fbpx
تقارير

اليمين الدستورية وإعادة إنتاج الاستقطاب المصري

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تمهيد

كان لافتاً أن يتحدث رأس إدارة 3 يوليو في خطاب “اليمين الدستورية” عن إعادة تعريف الهوية المصرية، وتوعد؛ ووعده هنا يقوم مقام الوعيد، بأن تشهد فترة رئاسته الثانية مشروعات كبرى في المجالات “العقلية” و”الثقافية” كما الصحية، لتحمل هدفاً أساسياً حددته خاتمة “خطاب اليمين” بإعادة تعريف الهوية المصرية التي – برأيه – خضعت لضغوط لكي تنتهب وتتبدل. وبرغم أنه أنهى خطابه متهماً الإسلاميين – كعادة خطاب الثورة المضادة – بتشويه الهوية المصرية، إلا أن فاتحة خطابه تضمنت نصاً على محاولات سرقة الوطن، تارة تحت زعم المدنية الديمقراطية وتارة أخرى عبر الخطاب الديني1 .

وكلا الصيغتين تمثلان امتداداً لخطاب عملي سعى طيلة 60 عاماً للتغطية على مسار نخبة سياسية مركزية بدأت في مصادرة الوطن لصالحها، وانتهى بها الأمر لاقترافها مجازر ضد شعوبها؛ وهي المجازر التي بلغت سقفها بقصف مستبد سوريا شعبه بالسلاح الكيماوي، وتحت هذا السقف مجازر دون ذلك.

أولاً: سيناريوهات إعادة تعريف الهوية المصرية

جاء خطاب “إعادة تعريف الهوية المصرية” ضمن حديث رأس إدارة 3 يوليو عن تطوير مجالي التعليم والصحة. وهذا المجال يعطينا سيناريوهين/ مسارين تكامليين متجددين حول اتجاه إعادة تعريف هذه الهوية. حيث يمثل التعليم المسار الأول من هذه المسارات، بينما تمثل عملية إعادة إنتاج الاستقطاب الثمانيني المسار الثاني.

المسار الأول: مسار تغيير وجهة العملية التعليمية:

برغم أن فترة الحكم الأولى قد شهدت مصادرة جميع المدارس الأهلية، وبخاصة تلك التي تملكها جمعيات إسلامية، ووضعها تحت طائلة لجنة من “وزارة العدل”، وهو ما استهدفت به إدارة 3 يوليو وقف استمرارية عملية “بناء العقل المقاوم” عند منبعها الثاني، وبخاصة بعد أن أقدمت إدارة الانقلاب العسكري على وقف بث القنوات ذات الخطاب الإسلامي قبل عملية بث بيان الانقلاب، لتدخل مصر بعدها مسار “أحادية خطاب المجال العام” من باب “المهنية المعيبة”2 ، الذي تصاعد ليبلغ حد حجب كل المواقع التي تحمل خطاباً مغايراً. وليبلغ الأمر ذروته الحالية بإعداد “المجلس التشريعي المصري” قانونا لتنظيم الإعلام؛ يضع تحت طائلة القانون الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي إذا ما بلغ متابعوها نصابا يجعلها “أدوات إعلام جماهيري”3 .

يتعلق السيناريو الأول فيما يخص “إعادة تعريف الهوية المصرية” بتعديل واسع النطاق لمناهج التعليم المصرية. ويتزامن هذا التصريح مع وجود اتجاه فعلي لتغيير المنظومة التعليمية والتي ستطبق بالكامل خلال 12 عاما4 ، بالرغم من تشككي في إمكان تحقيق تقدم تعليمي مع وزارة يتخللها الفساد الذي سبق للجهاز المركزي للمحاسبات أن تحدث عنه 5.

غير أن السائد في أنظمة التعليم التي تعمل في إطار أنظمة سلطوية أن تنتج عقلا أداتيا غير نقدي، وتعمل المنظومة التعليمية على محاصرته عبر آليات الإخضاع المختلفة، من تقديس السلطة والتحذيرات من مخالفتها وقصص الإرهاب المختلفة.

