أوروبا وأمريكادراسات

ترامب  2.0 – بين العواصف الداخلية والمواجهات الخارجية – رئيس منفلت أم نظام عالمي جديد؟


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


مقدمة:

شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في 5 نوفمبر 2024، حدثاً سياسياً بارزاً، بانتخاب الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب رئيساً للمرة الثانية، بعد فوزه على منافسته من الحزب الديمقراطي كامالا هاريس، الفوز الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض بعد غياب دام أربع سنوات، ليصبح بذلك أول رئيس أمريكي يُنتخب لفترتين غير متتاليتين منذ عام 1892. 

وكانت الفترة الأولى للرئيس ترامب (2017-2021)، فيما يتعلق باهتماماتنا في المنطقة، قد تميّزت بسياسات خارجية أثرت بعمق على منطقة الشرق الأوسط، بشكل أكبر من تأثيراتها على الساحة العالمية، ومن بينها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، وتوقيع الاتفاقات الإبراهيمية، وطرح موضوع صفقة القرن التي تم تبنيها في البيت الأبيض في شهر  يناير -كانون الثاني من 2020، والتي تعطي إسرائيل، من بين ما تعطي، أكثر من 30% من الضفة الغربية، فضلاً عن الاعتراف بالضم الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية المحتلة. إضافة إلى الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.

وبعودة ترامب إلى السلطة، تثار تساؤلات جدية حول توجهاته الجديدة تجاه العالم، بما فيها قضايا منطقة الشرق الأوسط، وكيفية تأثير سياساته الداخلية والصراعات التي فتحها داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، وكذلك التوازنات الإقليمية والدولية، على توجهات السياسات الخارجية، ومن ثمَّ على مجمل النظام العالمي.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل سياسات ترامب المتوقعة، من وجهة نظرنا، في ولايته الثانية، واستشراف التداعيات المحتملة لذلك على الصراعات القائمة، والتحالفات الإقليمية والدولية والملفات الساخنة، انطلاقاً من أن أحد العوامل الهامة المؤثرة في السياسات الخارجية الجديدة تتمثل في الصراعات الداخلية، والتي بدأت بالفعل، في الولايات المتحدة.

 نحن نرى أن هذه الصراعات ستؤثر كثيرا على السياسات الخارجية، حيث أنها، ليست فقط نتيجة سياسات طائشة لرئيس منفلت ذو ميول أوتوقراطية، ولكنها تعكس تدافعاً كبيرا بين مجموعة يمينية محافظة جديدة، ذات أصول ومشارب مختلفة، تتخذ من ترامب رمزاً لها، وتهدف إلى اقتناص السيطرة على القرار في الولايات المتحدة، داخلياً وخارجياً، بما لها من مراكز مختلفة للنفوذ، في مقابل المجموعة ذات التوجه الليبرالي العولمي Globalist، التي تمثل “المؤسسة” التقليدية صاحبة القرار في أمريكا لعقود خلت، على النحو الذي سنعرضه في هذه الدراسة، وهو ما يساهم في فهم التوجهات المستقبلية لأمريكا، ليس فقط في منطقتنا، ولكن في العالم أجمع، و كذلك فهم كيف ستسرع هذه التطورات بتراجع النفوذ الأمريكي الإمبراطوري في العالم، ومن ثمّ بنشوء نظام عالمي جديد ومختلف، تلوح ملامحه في الأفق. 

الفصل الأول: التحولات والمعارك الكبرى في إدارة الولايات المتحدة

هناك الكثير من المؤشرات على أنه ستحدث خلال فترة رئاسة ترامب الثانية، تحولات جذرية، ليس على الصعيد الخارجي فحسب، بل على صعيد مراكز النفوذ والسياسات الداخلية وتوجهات مراكز القوة في المجتمع الأمريكي، بطريقة نستطيع رؤية ملامحها من خلال النظر إلى حملة ترامب الانتخابية، وفريق إدارته الجديدة، فضلاً عن متابعة القرارات والتفاعلات خلال الأسابيع الأولى من رئاسة ترامب.

إن دراسة هذه العوامل، يجعلنا نخرج بتصور  مفاده أن الولايات المتحدة الأمريكية مقبلة بعد تنصيب ترامب إلى نقطة تحول جوهري.

النظرة الأولية للأمور تؤشر إلى أن ترامب، بشكل شخصي، يدخل من بوابة البيت الأبيض معارضاً لكل شيء تقريباً، ولكل الأسس التي يقوم عليها حاليا المجتمع والاقتصاد والسياسات الأمريكية. فهو  يقف ضد الأممية الليبرالية الأمريكية بشكل مباشر، ويعارض سياسات التجارة الخارجية والعولمة التي روجت لها أمريكا بنفسها، وينظر إلى الهجرة والمهاجرين كنقطة ضعف تهدد البلاد، ويسعى للعمل على حل هذه المشكلة من جذورها، في مجتمع قام أصلاً على الهجرة والمهاجرين، كما يعتبر المنافسين السياسيين، وكذلك البيروقراطيين،  قوى ظلامية عميقة تسعى إلى تقويض جهوده  وإفشاله، بمعنى أن ترامب يدخل إلى البيت الأبيض كمقاتل يلوذ عن نفسه، وينتقم للخيبات التي اعترت فترة رئاسته الأولى، والتي يرى فيها أنها كانت مؤامرة مقصودة ضده من “الدولة العميقة”.

 لذلك فإن أولى الخطوات التي فعلها ترامب بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، هو المضي قدما في تجميع فريق ترامبي بامتياز، بدأ تكوينه بعد إعلان فوزه، يتبنى رؤى ترامب وأفكاره العميقة بشكل جوهري وليس سطحي فقط، ويدين له بالولاء الكامل. لذلك فإن جيش ترامب في الإدارة، وفي الكونجرس الأمريكي، سيكون مستعداً للحرب معه بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

إلا أن نظرتنا المتعمقة لما يجري الآن في أمريكا، تشي بأن التطورات الوشيكة لن تكون فقط نتيجة عودة ترامب للرئاسة كشخص حاد المزاج، عدواني منفلت، غريب الأطوار، يحمل أفكاراً وتوجهات مختلفة، ويدفع بها من خلال منصبه، وجهود فريق عمله، إنما ما يبدو لنا هو أن هناك صراعاً طاحناً وشيكاً، يلعب ترامب فيه دوراً مركزياً، جرى الاستعداد له، بل بدأت إرهاصاته بالظهور بالفعل بشكل سريع على الساحة الأمريكية.

المؤسسة الأمريكية التقليدية

منذ عقود طويلة، استقر لدى المراقبين، أن التسيير الأعلى للشئون الأمريكية يأتي من خلال ما يطلق عليه مجازاً “المؤسسة – Establishment”. يطلق البعض أيضاً مصطلح “الدولة العميقة –Deep State”، لوصف هذه المنظومة، وهو ما لا نراه دقيقاً، لأن قوى المؤسسة لا تقتصر فقط على المؤسسات الرسمية التابعة للدولة. القوى التي تعمل بشكل متناغم وشبه منسق، وتكوِّن ما اصطُلح على تسميته في الولايات المتحدة “المؤسسة”، دون أن يجمعها هيكل تنظيمي واحد بالطبع، تتكون بشكل رئيس من القوى التالية:

  • المؤسسات المالية الكبرى، سواءً من أصحاب رأس المال من شركات كبرى متعددة الجنسية، أو المتحكمين في إدارته (وهم الأهم)، مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي وشركات إدارة الأصول (وأهمها بلاك روك وفانجارد وستيت ستريت) ، والبنوك والمؤسسات المالية الكبرى، وعدد من البليونيرات الكبار، إلى غير ذلك. هذه المجموعة هي الأهم، حيث أنها لا تتحكم فقط في الاقتصاد وحركة الأموال، لكنها تسعى دائماً إلى توجيه السياسة الداخلية والخارجية، والاقتصاد، والإعلام، وكافة مناحي الحياة لخدمة مصالحها، ويمتد نفوذها داخل وخارج الولايات المتحدة في شتى أنحاء العالم. هذه المؤسسات هي التي ورثت الإرث الاستعماري الأوروبي، ثم الإرث الناتج عن الثورة الصناعية، ليتحول في النهاية إلى “صناعة أموال” تراكم الثروات والأرباح، وتعتمد أساساً على الخدمات والتكنولوجيا الحديثة وتوريق الأصول والديون، بدلاً من الصناعة والإنتاج  والثروات التقليدية.
  • البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية)، وتمثل الذراع العسكرية المهيمنة للمؤسسة.
  • الشركات المنتجة للسلاح (أو ما يطلق عليه مجازاً مجمع الصناعات العسكرية)، وعلى رأسها خمس شركات خاصة كبرى تهيمن على إنتاج السلاح في الولايات المتحدة وتتصدر شركات إنتاج وتجارة السلاح في العالم (لوكهيد مارتن، ريثيون، بوينج، نوثروب جرومان، وجنرال ديناميكس).
  • الوكالات الأمنية الداخلية والخارجية التي يبلغ عددها 17 وكالة، ينسق بينها ما يعرف بـ “وكالة الاستخبارات الوطنية”، وأهمها وكالة المخابرات المركزيةCIA ، ومكتب التحقيقات الفيدرالي FBI.
  • المؤسسات الإعلامية الكبرى التي تمتلك الصحف والقنوات التلفزيونية وشركات البث عبر الإنترنت، ويمكن أن يلحق بها هوليوود وصناعة السينما الأمريكية.
  • شركات التكنولوجيا التي تتركز بالأصل في “سليكون فالي” بولاية كاليفورنيا، وهي التي حققت نفوذاً كبيراً في السنوات الأخيرة، فهي وافد حديث نسبياً على ملعب المؤسسة.
  • طبقة السياسيين المخضرمين المؤثرين الذين يشكلون المحركات الرئيسية في أروقة الكونجرس الأمريكي بغرفتيه.
  • مراكز الفكر والدراسات سواءً منها تلك التي تمثل جهات حكومية أو خاصة، وهي توَّجِه السياسات العامة بشكل كبير. يتربع على قمتها “مجلس العلاقات الخارجية – CFR”، الذي تم إنشاؤه كجسر ومنسق بين رجال السياسة وعالم الأعمال، ويدور في فلكه تقريباً جميع من مروا على المناصب المهمة والحساسة في الولايات المتحدة، سواء داخل الحكومة أو خارجها، منذ عقود طويلة.

على مدار القرن الماضي، منذ بدايات القرن العشرين، تتحكم القوى التي تشكل “المؤسسة” في ديناميكيات السياسات الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة، على مستويات استراتيجية تفوق الاختلافات بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري، إلى الدرجة التي أصبحت تتلاشى فيها الحدود الأساسية بين سياسات الحزبين في هذه المستويات، ما دعا البعض إلى أن يطلق على الطبقة السياسية فيهما لفظ “الحزب الواحد – Uni-party”، ما يعني عدم وجود اختلافات جوهرية بين التيار الرئيس لكلا الحزبين. هذه القوى أدارت السياسة الداخلية الأمريكية، مع اختلافاتها في بعض التوجهات السياسية، وكذلك السياسة الخارجية والنظام العالمي ومؤسسات العولمة بشكل أكثر استقراراً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

على الجانب الآخر، برزت توجهات بين بعض السياسيين في كلا الحزبين، تحاول الابتعاد عن السياسات المشتركة المشار إليها، وعلى رأسها التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، والتيار الشعبوي الذي يقوده ترامب في الحزب الجمهوري، منذ ظهوره الصاروخي قبل فترة رئاسته الأولى، متبنياً شعار “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى –Make America Great Again –MAGA “.

