تحليل الخطاب السّياسي ما يجب أن يكون
ربطت الموسوعة العالميّة بين الكلمة الإنجليزيّة discourse وبين الكلمة اللاّتينيّة discursus التي كانت تعني “جرى هنا وهناك” المأخوذة من الفعل اللاّتيني discurrere، وهو ربط يفيد أنّ الخطاب “يجري” من متكلّم إلى سامع أو قارئ. وإذا ما عُدنا إلى المعاجم نجد قاموس روبار Robert الفرنسيّ يعرّف الخطاب بكونه: حواراً أو محادثة، خطبة شفويّة أمام جمع من النّاس، كتابة أدبيّة تعالج موضوعًا بطريقة منهجيّة، التّعبير الشّفويّ على الفكر، الكلام وقد يعني ملفوظا لغويّا قابلا للملاحظة.
وقد جعل أهل البلاغة للخطاب أركاناً خمسة تتمثّل في الآتي:
1ـ طرفا الخطاب: باثٌّ (مرسل) وهو الذي يُنتج الخطابَ، ثم متقبّل وهو الذي يتلقّى الخطاب.
2ـ اللّغة: وهي لغة مشتركة بين الباثّ والمتقبّل.
3ـ قناة التواصل: وتختلف باختلاف طريقة التخاطب كالهواء والحوامل المرئيّة أو المقروءة.
4ـ المضمون: الرّسالة التي يوجّهها الباثُّ إلى المتقبّل.
5ـ المقام: وهو جملة العناصر المتّصلة بعمليّة التّخاطب، فله عناصر تكوّنه تتمثّل في حالة الباثُّ، وحالة المتلقي، وعلاقة الباثٌ بالمتلقّي ومكان الخطاب وزمانه، وقد أشار شارودو1 إلى هذه المسألة فبيّن أنّ الخطاب منتوجٌ خاصٌّ يرتبط بمتكلّم خاصّ وبظروف إنتاج خاصّة.
وبهذا يكون الخطابُ نتاجا لإدراج النّص في سياقه، ومجالا لربط الدّلالة بالإحالة، وربط الخطاب بالتلفّظ وبالسّياق التواصلي. فعلى منشئ الخطاب إذن أن يضع في الاعتبار جميع تلك الأركان خصوصا ما يتعلّق منها بالمقام وأن يركّز على رسالته التي يلقي خطابه لأجل إيصالها لأكبر عدد ممكن من جمهور المتلقّين متوسّلا في ذلك بلغة يجب أن يبذل ما في وسعه لجعلها مشتركة بينه وبين جمهوره وواضحة في أذهان النّاس. ويصبح هذا الأمر أكثر إلحاحا في الخطاب السّياسيّ. إنّه خطاب حسّاسٌ ومحلّ اهتمام من قبل مناصري المتكلّم ومنافسيه إذ يبحث الأوائل على إجابات لتساؤلات وطمأنة لهم على حسن اختيارهم له، ويبحث المنافسون عن مواضع الزّلل لتوظيفها ضدّ خصمهم السّياسيّ.
صفات القائم بالاتصال (المرسل):
أمام الصفات التي يتسم بها الخطاب السياسي فإنه يفرض على الباثّ (المرسل) أن يكتسب جملة من الصّفات التي من شأنها أن تحقّق له النّجاح المرجو من خطابه، وهي ما يُصطَلَحُ عليها في علم التواصل بالـ (7 C’s) وهي أن يكون الباثّ (المرسل):
1ـ واضحاً Clear: فينتج خطابًا واضحًا، بسيطًا، دقيقًا، لا يقبل التّأويل معتمدا على لغة تكون قريبة من المتلقّي.
2ـ مختصرا Concise: فلا يسهب في الكلام ممّا من شأنه أن يصيب السّامع بالملل والضّجر وأن يجعل الباثّ يسقط في التكرار.
3ـ واقعيّا Concrete: فيكون الخطابُ مستندا إلى وقائع وأدلّة واقعيّة وهذا ما يحقّق الإقناع.
4ـ صحيحاً Correct: فيستعمل الباثُّ ألفاظا صحيحة خالية من الأخطاء والغموض.
5ـ متماسكاً Coherent: إنّ الخطاب يعكسُ شخصيّة الباثّ وثباته، ويكشفها أمام المتلقّي، فمن الضّروري أن تكون عباراته مترابطة متناسقة متماسكة.
