء الأول
نتناول في هذا العمل أكبر الأخطار وأكثر الأخطاء جسامة في أمر يتعلق بوجودنا وكياننا، والإكتفاء بعرض جوانب المسألة المائية والقانونية لن يساعد القارئ علي سبر غور أعماق وجذور المشكلة، لذلك رأيت أن أعرج بايجاز للجوانب الجيوسياسية والهيدرومائية والتاريخية والي إدارة مياه الأنهار الدولية كما لم أجد بدا من التعريف بأزمة المياه العالمية وفي الوطن العربي مما ينبئ باندلاع حروب المياه في ارجاء متفرقة في العالم، قد تبدأ في مجالنا العربي حيث أن اسرائيل مقدمة خلال عقد أو عقدين علي أزمة مياه شديد الوطأة عليها.
وعليه من المهم جداً كذلك تأسيس كافة المحاور الفنية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية وخلافه للموارد المائية المشتركة على منظور القانون الدولى لأنه وعلى الرغم من أهمية الـ(MULTI-DISPLINARY APPROACH ) إلا أن القانون الدولى للموارد المائية هو الفيصل فى ذلك الصدد لأنه عبارة عن ممارسات وتوافقات الدول حول الموضوع، حيث أن مفهوم العدل في مبادئ القانون الدولى للموارد المائية المشتركة والذى يعترف بمبدأ “الانصاف والمعقولية. “لم يتبلور بعد في صورة قواعد عرفية ملزمة في القانون الدولي العام
إن هناك شعور جارف بالندم والهلع علي تدهور حال مصر بين هبوط حاد في مكانتها الدولية بعد أن فقدت زعامتها في المجالات العربية والافريقية ودول عدم الانحياز ومجموعة ال77 التي عرفت بالدل النامية. وزاد من همي بل وهلعي أن الدول والشركات المتددة الجنسيات تنهش في لحمها وتمتص خيراتها وتستولي علي مصادر الحياة فيها من مياه وطاقة. فاسرائيل بالتآمر مع قبرص تنهب حقول الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، وإسرائيل بالتتعاون مع إثيوبيا، وبمعونة ومشورة ورضاء الولايات المتحدة الأمريكية تنهب حصتها من مياه النيل ببناء سد النهضة.
الخطة – كما يبدو – معدة سلفا من عقدين من الزمان وتقف وراءها اياد أمريكية كندية إسرائيلية في الأساس مع طائفة المنتفعين مثل الصين وايطاليا بمباركة من البنك الدولي خروجا علي قواعده وهي غير بعيدة عن انفصال جنوب السودان وقلاقل دارفور كوردفان التي ساعدتها ودعمتها امريكا واسرائيل في اطار رغبة عارمة لاضعاف مصر وتحييدها عن صراعات المنطقة العارمة المتوقعة في الزمن المتوسط.
من أسف فقد جندت هذه القوي دول المنابع في غفلة منا في فترة انقطاعنا عن افريقيا، وتم استدراجنا في مفاوضات عبثية حوالي عشر سنوات كان فريقنا المفاوض مهلهلا وغير محيط بحجم الخطر وأخذ الأمور بلا مبالاة دون اعتبار لآراء المرافقين لهم من خبرائنا العالميين في الموارد المائية وتحذيراتهم.
نحن إذن مسألة خطيرة تتعلق بالمصلحة الحيوية لمصر وينبغيي أن يسمو بها كل المصريون علي الخلافات الداخلية والاستقطاب الحاد العبثي الذي يمزق اللحمة المصرية، لذلك أخاطب كل المصريين علي اختلاف توجهاتهم السياسية الداخلية بالوحدة خلف هذه القضية، والوحدة هنا هي بادرة خير تؤكد أن هذا الشعب بوحدته ووطنيته لن يهزم وان ريادته الحضارية ستبقي لفائدة البشرية جمعاء.