المسار الثاني: مسار إعادة إحياء الخطاب الثمانيني:

وهو مسار يُمثل شرطا لابد منه لإنجاز مشروع الاحتواء المرتبط بعملية إعادة تعريف الهوية. وإذا كانت إدارة 3 يوليو قد بدأت مسارها بإشاعة روح الخوف، سواء أكان هذا الخوف يتمثل في مهابة البطش الأمني، أو كان مشروع تخويف من التغيير وتبعاته التي تحصرها إدارة 3 يوليو في نماذج سوريا والعراق، فإن الضلع الثالث لمثلث الخوف هو بعث مشروع “الخوف الفكري المباركي”6 .

مشروع الخوف الفكري، مشروع بدأ كضرورة تنموية مع مطلع الجمهورية الأولى الاشتراكية، حيث التحقت النخبة المثقفة المصرية بالدولة باعتبار هذه الأخيرة سلاح التنوير الأول ضد قوى الرجعية التي تمثلت في قوى النظام الإقطاعي من جهة والقوى الإسلامية وفي مقدمتها جماعة الإخوان من جهة أخرى.

ورأت النخبة أن هذه الدولة تملك القوة القاهرة لإحداث التغيير المطلوب، وأنها قادرة على احتواء القوى الشعبية التقليدية، بما فيها العائلات الريفية والقبائل، لما تحتكره من موارد اقتصادية مصدرها الضرائب والرسوم، ما يمكنها من إعداد البنية التحتية مقارنة بغيرها من القوى خارج جهاز الدولة. وشيئا فشيئا انقلب الالتحاق بالدولة إلى الالتحاق بالمؤسسة العسكرية التي رآها المفكر نزيه نصيف الأيوبي “قائدة معركة التغيير والمهيمنة عليه”.

وتحولت العلاقة بين النخبة والدولة إلى لعبة سياسية مع مرحلة الرئيس أنور السادات، الذي أراد موازنة “نفوذ نخبة عبد الناصر”، فشجع النخبة الرأسمالية على الحضور السياسي، وأخرج الإسلاميين من “معتقلات ناصر”، تاركا للعقل الريفي المصري مهمة إدارة مرحلة ما بعد الانغلاق والمعتقلات، لتبدأ معارك تصفية الحسابات والثأر لمحق الكرامة في “معتقلات ناصر”.

وبرغم محدودية هامش الحركة، تمكن الإسلاميون من بناء أيديولوجيا ثم خطاب سياسي اجتماعي قوي، وتشكيل تنظيمات متماسكة، وتفريخ واحتواء قيادات سياسية وفكرية، وتوفير مصدر تمويل متوازن ومستمر. ومع مجئ مبارك، لم يكن ثمة بد أمامه لكي يستمر، وهو من هو في ضعف الملكات والإمكانات الشخصية، فاهتدى مع جملة من المستشارين إلى ضرورة إنتاج “مشروع خوف فكري ووجودي” يوظف فيه نخبة عبد الناصر ووارثيها لمواجهة نفوذ الإسلاميين المتنامي، وتمكن من استغلال الروح الطائفية التي غذت بها “مدارس الأحد” الكنيسة المصرية، فاستوعب الكنيسة ضد هذا المشروع، وتلاعب حتى تمكن من إدخال الأزهر على مسار الخوف عقب وفاة شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق.

اليوم، ترى إدارة 3 يوليو أن مشروع الخوف بات ضرورة. فئة المستشارين حوله يستشعرون أن تنامي تيار ما بعد الإسلاموية7 ؛ بحسب تعبير البروفيسور آصف بيات، من شأنه أن يعمل على تجسير “فجوة الكراهية التاريخية” بين التيارين الإسلامي والمدني الديمقراطي بأطيافهما. كما أن تنامي “تيار ما بعد التنظيم”8 ؛ سواء في التيارات السلفية أو الوسطية؛ من شأنه أن يقوض قدرة الدولة على التلاعب بالتنظيمات الإسلامية، هذا بالإضافة لما لهذا التيار من قدرة على تجديد المنظومة الإسلامية من خارج التنظيمات عبر كونه صوت سياسي وثقافي يتسع ليفرض سطوته شيئا فشيئا على الكيانات السياسية الإسلامية وحتى المحافظة. ولا يمكن أن يتغافل هؤلاء كذلك عن موارد القوة المتنامية للتيار الإسلامي بعد استيعابه درس الماكينة الإعلامية وأدوارها9 ؛ وبخاصة مع اتجاهها للاهتمام بالبعد الدرامي وإمكانياته الهائلة المرتقبة، بالإضافة لقدرة هذا التيار على التعافي بعد ما مر به من أزمات.