6ـ أن تكون رسالته كاملة Complete: فيسعى إلى تضمين خطابه الرّسالة التي أنشأ خطابه لأجلها.
7ـ أن يكون ودودًا Courteous: فيحرص الباثّ على أن يكون ودودًا، مبتسما، ليشعر المتلقّين بالطّمأنينة والارتياح له.
إنّ لهذه الشّروط دورًا في تقوية العلاقة بين الباثّ / السّياسي والمتلقّي / جمهوره، وفي توضيح الأفكار المبهمة أو المشوّشة في الأذهان. ففي حال نجاح الباثّ في الوُصُول إلى عقول مستمعيه وقلوبهم، فإنّهم يتحوّلون إلى خطّ دفاع متين يدافع عن آرائه وبرامجه ويسوّقُ لها. وكلّما كان الخطاب لصيقا بالواقع السّياسي والسوسيولوجي والنّفسي والاقتصاديّ كان أكثر نجاعة ونجاحًا في الوصول إلى الأذهان.
فالخطاب النّاجح هو ذلك الذي يتفاعل مع الواقع الذي يعيشه المتلقّون والذي يكون مسبوقاً بتخطيط جيّد، ذلك أنّ الذي يفشل في التخطيط الجيّد، فإنّما هو يخطّط للفشل خصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بالخطاب السياسيّ الذي له غاية واضحة هي التّأثير في المتلقّي وإقناعه بمحتوى الخطاب، وما لذلك من دور في تغيير النفوس والعقول والأفكار والواقع.
خطاب ما بعد الثورات
إنّ رهان الخطاب السّياسيّ الذي يؤكّد هويّة الباثّ ووضوح رسالته من شأنه أن يسهّل انخراط المتلقّي في مشروعه وتبنّي أفكاره وبرامجه، فإذا ما أثبت أنّه يحمل مشروعاً فكريّا يريد الإقناع به، وأنّه واضح الرّؤية صافي الفكرة، نجح في تفاعل المتلقّي الإيجابي معه. فهل كان الخطاب السياسي العربي مواكبا للتغيّرات الحاصلة في المجتمعات العربية ما بعد الثورات الشعبية التي بدأت في تونس ومنها انطلقت إلى معظم الدول العربية؟
لقد شهد العالم العربي هزّات سياسيّة عنيفة جعلت دولاً عديدة فيه تتحوّل إلى مسارح للإرهاب والجريمة المنظّمة والانفلات الأمني الكبير، فالعراق ما زال يعاني حروب الطائفيّة والمذهبيّة واستهداف ما يعرف بتنظيم الدّولة له، وسوريا تحيا حربا أهليّة مدمّرة لازالت تتسبّب في قتل عشرات الآلاف وتهجير عشرات آلاف آخرين، واليمن أضحى ساحة حرب لقوى خارجيّة يدفع ثمنها شعب فقير أعزل، ومصر تعاني من تزايد الفقر خصوصا بعد الانهيار المدوّي للجنيه أمام الدّولار، وتونس تعرف تفاقماً لديونها الخارجيّة التي تهدّد استقلال البلاد، بجانب مشاكل اجتماعيّة متزايدة واستهدافا إرهابيّا يتربّص بها بين الحين والحين، والقبائل في ليبيا تتناحر وتسفك دماء بعضها البعض إضافة إلى استهداف الإرهاب لها، والمواطن العربي في كلّ تلك الدّول تائه بين واقع محبط ومستقبل غامض الملامح، متعطّش لخطاب سياسيّ يُبشّر بأسس جديدة تُبنى عليها الدّول، وينعم بنتائجها وتمنعه من الشّعور بالإحباط وتمنّي عودة ماض كان بالنسبة إليه أرحم من الواقع، لكنّ الخطاب المنتَظَر لم يأت، ولم يكن السياسيّون في الموعد مع اللّحظة التّاريخيّة.
لقد ظلّوا يندّدون بالظلاميّات وبفشل السياسات السابقة في شتّى المجالات، وبالتفاوت بين مناطق الدّولة الواحدة، وبالفساد الذي أنتج هذا الواقع، لكنّه خطابهم في عمومه كان متعالياً عن الواقع، بعيدا عن عقول الجماهير، لذلك لم تتلقّفه هذه الجماهير، ولم يوفّق أيّ اتجاه في تحقيق التّأثير المرجوّ وفي تبنّي المُخَاطَبين لرسالته، وهذا مفهوم، فمادامت الرسالة مُشوّشة في ذهن قائلها، فما من سبيل لإيصالها إلى مستمعيه. وما دامت اللّغة متعالية على الجماهير غير متّصلة بواقعهم فما من أمل لتحقيق الاتّصال والتّواصل والتّأثّر والتأثير.