وإزاء الرخاوة والتهاون بل الاهمال الحكومي في الحفاظ علي ثروت البلاد شاركت غيري من ابناء مصر المخلصين واستعنت بتقارير خبرائنا المصريين والدراسات الأجنبية وطرق إدارة الأنهار الدولية، في التنبيه الي هذا الخطر الشديد الذي نواجهه الي جانب الصراع العبثي الاستقطاب الحاد وانشغال قواتنا المسلحة في شوارع المدن في غير مجالها وخارج اختصاصها. بادرت قبل وبعد ثورة 25 يناير برفع قضايا في المحاكم في مسالة نهب مصادر الطاقة، وشاركت ونظمت نداوات في شأن تجفيف مصر وتصحرها، وقدمت اقتراحات لوزاراء الخارجية ورؤساء المخابرت قبل الثورة وبعدها وكانت الاستجابة تتراوح بين العدم والرخاوة والامبالاة مما ترتب عليه استدراجنا في عشر سنوات من التفاوض العبثي الآمر الذي دفعني للاثقال علي القراء بهذا العمل راجيا أن يساعد ما يبذله خبراؤنا في التوعية وشحذ الهمم والتضامن في الحفاظ علي وجودنا
أولاً: مسار النيل . . رحلة التاريخ والجغرافيا:
نبدأ حديثنا في التعريف بنهر النيل في مصر بالقول أنه في العهود القديمة تحدثوا عن المساحة من أرض مصر التي تقع حول فرعي النيل وتمتد بينهما، فأعطوها تسمية دقيقة؛ هي “الدلتا ” . وأثبت الجيولوجيون المحدثون: أن أرض الدلتا كانت مغمورة تحت مياه البحر؛ إلى أن بناها نهر النيل وشكلها بترسيب طبقات من التربة الخصبة. وهذه المنطقة هي نوع من الوادي، أو قاع النهر؛ الذي عادة ما يكون جافا، باستثناء فترة موسم الأمطار.
ويعتبر المؤرخ اليوناني هيرودوت من أفضل الذين كتبوا عن النيل فقد عرف الإغريق النيل حينما أبحروا إلى مصر ويذكر هيرودوت في أعماله كيف أن مصر أرض موهوبة منعمة. ودعم هيرودوت هذه الفكرة القديمة عندما وصف هذه المساحة من الأرض المصرية بأنها “هبة النيل”.
وبفحص طبيعة الوادي كله، من أسوان إلى البحر المتوسط؛ يظهر بوضوح أن الدلتا في شمال الوادي ليست وحدها هي هبة النيل التي تحدث عنها هيرودوت وغيره، وإنما الوادي بكامله هو هبة النيل. ولو لم يكن النيل، لبقيت مصر جزءا من تلك الصحارى الشاسعة التي قسمها مجرى النيل إلى قسمين؛ ولبقي الوادي الأخضر مغمورا بمياه البحر.
وأضفي المصريون القدماء علي نهر النيل الكثر من ضروب التوقير والتبجيل والتمجيد. كما تأثر الفنانون القدماء كثيرا به؛ فصوروه على هيئة رب أو ربة. وطبقا للمراجع الجغرافية يتكون نهر النيل من فرعين رئيسيين يقومان بتغذيته وهما: النيل الأبيض : (White Nile) في شرق القارة، و”النيل الأزرق “: (Blue Nile)في إثيوبيا. ويشكل هذان الفرعان الجناح الغربي للصدع الإفريقي الشرقي، والذي يشكل – بدوره – الجزء الجنوبي الإفريقي من الوادي المتصدع الكبير (Great Rift Valley ).
وتعتبر بحيرة فيكتوريا Lake Victoria هي المصدر الأساسي لمياه نهر النيل. تقع هذه البحيرة علي حدود كل من أوغندا، وتنزانيا وكينيا، وهذه البحيرة بدورها تعتبر ثالث البحيرات العظمي. وبالتوازي، يعتبر نهر روفيرونزا – (بالإنجليزية : Ruvyironza – في بوروندي هو الحد الأقصى لنهر النيل، وهو يشكل الفرع العلوي لنهر كاجيرا Kagera) . يقطع نهر كاجيرا مسارا طوله 690 كم (429 ميل) قبل دخوله إلي بحيرة فيكتوريا.
بعد مغادرة بحيرة فيكتوريا، يعرف النيل في هذا الجزء باسم نيل فيكتوريا Victoria Nile ، ويستمر في مساره لمسافة 500 كم (300 ميل) مرورا ببحيرة كييوجا Lake Kyoga) – حتى يصل إلي بحيرة ألبرت Lake Albert) .
بعد مغادره بحيرة ألبرت، يعرف النيل باسم نيل ألبرت : Albert Nile ، ثم يصل النيل إلي السودان ليعرف عندها باسم بحر الجبل، وعند اتصاله ببحر الغزال يمتد النيل لمسافة 720 كم (445 ميل) يعرف فيها باسم النيل الأبيض، ويستمر النيل في مساره حاملا هذا الاسم حتى يدخل العاصمة السودانية الخرطوم.
النيل الأزرق
يشكل النيل الأزرق نسبة (80-85%) من المياه المغذية لنهر النيل، ولكن هذه المياه تصل إليه في الصيف فقط بعد الأمطار الموسمية علي هضبة إثيوبيا، بينما لا يشكل في باقي أيام العام نسبه كبيرة حيث تكون المياه فيه ضعيفة أو جافه تقريبا، وينبع هذا النهر من بحيرة تانا – (بالإنجليزية : Lake Tana) – الواقعة في مرتفعات إثيوبيا بشرق القارة، بينما يطلق عليه اسم “النيل الأزرق” في السودان، ففي إثيوبيا يطلق عليه اسم “آبباي”.