لهذه الاعتبارات جميعها، فإنه من الصعب ركون إدارة 3 يوليو إلى الآليات البدائية المستخدمة حاليا، ومن غير المتصور استمرار التعويل عليها مع تنامي حالة النضج في البيئة المحيطة، وهو نضج يعلم الجميع أن ذروته تتمثل في التلاقي الإسلامي المدني، وهي لحظة لا تعبر عن نضج فكري فقط، بل تُعبر كذلك عن لحظة نماذجية تُمكن هذا الوافد المرتقب لقيادة الشارع مجددا، تماما كما حدث في يناير.

ولهذا، فإن أحد مصادر عملية “إعادة تعريف الهوية المصرية” ستتمثل ولا ريب في إعادة إنتاج “مشروع الخوف المباركي”. هذه الرؤية لم يعد يكفيها وجود إبراهيم عيسى وإسلام البحيري، ولا يُمكنها مواصلة الاعتماد على الدراما الجوفاء التي جُل غايتها التمجيد في شخص ضابطي الجيش والشرطة، بل صارت ثمة حاجة لتيار إعلامي وسياسي جديدين يجتاح ثانيهما النخبة المدنية الدولتية ويملأ جيوبها بعائدات محتوى يتجاوز الشيطنة وسقف خطاب الكراهية الذي يحمله. كما يجتاح أولهما أغلب الأحزاب والمنظمات غير الحزبية ذات التوجه المدني القابلة للتدجين. أما غير القابلة للتدجين فلها مرحلة تالية.

ثانياً: المعلبات التحليلية كأداة محتملة للاحتواء

كشف الربيع المصري عن وجود مشروعين ديمقراطيين للتغيير، أولهما المشروع الإسلامي الذي ضم جماعة الإخوان، وأحزاب المراجعات الإسلامية، والتيار السلفي بشقيه التجديدي والتقليدي. أما التيار الثاني فتمثل في الأجنحة الديمقراطية للتيارين الليبرالي واليساري. وبرغم أن ما يجمع هذه التيارات جميعها أجندة ليست بالهينة، إلا أن التيار الدولتي؛ والذي قاد قطاع واسع منه الثورة المضادة، نجح في بعث “مشروع الخوف” المباركي مجددا ليمكن الأداة الامنية القسرية من رقاب القوة الديمقراطية الأكبر، الإسلاميين، ما سهل لاحقا احتواء التيار المدني الديمقراطي ذي الصوت العالي، وصار كلاهما حبيس الوطن، إن في السجون أو في البيوت، فكلاهما حبيس.

لكن ضغوط الصورة من جهة؛ وضغوط تآكل الرضا الشعبي من جهة أخرى، كلاهما يدفع إدارة 3 يوليو لتغيير تكتيكها في السيطرة باتجاه العودة للمسار السياسي/ الأمني المباركي، بدلا من المسار الأمني المطلق الذي بدأ الرضاء الدولي بصدده يتآكل.

1ـ المسار المباركي وحزب السيسي:

الحديث عن “حزب الرئيس”، و”تجميع المعارضة” في كيانات متعددة هي أحد أبرز التجليات الراهنة للاتجاه نحو مشروع سياسي/ أمني. وبقدر ما إن “حزب الرئيس” سينعم أعضاؤه بتأثيرات الصلة والتمكين الأمنيين؛ ما يجعله حزبا مغريا بالانتماء؛ تماما كما كان حزب مبارك “الحزب الوطني الديمقراطي”، فإن القضاء على سيولة المشهد السياسي المعارض أحد أبرز حاجات إدارة 3 يوليو للسيطرة على المسار السياسي/ الأمني.