خطوات إجرائية:
إنّ جميع الأطياف السياسيّة العربية مدعوّة اليوم إلى مراجعة خطاباتها بكلّ أركانها حتّى تتصالح مع الجماهير وتفلح في إعادة روح الأمل إليها بعد أن كدّرت المشاكل الأمنيّة والاجتماعية والاقتصاديّة النّفوس وأصابتها بالإحباط وحتّى تعيد صياغة مشاريعها وفق رؤى واقعيّة مستندة إلى المستجدّات الحاصلة على جميع المستويات، وهذا يفرض على صانعي الخطاب السياسي مراعاة عدة خطوات إجرائية لعل في مقدمتها:
1ـ وضع خطط واقعية وجذّابة من خلال السعي إلى إشراك الكفاءات في اتخاذ القرار، شرط أن تنتمي تلك الكفاءات إلى ميادين مختلفة كعلم الاجتماع والاقتصاد والقانون وعلم النفس وعلم التواصل واللسانيات والفنون، فكلما اتّسعت دائرة الاستشارة لتضمّ مختصين متنوّعين، كانت أكثر التحاما بقضايا الواقع، وأقدر على مجابهتها وإيجاد الخطط الكفيلة بحلّها، فيبتعد الخطاب السياسي عن الحديث عمّا يعارضه إلى الحديث بجدّية عمّا يعتزم تحقيقه وفق رؤية واضحة المعالم.
2ـ تكثيف الزيارات الميدانية إلى مختلف المناطق، والالتحام بالشعب وعقد لقاءات دورية للتشاور وطرح المشكلات الوطنية على طاولة النقاش؛ فيكون الخطاب السياسي حينئذ نابعاً فعلاً من عُمق الشعب، وقادراً على كسب ثقته وإشعاره بأنه عنصر فاعل في بلورة الخطاب، مما يجعل اللغة بين الطرفين مشتركة فعلاً.
3ـ صياغة برامج واضحة تُلبي حاجات المواطنين وتبني ثقتهم في السياسيي، وتبعد عنهم فكرة أنهم مجرّد أدوات يلجأ إليها السياسي لكسب رهان الانتخابات، ثم ينساها ليعود إليها في المحطات الانتخابية القادمة.
4ـ الاستعانة بوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي للوصول إلى الناس وتكريس الخطاب الإعلامي من خلال العمل الميداني ممثلا في الجمعيات والمنظّمات وصولا إلى إقامة روابط حقيقية مع الجمهور.
5ـ ضرورة مراجعة” الوصفات السياسيّة الجاهزة” التي غالبا ما يتواتر ذكرها عند الإسلاميين والاشتراكيين والقوميين وغيرهم من الأحزاب الأيديولوجية، فتبدو أقرب إلى الشعارات المتعالية على الواقع ومخرجاته.
6ـ صياغة خطابات بعيدة عن تكريس تقسيم أبناء الشعب الواحد؛ واستبدالها بخطاب توافقي يتبنى قيم التسامح ويقرّ بالحق في الاختلاف والتعدّد والتنوع وبدعم قيم المواطنة.
7ـ تكثيف منابر الحوار مع جميع الأطياف السياسية تتدارس مستجدات الساحة الوطنية على كافة الأصعدة.
إننا لا ندعي أن ما ذكرناه يُحصي كل الطرائق التي من شأنها أن تجوّد الخطاب السياسي العربي، ولكنها نقاط نراها جوهرية وضرورية في الوقت الراهن من أحل الخروج بالخطاب السياسي من النمطية ومن اللغة الخشبية إلى رحاب الواقع، في لغة تلامس قضايا الواقع وتسعى إلى إيحاد حلول حقيقية لها (2).
———————————-
الهامش
(1) باتريك شارودو، أستاذ علوم الخطاب في جامعة باريس 13.
Charaudeau P. La critique cinématographique : faire voir et faire parler, Paris 1998 P. 69.
(2) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.