ويستمر هذا النيل حاملا اسمه السوداني في مسار طوله 1400 كم (850 ميلا) حتى يلتقي بالفرع الآخر – النيل الأبيض – ليشكلا معا ما يعرف باسم “النيل” منذ هذه النقطة وحتى المصب في البحر المتوسط. ويظهر الانحناء العظيم لنهر النيل في السودان بعد اتحاد النيلين: الأبيض والأزرق ليشكلا معا النيل، ولا يتبقي لنهر النيل سوي رافدا واحدا لتغذيته بالمياه قبل دخوله مصر ألا وهو نهر عطبره، والذي يبلغ طول مساره 800 كم (500 ميل) تقريبا، وينبع هذا النهر من المرتفعات الإثيوبية أيضا، شمالي بحيرة تانا، ويتصل بنهر النيل علي مسافة 300 كم (200 ميل) بعد مدينة الخرطوم.
ويعتبر النيل في السودان مميزا لسببين:
أولهما: مروره علي 6 سدود بدءا من أسوان – في مصر – وحتى السادس في سابا لوكا إلي شمال الخرطوم.
ثانيهما: تغيير مسار النيل؛ حيث ينحني مسار النيل في اتجاه جنوبي غربي، قبل أن يرجع لمساره الأصلي – شمالا – حتى يصل للبحر المتوسط. ويطلق علي هذا الجزء المنحني اسم “الانحناء العظيم للنيل”.
وبعد عودته لمساره الأصلي، يعبر النيل الحدود المصرية السودانية، ويستمر في مساره داخل مصر بطول 270 كم (170 ميل) حتى يصل إلي بحيرة ناصر، وهي بحيرة صناعية تقع خلف السد العالي. وبدءا من عام 1998 انفصلت بعض أجزاء هذه البحيرة غربا بالصحراء الغربية ليشكلوا بحيرات توشكي.
وعودة إلي مساره الأصلي في بحيرة ناصر، يغادر النيل البحيرة ويتجه شمالا حتى يصل إلي البحر المتوسط، علي طول هذا المسار، ينفصل جزء من النهر عند أسيوط، ويسمي بحر يوسف، ويستمر حتى يصل إلي الفيوم.
ويصل نهر النيل إلي أقصي الشمال المصري، ليتفرع إلي فرعين: فرع دمياط شرقا وفرع رشيد غربا، ويحصران فيما بينهما دلتا النيل Nile Delta وهي تعتبر علي قمة قائمة الدلتا في العالم، ويصب النيل في النهاية عبر هذين الفرعين في البحر المتوسط منهيا مساره الطويل من أواسط شرق إفريقيا وحتى شمالها. .
أما في العصر الحديث، وفي عام 1980 شهدت دول حوض النيل جفافا نتيجة لضعف فيضان النيل، مما أدى إلى نقص المياه وحدوث مجاعة كبري في كل من السودان وإثيوبيا، غير أن مصر لم تعان من آثار تلك المشكلة نظرا لمخزون المياه ببحيرة ناصر خلف السد العالي.
ويشكل حوض النيل تنوعا جغرافيا فريدا، بدءا من المرتفعات في الجنوب ويقل الارتفاع حتى يصل إلي سهول فسيحة في أقصي الشمال. ولذلك نهر النيل هو النهر الوحيد الذي يجري من الجنوب إلي الشمال تبعا لميل الأرض.
ويشكل النيل أهمية كبري في اقتصاديات دول حوض النيل، ففي مجال الزراعة يعتمد المزارعون في كل دول حوض النيل علي مياهه من أجل ري محاصيلهم، ومن أشهر هذه المحاصيل: القطن، القمح، قصب السكر، البلح، البقوليات، والفواكه الحمضية.
وفي مجال الصيد، يعتمد الصيادون علي الأسماك النيلية المتوفرة فيه، ويعتبر السمك من الأكلات المفضلة للكثير من شعوب هذه الدول. كما يشتهر نهر النيل بوجود العديد من الأحياء المائية، أهمها تمساح النيل والذي بتواجد في أغلب مسار النيل.
أما في مجال السياحة، ففي مصر والسودان فتقوم عليه أحد أنواع السياحة وهي “السياحة النيلية”، في كل من مصر والسودان، حيث تبحر الفلوكة حاملة السياح وزائرى البلاد في كل من قنا والأقصر وأسوان بمصر، وبين السدين الثالث والرابع في شمال السودان، بين جوبا وكوتشي.