وفي هذا السياق، ستُمثل منصات المعارضة المجمعة الجديدة منطلقا لاحتواء التيارات النقدية المدنية الديمقراطية. وهو الاحتواء الذي لن يطال خطابها الديمقراطي، حيث لن ينجح هكذا استهداف، بل يكفيه أن يشيع الاضطراب في أولويات خطاب النخبة المدنية، وهو اضطراب تمهد له إدارة 3 يوليو بتغذية اليأس من إمكانية التغيير، ما يدفع النخبة المدنية الديمقراطية المعارضة للرضوخ وقبول التعاطي مع الواقع المرتقب وفق قاعدة “الممكن المربح”.

ولا يمكن تمرير قاعدة “الممكن المربح” كأساس لتركيع النخبة المدنية الديمقراطية المعارضة من دون توفير حيلة ذهنية تُمثل قاعدة لاحتوائهم، ترغمهم في النهاية على تجاوز حلم الديمقراطية، وتدفعهم قسرا للمشاركة في المنظومة المرتقبة. ويمكن في هذا الإطار استحضار ما سبق للمفكر العربي المجدد برهان غليون أن ذكره من نظريات تفسيرية لحالة التخلف عن ركب الديمقراطية، حيث أشار “غليون” لعدد من النظريات التي فسرت التخلف عن ركب الديمقراطية بالاعتماد على نظريات “العقل العربي المأزوم” والذهنية التراثية الشرقية” و”العقلية الماضوية”، إلى آخره من تلك النظريات التي تعتبر الإسلام كثقافة المسؤول الأول عن الذهنية الرافضة للديمقراطية والحداثة10 .

2ـ النخب المصرية بين التواطؤ والقسر

برغم أن برهان غليون اعتبر أن “نخبة الدولة” هي المسؤولة عن حالة التخلف العامة، وحالة “التخلف عن ركب الديمقراطية” خاصة، وبرغم أنه كاد أن يؤكد – تحليليا – أن هكذا خطاب تحليلي هو خطاب أقرب للأيديولوجيا التحليلية التي دعمت “نخلة الدولة” حضورها الأكاديمي لكي تغطي على فشلها في التعبير عن تطلعات الشعوب العربية في تحقيق النهضة، وأنها روجت لهكذا خطاب تحليلي لتشتيت الانتباه عن تحولها بنفسها لأداة لكبح تطلعات الشعوب العربية للنهضة، لأن هذه النخبة؛ نخبة الدولة؛ بثروتها ومكانتها وسائر المغانم المادية والمعنوية التي تحصلت عليها جراء السيطرة على الدولة وتسخير الشعوب لخدمتها؛ ستكون أولى ضحايا التحول الديمقراطي. وبرغم هذان يبدو أن هكذا نظريات ستكون أحد أهم الحيل الذهنية/ النفسية لاحتواء النخبة المدنية، وإقناعها بأنها تؤدي خدمة للوطن.

في هذا الإطار، لابد من التمييز بين عمليتين، التواطؤ والقسر. لا يخفى بطبيعة الحال وجود نخبة سياسية حزبية دولتية قوية في مصر، وأن هذه النخبة لعبت دورا هاما في التمكين لمسيرة الثورة المضادة المنقلبة على “مشروع يناير” التحرري التنويري؛ بالمعنى الحقيقي لدلالة التنوير المتمثلة في جهود عتْق العقل المصري من ركام الأدلجة والتجهيل والإفقار وصناعة الكراهية والخوف، وهي الأوهام التي مكنت هكذا نخبة فاسدة وطفيلية من السيطرة على المشهد السياسي المصري بخاصة والحياة العامة في مصر بصورة عامة. ولا شك كذلك في أن هذه النخبة الدولتية ستُمثل حجر الأساس في مشروع الانتقال للمنظومة السياسية/ الأمنية التي ستعمل من خلالها إدارة 3 يوليو على ترميم سيطرتها على الحياة العامة. لكن هذا المشهد النفعي ترافقه أكبر عملية قسر سياسي/ ثقافي في تاريخ مصر، هذه العملية هي أحد ملامح حصاد الفترة الرئاسية الأولى.

