fbpx
قلم وميدان

بعد 4 سنوات: رابعة الألم والأمل

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

هل يمكن أن يماري أحد له قلب في أنَّ رابعة جرح غائر في ضمير الأمَّة وألم نافذ في صدرها ؟! كذلك -وبنفس الدرجة في القطع واليقين -لا يمكن أن يشكك أحد له عقل في أنَّها منصَّة انطلاق إلى الآمال المنشودة! فهي ألم وأمل، وأَلَمُها يغذي الأملَ المرجوَّ منها، وتَجَدُّدُ الأمل يجدد الألم ويوقظه من مضجعه؛ لتمضي المسيرة بين ألم موجع وأمل باعث، ولله في أحداث الحياة شئون ملؤها الحكمة؛ (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) .

وأشد ما يؤلم في رابعة ليس المجزرة على بشاعتها وقسوتها؛ فقد كانت – رغم ما خلفته من أوجاع – معراجاً للشهداء، الذين قدموا بدمائهم الزكَّية عربون النصر المنشود لهذه الأمَّة، فاتخاذ الله للشهداء يكون دائماً مقدمة لمحق الكافرين، قال تعالى في التعقيب على مصاب أحد: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)، وليس الهزيمة – على قسوتها وعنفها – فالأيامُ دُوَلٌ: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)؛ وما أصابنا اليوم سيصيب عدونا غداً، لا ريب في ذلك، وليس التضييع الكامل للمكتسبات ولا التراجع التام عن المنجزات، على ضخامة ما ضاع وتبدد وذهب أدراج رياح الفتنة.

وإنَّما الألم الأشد -على وجه التحديد -هو أنَّ ما جرى في رابعة حصاد أخطاء جمَّة، ترتقي في كمِّها ونوعها إلى مستوى الخطايا؛ لكونها لم تنحصر في دائرة الأخطاء الاجتهادية أو (التكتيكية) وإنما تجاوزت ذلك إلى ما يتعلق بالمنهج الذي ارتضاه الله لنا، وأناط به النصر والعزّ والتمكين .

إنَّ أشدَّ ما يؤلمنا أنَّ خطايانا وذنوبنا السياسية هي السبب الأول والأكبر لما نحن فيه الآن من نكبات، وتكفي إطلالة سريعة على بعض الآيات من كتاب الله تبارك وتعالى لإثبات خطورة الذنوب السياسية على حياة الأمة، ففي سورة الأنفال -على سبيل المثال – يأتي هذا الوعيد الحقيقي الغائم في سحابة هائلة من العتاب والتأنيب: (ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريد عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) هذا برغم أنَّ ما جرى لم يرق لمستوى الذنوب والمخالفات المنهجية، وأنَّ الخطاب جاء في سياق التصويب لاجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم في تدبير الشأن العام .

وبرغم أنَّ الاجتهاد الخاطئ مغفور؛ مما يترتب عليه – حسب قوانين الشريعة العادلة – ألا يؤاخذ عليه المخطئ في الآخرة، بل قد يؤجر عليه ما لم يكن اجتهاده متلبساً بهوى، إلا أنّ آثاره المترتبة عليها في الدنيا تكون حتمية؛ وذلك إعمالاً للسنن الإلهية العادلة، وهي سنن لا تتغير ولا تتبدل ولا تحابي أحداً ولو كان من أولياء الله تعالى (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)، ولقد كان الذهاب إلى افتداء الأسرى خطأً اجتهادياً مغفوراً للصحابة الكرام، ولكن آثاره الدنيوية لم تحلَّ بهم، ولولا كتاب من الله سبق لحلَّت بهم حسب سنَّة الله، ولوقع بالأمة في يومها ذاك نكبة كبيرة؛ بما أخذت من أموال مقابل إطلاق سراح أسرى مجرمين، كان من الأولى أن تكسر شوكة الكفر بقتلهم، (لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .

ولا ريب أنَّنا نعرف أخطاءنا وذنوبنا، فلنتب إلى الله منها سريعاً؛ لنتأهب ونتأهل للأمل الذي ينبعث من الروائح الزكية لدماء الشهداء، فلقد كانت رابعة أملاً واعداً، وسوف تظل بما قدمته للأمَّة أملاً باعثاً، وإذا أردنا أن نفهم ذلك فعلينا أولاً أن نصحح النظر إلى رابعة: كيف كانت في سياق الثورة والتغيير .

إنَّ رابعة لم تكن ميدان حسم يناط به إنهاء الصراع وإقرار النَّصر، وإنَّما كانت في حقيقتها منصة انطلاق إلى طريق النصر والتمكين، ولقد قامت بدورها على أكمل وجه وأحسنه، فما صنعته رابعة هو عين ما أنيط بها: صناعة المنصة، هذه المنصة تتمثل في أمرين اثنين، الأول: النواة الصلبة التي يناط بها التغيير الحقيقيّ، هذه النواة الصلبة هي التي افتقدتها ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث توافرت فيها الكتلة الحرجة دون أن تتوسطها النواة الصلبة، فكانت ثورةَ اللحظة الخاطفة، ولو كانت تلك الكتلة الحرجة مشدودة إلى نواة صلبة تتوسطها، ومقودة بقيادة حكيمة تنتمي إلى تلك الكتلة الصلبة لما وقع ما وقع .

الأمر الثاني هو صياغة العقيدة الناصعة والرؤية الواضحة؛ فلم تعد الشعارات العظيمة طائرة في الفضاء، وإنَّما صارت كلها مشدودة إلى عقيدة هذه الأمَّة وأيديولوجيتها، وغدا الإسلام منبع الحريات الحقيقية، وغدت الشريعة مصدر العدالة الاجتماعية، وغدت نصوص الكتاب العزيز هي الباعث على الحركة والتغيير، ولم يعد الطاغوت المعادي لله صديقا لعباد الله، ولا المفسد المحارب لدين الله حليفاً لجند الله .

ولقد كان بإمكان الإسلاميين وغيرهم من الأحرار الأنقياء أن يرتبوا الأوضاع بما يفوت على المجرمين ما يرتبون له، وإذ لم يفعلوا؛ فها هو الحق تبارك وتعالى – بعد أن أذاقهم جزاء بعض ما قصروا فيه وعفا بفضله عن كثير – يعيد ترتيب الأوضاع بما يضمن لأهل الحق أن يمضوا في طريقهم على تؤدة؛ ليحققوا ما لم تحققه الموجة الأولى من الثورة، فوقع الانقلاب، ونزل الإسلاميون عن العرش المزيف إلى رابعة؛ ليبدأ المسير من جديد؛ فلتتشكل هنا المنصة، ولتتكون هنا القاعدة الصلبة، ومعها عقيدتها الصافية، هنا في رابعة، محضن الجيل الفذّ الذي سيناط به التغيير .

ولم يغب عن هذا المحضن عنصر واحد من عناصر البناء: التجميع -التصفية -الوحدة -الجماعية -التربية -التوعية – التعاهد … ولقد تجمع أهل الخير والحق والعدل من كل مكان ومن كل فصيل، اجتذبتهم رابعة بقوة الحق وسلطانه، فلم تترك منهم أحداً يحجبه عنها حاجب ماديّ أو معنويّ، كذلك نفضت رابعة بقوة النازلة وشدة الابتلاء كل من لم يتمتع بالصدق وينعم بالاستقامة، ثم طفقت تربي تربية إسلامية ميدانية مفتوحة، فتشكلت المنصة وتكونت القاعدة الصلبة على عقيدة نقية ورؤية سويَّة، وتعاهدت على التضحية وتبايعت على الموت في سبيل الله .

ولا تزال المنصة قائمة، ولا تزال قادرة على البعث، وسوف تظل مهما غشاها من المحن وغشانا من الغفلة والهوان تنتظر من ينهض لله؛ وينطلق من قاعدتها، وينبعث من رحابها؛ ليحقق للأمَّة آمالها، ويسكن لها آلامها (1).

——————————–

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close