الاستكشافات في القرن التاسع عشر
ظل نهر النيل يمثل لغزا غامضا للكثيرين حتى منتصف القرن التاسع عشر، ففي عام 1858 استطاع المستكشف الإنجليزي جون هاننج سبيك : John Hanning Speke) الوصول إلي بحيرة فيكتوريا، أما نظيره صاموئيل وايت بيكر : Samuel White Baker فقد استطاع الوصول إلي بحيرة ألبرت في عام 1864.
بعدهما قام المستكشف الألماني جورج أوغست شوينفروث : Georg August Schweinfurth) باستكشاف بحر الغزال في الفترة بين عامي 1868 و1871، بينما قام نظيره الأنجلو أمريكي هنري مورتون ستانلي : Henry Morton Stanley) باستكشاف بحيرة فيكتوريا في عام 1875 وتبعها بالوصول إلي بحيرة إدوارد عام 1889، وهكذا حل لغر النهر الذي ظل غامضا للآلاف السنين.
الاستكشافات في القرن الحادي والعشرين
حديثا في 14 يناير 2004، قام “هندري كوتزي Hendri Coetzee) من جنوب إفريقيا برحلة للإبحار في النيل الأبيض، وتعتبر أول رحلة للإبحار في هذا النهر بطول مساره، وقد استغرقت هذه الرحلة 4 أشهر وأسبوعين، حتى وصل إلي مدينة رشيد المصرية علي البحر المتوسط.
أما في 28 ابريل 2005 فقد قام الجييولوجي “باسكال سكاتوررو Pasquale Scaturro وشريكه “كياكار kayaker ومخرج الأفلام الوثائقية “جوردون براون Gordon Brown برحلة لاستكشاف النيل الأزرق، وتعتبر هذه أيضا أول رحلة للإبحار في هذا النهر بطول مساره بدءا من بحيرة تانا في أثيوبيا، وقد وصلوا مدينة الإسكندرية المصرية علي البحر المتوسط، وقد وثقت هذه الرحلة في فيلم يحمل عنوان : “Mystery of the Nile” ( أي “لغز نهر النيل”، كما صدر أيضا كتاب بنفس العنوان.
السد العالي:
ترتب علي بناء السد العالي ارتفاع منسوب المياه، وذلك بعد إنشاء بحيرة ناصر لحفظ مياه السد، وهكذا تعرضت النوبة والآثار الموجودة فيها للغرق، لهذا في 1959 أطلقت مصر نداءا دوليا لإنقاذ آثار النوبة، ومن ضمنها معبد “أبو سمبل” إلي منطقة آخري أكثر أمانا، وبدأت الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة تحت إشراف اليونسكو. واستغرقت عملية فك إعادة تركيب معبد أبو سمبل قرابة 4 سنوات (1964-1968) ، وتكلفت ما يقرب من 36 مليون دولار أمريكي، وتم إعادة التوطين في منطقة تعلو 65 مترا عن المنسوب الأصلي الذي كان عليه المعبد، وبمسافة 200 متر بعيدا عن شاطئ النيل.
النيل والدول الاستعمارية: لمحة تاريخية
نتيجة للإمكانات الهائلة التي يوفرها نهر النيل، فقد كان مطمعا للقوي الاستعمارية في القرن التاسع عشر، فقد تحكمت الدول الأوروبية في دول حوض النيل في تلك الفترة؛ فبينما كانت بريطانيا تحكم قبضتها علي مصر والسودان وأوغندا وكينيا، فقد أحكمت ألمانيا قبضتها علي تنزانيا، رواندا وبوروندي.
في نفس الوقت فقد قامت بلجيكا بالسيطرة علي الكونغوالديمقراطية والتي كانت تعرف في هذا الوقت باسم زائير، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولي (1914-1919) أوزارها، فقد قُسِّمت الإمبراطورية الألمانية بين كل من بريطانيا وبلجيكا؛ فحصلت إنجلترا علي تنزانيا، بينما حصلت بلجيكا علي رواندا وبوروندي، بينما بقيت إثيوبيا دولة مستقلة.
ومع انتهاء السيطرة البريطانية علي مصر في الخمسينات من القرن العشرين، وعلي السودان في الستينيات من ذات القرن، فقد تم توقيع اتفاقية نهر النيل عام 1959 لتقسيم مياه النيل تقسيما عادلا بين دوله العشر.
ثانياً: حملة الخديوي أسماعيل في اعالي النيل والحبشة
جاء بالمصادر التاريخية والحغرافية أن حملة اسماعيل باشا في اعالي النيل ركزت علي منابع النيل الأزرق في هضبة الحبشة في شكل صراع بين الخديوي إسماعيل والإمبراطور يوحنس الرابع إمبراطور الحبشة (إثيوبيا حاليا)، في الفترة بين 1868 إلى 1876. وتضمنت الحملة معركتين؛ جوندت في 16 نوفمبر 1875 وجورا في 7-9 مارس 1876. وانتهى الصراع بانتصار إثيوبيا.