في النهاية، ينبغي الإشارة إلى وجود طبقة عليا خفية فوق المؤسسة، وقد تملي عليها قراراتها الإستراتيجية، يتحدث عدد من الباحثين عن أن لها اليد الطولى في إدارة المشهد بشكل علوي، وهي عبارة عن هيكل قوة Power Structure متعدي الحدود، يعود نشاطه لنحو مائة عام خلت، ويجمع بين أقسام من داخل أروقة أجهزة المخابرات، وبعض كبار عائلات المال والمؤسسات المالية، وقيادة الجريمة المنظمة (التي تعرف باسم نقابة الجريمة الوطنية National Crime Syndicate)، ويعمل هذا الهيكل بشكل سري بالطبع. هذه الطبقة لها ارتباط وثيق بقيادات الكيان الصهيوني وأجهزته الأمنية، ويقوم بالكثير من الأعمال السرية القذرة التي قد تصب في صالح الولايات المتحدة أو الكيان الصهيوني، أو مجرد المصالح الاقتصادية للعائلات المالية الكبرى. ويشير الباحثون إلى مسئولية هذه الطبقة، التي قد يصل التورط فيها لمستوى رؤساء الجمهورية، كما يقال على سبيل المثال عن الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون، عن عدد من أهم العمليات السرية التي لم يكشف عنها النقاب بشكل كامل حتى الآن، ومن أهمها اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي في العام 1963، ومحاولة إغراق سفينة التجسس الأمريكية “ليبرتي” إبان حرب يونيو 1967، وغيرها.

آخر ما تكشف عن أعمال هذه الشبكة الفضيحة المرتبطة بالملياردير الأمريكي جيفري إبستين، الذي قيل أنه انتحر في سجنه في العام 2019 ([1])، وكشفت التحقيقات عن أعمال ابتزاز جنسية هائلة للكثير من الشخصيات الرئيسة المؤثرة في صناعة القرارات.

هناك العشرات من المراجع التي تتحدث بأشكال مختلفة عن هيكل القوة هذا، بأشكال مختلفة. راجع مثلاً الكتاب المهم للباحثة والصحفية الاستقصائية الأمريكية المتميزة ويتني ويب “أمة واحدة تحت الابتزاز” الذي يكشف النقاب عن الكثير من خفايا هذا العالم السري والمثير)([2])([3]).

هذه الشبكة كانت تحتاج للعمليات القذرة وأعمال التجسس التي يمكن من خلالها فرض النفوذ والسيطرة والتحكم في اتخاذ القرارات العليا بما يحقق مصالحها، بصرف النظر عن مصالح الدول المتورطة فيها (باستثناء مصلحة الكيان الصهيوني في الأغلب)، وهي تشكل عصب “المؤسسة” والرأس العليا لها.

الفترة الرئاسية الأولى لترامب

عندما وصل ترامب للرئاسة في المرة الأولى، “أشهر سيفه” في مواجهة نفوذ المؤسسة التقليدية، مع فريق يتكون من عدد محدود من المخلصين له، على رأسهم ستيف بانون، المنظر الرئيس لتوجهات ترامب الإستراتيجية، والذي انتهى به الأمر إلى دخول السجن لعدة أشهر مؤخراً، ومايك فلين، مستشاره للأمن القومي الذي لم يستطع الاحتفاظ بمنصبه لأكثر من شهر واحد، وزوج ابنته جاريد كوشنر. بسرعة، استطاعت “المؤسسة” استيعاب ترامب، ودفعت برجالها إلى أهم المناصب في الفريق التنفيذي، ما أفشل مخططات ترامب لتقويض نفوذ هذه المؤسسة أو تحقيق إنجاز يذكر(راجع الدراسات التي أنتجها المعهد المصري في ذلك الوقت حول هذا الموضوع، (هنا[4]، وهنا[5] وهنا[6])، فضلاً عن هذه الدراسات (هنا[7]، وهنا[8]).

الكتل الداعمة لترامب في الفترة الرئاسية الثانية

أثر هذا الفشل على ترامب بشكل كبير، وتولدت لديه قناعة بأن “الدولة العميقة” قد عملت على إفشاله، وأنها قامت “بتزوير” الانتخابات للتخلص منه عام 2020 (وهي القناعة الموجودة عند 85% ممن انتخبوه وقتها طبقاً لاستطلاعات الرأي)، ما أثر تأثيرا كبيراً على استراتيجيته في المرة الثانية كما سيظهر لاحقاً.

في الانتخابات التي فاز بها مؤخراً، غير ترامب من أسلوب مواجهته الذي فشل في المرة الأولى، وسعى بدلاً من هزيمة المؤسسة بمفرده، إلى تكوين بديله الخاص لمراكز القوى الرئيسية في هذه المؤسسة حتى يمكنه السيطرة عليها وعلى مكامن نفوذها. في هذه المرة، لا يمكن أن يكون ترامب معبراً عن توجهات شخصية فقط، فنحن نرى أن القوى التي تتدافع داخل منظومة المؤسسة، تدخل الآن في مرحلة جديدة وشاملة من التدافع على النفوذ والسيطرة، وأن هذه القوى الجديدة تتخذ من ترامب واجهة ورمزاً لها، بينما المعركة أكبر بكثير من كونها معركة ترامب، كما سيظهر بشكل أوضح في الأجزاء التالية من الدراسة.

ويمكن القول بأن الأنوية التي تتشكل منها كتلة داعمي ترامب الآن، على مستوى الحاضنة الشعبية والنخبوية، تتنوع بين ثلاث اتجاهات رئيسية:

  • الشريحة الشعبوية الواسعة المقتنعة بأفكار MAGA وتثق في أن ترامب سيحقق لها تطلعاتها الاقتصادية والاجتماعية، والتي مثلت قاعدته الانتخابية الصلبة.
  • الشريحة الواسعة من الشعب الأمريكي التي تتبنى أفكار الصهيونية المسيحية، وتقدر بعشرات الملايين، ويعمل ترامب على استمالتها بالخطاب الديني والأخلاقي، فضلاً عن دعم إسرائيل، وهي أيضاً قاعدة جماهيرية صلبة مع ترامب.
  • المؤسسات النخبوية المالية “الأوليجاركية” الساعية للتحكم بالمؤسسة المسيطرة بدلاً من القوى التقليدية، بوراثة النخب المالية العريقة التي سيطرت على المؤسسة لعقود طويلة، ومنها عدد من المؤسسات المالية والشركات الكبرى، وشركات النفط والغاز، وبوجه خاص شركات التكنولوجيا (وادي السيليكون)، بما تشمله من شخصيات كبيرة التأثير في الوقت الراهن مثل إيلون ماسك، وبيتر ثيل، المؤسس المشارك لشركة بالانتير العملاقة (أنظر هنا لإعطاء خلفية عن هذه الشخصية الهامة، ودوره في “دولة المراقبة” وعلاقاته المخابراتية، وبمنظومة بيلديربرج المؤثرة عالمياً على مدار سنوات، وكذلك دوره في التأثير على ترامب)([9]) ، مدعومة بنخب من الإعلاميين المؤثرين والسياسيين مثل الإعلامي الشهير تاكر كارلسون، والسيناتور الجمهوري النافذ ليندساي جراهام، وخرون، يمثلون مصالح الجهات النافذة من ورائهم، والتي تسعى للنفوذ والسيطرة.

من المهم الإشارة إلى أن قيادات هذه المجموعة الثالثة تمثل العقل المدبر والمحرك الحقيقي لمنظومة ترامب الجديدة، وهي تحاول أن تقوم بالدور الذي كان يقوم به من قبل هيكل القوة الذي أشرنا إليه سابقاً بصفته المحرك الرئيس للمؤسسة الأمريكية (تحالف أجهزة المخابرات مع المافيا)؛ هذه المجموعة تتمتع بقوة مالية هائلة من خلال المليارديرات من أباطرة التكنولوجيا، والأهم القوة التكنولوجية الحديثة التي تتيح لها أدوار الهيمنة والسيطرة، ربما دون اللجوء إلى شبكات المافيا التي كانت تحتاجها المنظومة التقليدية للقيام بالأعمال القذرة وأنشطة التحكم والتجسس التقليدية. القوة التي تتيحها تكنولوجيا إدارة البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي وغيرها، تتيح أدوات أفضل بكثير مما يمكن أن تتيحه شبكات الجريمة وأجهزة الاستخبارات التقليدية. هذه المجموعة، رغم ما تبديه في الظاهر، لا تهتم حقيقة بأمريكا كوطن، ولكن تهتم بتجميع وتراكم الثروة لديها، أياً كان مصدرها، ومن ثمَّ النفوذ والقوة، أياً كان مكان تواجدها.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك تناقضات كبيرة بين هذه الكتل الثلاث، داخل معسكر ترامب نفسه، ومصالحها تتعارض في الكثير الملفات الهامة، وبذلك فقد تثار بعض الصراعات الداخلية في داخل معسكر ترامب نفسه حين تطفو هذه التناقضات على السطح، وذلك إضافة إلى الصراعات الأخرى مع المعسكر التقليدي الذي يمثل المؤسسة، بما يضيف الكثير من التعقيد للمشهد.

من المهم بمكان متابعة هذه المعارك الداخلية المنتظرة، لما سيكون لها من أثر بالغ على التوجهات الأمريكية في السياسات الداخلية والخارجية.

في الأجزاء التالية، ندلل على ما طرحناه من تصورات في تطور الصراع الداخلي الأمريكي على مستوياته العليا.

أولاً : من واقع السياسات خلال الفترة الرئاسية الأولى (2017-2021)

تميزت الفترة الأولى من رئاسة دونالد ترامب (2017-2021) بملامح وأحداث مثيرة للجدل وتأثيرات عميقة على الساحة السياسية الأمريكية والدولية. منذ بداية ولايته، انتهج ترامب أسلوباً غير تقليدي في القيادة، متجاوزاً الأعراف الدبلوماسية بأسلوبه المباشر وتصريحاته المثيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة تويتر، الذي أصبح منصة رئيسية لإعلان سياساته وتوجيه الانتقادات.

السياسات الاقتصادية والضرائب

ركزت إدارة الرئيس دونالد ترامب في الفترة الأولى من ولايته (2017-2021) على تنفيذ سياسات اقتصادية تهدف إلى تعزيز النمو الاقتصادي ودعم قطاع الأعمال. كان محور هذه السياسات قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017، الذي خفض الضرائب على الشركات من 35% إلى 21%.  وُصف القانون بأنه الإصلاح الضريبي الأكبر منذ عقود، وأدى إلى زيادات مؤقتة في الاستثمارات والنمو الاقتصادي، لكنه أثار أيضاً انتقادات واسعة بشأن تأثيرات هذه الزيادة على زيادة العجز الفيدرالي. زعمت الإدارة أن هذه التخفيضات ستُسهم في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز التنافسية، إلا أن منتقدين حذروا من تداعيات طويلة الأجل على الدَيْن القومي.

السياسة الخارجية ونهج “أمريكا أولاً”

تبنت إدارة ترامب سياسة خارجية تركز على المصالح الوطنية الأمريكية تحت شعار “أمريكا أولاً”. تميزت هذه السياسة بالانسحاب من الاتفاقيات متعددة الأطراف مثل اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، ما أدى إلى توترات مع الحلفاء الأوروبيين وإيران. كما أطلق ترامب حرباً تجارية مع الصين عبر فرض رسوم جمركية كبيرة على الواردات الصينية، بحجة حماية الوظائف الأمريكية ومكافحة الممارسات التجارية غير العادلة. هذه الخطوات عمّقت الانقسام العالمي حول السياسة التجارية وأدت إلى إعادة التفاوض بشأن اتفاقيات مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) التي استُبدلت باتفاقية الولايات المتحدة-المكسيك-كندا (USMCA). في هذه الفترة ترك العمل بوزارة الخارجية العديد من الكفاءات، ما أحدث فراغاً في ممارسات السياسة الخارجية كما أظهرت الدراسة التي أشرنا إليها سابقاً.  ([10])

الهجرة وبناء الجدار الحدودي

أثار نهج ترامب المتشدد تجاه الهجرة جدلاً واسعاً. من بين أبرز سياساته، كان الوعد ببناء جدار حدودي بين الولايات المتحدة والمكسيك، والذي استخدمه شعاراً أساسياً في حملته الانتخابية. على الرغم من بناء أجزاء من الجدار، أثار التمويل لهذه المشروع نزاعات سياسية أدت إلى أطول إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة. كما فرضت الإدارة سياسات مثيرة للجدل مثل سياسة “عدم التسامح” التي فصلت الأطفال عن أسرهم على الحدود، مما أثار انتقادات شديدة من قبل منظمات حقوق الإنسان والرأي العام.

