fbpx
قلم وميدان

انقلاب بتركيا أم إنقلاب بالعالم؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

تناول الكثيرون التحليلات والتأويلات السياسية للانقلاب الفاشل بتركيا على مستوى البيئة السياسية التركية، وتداعياته على البيئة السياسية المصرية، بشكل مباشر لتماثل الحدث الانقلابي بين الدولتين، ولكن لم يتحدث إلا ما ندر عن تداعيات هذا الانقلاب الفاشل على الساحة العالمية والإقليمية، أو بعبارة أخرى عن التحولات الكبرى والجذرية فى المشهد الجيوستراتيجى للمنطقة برمتها والعالم بأسره جراء هذا الحدث الجلل؟

تكشف الخبرات التاريخية أمام دارسي العلوم السياسية أن معظم التحولات الكبرى تبدأ بمجرد حدث عابر، فلم يكن يعلم الطالب الصربى “غافريلو برينسيب” حين ضرب برصاصاته صدر ولى عهد النمسا “فرانز فرديناند” وزوجته فى يونيو/ حزيران 1914، أن هذه الرصاصات ستكون رصاصة الانطلاق لحرب دامت خمسة أعوام وراح ضحيتها قرابة العشرة مليون شخص، وتغير على إثرها شكل العالم كله بسبب الثورات التى اجتاحت معظم دول العالم والتى كانت أحد تجلياتها. ولم يكن يعلم أيضا بوعزيزى وهو يحرق نفسه في مدينة تونسية صغيرة أن النار التى أحرق بها جسده ستتمدد لتحرق عروش أنظمة دامت سنينا وعقودا، ولم يظن أحد يوما أن شيئا قادرا على إزالة عروشهم إلا الموت.

إن حدثا كـ “انقلاب” يفشل فى تركيا له تداعيات وانعكاسات وتجليات كبرى وجذرية من شأنها أن تغير الواقع السياسيى والاجتماعى والجغرافي كذلك فى المنطقة. ويجب أن يؤخذ هذا الحدث على أنه من الأحداث التى نسميها فى عالم السياسة ” IPO events أى الأحداث التى يتغير على إثرها المنحنى السياسي تماما، فالزمان والمكان بعده سيكون مغايرا تماما لما قبله.

والسؤال الآن .. لماذا؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نفهم باختصار أولا “تركيا” وواقعها الجغرافي وأهميتها الجيوستراتيجية، وتاريخها السياسي.

أولاً: تركيا جيوستراتيجيا:

“لو أن العالم كله دولة واحدة لكانت عاصمتها هي القسطنطينية”، كلمة قالها نابليون توضح أهمية جغرافية تلك الدولة ومدى قدرتها على اللعب فى المعادلات السياسية بالعالم بحكم “فقط” موقعها. فتركيا عمل الغرب طوال القرون الثلاثة الماضية على جعلها حائط الصد الدفاعى تجاه توسع روسيا نحو الغرب، وروسيا تراها كذلك نافذتها نحو الغرب والعالم والشريان التجارى والإقتصادى لدوله، وبحكم الدين الإسلامى الذي يدين به الشعب التركى فإن أواصر انتمائها الروحى والوجدانى متجهاً إلى العرب وبلاد الشرق الأوسط، فهى بذلك بوابة الغرب والشرق للعرب والمسلمين فى الشرق، وفى الوقت نفسه الحائط المنيع بين القوتين العُظمتين فى العالم حينذاك، الاتحاد السوفيتى وبلاد الروس والغرب، وكذلك فهى تُعتبر جسر العرب والمسلمين إلى بلاد الغرب بحكم هيمنة الترك على مقاليد الحكم ببلاد العرب دهورا، وكذلك كونهم مسلمين مما يجعل هويتهم وثقافتهم على مساس حقيقي ببلاد العرب والاسلام.

هكذا تركيا منذ القدم، وأذكر أننى قلت لأحد الساسة الأتراك أن سياسة “تصفير المشاكل” التى يتبعها الحزب الحاكم فى تركيا، فى تعاطيه لقضايا الدولة الخارجية، لن يسمح الواقع للدولة التركية بانتهاجها طويلا أو قصيرا بحكم جغرافية تلك الدولة الحرجة والمؤثرة والخطيرة فى الوقت نفسه.