مقدمة حرب الحبشة
في ديسمبر 1874 قام مـنزينجـر باشا النمـساوي بقيادة فرقة من الجيش المصري (1200 جندي) التي تقدمت من كسلا عبر إقليم الدنـاقـل إلى كيرين داخل إثيوبيا. وانسحبت تاركة خلفها حامية صغيرة لحماية الكنيسة الكاثوليكية بالبلدة.
ولما كان يوحنس الرابع لا يستطيع أن يشن حربا كبيرة ضد مصر في ذلك الوقت بسبب الاضطرابات والثورات التي قامت ضده، فقد اثار عن طريق كيركهام مسألة عدم وجود ميناء لإثيوبيا ومدى احتياجها إليه. وأوضح لبريطانيا أن المصريين بتحكمهم في الساحل الأفريقي للبحر الأحمر، يتحكمون في تجارة إثيوبيا عن طريق مضاعفة الرسوم عن البضائع مما يضاعف أثمانها في الأسواق الإثيوبية، كما أنهم يمنعون اتصال إثيوبيا بالخارج وهذا يحرمها من تحقيق التقدم والازدهار.
كان يوحنا يهدف من وراء حصوله على ميناء على البحر الأحمر إلى تسهيل استيراده للأسلحة والذخيرة التي تساعده ضد الثائرين عليه. وازاء توسع المصريين، أنشأ ولاية جديدة ملاصقة للحدود المصرية، بل ضم إليها بعض الأجزاءالخاضعة لمصر وسميت بولاية جندا، وتضم ميناء زيلع المصري والقبائل النازلة حوله. وقد منح يوحنا هذه الولاية الحكم الذاتي.
وفي الصراع الداخلي بالحبشة استطاع يوحنا أن يخضع كل الرؤوس الخارجة عنه تقريبا، إلا أن منليك استطاع بدهائه أن يفلت من الخضوع ليوحنا، كانت مصر تسير على سياستها في جذب المناوئين لحكم الامبراطور،واستولت مصر على بوجوس، فقد ذهب أحد كبار الإثيوبيين إلى منليك ونصحه بالتعاون مع المصريين لمصلحته، فرحب الخديوي ولكن إسماعيل لم يستثن منليك من حظر السلاح الذي فرضه على إثيوبيا في ذلك الوقت.
وانشغل اسماعيل في مد سلطته ونفوذه على سائر مواني البحر الأحمر والقرن الأفريقي، زيلع وبربرة وهرر،
وقد أدت سياسة التوسع التي اتبعها إسماعيل في شرقي أفريقيا، إلى زيادة التوتر بين مصر وأثيوبيا، فقد شعر يوحنا بأن المصريين قد حاصروا بلاده من جميع الجهات، فبدأ يستعد للحرب مع المصريين.
كانت نتيجة الإضرابات في الحدود في منطقة إقليم التاكة وبوجوس، أن رحبت مصر باقتراح الكونت بيسون Count Bisson ربما بقصد إنشاء دولة حاجزة في هذه المنطقة مثلما فعلت أثيوبيا عندما تبنت الملك نمر وأولاده، حتى يحين الظرف المناسب ليغزو إسماعيل أثيوبيا. واذا لم يكن هذا مبررا لحملة بيسون هذه فما هو الواقع وراء قبول إسماعيل لها، وهو لا يعلم شيئا عنه سوى ما عرضه بيسون نفسه من اقامة مزرعة كبيرة لزراعة القطن تحميها مصر.
وصل بيسون إلى مصر في سبتمبر سنة 1863، وأخبر إسماعيل بأنه ينوي القيام بمشروع زراعي صناعي في السودان الشرقي بالقرب من حدود أثيوبيا، وكان هناك اعتقاد بأن بيسون يقوم أيضا بمهمة سياسية. وهي الإفراج عن القنصل الفرنسي ليجيان الذي قيل أن تيودور قبض عليه، وقد وافق إسماعيل على سفر بيسون وأتباعه إلى حدود أثيوبيا عن طريق مصر والسودان.
والواقع أن إسماعيل لم يوافق على مشروع بيسون الا بعد أن أعلن في مصر هدفه الحربي، وهو اقامة مركز حربي على حدود السودان مع أثيوبيا، وقدمت مصر له المساعدات الفعالة وأمر إسماعيل حكمداره في السودان بضرورة تقديم العون الكامل لبيسون وتاييده في حالة حربه مع أثيوبيا. .
و رغم الدعم الفرنسي إلا أن تيودور كان لا يسمح بممارسة نشاطها التبشيري في بلاده. وازاء ذلك كان لابد للارسالية أن تبحث عن قوة تساندها في التخلص من تيودور ويساعدها في العودة إلى أثيوبيا. ولهذا فليس من المستبعد أن تقف وراء الكونت بيسون الفرنسي الكاثوليكي. غير أن حملة بيسون هذه لم تنجح، وذلك لعدم تعاون الإدارة المصرية في السودان معه تنفيذا لأوامر إسماعيل باشا.