التعامل مع الجائحة العالمية (كوفيد-19)

كانت استجابة إدارة ترامب لجائحة كوفيد-19 محوراً رئيسياً في فترة رئاسته الأولى. تعرضت الإدارة لانتقادات واسعة بسبب تقليل الرئيس من خطورة الفيروس في المراحل المبكرة من انتشاره. رغم جهود تطوير اللقاحات من خلال برنامج “عملية السرعة الفائقة”، اتُهمت الإدارة بعدم توفير استجابة منسقة وفعالة، ما أدى إلى معدلات إصابة ووفيات عالية في الولايات المتحدة مقارنة بالدول الأخرى. كما واجه ترامب انتقادات بسبب مواقفه المتناقضة حول استخدام الأقنعة والإغلاقات الاقتصادية.

تعيين القضاة وتغيير التوازن في المحكمة العليا

كان لإدارة ترامب تأثير مستمر على النظام القضائي الأمريكي من خلال تعيين ثلاثة قضاة في المحكمة العليا، مما أعاد تشكيل توازنها الأيديولوجي لعدة عقود. القضاة الذين عينهم (نيل جورساتش، برينت كافانو، وآمي كوني باريت) يميلون إلى التفسير المحافظ للدستور، وهو ما أثار نقاشات واسعة حول قضايا مثل حقوق الإجهاض، والرعاية الصحية، وحقوق حمل السلاح.

الانقسامات السياسية والاضطرابات الاجتماعية

اتسمت فترة ترامب بتصاعد الانقسامات السياسية والاجتماعية داخل الولايات المتحدة. زادت خطابات الرئيس الحادة من الاستقطاب السياسي، وأثارت قضايا مثل التعامل مع حركة “حياة السود مهمة”، والاحتجاجات ضد وحشية الشرطة، نقاشات وطنية حول العنصرية والعدالة الاجتماعية. كانت تصريحاته في أعقاب أحداث شارلوتسفيل في 2017 وأثناء الاحتجاجات في 2020 مثيرة للجدل، حيث اتُهم بعدم إدانة العنف العنصري بشكل واضح. كما انتهت ولايته بأحداث اقتحام الكونجرس في يناير 2021، إثر اتهامات بالتشكيك في نزاهة الانتخابات التي خسرها أمام جو بايدن، مما أدى إلى مساءلته للمرة الثانية في الكونغرس. ([11])

محصلة جهود ترامب في فترة الرئاسة الأولى واستراتيجيته لتنفيذها

بالرغم من الانعطافات الحادة المذكورة، لم ينجح ترامب في تغيير مسار منظومة “المؤسسة” على النحو الذي يريده، وفشل في ذلك فشلاً ذريعا، ما أدى في نهاية المطاف إلى هزيمته في الانتخابات، والإتيان بإدارة بايدن – هاريس من الحزب الديمقراطي، والمتوافقة إلى حد كبير مع التوجهات التقليدية للمؤسسة في السياسات الداخلية والخارجية.

لقد كانت استراتيجية ترامب المفضلة، خاصة خلال الأشهر الأولى من رئاسته الأولى، هي إثارة القضايا الجدلية الواحدة تلو الأخرى، وأخذ القرارات بشكل متلاحق، بطريقة القصف المستمر،  كما لو كان يتمتع بسلطة مطلقة، بما لا يعطي الفرصة لخصومه لملاحقة تحركاته، ويعطي انطباعاً إعلامياً وشعبياً كاذباً بأنه يحقق نجاحات ضخمة، ما يمكنه بالفعل من اتخاذ المزيد من الخطوات، رغم أن أكثر قراراته كان يشوبها عدم القانونية، بل وعدم الدستورية، ما مكن خصومه من إبطالها قضائياً في الكم الأكبر من الحالات. لكن الغرض من هذا الأسلوب، وفقا لستيف بانون المصمم الرئيس لهذه الإستراتيجية، كان إلهاء الخصوم والإعلام بما يكفي لتمرير العديد من القرارات الهامة التي لم تكن لتمر لو سارت في مسار طبيعي. لكن نظرا لعدم جاهزية ترامب وفريقه لخوض معركة كبرى مع المؤسسة في ذلك الوقت، لم تفلح هذه الاستراتيجية في تحقيق طموحات ترامب، وتم استيعابه كما ذكرنا.

من المهم الانتباه لهذا الأمر، حيث أنه من الواضح أن ترامب ينتهج نفس الإستراتيجية في فترة رئاسته الثانية، إلا أن التيار  الداعم له أكثر جاهزية الآن عما كان في فترة الرئاسة الأولى.

ثانياً: من خلال الحملة الانتخابية لترامب للفترة الرئاسية الثانية

تتناول السياسات التي استعرضها دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية الثانية، مجموعة متنوعة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي ستؤثر بشكل كبير على المجتمع الأمريكي وتوازناته الداخلية إن تم تبنيها، فضلاً عن أثر ذلك الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الساحة الدولية. لقد صمم ترامب برنامجه السياسي ليكون رداً على سياسات سابقيه في البيت الأبيض، حيث شملت رؤيته للأمور الداخلية والخارجية تحولات جذرية في مجالات الهجرة، والاقتصاد، والرعاية الصحية، والطاقة، والتعليم، والقضايا الاجتماعية، إلى جانب قضايا الدفاع والسياسة الخارجية، بما يجعلها امتداداً لما حاول القيام به خلال فترة رئاسته الأولى. وفي واقع الأمر، بمتابعة سلوك ترامب منذ استلامه السلطة في المرة الثانية، وبالمقارنة بهذه الوعود الانتخابية، نجد أنه مضى لتنفيذها بكل قوة وسرعة.

من خلال متابعة تصريحات ترامب وأحاديثه الإعلامية والعامة أثناء حملته الانتخابية وقبل استلام مقعده الجديد،  يمكن أن نستشف تفاصيل أهم السياسات التي ينوي السير عليها، عبر عدة محاور رئيسية:

 الهجرة:

في مجال الهجرة، أكّد ترامب على ضرورة إغلاق ما وصفه بـ “كارثة الحدود” التي تسببت بها إدارة الرئيس جو بايدن، وأعلن عن خطط لوقف سياسة “الالتقاط والإفراج” التي تسمح للمهاجرين بالبقاء في البلاد أثناء انتظارهم للمحاكمة. وبدلاً من ذلك، اقترح ترامب استعادة سياسة “البقاء في المكسيك” التي تجبر المهاجرين غير الشرعيين على الانتظار في المكسيك حتى يتم النظر في طلباتهم. بالإضافة إلى ذلك، قال ترامب إنه سينشئ نظام هجرة يعتمد على الجدارة، بحيث يتم منح التأشيرات والمواطنة للأشخاص ذوي المهارات التي تدعم سوق العمل الأمريكي، وحماية العمال الأمريكيين. كما اقترح إعلان حالة الطوارئ الوطنية، والاستعانة بالحرس الوطني وقوات الشرطة المحلية، وحتى الجيش، لمكافحة العصابات والمجرمين الذين يدخلون البلاد بشكل غير قانوني، وإعادة نشر القوات الأمريكية على الحدود الجنوبية، وإكمال بناء الجدار الحدودي مع المكسيك، بالإضافة إلى عزمه استخدام تشريعات تعود للقرن الثامن عشر لإزالة المهاجرين غير الشرعيين، إلى جانب فرض سياسات صارمة ضد ما يسميهم بـ “الشيوعيين الحاقدين على المسيحية، الماركسيين، والاشتراكيين”.

 الرعاية الصحية:

كان ترامب قد عمل في فترته الأولى على إصلاح نظام الرعاية الصحية الأمريكي، حيث اعتبر أن النظام الحالي غير فعال ويكلف الدولة الكثير. كان ترامب قد نجح في إلغاء “الالتزام mandate” الذي كان جزءاً من قانون “أوباماكير” ويجبر المواطنين على شراء التأمين الصحي. كما حاول تقليص تكاليف الأدوية عن طريق فرض قوانين جديدة على شركات الأدوية لضمان حصول الأمريكيين على الأدوية بأسعار معقولة. إضافة إلى ذلك، أطلق سياسة “الحق في المحاولة”، التي تمنح المرضى المصابين بأمراض خطيرة إمكانية الوصول إلى العلاجات التي قد تكون غير متاحة لهم بعد. في حملته الجديدة، عارض ترامب بشدة ما سماه “الاشتراكية” في الرعاية الصحية، مؤكداً على أهمية أن تظل الرعاية الصحية نظاماً خاصاً يعتمد على المنافسة الحرة. هذا بالطبع فضلاً عن رؤيته في ملاحقة “فساد” المؤسسات الصحية، والتخويف الزائد، الذي قد يصل إلى حد نظرية المؤامرة، من الأوبئة، وما يتعلق بها باستخدام الفاكسينات على نطاق واسع، كما حدث أثناء وباء كورونا.

تحسين الكفاءة الحكومية

كان ترامب قد أعلن عن مبادرة جديدة تُعرف بإدارة الكفاءة الحكومية أو “DOGE”، تهدف إلى خفض الإنفاق الفيدرالي المهدور بما يعادل تريليوني دولار، وذلك عبر الاستفادة من خبرات إيلون ماسك وفيفيك راماسوامي. ستعمل هذه “الإدارة” كمجموعة استشارية خارج النطاق الرسمي للحكومة، وستنتهي صلاحيتها بحلول الرابع من يوليو 2026، كما قال أثناء الحملة، فيما يُطالب المسؤولون بتقديم أفكار جريئة لتحسين الكفاءة الإدارية وإعادة هيكلة الجهاز الحكومي، في محاولة لمحو ما أشار إليه ترامب بـ”الدولة العميقة”.

قضايا الطاقة والبيئة:

في مجال الطاقة، انتقد ترامب بشدة سياسات الرئيس بايدن، وأشار إلى أن التوجهات الحالية تُهدد الاقتصاد الأمريكي وتزيد من الاعتماد على الدول الأجنبية في توفير الطاقة.  وفي رده على هذه السياسة، أكد ترامب أنه سيعمل على تعزيز الإنتاج المحلي للطاقة، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي والفحم (أو كما يقول: Drill Baby Drill!)، وسيسعى إلى تقليل أسعار الوقود التي شهدت زيادة كبيرة في عهد بايدن. كما وعد بإلغاء “الصفقة الخضراء الجديدة” التي اعتبرها غير عملية ومرهقة للاقتصاد الأمريكي، وذكر أن هذه السياسات تضر بمصالح العمال الأمريكيين. وفي هذا السياق، تعهد بالابتعاد عن السياسات البيئية التي قد تضر بالصناعة الأمريكية لصالح دعم المصالح الاقتصادية الأمريكية.

الاقتصاد و التجارة:

وضع ترامب نصب عينيه تصحيح ما اعتبره “خيانة” للعمال الأمريكيين من خلال الاتفاقات التجارية غير المتوازنة التي أبرمتها الإدارات السابقة، و أعلن عن خطة لتعديل السياسات التجارية التي، بحسب رأيه، تضر بالصناعات الأمريكية وتستفيد منها الدول الأخرى. شملت سياسات ترامب المقترحة فرض رسوم جمركية على السلع المستوردة من الصين والدول الأخرى التي تتلاعب في أسعار عملاتها، وذلك بفرض 20% على جميع الواردات و60% على المنتجات الصينية، إضافة إلى رسوم أخرى على الواردات القادمة من كندا والمكسيك ، وهي خطوات رآها البعض “مدمرة”، حيث ستؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج والبضائع المباعة في الولايات المتحدة.

 كما وعد ترامب بتخفيض الضرائب على الشركات إلى 15% نزولاً من 21% التي كان قد فرضها في فترة رئاسته الأولى، وتخفيض الإنفاق الحكومي بنسبة 30%، بما في ذلك برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية. كما وعد بتقديم حوافز كبيرة للشركات الأمريكية التي تفضل الإنتاج داخل الولايات المتحدة، وأكد أنه سيتبنى سياسات تُحفز على زيادة الإنتاج المحلي. في ذات السياق، حدد ترامب مساراً لإعادة هيكلة العلاقات التجارية بحيث تكون أكثر فائدة للاقتصاد الأمريكي.