ودولة كتركيا تقع فى تلك المساحة الحرجة من الأرض ولديها الموارد البشرية الكبيرة والمؤهلة والمتنوعة الأعراق والأجناس، ولديها كذلك التاريخ والعمق الثقافى، إضافة على كونها صاحبة تجربة نهضة رائدة بقيادة حزب العدالة والتنمية، تلك النهضة التى مكنتها من أن تكون رقما صعبا فى أى معادلة إقليمية يستحيل تجاوزه، وطورت من خلالها منظومة دفاعية فريدة، وجعلت اقتصادها من مصاف اقتصاديات الدول بالعالم، وبدأت بتوطين البحث العلمى، كل هذه المحددات، تجعل التغيرات التى تحدث على ساحتها تؤثر تأثيرا كبيرا ومتصاعدا على المنطقة كلها بأبلغ التاثيرات والإرتدادات.

ثانياً: تركيا وتاريخها العسكرى والإنقلابي:

إن العسكر فى تركيا يعتبر نفسه حامى الدولة ومؤسسها، وهو الذي قام بخمسة انقلابات منذ تأسيس تركيا الحديث ولم يخفق فى أى منها إلا محاولة انقلاب عام 2009 والتى لم تكن ترقى لكونها محاولة حقيقية بعد، فقد أجهضت فى مهدها، واذا استغل أردوغان وحزبه فشل انقلاب 2016 والذي يملك من خلاله الغطاء الشعبي والسياق التبريرى لأى أفعال تطهيرية وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية بما يجعله خادما للدولة وليس مالكا لها، ويعمل على إعادة توازنات القوة بحيث يجهض فكرة الانقلابات للأبد، وهو يملك القوة أن يفعل ذلك ويُحوِّل النصر إلى نصر مُظفر، فهو بذلك يطوى مرحلة من تاريخ تركيا السياسي ويبدأ مرحلة جديدة يؤسس بها جمهورية تركيا الجديدة.

وعلى هذا فإن التحول الدراماتيكى جراء الانقلاب الفاشل فى تركيا لن يكون إلا انقلابا ناجحا فى المنطقة والعالم، ومن يدرى فربما يتغير على إثره شكل العالم. وكما قلت سيعتمد ذلك على مدى قدرة القيادة السياسية التركية من التغيير الجذري والبنيوى والعضوى فى الدولة التركية ووضع المؤسسة العسكرية فيها، وسيعتمد أيضا على ردود أفعال الغرب وخططهم البديلة.

ماذا سيفعل الغرب؟

الغرب هو الخصم الأزلى لهذه الأمة، تُشير كل المؤشرات إلى أن الغرب كان يعلم بالإنقلاب وكان سيرحب به فور نجاحه، والصدمة التى باتت واضحة فى تصريحات القادة الغربيين منذ اللحظات الأولى، تشير جميعها إلى أن الانقلاب كان مرغوباً فيه من الغرب على الحد الأدنى، إن لم يكونوا هم صانعيه في الحقيقة. إن الغرب الذى خسر خلاياه الإستخبارية فى مؤسسات الدولة وخسر كذلك نفوذه المعلوماتى والاستخبارى فى الدولة التركية ومؤسساتها بنسبة كبيرة، وفى الوقت ذاته يجد نفسه واقفا أمام زعيم صاحب كاريزما وتزداد حدته الإيديلوجية يوما بعد يوم، وينادى بتطهير وتأسيس جيشٍ يسميه علنا بـ “جيش محمد” إشارة إلى جيش الدولة العثمانية الذي أذاق الغرب ويلات الهزيمة، وهو يملك ودولته مقومات الريادة والنفوذ، كل هذا يجعل الغرب ينظر لتلك المعركة نفس النظرة التى نظر بها إلى الألمان فى الحرب العالمية الأولى حين ملكوا اسطول البوارج البحرية وأقاموا على إثرها حربا عالمية كبرى.