خلال هذه الفترة، شهدت مصر عملية تدجين للنخبة الاقتصادية المصرية، وبخاصة تلك النخبة التي مدت نفوذها للمجال الثقافي، عبر الصحف والقنوات الفضائية ودور النشر. وبدأت وتيرة التصاعد تتسارع منذ لحظة إذلال رجل الأعمال المصري صلاح دياب أمام عدسات الصحف11 ، وانتهت الفترة الرئاسية الأولى ببيع كل رجال الأعمال ما يملكونه من حصص في عالم الأفكار وصناعة الوجدان إلى رجل الأعمال التابع للدولة “أحمد أبو هشيمة”، والتي باعها بدوره لتحالف دولتي جديد تشرف على مالياته ظاهريا وزيرة الاستثمار المصرية السابقة داليا خورشيد. كما تزامن مع هذا، خنق جُل الأحزاب، واختراقها، وحقنها بالمشكلات المالية والإدارية، ومحاصرة حضور هذه الأحزاب وغيرها من القوى المدنية غير الحزبية في الشارع عبر القبضة الأمنية الفتاكة التي لم يكن مؤشرها الأول تلك المجازر التي واجهها الإخوان بقدر ما كان مؤشرها الأساس اغتيال الناشطة “شيماء الصباغ” أثناء تقديمها “وردة” لأحد أفراد الشرطة خلال “الذكرى الرابعة لثورة يناير”12 .

3ـ القوانين كأداوت للتدجين:

لا يمكن التغاضي عن عدة نصوص قانونية أنتجت لتحقيق هكذا غرض، أولها “قانون خنق التظاهر”، و”قانون الجمعيات الأهلية، و”قانون السلطة القضائية”، و”قانون الهيئات الإعلامية”، بالإضافة لتعديلات مواد قانون العقوبات المادة 102 والمواد من 171 حتى المادة 191 المتعلقة بتهم السب والقذف ونشر الأخبار الكاذبة، وانتهاك حرمة الحياة الخاصة وازدراء الأديان والإضرار بسمعة البلاد13 ، وغيرها من النصوص “سيئة الغاية”، بما في ذلك قرارات حجب المواقع الإعلامية ومواقع البروكسي التي تمكن من تجاوز حجب المواقع الإعلامية.

هذه العوامل تهدف في النهاية لإشاعة اليأس في المستقبل وإمكانية التغيير. هذا اليأس يُمثل إطارا لاحتواء النخبة المدنية الديمقراطية المعارضة، ومدخلاً لتزويدها بخطاب قد لا يقضي على رؤيتها الديمقراطية بقدر ما يسبب الاضطراب في أولوياتها. ووفقا لطرح برهان غليون؛ فإن تغييب النخبة السياسية الحاكمة وإخفاء مسؤوليتها عن مركز خطاب التغيير يُمثل جوهر الاضطراب المستهدف حيال هذه النخبة. وكما صرحت الراوية في فيلم “The Usual Suspects ” “من أعظم خدع الشيطان تمكنه من إقناع العالم بأنه غير موجود”14 .

ثالثاً: الاصطفاف السياسي وحده لا يكفي

كان طبيعيا مع انتشار الجهل، واعتماد إدارة 3 يوليو على الأميين وأشباه المتعلمين كمصدر لصورة “الرضاء الشعبي” عن مشروع 3 يوليو، كان طبيعيا أن تتجه نخبة يناير لاعتبار “معركة الوعي” أهم معارك “تحرير الوطن”. وفي هذا الإطار، منعت إدارة 3 يوليو خصومها من “نخبة يناير” من أدوات هذه المعركة، حتى ظهرت أدوات الإعلام في تركيا ولندن وقطر وحتى مصر، بتياراتها وخطاباتها المختلفة، وتواصلت معركة التشويش والحجب والالتفاف حولها في محاولة للحفاظ على بقية عقل، ومنع اتساع مسخ العقل المصري. وأدت هذه الأدوات لمشروعات تجسير للفجوة بين “نخبة يناير”. لكن عملية المواجهة سرمدية الديناميكية والتطور. ومع تأسيس إدارة 3 يوليو للمعركة الانقلابية على أرضية التحكم في أدوات صناعة الوعي والوجدان ومنعها عن “سارقي هوية الوطن باسم الديمقراطية”؛ بحسب تعبير رأس إدارة 3 يوليو، فإن التطورات الإعلامية بصورة خاصة اقتضت نقل المعركة لمستوى جديد قوامه “فرق تسد”.