وكان ترامب في فترته الرئاسية الأولى قد أطلق سياسة “مناطق الفرص” والتي تهدف إلى تطوير المناطق الفقيرة عبر تحفيز الاستثمارات في هذه المناطق. تحدث ترامب أيضاً عن كيفية تقديم الدعم للسكان الأمريكيين من خلال تقديم فرص عمل، وهو ما ساعد على انخفاض معدلات البطالة إلى مستويات قياسية. كما انتقد سياسة بايدن الاقتصادية التي اعتبرها تساهم في زيادة التضخم وارتفاع الأسعار بشكل كبير، مؤكداً أن استراتيجياته الاقتصادية ستؤدي إلى رفع الأجور  وتحسين الاقتصاد الوطني.

ويعارض ترامب على الدوام سياسات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، خاصة فيما يتعلق برفع سعر الفائدة والسياسات الانكماشية الأخرى التي تعارض سياساته في تحفيز النمو والتيسير المالي.

 التعليم:

في مجال التعليم، كان ترامب قد تبنى نهجاً مختلفاً عن الإدارات السابقة، حيث أكد على ضرورة إعادة التركيز على التعليم المهني والتقني لتلبية احتياجات سوق العمل. في هذا السياق، اقترح إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية ونقل مسؤوليات وزارة التعليم إلى الولايات التي ستتولى شؤون المدارس العامة (علماً بأن التعليم في الولايات المتحدة غير مركزي بالفعل). كما ركز على أهمية إرساء مناهج تعليمية تؤهل الطلاب لدخول سوق العمل.

 العدالة الجنائية:

في مجال العدالة الجنائية، كان ترامب قد أكد على أن استعادة النظام والقانون في المدن الأمريكية كان من أولوياته، حيث انتقد سياسات بعض الحكام المحليين الذين قلصوا ميزانيات الشرطة. وقد وجه اللوم للسياسات الليبرالية التي قال إنها أسفرت عن زيادة معدلات الجريمة في المدن الكبرى. وركز على دعم الشرطة والعمل على توفير أدوات تنفيذ القانون للحد من الجريمة والعنف في الشوارع.

 القضايا الاجتماعية:

فيما يخص قضايا الإجهاض، أكد ترامب على أهمية الدور الذي لعبه في إنهاء حكم “رو  ضد وايد” وهو القرار الصادر في عام 1973 والذي قضت فيه المحكمة العليا الأمريكية بأن دستور الولايات المتحدة يحمي حرية المرأة الحامل في اختيار الإجهاض دون قيود حكومية (انظر[12]مع دعم حق الولايات في سن قوانين الإجهاض الخاصة بها.

 فيما يتعلق بالهوية الجندرية، أعلن عن دعمه لتعريف قانوني ثابت للهوية الجندرية على أساس البيولوجيا، داعياً إلى حظر مشاركة الرجال في الرياضات النسائية وحماية حقوق الآباء في اتخاذ قرارات بشأن هوية أطفالهم.

البنية التحتية:

أعلن ترامب عن خطط لتطوير بنية تحتية جديدة في الولايات المتحدة، بما في ذلك إنشاء مدن حرة جديدة، وذلك لتوفير فرص العمل والسكن للأمريكيين. كما تحدث عن خطط لتحسين المدن الحالية من خلال إزالة المباني القبيحة وتجميل المساحات العامة.

 المخدرات:

فيما يخص المخدرات، فقد عمل ترامب على اتخاذ تدابير صارمة ضد تهريب المخدرات، بما في ذلك العقاقير الفتاكة مثل الفانتونيل. وتوجهت حملته لتقليص الجرائم المتعلقة بالمخدرات، مشيراً إلى انخفاض كبير في عدد الوفيات بسبب الجرعات الزائدة خلال فترة ولايته الأولى.

السياسة الخارجية:

على الصعيد الخارجي، أعلن ترامب عن عزم إدارته على اتباع سياسة “السلام من خلال القوة”، وممارسة “الضغوط القصوى”، حيث قال أنه سيسعى إلى تقليص التدخل العسكري الأمريكي في النزاعات الخارجية، خصوصاً في الشرق الأوسط، وأبدى التزاماً بإنهاء الحرب في غزة، وكذلك بين روسيا وأوكرانيا. وتعرضت سياسة ترامب في هذا السياق في فترة رئاسته الأولى للانتقاد بسبب انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، مما أدى إلى سيطرة طالبان على السلطة، ولكنه برر ذلك باعتبار أنه قد حان الوقت لإنهاء الحروب الطويلة. كما كان قد قرر سحب القوات الأمريكية من سوريا، لكنه تراجع بعد ضغوط من البنتاجون.

في خلال رئاسته الأولى كان قد عمل على تعزيز العلاقات مع حلفاء أمريكا، بما في ذلك إسرائيل ودول الخليج، وقام بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، ودعا إلى ما يسمى “بصفقة القرن”، ودعم “اتفاقات إبراهام”، واعترف بضم الجولان السورية المحتلة إلى إسرائيل، وخلال حملته الانتخابية الثانية ألمح بدعمه توسع إسرائيل التي تشغل: “مساحة صغيرة جداً” على حد زعمه.

وتشمل الجوانب الداخلية للسياسة الخارجية تعزيز الدفاع الوطني لتأمين حدود الولايات المتحدة من التهديدات الخارجية، و تحديث الجيش، وبناء درع صاروخي من نوع “القبة الحديدية”، وإحياء قاعدة الدفاع الصناعي، وحماية البنية التحتية الحيوية. يشير هذا إلى نهج أكثر انتقائية في التعامل مع العلاقات الدولية، مع إعطاء الأولوية للأمن الداخلي.

إجمالاً، كانت سياسة ترامب التي تبناها خلال حملته الانتخابية، تهدف إلى تقليص دور الحكومة الفيدرالية وتوجيه السلطة إلى الولايات، بينما كانت تركيزاته الأساسية تدور حول تعزيز الاقتصاد الأمريكي، واستعادة القوة العسكرية للحماية الداخلية، مع تقليص التدخلات في الصراعات الخارجية وما يصاحبها من موازنات دفاعية، وتحقيق الاستقلال في مجال الطاقة، وتقليص التداخل الحكومي في الحياة اليومية للمواطنين. ([13])

ثالثاً: من خلال الترشيحات لإدارة ترامب الجديدة

شهدت ترشيحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، حالة من الاستقطاب في الأوساط السياسية، وألمحت أيضا إلى مستقبل إداراته، والتوجهات التي ينوي السير وفقاً لها، استناداً على الوجوه التي اختارها لتشكيل فريقه. كما يضاعف من أهمية العناصر التي رشحها ترامب التفويض الضخم الذي حصل عليه شعبياً من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة، وحصول الحزب الجمهوري على الأغلبية في كلا غرفتي الكونجرس، فضلاً عن الأغلبية المريحة التي يحوزها التيار المحافظ في المحكمة العليا في الوقت الراهن. كل ذلك سيسهل على ترامب كثيراً المضي قدماً في تنفيذ أجندته، وخوضه معركته مع “المؤسسة”.

وكنا قد فصلنا في نشرات سابقة صادرة عن المعهد المصري للدراسات (نشرة نحن والعالم الأسبوعية)، الحديث عن أهم ترشيحات ترامب للإدارة الجديدة، وعرجنا من خلال ذلك على خلفية كل مرشح السياسية وارتباطاته بترامب والأسباب الكامنة وراء اختيار كل شخصية من هذه الشخصيات. ([14]) نضع هنا نبذة مختصرة عن أهم المرشحين، الذين تولوا بالفعل المناصب التي تم ترشيحهم لها.

جي دي فانس: نائب الرئيس ودوره الهام…القائد القادم؟

فانس، البالغ من العمر 39 عاماً وقت ترشيحه، بدأ رحلته إلى الأضواء في عام 2016 عندما نشر مذكراته الأكثر مبيعاً Hillbilly Elegy، والتي تناول فيها صراعات الطبقة العاملة البيضاء في أميركا. ومنذ ذلك الحين، مر بتحول سياسي كبير، إذ انتقل من كونه ناقداً صريحاً لترامب، بل واصفاً إياه بـ”الهيروين الثقافي”، إلى أن أصبح أحد أبرز المدافعين عنه وعن حركة MAGA (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى). بعد انتخابه لعضوية مجلس الشيوخ في 2022 بدعم كبير من رجل الأعمال بيتر ثيل، تبنى فانس نهجاً سياسياً يمينياً متشدداً، حيث انتقد بشدة الدعم الأميركي لأوكرانيا، وعارض سياسات الهجرة، بل وذهب إلى حد الادعاء بأن إدارة بايدن تتعمد التسبب في أزمة الفنتانيل لمعاقبة ناخبي الحزب الجمهوري. ومع ذلك، فإن جذوره العميقة في الطبقة العاملة، ونشأته الصعبة في أوهايو، وأفكاره شديدة المحافظة، جعلته لاعباً أساسياً في إعادة تشكيل الحزب الجمهوري.

وكنا قد نشرنا في المعهد المصري للدراسات في يوليو 2024 تقريراً مطولاً عن جي دي فانس، ودور بيتر ثيل في صعوده (ويتني ويب: من وراء اختيار  ترامب لمن سيشغل منصب نائب الرئيس -المعهد المصري)، حيث كشف اختيار دونالد ترامب لـ جيه دي فانس كمرشح لمنصب نائب الرئيس عن نفوذ الملياردير بيتر ثيل، الذي لعب دوراً رئيسياً في تشكيل مسيرة فانس السياسية. فانس، الذي انضم إلى شركة ثيل الاستثمارية ميثريل كابيتال بعد دراسته في جامعة ييل، وحاز برعاية ثيل منذ ذلك الحين. حصل فانس على دعم مالي هائل من ثيل، حيث تبرع له بـ 15 مليون دولار خلال سباقه لمجلس الشيوخ عام 2022. كما ساعد ثيل في ربط فانس بشخصيات بارزة مثل إيلون ماسك وديفيد ساكس، اللذين لعبا دوراً في إقناع ترامب باختياره نائباً له.

يمتلك ثيل شبكة علاقات واسعة مع رجال أعمال نافذين، مثل جيف بيزوس وعائلة والتون، الذين كانوا من كبار المستثمرين في صندوق أسسه فانس، رغم ارتباطهم التاريخي بعائلة كلينتون. كما دعم ثيل ترامب في حملته عام 2016، وكان له تأثير على تعيينات وزارة الدفاع، خصوصاً عبر شركة أندوريل المتخصصة في التكنولوجيا العسكرية. وقد ساهمت هذه الشركة، إلى جانب بالانتير التي أسسها  ثيل، في تطوير أنظمة المراقبة والاستخبارات للجيش الأمريكي، وأصبحت عنصراً رئيسياً في الحرب الأوكرانية عبر طائراتها المسيّرة.

يُعرف ثيل بتأثيره العميق على سياسات الذكاء الاصطناعي والأمن القومي، إذ ساعدت شركاته في تشكيل رؤية إدارة بايدن للذكاء الاصطناعي العسكري. ومع دعم ترامب الآن لمشاريع مثل “الجدار الحدودي الافتراضي” الذي تروج له أندوريل، تزداد مخاوف من أن إدارة ترامب القادمة قد تمنح ثيل نفوذاً غير مسبوق في السياسة الأمريكية، خصوصاً في مجالات الأمن القومي والتكنولوجيا، وربما استهداف المعارضة الداخلية، كما فعلت شركاته سابقاً عبر أدوات المراقبة المتقدمة (تعاقدت وكالة المخابرات المركزية مع شركة بالانتير كذراع تكنولوجي متقدم لها).

ويرى حلفاء ترامب، مثل السيناتور الجمهوري جيم بانكس، أن فانس هو “مستقبل حركة أمريكا أولاً” والمرشح الأوفر حظا في انتخابات 2028، مؤكدين أنه أثبت جدارته بالفعل. وقد كسب فانس ثقة قاعدة ترامب بجرأته العلنية، وذكائه في إدارة علاقاته داخل الدائرة المقربة من الرئيس، وإخلاصه العميق لرؤية “ماجا”. ولعل موقفه الحاد تجاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اجتماع المكتب البيضاوي أظهر مدى توافقه مع نهج ترامب، ما جعله يحظى بدعم أنصاره.