كل هذه العوامل دفعت بيسون إلى التخلي عن مشروعه والعودة في صيف سنة 1864 إلى مصر ثم الرحيل بعد ذلك إلى فرنسا.
ورفضت مصر طلب مغامر آخر فرنسي كاثوليكي كان هدفه غزو أثيوبيا، وذلك حتى لا يؤول على أنه عمل عدائي استفززاي ضد تيودور، وهذا ما كانت تتجنبه مصر، وهكذا استفادت مصر من ذلك بأن أوضحت للعالم عامة وإنجلترا خاصة أنها لا تفكر في غزو أثيوبيا وأنها رفضت مساعدة بيسون وأمثاله، وارضاء لإنجلترا عندما طلب قنصلها من الحكومة المصرية ذلك.
كان إسماعيل يبغي التوسع، ولكن عندما تسمح ظروفه الداخلية والخارجية بذلك. وكان الدافع له ايقاف تجارة الرقيق. وحاجته إلى تدعيم مركز الإدارة المصرية في السودان. فقد ركز جهده في تدعيم مركزه في السودان استعدادا لغزو أثيوبيا بعد ذلك، وعليه فقد تطلع إلى ضم سواكن ومصوع إلى حكمه، وذلك لأهميتهما في تحقيق أهدافه وأطماعه.
وكانت أهمية سواكن تتمثل في أنها المنفذ الوحيد لإقليم التاكة على البحر الأحمر، وبالتالي كانت أعظم مركز تخزين للغلال والبضائع من وإلى صعيد مصر، هذا بالإضافة إلى سرعة الاتصال بالسودان. أما مصوع فتنبع أهميتها من أن من يسيطر عليها يستطيع فرض سيادته على الساحل وإقليم سمهر الذي يسيطر على الطرق المؤدية إلى أثيوبيا، وبالتالي تستطيع مصر مراقبة تحركات القبائل المغيرة على الحدود السودانية، ومنها ترسل – في الوقت الملائم – قواتها لغزو أثيوبيا وهو ما حدث فعلا قيما بعد. ولهذا فقد قرر إسماعيل ضم المينائين وفرض سيادته عليهما. فأرسل إلى الأستانة مذكرة برر فيها هذا. وكان لوساطة هذا السفير في تركيا أثر كبير في اتمام ضم سواكن ومصوع لمصر.
وقد أصدر الباب العالي قراره بالحاق سواكن ومصوع بالإدارة المصرية في السودان في مايو سنة 1865. وتسلمت مصر سواكن مباشرة بعد صدور هذا القرار أما مصوع فقد تأخر تسلمها بسبب ثورة الجند في التاكه (107)، ولم يتم تسلمها إلى في العام التالي أي في أبريل سنة 1866، واحتلها مصر كما احتلت أركيكو، ووضعت الحامية المصرية في المواقع التركية على طول الساحل الأفريقي للبحر الأحمر. وبنجاح إسماعيل في ضم هذين المينائين، أصبح في إمكانه الاستيلاء على إقليم بوجوس الذي يخترقه الطريق المباشر بين مصوع وكسلا، وطريق الجمال إلى إقليم هماسين. كذلك ضم إقليم الزنادقلي الخاضع لأثيوبيا والذي تصل حدوده إلى شمال غربي مصوع بنحو ستة أميال. هذا بالإضافة إلى أن مصوع تعتبر المنفذ الطبيعي لأثيوبيا ونافذتها على العالم الخارجي. وكانت السياسة التي صارت عليها برطانيا هي التخلي تدريجيا عن أثيوبيا، كما أننا سنجد أن هناك تعاون بين مصر وإنجلترا قبل الحملة الإنجليزية على أثيوبيا وفي أثنائها.
اعتقد تيودور أن بريطانيا تتواطأ مع مصر على غزو بلاده لذلك قبض على قنصلها وعلى المبشرين البروتوستانت، مما أثر قلق الحكومة البريطانية على رعاياها حتى أنها خافت عليهم من الحشود المصرية على الحدود الأثيوبية السودانية. والتي كانت مصر قد أرسلتها عن طريق ميناء سواكن، بعد ضمه إليها – للحفاظ على الأمن والسلام داخل مقاطعات الحدود الخاضعة للإدارة المصرية في السودان. وكانت هناك شائعات تقول أن هذه القوات أرسلت لتضيف مناطق أخرى في هذه الجهات لمصر، لكن اسماعيل لم تكن لديه اطماع لضم أقاليم من الحبشة.