لن يقف الغرب مكتوف الأيدى مع رجل يُعتبر زعيما لعرق من أخطر الأعراق على الإطلاق بعد العرب وهو عرق ” الترك” الذي يبلغ تعدادهم نحو 400 مليون شخص وكلهم مسلمون، ومن وجهة نظرى سيفعل الغرب خططا لأفشال التجربة التجربة الوليدة من خلال:

1ـ اشعال الأطراف: أى اشغال “جيش محمد” فى حروب دامية دفاعاً عن حدود الدولة، فى حرب استنزاف ضارية يدعمها الغرب بشكل مباشر، وهذا الملف جاهز من خلال تسليح منظمة PKK بسلاح نوعى مضاد للطائرات وقاذفات صواريخ طويلة المدى، يُضعف من خلاله جيش محمد الجديد ويجعلهم فى حالة استنفار وانهاك مستمر.

2ـ الحصار الإقتصادى: من خلال استهداف الاقتصاد التركي بحزمة من العمليات الأمنية المحترفة فى قلب الدولة وأماكنها السياحية والحيوية، مما يجهز على اقتصاد الدولة التركية المعتمد بشكل اساسي على السياحة.

3ـ العزلة السياسية: محاولة عزل تركيا سيً من حلفائها، وذلك من خلال وقف مفاوضات الانضمام للإتحاد الأوروبى، والتهديد بورقة حلف الناتو، وجذب الدول الصغيرة لتركيا وحثها على العصيان السياسي، كجورجيا واليونان. وتأجيج عزلتها السياسية مع الأنظمة العربية على إثر ثورات الربيع العربي وموقف تركيا منها.

وسيستمر الغرب في تبني هذه الاستراتيجيات الثلاثة لسنتين أو ثلاثة، لحين إعادة بناء خلاياه فى الدولة التركية، وتكون حينئذ الدولة التركية فى أضعف حالاتها بسبب ما أُنهكت فيه من حروب على حدودها وعمليات أمنية شبه يومية، وعندها يعيد تنفيذ عملية “إطاحة” محترفة مسبوقة بعزله شعبية وعملية إغتيال لأردوغان، محاطا كل هذا بخداع استراتيجى يحترف الأمريكان فى صنعه.

ولن يقف أردوغان ” الرجل المخضرم ” مكتوف الأيدى، فسيعمل هو أيضا على تفادى تلك الضربات بهجوم مسبق يزيد من الوضع اشتعالا، وربما تكون ساحته سوريا أو إقليم كردستان أو كليهما، وهو له أنصاره فى كليهما، فتبدأ حربا باردة مع الغرب وحربا عسكرية في سوريا، تنهار بالأولى القواعد العسكرية الغربية بتركيا ويقف التطبيع مع الكيان الصهيونى، ويدخل بالثانية حربا عسكرية هجومية على مناطق نفوذ روسيا بالمنطقة وخاصة في سوريا، ويزداد الوضع تفاقما حين تزداد معها حالة السيولة فى منطقة الشرق الأوسط بدخول لاعب ثقيل كتركيا بشكل فاعل، مما يعيد جولة من جولات الربيع العربي وتكون هذه المرة أكثر دموية وشراسة، وتنهار معها الدولة المركزية تماما لكثير من العواصم وتتبدل معها الأدوار والأشكال وتتهدد صراحة المصالح الغربية بالمنطقة، وتصبح حربا عالمية ثالثة بمعنى الكلمة.

خلاصة:

لا أبالغ حين أقول أن طوق نجاة تركيا يكمن فى القاهرة، فإن كانت هناك ثورة حقيقية فى مصر فإنها ستجعل لتركيا عُمقا استراتيجياً مؤثراً بوجود حليف قوى بوزن وحجم دولة كـ “مصر”، يلعبان مع هذا الخصم اللدود لعبة “السيف والدرع” معا جنبا إلى جنب، وحينها لن يُحقق الغرب في البلدين ضرراً إستراتيجيًا أو وجودياً، بل يمكن أن يُساهم هذا التحالف في انحسار مشروع الهيمنة الغربية لحد التلاشي والإندثار (1).

—————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close