ورغم الانتقادات التي تعرض لها عقب خطابه الصادم في مؤتمر ميونخ للأمن، إلا أنه حظي بتأييد واسع داخل الحزب الجمهوري. كما أن دعم كبار رجال المال في دوائر ترامب عزز من موقعه، خاصة بعد فوزه الساحق في استطلاع للرأي خلال مؤتمر العمل السياسي المحافظ (CPAC)، حيث حصل على 61% من الأصوات، متفوقاً بفارق كبير على منافسيه. وبالإضافة إلى ذلك، حظي فانس بتغطية إعلامية واسعة من منصات “ماجا”، فيما بات يُشار إليه بين مؤيدي الحركة باسم “48”، أي الرئيس الأمريكي القادم، ما يؤكد أن طريقه نحو الترشح في 2028 يبدو ممهداً أكثر من أي وقت مضى.

ومؤخراً أصبح جي دي فانس صوتاً بارزاً في السياسة الخارجية الأمريكية، حيث اتخذ مواقف جريئة تجاه الحلفاء الأوروبيين وأوكرانيا، ما أدى إلى توتر في العلاقات. في خطابه بمؤتمر ميونيخ، انتقد سياسات الهجرة وحرية التعبير في أوروبا، متهماً الحكومات بتجاهل إرادة شعوبها. كما أثار الجدل بمواجهته الحادة مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، معتبراً أن الأخير لم يُظهر تقديراً كافياً للدعم الأمريكي. تتبنى رؤيته نهجاً واقعياً، يركز على المصالح الأمريكية بدلاً من القيم الأخلاقية، مع تأكيده على أن الصين تشكل التهديد الأكبر للولايات المتحدة، وليس الحرب في أوكرانيا. هذا التحول في خطابه السياسي يعكس تغيراً في نهجه منذ دخوله مجلس الشيوخ، حيث بات أكثر براجماتية وتأثيراً في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية.

من دراستنا وتحليلنا لشخصية فانس، وصعوده الصاروخي، وجرأته الشديدة، والكاريزما التي يتمتع بها، وتركيز الأضواء عليه، وسنه الصغير نسبياً، وعلاقته الخاصة مع بيتر ثيل، فضلاً عن شعبيته وسط كلاً من تياري “ماجا” والتيار المسيحي الصهيوني، نرى أنه هو الفارس المستقبلي للمنظومة التي تسعى للسيطرة على القرار في الولايات المتحدة بدلاً عن المنظومة التقليدية، وأن ترامب هو مجرد الوسيلة التي سيعبر من خلالها هذا التيار إلى السيطرة.

إيلون ماسك: دور في تحسين كفاءة الحكومة…وأدوار أخرى

بدون شك إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، يعد الوجه الأقوى والأكثر تأثيراً والأقرب من ترامب في إدارته الجديدة، حتى الآن على الأقل. دعم ماسك ترامب بقوة في حملته الانتخابية، واستطاع من خلال منصة “إكس” حشد الدعم له، وتحييد التوجهات السلبية في وسائل إعلام التيار الرئيس، وظهر  طوال الوقت كالشخصية المحورية الداعمة لترامب في جميع الأصعدة.

ماسك أصبح له الآن دور محوري في إدارة ترامب الجديدة، ليس كمجرد وزير عادي، ولكن كمحرك وموجه ومنفذ للكثير من السياسات التي ينوي ترامب تبنيها.  عينه ترامب على رأس إدارة حكومية مستحدثة  تهدف إلى تحسين كفاءة الحكومة DOGE، وهو ما شرع في القيام به بالفعل فور توليه المنصب رسمياً، حيث يشارك في التخلص من الهدر الحكومي وتحقيق فاعلية أكبر في الإدارة، سواء بالتخلص من بعض الوكالات الحكومية التي لا يرى لها داعياً، أو بالتقليص الضخم لعدد الموظفين الفيدراليين. وسيشكل ذلك حجر الزاوية في استراتيجية ترامب بإحداث تغيرات ضخمة في طبيعة “الدولة العميقة” ، التي يرى أنها كانت تعمل ضده وتعوق إنجازاته، فضلا عن استهلاك أموال ضخمة في الموازنة الفيدرالية تكفي للقضاء على عجز الموازنة، إذا تم توفيرها، على حد زعمه.

يمتلك ماسك أيضاً علاقات متميزة وقوية للغاية في الصين، سمحت له مثلاً بتشييد أكبر مصنع لسيارات تسلا في البلاد في شنغهاي بشكل استثنائي. ويمكن أن تشكل هذه العلاقة قناة خلفية للتفاوض اللاحق مع الصين. ويتردد أيضاً أن أحد مخارج مشكلة حظر تطبيق تيك توك في الولايات المتحدة، أن يتم بيع نشاط التطبيق في أمريكا إلى ماسك، ولن تعترض الصين على ذلك.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن ماسك أصبحت له مؤخراً علاقات قوية جداً مع الكيان الصهيوني، وقد دعاه نتنياهو شخصياً لحضور خطابه في الكونجرس، والذي ألقاه منذ عدة أشهر. إلا أن الأمر لم يبدأ كذلك تماماً، حيث أن ماسك رفض في أعقاب اندلاع طوفان الأقصى تقييد المحتوى الفلسطيني على منصته بناء على طلب الإتحاد الأوروبي، كما قام في أواخر أكتوبر 2023 بتوفير خدمة الإنترنت لمنظمات الإغاثة في غزة تحت القصف الشديد، وأعطى أيضاً تصريحاً في نوفمبر 2023 مؤداه أن حماس فكرة والفكرة لا تموت، وانتقد الإبادة الجماعية في القطاع. اللوبي الصهيوني انتقد وقتها ماسك بشدة ووصفه بمعاداة السامية، وقاد حملة عليه دعت عدة شركات عملاقة لإيقاف إعلاناتها على منصة X مثل IBM، جلعاد للعلوم، Apple، Adobe، ديزني، ليونزجيت، وغيرها. كما طلب الإتحاد الأوروبي من جميع الخدمات التنفيذية في الإتحاد التوقف عن عرض الإعلانات على المنصة!

قاوم ماسك هذه الضغوط في البداية لكنه لم يستطع الاستمرار، واضطر للذهاب إلى إسرائيل بناء على دعوة من نتنياهو، وقام بجولة في غلاف غزة، ثم قام بزيارة معسكر أوشفتز  النازي وحضر المؤتمر اليهودي بأوروبا. تحول ماسك بعد ذلك بشكل كبير إلى الإسراف في الخطابات المناهضة للمسلمين، ودعم الكثير من الشخصيات اليمينية المتطرفة والمعادية للإسلام. هذه التطورات يظهر منها جلياً الدور الذي يلعبه اللوبي الصهيوني في أمريكا، للدرجة التي تجعل أقوى شخصية بجوار الرئيس، وليس لها ميول صهيونية بالضرورة، لا تستطيع المضي قدماً في أجندتها إلا بالرضوخ لما يليه عليه اللوبي. قد يفسر هذا الأمر الارتباط الوثيق بين القدرة على السيطرة واكتساب النفوذ داخل الولايات المتحدة وبين وجوب الانصياع لما يمليه اللوبي الصهيوني بخصوص دعم إسرائيل من قبل الولايات المتحدة بشكل غير محدود.

من المهم التفكير فيما وراء الدور الذي يلعبه ماسك، وفي أهدافه الحقيقية من النفوذ الذي يتمتع به، لما في ذلك من أثار بالغة الأهمية على مستقبل الولايات المتحدة والعالم في ضوء قربه وتأثيره الشديد على ترامب في الوقت الراهن. ماسك هو المطور التكنولوجي البارز ورجل الأعمال في نفس الوقت (درس كلاً من الفيزياء وإدارة الأعمال كتخصصات رئيسية)، بدءاً من كونه المؤسس المشارك (مع بيتر ثيل) لمنصة تحويل الأموال الشهيرة PayPal وهو في العشرينيات من عمره. وهو رائد صناعة السيارات الكهربائية من خلال شركة “تسلا”، و أيضاً صاحب شركة  SpaceX المتخصصة في صناعات الفضاء والصواريخ  وصاحب حلم الحياة على المريخ، والذي يسيطر الآن على إمدادات الصواريخ الفضائية التي تعمل بالوقود السائل، حتى إلى وكالة ناسا نفسها.  ماسك هو مالك منصة التواصل الاجتماعي “إكس” حالياً – تويتر سابقاً، بما لها من تأثير سياسي وإعلامي ساحق. وهو صاحب شركة  StarLink للإنترنت الفضائي الذي يوفر خدمات الإنترنت فضائيا، متجاوزاً أي دور حكومي لتقديم الخدمة أو تعويق تقديمها (استخدمه بالفعل في تجاوز الحظر في حرب أوكرانيا وفي حرب غزة)، والداخل بقوة لعالم العملات المشفرة، فضلا عن تطويره لشرائح يمكن زراعتها في جسم الإنسان لأداء وظائف متطورة، إلى غير ذلك، ما جعله حالياً أكثر الناس ثراءً في العالم بثروة تتعدى ال 300 مليار دولار.

بكل هذه المؤهلات، والتأثير الذي يتمتع به ماسك داخل وخارج أمريكا، لا يمكن إلا طرح التساؤل عن أهدافه الحقيقية التي يريد الوصول إليها في مجال القوة والسيطرة العالمية، التي أضاف إليها دوره البارز حالياً في الحكومة الأمريكية.

وزارة الدفاع: بيت هيجسيث 

رشح ترامب، بيت هيجسيث لمنصب وزير الدفاع، ووافق الكونجرس لاحقاً بصعوبة على هذا الترشيح. وكان هيجسيث قد خدم في الجيش الأمريكي، بما في ذلك خليج جوانتنامو والعراق وأفغانستان، ويُعرف بمواقفه الحازمة تجاه إيران وتأييده الأعمى لإسرائيل. شارك في عمليات عسكرية خلال فترة خدمته ، لكن بالطبع ليس على المستوى القيادي.  وعمل قبل ترشيحه على تقديم برنامج في قناة فوكس نيوز  المحافظة.

أعرب هيجسيث عن دعمه لسياسة “الضغط الأقصى” التي انتهجتها إدارة ترامب الأولى ضد إيران، وذكر في إحدى حلقات برنامجه أن “إيران تمثل تهديداً مستمراً لاستقرار الشرق الأوسط، ويجب على الولايات المتحدة وحلفائها التصدي لهذا التهديد بحزم”.

هيجسيث يعتبر صهيونياً بامتياز، ويعبر عن ذلك كثيرا من خلال خطاباته العامة، و ما أظهرته صور لوشم ذو دلالة صهيونية على جسده، إلا أن الكثيرين، بما فيهم عدد من أتباع ترامب القريبين، أعربوا عن استغرابهم ومعارضتهم الشديدة لاختيار هيجسيث لهذا المنصب، على رأس وزارة الدفاع، في ظل غياب الخبرات اللازمة لذلك، وتساءل الكثيرون عن أهليته لقيادة جنرالات البنتاجون العتاة في هذا الوقت الحرج.

هيجسث هاجم في كتابين حديثين عدة تحالفات رئيسية للولايات المتحدة مثل حلف الناتو، والدول الحليفة مثل تركيا، والمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة. كما أكد على ضرورة أن تتجاهل القوات الأمريكية اتفاقيات جنيف. في الوقت نفسه، ربط هيجسث سياسة الولايات المتحدة الخارجية بأولوية إسرائيل، حيث قال: “إذا كنت تحب أمريكا، يجب أن تحب إسرائيل.”

تتوافق وجهة نظر هيجسث حول إسرائيل مع أبرز التزاماته السياسية، حيث يراها في بعض الأحيان جزءاً من معركة دينية أوسع. في جزء مثير من كتابه “الصليبي الأمريكي”، يقدم دعمه لإسرائيل كإحياء لحروب الصليبيين في العصور الوسطى. حيث كتب: “لحظتنا الحالية تشبه إلى حد كبير القرن الحادي عشر، لا نريد القتال، لكن مثلما فعل المسيحيون قبل ألف عام، يجب علينا أن نفعل ذلك. نحن بحاجة إلى حرب صليبية أمريكية.”