وبالرغم من حرص مصر هذا، فقد كان الامبراطور تيودور يحاول التحرش بها فتحالف مع أحد زعماء دارفور (أحمد شنا)، على أن يزحف على الخرطوم في الوقت الذي يزحف فيه أحمد شنا وحاكم جبل الداير على كردفان، ولكن هذه الخطة لم تنجح لأن تيودور انشغل بمقاومة الحملة الإنجليزية التي قضت عليها. وكان من حرص مصر على هدوء الأوضاع بينها وبين أثيوبيا، أنها لم تتخذ أي اجراء حربي أو معادي لتيودور، بل كل ما فعلته أن كلفت حكمدار السودان بأن يتحصص أحوالهم ويقف على حقيقة أمرهم ويوافي الخديوي بتفاصيل هذا الموضوع.
ودعا جعفر مظهر باشا حكمدارمصر في السودان في تقريره حكومة مصر إلى ضم أثيوبيا إليها منتهزة فرصة الفوضى الناشبة في أنحائها، وعدم تضامن رؤسائها مع امبراطورهم، ولم يستمع الخديوي لهذه النصيحة.
وقد أثار قرار اعلان إنجلترا الحرب على الأثيوبيا اعتقاد بأن بريطانيا لن ترضى بمجرد انزال العقاب بالامبراطور تيودور ولكنها ستحاول اقتطاع منطقة من أثيوبيا على الأقل واحتلالها بل اشيع أن إنجلترا تطمع في الاستيلاء على جزيرة مصوع واحتلال مصر نفسها بعد هزيمة أثيوبيا.
ولقد أثارت هذه الشائعات مخاوف حكومة مصر التي لم تجهر بها. وقد رأت الحكومة الإنجليزية ضرورة تكذيب هذه الشائعات في تبديد مخاوف مصر، فأمر قنصلها في القاهرة أن يؤكد للخديوي أن القوات الإنجليزية سوف تغادر أثيوبيها بعد إطلاق سراح الأسرى وأنها لا تنوي غزو هذه المنطقة من البحر الأحمر. ومع ذلك فقد اقترح اسماعيل لدي بريطانيا التوسط بينهما. فوافقت بريطانيا على اقتراحه، وبالفعل بعث الخديوي برسالة إلى تيودور، حثه فيها على إطلاق سراح الأسرى حتى يتجنب الحرب مع بريطانياعلى أن تيودور لم يهتم بهذه الرسائل واستمر في سجنه لهولاء الأسرى.
وبالرغم من تأكديات الحكومة البريطانية بقصر هدف الحملة على إطلاق سراح الأسرى، فإن الخديوي احتاط لذلك، فسعى عند الباب العالي لاحضار قواته المشتركة في اخماد ثورة كريت، وارسلها إلى الحدود الإثيوبية حتى تكون مستعدة لما قد تتطور إليه الأمور في هذه المنطقة. وبعد ما فعل إسماعيل هذا لم يجد أمامه شيئا سوى أن يقدم معاونته للحملة البريطانية التي قررت إنجلترا إلرسالها وعينت سير روبرت نابيير قائدا علهيا.
وبالرغم من هذه المساعدات التي قدمتها مصر للحملة الإنجليزية، فإن إسماعيل باشا لم يستفد منها شئيا، كما أن انتحار تيودور لم يفد مصر أيضا إذ أن الحملة الإنجليزية اختارت قبل رحيلها من أثيوبيا رجلا متعصبا آخر يتلاءم في الواقع مع السياسة الإنجليزية في المنطقة ولا يقل تعصبا عن تيودور، إذ كان هو الآخر يرغب في طرد المصريين من كل السودان ومن ساحل البحر الأحمر الأفريقي، فتركت له كمية ضخمة من السلاح والذخيرة. وأحد العسكريين الكبار في الحملة وهو الجنرال كيركهام Kirkham في خدمته لتدريب جيشه، وكان الدافع إلى ذلك هو الخوف من التقدم المصري واحتمال الاعتداء على أثيوبيا إذ كانت في ذلك الوقت حملة صمويل بيكر إلى أعالي النيل وخوف الأثيوبيين منها. وما قد تمثله من تهديد لبلادهم. كما أن مصر لم تستفد من منشئات الحملة ومهماتها وأدواتها التي تركتها ف يميناء زولا، لأنه ثبت عدم صلاحية المدينة كمركز لمحافظة مصوع.
