المعهد المصري للدراسات

بوليتيكس توداي: البحث عن الأمل .. تأملات في ثورة 17 فبراير بليبيا

نشر موقع بوليتيكس توداي الأمريكي في السابع من مارس 2024 مقالاً بعنوان: “مسعى ليبيا نحو الأمل: تأملات في ثورة 17 فبراير” لفؤاد أمير سفكاتلي، الباحث المتخصص في دراسات شمال إفريقيا بمركز دراسات الشرق الأوسط (ORSAM)، حيث يقول إنه بينما يرى البعض ينظر إلى الانتفاضة التي اندلعت في السابع عشر من شهر فبراير 2011 على أنها السبب الأساسي في بيئة الصراع الموجودة حالياً، إلا أن آخرين يرون أنها كانت مسعى مبرَّر ومشروع لإقامة نظام جديد في البلاد.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

أدت الإطاحة بنظام الزعيم الليبي معمر القذافي الذي دام 42 عاماً في عام 2011، في أعقاب الانتفاضات العامة (التي اندلعت في بعض الدول العربية)، إلى إغراق ليبيا في أزمة سياسية واجتماعية وعسكرية. وحتى بعد مرور 13 عاماً، لم تحقق البلاد بعد الوحدة والنزاهة. ويعتبر البعض أن الانتفاضة، تلك التي اندلعت في 17 فبراير 2011، هي السبب الجذري لبيئة الصراع الحالية، بينما يرى البعض الآخر أنها مسعى مبرَّر ومشروع نحو إقامة نظام جديد.

معضلة الثورة

على الرغم من أن “ثورة” 17 فبراير ظهرت كحركة شعبية، إلا أن مرحلة ما بعد الثورة، لا سيّما بعد مرور عامين، مع سن “قانون العزل السياسي” الذي همش الجنود والبيروقراطيين السابقين في عهد القذافي من المشهد السياسي، ومن ثم الجيش، إلا أن الاستقطاب الذي شهده عام 2014 يشير إلى أن الثورة قد تم استغلالها من قبل بعض الزمر السياسية والعسكرية في الصراع على السلطة.

ويكشف هذا السيناريو والتدفق التاريخي الممتد حتى يومنا هذا أن الجماهير، التي كانت تتطلع إلى ظروف معيشية أفضل ونموذج حكم أكثر عدالة، قد تخلت عن الإحكام على الثورة لصالح النخب السياسية في البلاد. وأدى المناخ الأمني الهش والمتشظّي، الذي اعتبرته الجماعات القبلية والميليشياوية النشطة في الشرق والغرب، بمثابة فرصة سانحة، إلى انقسامات واستقطابات عميقة بين مختلف القطاعات، نشأت من خلال خطابات وسياسات تم تأمينها ضمن أجندات ومصالح ضيقة للجهات الفاعلة ذات الصلة.

وبمرور الوقت، تطور هذا الانقسام إلى صراع مسلح، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من الليبيين في خضم الحروب الأهلية في عامي 2014 و2019، كما وضع الأساس لظهور العداء الإقليمي ومساعي الانتقام. وعلى الرغم من كونها أكثر تجانساً عرقياً مقارنة بالعديد من الدول في الشرق الأوسط وإفريقيا، فقد شهدت الدولة الواقعة في شمال إفريقيا انقسامها الأولي بين الثوري والمناهض للثورة والذي تعمق إلى استقطاب الإسلاميين مقابل العلمانيين، والشرق مقابل الغرب، وحتى الاستقطاب بين المدينة والقرية. وكل ذلك أعاق عمليات المصالحة وإعادة بناء الدولة.

فعلى سبيل المثال، برزت مدينة مصراتة كمعقل للثورة ولصالح حركة الإخوان المسلمين الإسلامية ذات النفوذ، في حين تحولت مدينة بنغازي إلى مركز لمعارضي الثورة والجنود والبيروقراطيين السابقين في عهد القذافي، خاصة بعد صعود زعيم الميليشيا خليفة حفتر في الشرق. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أصبحت العاصمة طرابلس، إلى جانب المدن الغربية المؤثّرة مثل مصراتة والزاوية والزنتان، نقاطاً استراتيجية حيث تنخرط الجماعات المسلحة في صراع على السلطة، بهدف توسيع مناطق نفوذها وزيادة سيطرتها على المؤسسات الرسمية في البلاد خلال حقبة ما بعد الثورة.

التدخلات التخريبية من قبل الجهات الخارجية

وبالتوازي مع هذه التوازنات الداخلية، واصلت الدول الغربية داخل حلف شمال الأطلسي، والتي خطَّطت ونفَّذت ضربات جوية ضد القذافي في عام 2011، التدخل في العملية. وظلَّت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، والتي تم إنشاؤها تحت رعاية الأمم المتحدة، غير كافية من حيث توفير الأساس للحلول الدائمة والمستدامة، وبدلاً من ذلك فقد دعمت الحكومات المؤقتة واتفاقيات تقاسم السلطة المماثلة التي تم تشكيلها في عامي 2015 و2021.