ومن تصريحات هيجسث الصادمة حديثه في القدس عن “المعجزات” التي حدثت في 1917، 1948، 1967، 2017 (اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل)، وأن ما ينتظره هو المعجزة الكبرى ببناء الهيكل على جبل الهيكل.

وفي جوانب أخرى، يبدو أن هيجسث يعتقد أنه ينبغي على الجيش الأمريكي تجاهل اتفاقيات جنيف والقوانين الدولية التي تحكم سلوك الحروب، بدلاً من ذلك “إطلاق العنان له” ليصبح قوة “قاسية”، “غير متسامحة”، و ”مفرطة في الفتك” موجهة نحو “كسب الحروب وفقاً لقواعدنا الخاصة.”

قد تثير تفضيلات هيجسث السياسية قلقاً بشأن مستقبل حلف الناتو، وتصاعد التوترات مع إيران، العدو اللدود لإسرائيل، وإفلات المجرمين الأمريكيين من العقاب، مثل أولئك الذين أقنع هيجسث ترامب بالعفو عنهم خلال ولايته الأولى. ([15])

وزارة الخارجية: ماركو روبيو 

تمت موافقة الكونجرس على أن يشغل منصب وزير الخارجية في إدارة ترامب الثانية، سيناتور فلوريدا ماركو روبيو، الذي كان قد خاض انتخابات 2016 ضد ترامب في الحزب الجمهوري. ويُعرف روبيو بتوجهاته المحافظة، وتلك الحازمة تجاه الصين وإيران وكوبا، وبدعمه اللامحدود للكيان الصهيوني. وكان حتى تعيينه عضواً بارزاً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي.

وزارة الأمن الداخلي: كريستي نويم 

اختار ترامب حاكمة ولاية داكوتا الجنوبية كريستي نويم لتولي وزارة الأمن الداخلي، وهو منصب محوري يرتبط مباشرة بسياسات الهجرة المتشددة للجمهوريين، وتم اختيار نويم لتتولى إدارة الوكالة في وقت يشغل فيه اثنان من صقور الهجرة المتشددين، ستيفن ميلر وتوم هومان، أدواراً قيادية، مما يشير إلى أن ترامب جاد في الوفاء بتعهداته بخصوص الهجرة.

ومع اختيار نويم، يضمن ترامب أن يقود وكالة ذات أولوية قصوى لشؤونه الداخلية شخص “مخلص له”. التوجهات الصهيونية لنويم واضحة أيضاً، ومن المعروف عنها الإيغال الشديد في نظريات المؤامرة، كما أن لها فضائح أخلاقية مشهورة، رغم أنها تروج أنها من التيار المحافظ.

مستشار الأمن القومي: مايكل والتز

اختار ترامب مايكل والتز ليكون مستشاراً للأمن القومي في إدارته القادمة. والتز هو  ضابط قوات خاصة سابق خدم في أفغانستان والعراق، ويُعرف بمواقفه المتشددة تجاه الصين، حيث يعتبر أن واشنطن وبكين في حالة “حرب باردة”. ويُتوقع أن يواصل والتز توجهاته السياسية الرامية إلى تعزيز الأمن القومي الأمريكي على الساحة العالمية.

والتز من أكثر المناصرين لحكومة نتنياهو، وكان ينتقد التهديد، ولو كان أجوفاً، من بايدن بوقف مد السلاح لإسرائيل إن دخلت رفح، ويرى بضرورة ترك إسرائيل تنهي تماماً على حماس، كما أنه من أشد خصوم إيران وضد سياسات أوباما وبايدن تجاهها؛ ويرى أن على الإدارة الأمريكية أن تدعم دائماً نتنياهو لأنه يعرف جيداً خصوم إسرائيل وكيفية التعامل معهم!

وفيما يتعلق بالأمن القومي أيضاً، تم تعيين أليكس وونغ نائباً أول لمستشار الأمن القومي، بينما سيتولى سيباستيان جوركا، الصهيوني المتطرف المعروف والمثير للجدل (والذي يطلق في العادة الكثير من التصريحات المتطرفة) منصب المدير الأول لمكافحة الإرهاب.

 وكالة المخابرات المركزية: جون راتكليف

رشّح ترامب حليفه الوثيق جون راتكليف على رأس وكالة المخابرات المركزية.  تولى في مايو/ آيار 2020 منصب مدير وكالة المخابرات الوطنية قبل ثمانية أشهر من مغادرة ترامب الرئاسة، وكان عضوا في مجلس النواب ومدعيا عاما في ولاية تكساس، ولم يتلق دعما يذكر من الديمقراطيين بمجلس الشيوخ عند الموافقة على قرار تعيينه في ذلك الوقت.

اتهمه ديمقراطيون ومسؤولو مخابرات سابقون بكشف معلومات استخباراتية ليستغلها ترامب وحلفاؤه الجمهوريون في مهاجمة خصومهم السياسيين، بمن فيهم جو بايدن منافس ترامب على الرئاسة آنذاك، وهي اتهامات نفاها مكتب راتكليف.

كما يعد راتكليف من داعمي إسرائيل البارزين، حيث كتب مقالاً ينتقد إدارة بايدن بسبب “حجب المساعدات الاستخباراتية والعسكرية” عن إسرائيل، بينما يؤكد أن هذا يقوض الأمن القومي الأمريكي، حين كان زميل زائر سابق في مؤسسة هيريتيج.

مدير وكالة الاستخبارات الوطنية: تولسي جابارد

جابارد، عضو سابق في الكونجرس من هاواي، وهي أول هندوسية وأول شخصية من ساموا تُنتخب لهذا المقعد الذي استمرت فيه حتى عام 2021، وسعت للترشح لرئاسة الجمهورية عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية التي فاز بها جو بايدن ليخوض انتخابات الرئاسة.  واجهت جابارد معارضة للترشح لمنصبها الحالي نظراً لمواقفها غير التقليدية بشأن السياسة الخارجية، إلا أن ترشيحها مر بصعوبة بالغة.

رفضت جابارد التدخل العسكري الأميركي في الحرب السورية، منتقدة دعم إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما للمعارضة السورية التي كانت تسعى للإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وفي عام 2017 زارت دمشق والتقت الأسد ضمن مهمة لتقصي الحقائق.

كما عارضت قرار إدارة ترامب باغتيال القائد السابق لفيلق القدس الإيراني قاسم سليماني عام 2020، واعتبرت أن عملية الاغتيال “تفتقر إلى الأساس القانوني والدستوري”. ويقول منتقدوها أن “ميولها روسية”.

وفي عام 2022 تركت الحزب الديمقراطي الذي كانت عضوة فيه، معلنة أن “توجهاته لم تعد تتماشى مع قيمها”، وانضمت إلى الحزب الجمهوري عام 2024، ودعمت حملة ترامب للرئاسة.

منصب مدير الاستخبارات الوطنية من أهم المناصب في الإدارة الأمريكية، حيث تقع جميع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ال 17 تحت إمرته، وحائز هذا المنصب مسئول عن الإحاطة اليومية للرئيس في بداية اليوم بأهم ما تحويه التقارير المخابراتية من جميع الأجهزة الأمنية.

كانت جابارد تتعرض لمضايقات كثيرة من الأجهزة الأمنية المختلفة، ويأتي ترشيحها من جانب ترامب للمنصب الجديد ليستغل ذلك في “تطهير” الأجهزة الأمنية التي يرى أنها تضطهده لصالح الدولة العميقة.

من المعروف عن جابارد أيضاً ميولها الصهيونية ودعمها الكبير لدولة إسرائيل، ووصفت المحتجين على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بأنهم “دمى” في يد “منظمة إسلامية متطرفة”.

مبعوث ترامب للشرق الأوسط: ستيفين ويتكوف

اختار ترامب ستيفين ويتكوف، رجل الأعمال والمستثمر العقاري، والمتبرع لحملة ترامب الانتخابية، ليكون مبعوثه إلى الشرق الأوسط.

وويتكوف هو رجل أعمال من عائلة يهودية، يعمل في مجال الاستثمار العقاري، ويعتبر من دائرة الأصدقاء المقربين إلى ترامب. وكان يُنظر إليه على أنه قناة لمجتمع الأعمال اليهودي خلال حملته الرئاسية.

ويحمل تعيين ترامب لرجل أعمال يهودي داعم جدا” لسياساته مع إسرائيل في هذا المنصب دلالات هامة على رغبة واشنطن – ترامب أن تكون التسويات في الشرق الأوسط ذات نكهة صهيونية بامتياز. حيث قال ويتكوف في تغريدة سابقة بمناسبة خطاب نتنياهو للكونجرس مؤخرا، الذي وصفه بأنه خطاب “ملحمي” ومؤثر للغاية، أن ترامب هو أقوى وأشد المؤيدين لإسرائيل على مدار أجيال. كما لا ينفصل الاختيار عن عقلية ترامب الذي يتعامل مع ملفات الشرق الأوسط بلغة المصالح والمال.

بذل ويتكوف دوراً أساسياً في التوصل لاتفاق وقف النار في غزة مؤخراً، عندما أرسله ترامب ليضغط لتوقيع الاتفاق قبل حفل تنصيبه، وذلك في المرحلة الحاسمة من التفاوض، كما أنه مستمر في أخذ أدواراً رئيسية كمبعوث لترامب، سواء في قضية غزة أو  أوكرانيا أو غيرها.

مَسْعَد بولس: كبيراً للمستشارين للشئون العربية والشرق الأوسط

أعلن الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، عن تعيين الملياردير الأميركي من أصل لبناني، مَسْعَد بولس، في منصب كبير مستشاريه للشؤون العربية والشرق الأوسط. ووصفه ترامب بأنه “صانع صفقات” و”داعم ثابت للسلام في المنطقة”.

حملة بولس في ميشيجان كانت محورية، حيث ساعد في جذب الناخبين العرب الأميركيين في الولاية الحاسمة، كما رتب لقاءات لترامب مع قادة الجالية العربية والمسلمة في مختلف الولايات. هذا الدعم ساعد ترامب في الفوز في بعض الولايات المتأرجحة.

بولس، الذي تربطه علاقة عائلية مباشرة بالرئيس المنتخب عبر زواج ابنه مايكل من تيفاني ترامب، الابنة الصغرى لترامب، هو أحدث شخصية عائلية في دائرة ترامب التي تحصل على منصب في إدارته. وكان قد حصل سابقاً على تعيينات عائلية أخرى، مثل ترشيح تشارلز كوشنر، والد صهره جاريد كوشنر، سفيراً في فرنسا.

مؤخراً أفادت مصادر مطلعة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيعين والد صهره، مَسْعَد بولوس، كسفير خاص له للمنطقة الكبرى في البحيرات في شرق أفريقيا. يأتي ذلك في وقت تسعى فيه جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تعيش واحدة من أكبر الأزمات في أفريقيا، لإبرام صفقة مع الولايات المتحدة بشأن المعادن الحيوية.

تجدر الإشارة إلى أن بولس مؤخراً قام باستقبال يوسي داغان رئيس مجلس المستوطنين في الضفة الغربية في منزله في واشنطن، وكان لقاءً حميماً، والأهم أن بولس، اللبناني الأصل، استخدم لفظ “السامرة” في الحديث عن الضفة، وهو الاسم الصهيوني الذي يطلقه الصهاينة على الضفة الغربية، ما يؤشر على دعم إدارة ترامب لضم الضفة للكيان الصهيوني كما وعد في حملته الانتخابية.

سفير واشنطن لدى إسرائيل: مايك هاكابي

ليس من قبيل المصادفة أن يعلن ترامب ترشيحه لمايك هاكابي الذي وصفه بـ “عاشق إسرائيل” ليكون سفير واشنطن لديها. وقال ترامب في بيان إن هاكابي «يعشق إسرائيل وشعب إسرائيل، وشعب إسرائيل يبادله العشق. سيعمل مايك بلا هوادة من أجل عودة السلام إلى الشرق الأوسط». يذكر أن هاكابي هو قس معمداني سابق، ومرشح سابق لرئاسة الجمهورية، ومن أهم أقواله أنه “لا يوجد شيء اسمه الضفة الغربية، وإنما يهودا والسامرة، ولا توجد مستوطنات وإنما مجتمعات، كما لا يوجد شيء اسمه احتلال!” (أنظر[16]).

سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة: إليز ستيفانيك

تم ترشيح النائبة إليز ستيفانيك لتولي منصب سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة. وتعتبر ستيفانيك من أبرز الشخصيات المؤيدة لترامب في فترته الأولى. وتصدرت ستيفانيك عناوين الأخبار العام الماضي بحملتها لإقالة رؤساء الجامعات الذين لم ينددوا بشكل كافٍ بمعاداة السامية خلال جلسة استماع في مجلس النواب بشأن هذه المسألة.

وزادت شهرتها بعد أن أدت استجواباتها لثلاثة من رؤساء الجامعات بشأن الاعتصام في الحرم الجامعي للتنديد بجرائم إسرائيل في غزة، إلى استقالة اثنين منهم، وهو الأداء الذي أشاد به ترامب مراراً وتكراراً.

كما دافعت ستيفانيك عن ترامب بقوة في محاكمتَي عزله، وانتقدت لوائح الاتهام الجنائية الأربع الموجهة إليه، بما في ذلك تقديم شكوى أخلاقية في نيويورك ضد القاضي الذي نظر في قضية الاحتيال المدني.

إلا أنه في أواخر شهر مارس سحب ترامب هذا الترشيح بسبب المخاوف من أن خروجها من مجلس النواب قد يهدد الأغلبية الضيقة للجمهوريين، ويدرس حالياً للترشيح لهذا المنصب سفير أمريكا السابق في ألمانيا ريتشارد جرينيل، وديفيد فريدمان (ذو الميول الصهيونية الكبيرة) السفير السابق في إسرائيل.

سكوت باسينيت: وزير الخزانة

سكوت بيسنت هو ملياردير أميركي، ومدير سابق لصندوق تحوط، ومؤسس “مجموعة كي سكوير”  (Key Square Group). تم تعيينه وزيراً للخزانة في إدارة الرئيس دونالد ترامب بعد أن حصل على تأييد مجلس الشيوخ بأغلبية 68 صوتاً مقابل 29.

في منصبه الجديد، سيتولى بيسنت تنفيذ أجندة ترامب الاقتصادية، التي تشمل تخفيضات ضريبية، إلغاء القيود التنظيمية، وإعادة التوازن التجاري للولايات المتحدة. وخلال جلسات تأكيد تعيينه، أشار إلى أن الإدارة ستستخدم التعريفات الجمركية كأداة لمعالجة ممارسات التجارة غير العادلة، وزيادة إيرادات الحكومة، والتفاوض مع الدول الأجنبية.

كذلك، ورد في تقارير إعلامية مثل صحيفة “فاينانشيال تايمز” أن بيسنت كان يدفع باتجاه خطة لفرض تعريفات جمركية تبدأ بنسبة 2.5% وتزداد تدريجياً شهرياً، بهدف منح الشركات الوقت للتكيف وتحفيز الدول على التفاوض تجارياً مع الولايات المتحدة.

يُعد تعيينه جزءاً من استراتيجية أوسع لإدارة ترامب، التي تسعى لتقليص العجز التجاري، وتشديد الرقابة على الهجرة، وممارسة ضغوط اقتصادية لتحقيق أهدافها السياسية والدبلوماسية.

بام بوندي: وزيرة العدل/المدعي العام

عقب انسحاب المرشح السابق مات جيتز من الترشح للمنصب، أعلن ترامب ترشيح بام بوندي لتكون المدعية العامة في إدارته الجديدة. بوندي تُعد من الشخصيات البارزة والمقربة من ترامب، حيث لعبت دوراً مهماً ضمن فريق الدفاع عنه أثناء محاكمته البرلمانية في عام 2020، كما كانت رئيسة معهد “أميركا أولاً للسياسة” الذي أسسه أعضاء سابقون من إدارة ترامب.

اللافت في شخصية المرشحة الجديدة لترامب حبها الشديد لإسرائيل واعترافها بذلك علناً، حيث قالت في تصريحات سابقة لها: “إسرائيل هي أعظم حليف لنا في العالم”. وأضافت:” لقد زرت إسرائيل مرتين بصفتي النائب العام، والقدس هي عاصمة إسرائيل”، وهو ما يتماهى تماماً مع إدارة ترامب الجديدة الـ “منكَّهة” بحب إسرائيل والتفاني من أجل العمل لمصلحتها. هذا يطرح سؤالاً جدلياً حول السبب المباشر لانسحاب مات جيتز، هل هي التهم الأخلاقية التي وجهت إليه، أم بسبب اتهامه علنا من الأوساط اليهودية بمعاداة السامية؟  سابقاً، اعتبرت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» العبرية، إن ترامب يقدم بهذا الاختيار (جيتز) شخصية «مثيرة للفتنة» لطالما تجادلت مع الجماعات اليهودية، وتبنت “نظرية مؤامرة مُعادية للسامية”.

كاش باتيل: مديرا لمكتب التحقيقات الفيدرالي

أعلن ترامب، عن رغبته في تعيين كاش باتيل، المسؤول الأمني السابق، لقيادة مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، بعد إقالة المدير السابق للمكتب، كريستوفر راي.  وكان باتيل، الذي شغل خلال فترة ولاية ترامب الأولى منصب مستشار لكل من مدير المخابرات الوطنية ووزير الدفاع، قد دعا سابقاً إلى تقليص دور مكتب التحقيقات الفيدرالي في جمع المعلومات الاستخباراتية، وتنقية صفوفه من أي موظف يعارض دعم أجندة ترامب. وقد تم بالفعل لاحقاً تأكيد ترشيح باتيل في مجلس الشيوخ.

وكان باتيل قد أعلن سابقا، أنه في حال فوز ترامب، لديه خطة جذرية لتغيير هيكلية المكتب وتطهيره من الموظفين الذين لا يدعمون أجندة ترامب. وفي تصريحات له، توعد باتيل بإغلاق المبنى الرئيسي للمكتب في واشنطن وتحويله إلى “متحف للدولة العميقة” في اليوم التالي، وإرسال حوالي 7 آلاف موظف من هذا المبنى إلى ملاحقة المجرمين وتجار المخدرات. وأضاف أنه سيتخذ نفس الإجراءات في وزارة العدل، ويعمل مع الكونجرس على تقليص النفقات الحكومية.

فيفيك رامسوامي : إدارة كفاءة الحكومة

رشح ترامب أيضا فيفيك راماسوامي رجل الأعمال الأميركي ذو الأصل الهندي، للمشاركة مع إيلون ماسك في قيادة إدارة كفاءة الحكومة، حيث قال ترامب عنهما، “هذان الأميركيان الرائعان سيمهدان الطريق معاً أمام إدارتي لتفكيك البيروقراطية الحكومية وتقليص الاجراءات التنظيمية المفرطة وخفض الهدر في النفقات وإعادة هيكلة الوكالات الفدرالية (…) وهو أمر ضروري لحركة “إنقاذ أميركا”.

 راماسوامي كان قبل ذلك يسعى للترشح للرئاسة، وعدته بعض الاستطلاعات ثاني أكثر المرشحين الجمهوريين شعبية، بعد الرئيس دونالد ترامب. و رغم ديانته الهندوسية فهو يدعم “القيم المسيحية” ويهاجم العلمانية، ويتبنى خطابا معاديا للمثليين ومناهضا للإجهاض وسياسات تغير المناخ، ويعتبره كثيرون نسخة مصغرة عن ترامب، إذ يؤمن أن أميركا تعاني من “أزمة هوية” وهو الخطاب الذي يتشابه مع شعار ترامب “نحن في أمة في حالة انحدار”.

عبر رامسوامي مراراً، وبشكل فج عن دعمه للكيان الصهيوني، وقال ما معناه بأن الدول العربية يمكن أن تستوعب الفلسطينيين الذين يأخذون مكان اليهود في فلسطين، وأن الجيش الإسرائيلي يجب أن يضع رؤوس مائة من قادة حماس على أوتاد على حدود قطاع غزة!

إلا أن راموسوامي لم يستمر في منصبه الجديد طويلاً، فقد تركه بعد أيام قليلة.

سوزي وايلز: كبيرة موظفي البيت الأبيض

وايلز، المخضرمة في السياسة الجمهورية، حازت على ثقة ترامب بعد دعمها له بعد خسارته للبيت الأبيض، وهي من أقرب المقربين له. لدى وايلز توجهات صهيونية مسيحية واضحة. تشير بعض التوقعات إلى مصادمات محتملة بين وايلز وإيلون ماسك حول النفوذ لدى الرئيس ترامب.

نائب كبير موظفي البيت الأبيض للسياسات: ستيفن ميلر

اختار ترامب، مستشاره المتشدد لشؤون الهجرة ستيفن ميلر لمنصب نائب كبير موظفي البيت الأبيض للسياسات، والمعروف عنه أيضاً ميوله الصهيونية المتشددة.

وكان ميلر أحد كبار المستشارين في فترة ولاية ترامب الأولى، وكان شخصية محورية في العديد من قراراته السياسية، خاصة تحركه لفصل آلاف العائلات المهاجرة كبرنامج ردع في عام 2018. وساعد ميلر في صياغة العديد من خطب ترامب وخططه المتشددة فيما يتعلق بالهجرة.

ومنذ أن ترك ترامب منصبه، شغل ميلر منصب رئيس منظمة “أميركا فيرست ليجال”، وهي منظمة تضم مستشاري ترامب السابقين، وتم تأسيسها كنسخة محافظة من “اتحاد الحريات المدنية الأميركي”، لتتحدى إدارة الرئيس جو بايدن وشركات الإعلام والجامعات وغيرها بشأن قضايا مثل حرية التعبير والدين والأمن القومي.

وزيرة التعليم: ليندا ماكمان

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الرئيسة السابقة لـ ”اتحاد المصارعة العالمية الترفيهية” ليندا ماكمان، لتولي حقيبة وزارة التعليم الفدرالية، التي طالما سخر منها، وتعهد بإلغائها خلال حملته الانتخابية، واعتبرها مخترقة من قبل “المتطرفين والماركسيين”، داعيا إلى تفكيكها بالكامل.

وبالفعل، بعد تولي ترامب، أعلنت وزارة التعليم الأمريكية، أنها ستقوم بتقليص عدد موظفيها البالغ عددهم أكثر من 4100 شخص بنسبة تقارب 50%.

وفي هذا السياق، أكدت وزيرة التعليم ليندا مكمان في تصريح لشبكة فوكس نيوز أن “هذه الخطوة تمثل المرحلة الأولى من خطة الرئيس ترامب لإغلاق الوزارة بشكل كامل”!، وهو ما حدث بالفعل في وقت لاحق.

رئيس وكالة حماية البيئة: لي زيلدين

زيلدين، عضو سابق في الكونجرس، يدعم رفع حظر التكسير الهيدروليكي لإنتاج النفط. قال ترامب إن زيلدين سيُكلف باتخاذ “قرارات سريعة لإلغاء إجراءات تنظيمية” بهدف التراجع عن حمايات بيئية أقرتها إدارة جو بايدن. ووصف ترامب زيلدين، أحد أوائل الداعمين للرئيس الجمهوري، بأنه “يتمتع بخلفية قانونية قوية جداً، وهو مقاتل حقيقي عن سياسات أميركا أولا”.

انحيازه القوي إلى مواقف إسرائيل المتشددة واضح نتيجة خلفيته اليهودية وجذور عائلته الصهيونية، وعارض زيلدين بشدة الدعوات إلى وقف إطلاق النار، مدَّعياً أن حماس ستستخدم أي توقف “لإعادة التنظيم” و ”العودة إلى الهجوم”، ومن ثَمَّ فإن إسرائيل ليس لديها خيار سوى مواصلة القتل الجماعي للمدنيين لـ ”القضاء على حماس”.