ختاماً:

يمكن القول بأن جهود المقاومة السلمية قد حققت نتائج ليست بالهينة، بالرغم من رعب “مجازر الإخوان” وبشاعة “اغتيال شيماء الصباغ”، وجهود “الإخصاء الأمني للشارع المصري”، كما حققت نتائج رائعة فيما يتعلق بامتلاك وسائل الإعلام وتطوير محتواها وخطابها، كما خطت خطوات مشهودة كذلك في مجال إنتاج “مراكز التفكير”. لكن أقل المساحات إنتاجا للتراكم تلكم المساحات الخاصة بتجاوز الاصطفاف السياسي لصالح إنتاج ثوابت ثقافية وطنية تحول دون إعادة إنتاج “مشروع الخوف المباركي”. وفي تقدير الكاتب؛ هذا المشروع، “مشروع مواجهة الاستقطاب الثقافي” جدير بأن يكون مساراً رابعاً من مسارات “تمكين الأمة”15 .


الهامش

1 وسام عبد العليم، حدد فيها منهاج عمله للفترة الرئاسية الجديدة.. نص كلمة الرئيس السيسي أمام النواب، موقع صحيفة الأهرام المصرية، 2 يونيو 2018. الرابط

2 سارة المصري، الإعلام المصري.. استقلالية منقوصة ومهنية معيبة؛ ورقة عن مفهوم الاستقلالية وواقعها في الإعلام المصري بعد 30 يونيو، القاهرة، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ص: 20.

3 أحمد سعيد حسانين، «الصحفيين» تعترض على 11 مادة بقانون تنظيم الصحافة والإعلام، موقع صحيفة التحرير المصرية، 22 يونيو 2018. الرابط

4 أحمد مهران، خطة تطوير التعليم المصري.. تفاصيل ومعلومات، موقع “سكاي نيوز عربية”، 6 مايو 2018. الرابط

5 محمد عبد الجليل، بالمستندات.. فضيحة الاستيلاء على المال العام تُزلزل «الإسكان»، موقع “صحيفة التحرير المصرية”، 9 يونيو 2015. الرابط

6 وسام فؤاد، الانتخابات الرئاسية المصرية.. خلافات بمذاق التعافي، موقع “صحيفة العربي الجديد” اللندنية، 9 أغسطس 2017. الرابط

7 Asef Bayat, What is Post Islamism?, ISIM Review 16, Autumn 2005.  الرابط

8 سمير العركي، الإسلاميون والخروج من أسر “التنظيم”، موقع “الجزيرة مباشر”، 18‏ أبريل 2016. الرابط

9 المحرر، لهذه الأسباب.. ذهب الناس لإعلام الإخوان، موقع “صحيفة المصريون”، 21 فبراير 2018. الرابط

10 لمزيد تفاصيل عن رؤية بروفيسور برهان غليون، يمكن مراجعة المرجع: برهان غليون، المحنة العربية.. الدولة ضد الأمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، سبتمبر 2015، ط: 4.

11 ناصر عراق، القبض فجرًا على صلاح دياب.. عودة دولة الخوف!، موقع صحيفة “التحرير” المصرية، 9 نوفمبر 2015. الرابط

12 أحمد الشمسي، من هي شيماء الصباغ؟.. الوردة اللي “ماتت” في جناين مصر، موقع مصراوي، 24 يناير 2015.

13 محمد عبد الرازق، “فيس بوك قد يقودك للسجن”.. تعرف على القواعد القانونية للنشر بمواقع التواصل، موقع “صحيفة اليوم السابع” المصرية، 12 يناير 2017. الرابط

14 فيلم “The Usual Suspects “: هو فيلم جريمة أمريكي من إخراج براين سينجر وكتابة كريستوفر ماك كويري ومن بطولة كيفين سبيسي وبينيشيو ديل تورو وجابريل بيرن وبيتي بوستليتوايت، وحصل على جائزتي أوسكار لأفضل سيناريو أصلي، وأفضل ممثل مساعد للممثل كيفين سبيسي. (الصفحة الرسمية للفيلم على شبكة فيسبوك)

15 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close