والأمر الأكثر أهمية هو أن تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011، وهو أول عملية لحفظ السلام يتم تنفيذها بموجب مبدأ المسؤولية عن الحماية، أهمل مسؤولية إعادة البناء، وهي عنصر بالغ الأهمية في نهج المسؤولية عن الحماية. لقد تُركت عملية إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد القذافي للمؤسسات الليبية غير المكتملة والمجتمع الذي يفتقر إلى الشعور المتقدم بالمواطنة. وشهدت المؤتمرات الدولية اللاحقة، مثل تلك التي انعقدت في باليرمو وبرلين، اجتماعات انحرفت إلى صراع على الهيمنة، بعيداً عن السعي لحل القضايا، واتسمت بالخلافات الناجمة عن تضارب المصالح بين الدول الغربية.

وفي المقابل، حوّل فراغ السلطة وضعف الحدود، ليبيا إلى مركز للمرتزقة، ووضعها على شفا أزمات إقليمية، حيث يتجمع المقاتلون ويتم إرسالهم (إلى وجهات مختلفة). وقد تم توثيق الفترة التي قامت فيها بعض دول الخليج وشركة فاجنر العسكرية الروسية الخاصة بتمويل العديد من المقاتلين الأجانب السوريين والتشاديين والسودانيين ضمن صفوف حفتر في العديد من المصادر المفتوحة. ومن هذا المنظور، يمكن القول إن التدخلات الخارجية أضرت بوحدة ليبيا وسلامتها مثلها مثل العوامل الداخلية.

ثم عيّن منتدى الحوار السياسي الليبي، الذي انعقد تحت رعاية الأمم المتحدة في سويسرا في 5 فبراير 2021، حكومة الوحدة الوطنية بقيادة رجل الأعمال من مصراتة عبد الحميد الدبيبة، كإدارة انتقالية جديدة للبلاد تقود البلاد نحو الانتخابات المقرر إجراؤها في ديسمبر 2021. وبعد حصولها على دعم نسبي من الشخصيات المنافسة في فترة قصيرة، أعطت حكومة الوحدة الوطنية الأولوية للإصلاحات الاقتصادية والسياسية. ومع ذلك، فإن تأجيل الانتخابات المقررة بسبب الخلافات حول معايير المرشحين والمناقشات الدستورية أدى إلى انقسام أوسع، بلغ ذروته بتشكيل حكومة موازية جديدة في فبراير 2022. ويمكن تحديد التطورات التي تلت هذا التاريخ كأسباب رئيسية للصراعات التي اندلعت في طرابلس وما حولها، وإغلاق المنشآت النفطية، وما نتج عنها من أزمات اقتصادية وسياسية.

الميليشيات والسياسة الليبية

وقد مكّن هذا الوضع الحالي مجموعات الميليشيات في البلاد من التحول إلى كيانات سياسية مع مرور الوقت، والاستفادة من الامتيازات والسلطات التي راكمتها. ويوضح هذا التحول مفهوم “دبلوماسية الميليشيات” الذي يعني توزيع الحصص في المؤسسات العسكرية والسياسية. ووفقاً لهذا النهج، تهدف الميليشيات التابعة للقبائل أو المجتمع المحلي في الشرق والغرب والجنوب إلى وضع الجهات الفاعلة المتعاطفة معها في الحكومة خلال العمليات الانتقالية.

إن الانحراف عن هذا السيناريو لا يشكك في شرعية الهيكل الجديد في نظر هذه الجماعات فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى مساعي محتملة لزعزعة الاستقرار. ويرى العديد من المحللين الذين يركزون على ليبيا أن الميليشيات، التي تم دمجها في وزارة الداخلية، ووزارة الدفاع، والمجلس الرئاسي منذ عام 2011، أصبحت “ضمن مؤسسات الدولة”، معتبرين ذلك عائقاً كبيراً أمام العمليات الديمقراطية.

ومن الممكن حالياً مناقشة بعض المبادرات المتعلقة بإعادة تنظيم انتخابات ديسمبر 2021 التي تم إلغاؤها. وإلى جانب الآليات التي تضم جهات فاعلة محلية ودولية بقيادة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ينبغي إعطاء الأولوية لبرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. فليبيا الموحدة تتطلب مؤسسات موحدة، والأهم من ذلك، جيشاً موحداً. وفي هذه المرحلة، يشير كل من ما يسمى بـ “الجيش الوطني الليبي”، الذي يتألف من قوات حفتر في الشرق، والبيروقراطية الأمنية المتشظّية في غرب البلاد، إلى مشاكل مزمنة في المستقبل.

وبعد توقف المنافسة العسكرية في الميدان، سيتم إرساء الأرضية الدستورية اللازمة. وبمعنى آخر، قد تكون عمليات الحوار الوطني وإعادة الإعمار مؤلمة، لكن تحوُّل الانقسام إلى صراعات مسلحة خلال مراحل الجمود ينهي تماماً الاهتمامات والتوقعات المجتمعية، وبالتالي يبطل المحاولات الديمقراطية.

وعلى الرغم من أن ثورة 17 فبراير قد ظهرت كامتداد للربيع العربي الذي كان له تأثير الدومينو في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا أنها تطورت مع مرور الوقت وفقاً للديناميكيات المحلية والدولية. وفي نهاية المطاف، استخدمت النخب السياسية الثورة كوسيلة لتعبئة الجماهير من أجل الوصول إلى السلطة. وبهذا المعنى، فإن عام 2024 يتوافق مع فترة تتميز بارتفاع التوقعات والإجماع على ضرورة إحراز تقدم في النضالات السياسية من خلال انتخابات قائمة على الشعب ومن أجله، ومستنيرة كذلك بالتجارب السلبية السابقة.

Exit mobile version