ومع ذلك فقد أوجدت هذه الحملة لمصر ظروفا استطاعت أن تؤكد أمام بريطانيا حقوق سيادتها على ساحل البحر الأحمر الأفريقي حتى باب المندب. بالإضافة إلى اتباع سياسة أكثر تحديدا واحكاما من السياسة التي كانت تتبعها من قبل في ساحل البحر الأحمر الغربي وفي السودان الشرقي، فقد اتجهت مصر إلى التوسع بضم أقاليم أخرى إلى سيادتها – وساعد على ذلك أن بريطانيا لم تعد تهتم كثيرا بأثيوبيا بعد أن أصيبت بخيبة أمل كبيرة في صنيعتها تيودور، كما أنها أرادت أن تحد من تدخلها في الشئون الإثيوبية. واكتفت بتدعيم كاسا الذي أختير كخليفة لتيودور. وتركت له خبيرا عسكريا مما جعله من أقوى الزعماء في البلاد. والدليل على ذلك أنها لم تحاول أن تمنع إسماعيل من شن الحرب على أثيوبيا كما كانت تفعل من قبل ولم يفهم إسماعيل هذه السياسة الجديدة وسرعان ما تورط في حروب مع أثيوبيا. انتهت بهزيمته وقضت على عهده في مصر واستقلالها بعد ذلك.
نتج عن انتحار الامبراطور تيودور، أن حلت بإثيوبيا الفوضى وصراع الرؤوس للوصول إلى العرش. وكان المتنافسين ثلاثة هم كاسا هيله درگه في تيگراي، وواجشوم في جوباز في أمهرة، ومنليك في شوا. وكان إسماعيل يتابع هذا الصراع ولكنه لم يتدخل فيه. وتصاعدت الأزمة بين الكاثوليك وكاسا وقد أدى ذلك إلى أن يرسل كاسا قواته إلى قرى بوجوس حيث حرقوا الكنائس والمنازل وبيوت المبشرين ونهبت القرى، فهرب المبشرين الكاثوليك.
وأوضح له أنه إذا كان يوحنا لا يعترف بسلطة البابالعالي فان الخديوي قد يضطر إلى الحرب مع أثيوبيا لينتقم من الاعتداءات التي تقع على أقاليمه واذا لم يتراجع خلال ثلاثة أشهر عن كل الأراضي والممتلكات التي استولى عليها، ودفع تعويضات إلى من تضرروا، فإنه سوف يحتل بوجوس. على أن إسماعيل أرسل مذكرة إلى الباب العالي شرح فيها أسباب فتحه لمنطقة بوجوس وذلك ليقدم الحماية الواجبة لأتباع السلطان في هذه المنطقة.
وبعد أن تم احتلال بوجوس، أراد إسماعيل أن يؤكد ضمها بتحديد الحدود بين مصر وإثيوبيا وذلك بالطرق السلمية، والواضح أن إسماعيل آلى على نفسه تأديب يوحنا على ما يرتكبه من أعمال عدائية ضد مصر، وهكذا أصبح الصلح والسلام بعيدا عن البلدين.
كان هذا موقف مصر ازاء أثيوبيا، أما موقف الأخيرة فقد بلوره يوحنا الرابع برفضه الاستجابة للرغبة في السلام الذي عرضها عليه إسماعيل في رسالته بشرط رد الماشية والأسرى. فبعد ثمانية أشهر من رسالة إسماعيل، بعث يوحنا إلى الخديوي برسالة برفض فيها مطالبه
ازاء هذا رأى محافظ مصوع أراكيل بك، أنه أصبح على مصر حماية رعاياها من الغارات الإثيوبية، وحفظ ماكنتها وهيبتها في السودان، كما أن الخديوي إسماعيل لم يجد بدا ازاء تهديدات واستفزازات يوحنا من تأديبه. واحتلال اوسا التي يحكمها شيخ مستقل وتوقيع معاهدة مع منليك ملك شوا. وكان منليك قد أعاد اتصاله مع مصر، قررت مصر أن تمد منليك بشحنة من الأسلحة وذلك كمساهمة من مصر لكي يؤيد منليك حملة منزنجر، ومناوئه يوحنا.
وفي ديسمبر 1874 قام منزينجر باشا النمـساوي بقيادة فرقة من الجيش المصري (1200 جندي) التي تقدمت من كسلا عبر إقليم الدناقل إلى كيرين داخل إثيوبيا. وما أن اعترضت إثيوبيا حتي انسحبت الفرقة المصرية تاركة خلفها حامية صغيرة لحماية الكنيسة الكاثوليكية بالبلدة.
في 7 نوفمبر 1875 وصلت أنباء للإثيوبيين عن تقدم 2000 من المصريين بقيادة منزينجـر من كسلا عبر أجوردات وميريب بإقليم الدنـاقـل (بإريتريا المعاصـرة). تلك القوة سقطت في كمين بالقرب من “عدوة” أعده رجال القبائل الدنقـلاويون الذين أبادوا القوة المصرية بما فيها مـنزينجـر. وأطـلق اسـم “جوندت” التي انتصرت فيها إثيوبيا علي مصر على أسـمى وسـام عسـكري لديها.