وزارة الصحة والخدمات الإنسانية: روبرت ف. كينيدي جونيور

كينيدي، ابن شقيق الرئيس الأسبق جون كينيدي، الذي أوقف حملته المستقلة للرئاسة في أغسطس وأيد ترامب. نشَط في حركة مناهضة اللقاحات، ولديه تاريخ في الترويج لدعوات بأن اللقاحات تسبب التوحد، وغيرها من نظريات المؤامرة الأخرى. من الواضح أن ترامب رشحه أيضاً لينتقم من مسئولي الصحة الذين يتهمهم ترامب بادعاءات كاذبة حول فيروس كورونا بررت اتخاذ الإجراءات الحادة التي أفرزت أثارا إقتصادية سلبية كانت العامل الأكبر الذي ساهم في عدم إعادة انتخابه. معروف عن كنيدي أيضاً عدم دعمه للحرب في أوكرانيا، لكن ميوله الصهيونية ودعمه لإسرائيل واضحين. أيضاً لم يسلم كنيدي من الادعاءات بممارسات غير أخلاقية، حيث زعمت مربية أطفاله السابقة أن كنيدي تحرش بها في منزله عام 1998، إلا أنه نفى الاتهام.

أضاف ترامب إلى فريقه الصحي، الدكتورة جانيت نيشاوات (مسيحية من أصل أردني)، وهي طبيبة ومساهمة في قناة فوكس نيوز، والمتهمة بنشر  معلومات مضللة حول اللقاحات وفيروس كورونا لتكون الجراح العام (شقيقتها جوليا نشيوات متزوجة من مايكل والتز مستشار ترامب للأمن القومي)؛ والدكتور ديف ويدلن، عضو الكونجرس الجمهوري السابق من فلوريدا، لقيادة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC؛ والدكتور مارتي ماكاري، اللبناني الأصل، والجراح في جامعة جونز هوبكنز، ليكون رئيساً لإدارة الغذاء والدواء FDA .

إلا أنه من المثير  للاهتمام، ما نشر من أنباء عن ترشيح عدد من المساعدين الرئيسيين لكنيدي، ممن يتبنون سياسات معاكسة تماماً لما كان كنيدي، وترامب نفسه، يدعوان إليه على الدوام. أهم هذه الترشيحات يأتي جيم أونيل كمرشح نائباً للوزير، ما يجعله سيدير الشئون اليومية للوزارة، على الرغم من خلفيته وعلاقاته في مجال الأعمال مع شركات الأدوية وسياسات التحكم في الرقابة على العقاقير والتطعيمات الجديدة، التي تتعارض تماما مع الشعار الذي تم رفعه للناخبين، لنجعل أمريكا صحية مرة أخرى Make America Healthy Again – MAHA. أهم هذه العلاقات تبرز مع الملياردير بيتر ثيل، الشريك المشارك في شركة بالانتير، الذراع الخاص الذي يطلق عليه البعض رأس الحربة في دولة المراقبة، خاصة لتطويرها التكنولوجيا الحيوية الجديدة والذكاء الصناعي، فضلاً عن علاقتها المتينة مع وكالة المخابرات المركزية.

أهمية هذا الأمر تكمن حول التساؤل عن مصداقية الشعارات التي رفعها ترامب أثناء حملته الانتخابية، وعن مدى تعبير حقيقة أداء إدارته عن تطلعات ناخبيه من أنصار شعار  MAGA، أم أنها في نهاية المطاف خاضعة لنفوذ وتطلعات عمالقة المال والتكنولوجيا وأصحاب الأجندات الخاصة من أمثال بيتر ثيل (الذي أقنع ترامب باختيار  جى دي فانس نائباً للرئيس بعد أن دعمه منذ كان طالباً في الجامعة)، وبالتالي خيبة الأمل التي سيشعر بها هؤلاء الناخبون لاحقاً؟

رابعاً: من خلال أوائل القرارات التنفيذية التي اتخذها ترامب فور بدأ فترة رئاسته

في اليوم الأول من ولايته، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سلسلة طويلة من الأوامر التنفيذية التي كانت جزءاً من تعهداته السابقة، منفذاً إياها بالفعل، وبشكل متلاحق، والتي شملت مجالات متعددة مثل تقليص الحكومة الفيدرالية وبعض الوكالات، الهجرة، الاقتصاد، المساواة، والعفو الجنائي. كما ألغى عدداً من القرارات التنفيذية التي أصدرها سلفه جو بايدن، بعضها في الأيام الأخيرة من حكمه.

ومن أبرز القرارات التي أصدرها ترامب:

  1. إلغاء حق الجنسية بالولادة: وقع ترامب أمراً تنفيذياً يُنهي حق الحصول على الجنسية الأمريكية للأطفال المولودين في الولايات المتحدة من مهاجرين غير قانونيين، وهو الحق الذي كان مكفولاً بموجب الدستور الأمريكي منذ أكثر من 125 عاماً.
  2. الانسحاب من منظمة الصحة العالمية: قرر ترامب سحب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، منتقداً طريقة إدارة المنظمة لجائحة كوفيد-19 والأزمات الصحية الأخرى.
  3. إعلان حالة طوارئ على الحدود الجنوبية: وقع ترامب أمراً بإعلان حالة طوارئ وطنية على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، بهدف الحد من تدفق المهاجرين غير النظاميين.
  4. حالة طوارئ في قطاع الطاقة: وقع أمراً تنفيذياً يعلن حالة طوارئ في قطاع الطاقة، بهدف خفض التكاليف وزيادة الإنتاج المحلي، بما يساهم في تقليل معدلات التضخم.
  5. إلغاء عقوبات على مستوطنين: ألغى ترامب العقوبات التي فرضها بايدن على مستوطنين يهود في الضفة الغربية المحتلة، الذين كانوا قد تورطوا في أعمال عنف ضد الفلسطينيين.
  6. تغيير تسمية خليج المكسيك: وقع ترامب أمراً تنفيذياً بتغيير اسم خليج المكسيك إلى “خليج أميركا”، وذلك تنفيذاً لتعهده قبل تنصيبه.
  7. الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ: أصدر أمراً تنفيذياً آخر بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، مما يمثل تحدياً للجهود الدولية لمكافحة التغير المناخي.
  8. إصدار عفو عن 1500 شخص: منح ترامب عفواً رئاسياً لـ 1500 شخص متورطين في أحداث اقتحام مبنى الكابيتول في يناير 2021.
  9. إلغاء تدابير حماية حقوق المثليين: ألغى ترامب الأوامر التنفيذية التي تعزز حقوق المثليين والمتحولين جنسياً، تنفيذاً لتعهده بعدم اعتراف الحكومة الأمريكية إلا بجنسين: “الذكر والأنثى”.
  10.  استهداف “الدولة العميقة”: وقع أمراً يوجه وزارة العدل للتحقيق في الأنشطة الحكومية السابقة، خاصة فيما يتعلق بتسليح المسؤولين ضد المعارضين السياسيين.
  11.  إعادة هيكلة الجهاز الحكومي: أعلن ترامب عن إنشاء مجموعة استشارية تهدف إلى تقليص حجم الحكومة وإلغاء عدد من الوكالات الفيدرالية.
  12.   تجميد التوظيف الحكومي: وقع أوامر بتجميد التوظيف الحكومي وإيقاف العمل باللوائح الفيدرالية الجديدة، إلى جانب إلزام الموظفين الفيدراليين بالعودة للعمل بنظام الحضور الشخصي.
  13.  التنقيب عن النفط: ألغى مذكرة أصدرها بايدن في 2023 تحظر التنقيب عن النفط في بعض المناطق بالقطب الشمالي، مؤكداً على ضرورة تشجيع استكشاف الطاقة وإنتاجها على الأراضي والمياه الاتحادية.
  14. إنهاء الرقابة الإعلامية: وقع أمراً لتنفيذ سياسة تهدف إلى استعادة حرية التعبير وإنهاء الرقابة الفيدرالية على وسائل الإعلام، معتبراً أن الحكومة قد انتهكت حقوق الأمريكيين في التعبير تحت ستار مكافحة التضليل الإعلامي.
  15. إيقاف المساعدات الفيدرالية: في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراراً يقضي بتجميد جميع أشكال المساعدات الفيدرالية، بما في ذلك المنح والقروض. وقد نصت المذكرة الصادرة عن القائم بأعمال رئيس مكتب الميزانية في البيت الأبيض على ضرورة “إيقاف جميع الأنشطة المتعلقة بالالتزامات أو صرف جميع المساعدات المالية الفيدرالية مؤقتاً”، مما أدى إلى حالة من البلبلة وعدم الوضوح بشأن نطاق هذا الإجراء.

 وقد أثارت هذه الخطوة مخاوف حول تأثيرها على البرامج الفيدرالية، مثل الإغاثة من الكوارث وأبحاث السرطان، حيث يرى الديمقراطيون أنها قد تخلّف عواقب وخيمة. وعلى الرغم من تأكيد البيت الأبيض أن البرامج التي تقدم فوائد مباشرة للأفراد، مثل الرعاية الطبية والمساعدات الغذائية، لن تتأثر، إلا أن الغموض لا يزال يكتنف مدى حماية هذه المساعدات عملياً.

 من جهة أخرى، أبدت منظمات غير ربحية قلقها من تأثيرات التجميد على الخدمات الأساسية، مثل علاج السرطان والمساعدات الغذائية والسلامة من العنف المنزلي. وفي ظل تصاعد الانتقادات، تعهد تحالف من المدعين العامين للولايات الديمقراطية باتخاذ إجراءات قانونية لمنع تنفيذ القرار، معتبرين إياه غير دستوري. كما يعكس هذا القرار توجه الإدارة الأمريكية نحو إعادة تقييم أولويات الإنفاق الحكومي، لا سيما فيما يتعلق ببرامج التنوع العرقي والمساعدات الخارجية، في ظل سياسة ترامب الرامية إلى ضبط النفقات الفيدرالية بما يتماشى مع توجهاته السياسية والاقتصادية.

  1. إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) : ما يمثل تحولاً استراتيجياً في السياسة الخارجية الأمريكية، حيث كانت هذه الوكالة تمثل أداة للهيمنة الناعمة عبر تقديم المساعدات المشروطة التي تؤثر على السياسات الداخلية للدول المستفيدة. اعتمدت USAID على دعم مؤسسات المجتمع المدني، والتأثير في الإعلام والسياسات الاقتصادية للدول النامية، مما جعلها أداة للتحكم غير المباشر دون الحاجة إلى تدخل عسكري.

وقد أثّر تفكيكها على العديد من الدول العربية، حيث تواجه مصر والأردن ضغوطاً اقتصادية متزايدة، بينما يواجه لبنان تراجعاً في الدعم الأمريكي لصالح قوى أخرى مثل إيران وروسيا. أما السودان واليمن، فهما الأكثر تضرراً من الناحية الإنسانية، في حين أن تراجع التمويل في سوريا قد يؤدي إلى تغيرات في موازين النفوذ في المنطقة. في ظل هذا التحول، قد تملأ الصين وروسيا الفراغ، بينما تسعى الدول الخليجية إلى تقديم بدائل مشروطة.

 ومع ذلك، فإن إغلاق USAID لا يعني نهاية النفوذ الأمريكي، بل يشير إلى إعادة توجيهه نحو وسائل أكثر صراحة مثل العقوبات الاقتصادية والتدخل العسكري المباشر. وهذا النهج تاريخيا يعكس ما يعرفه المؤرخون الأمريكيون بـ ”نظام الغنائم”، حيث يُكافأ الحزب الفائز بالانتخابات من خلال الاستيلاء على مؤسسات الدولة وإعادة تشكيلها وفقاً لمصالحه.

كان هذا النظام شائعاً في القرن التاسع عشر، لكنه أدى إلى فساد كبير، مما دفع الرئيس ثيودور روزفلت إلى إلغائه عبر إصلاحات الخدمة المدنية. كان روزفلت يرى أن الحكومة يجب أن تخدم غايات أسمى من المصالح السياسية الضيقة للحزب الحاكم. لكن بدلاً من الإصلاح، يُفرض على USAID الآن عقوبة بالإعدام.

وفقاً لأكثر من عشرة مصادر، تسببت هذه السياسة في أضرار بالغة للوكالة، حيث أكد العديد من قادة المنظمات غير الحكومية أن USAID قد لا تتعافى أبداً.

وقد جمدت الوكالة المدفوعات للعديد من المقاولين مقابل أعمال أنجزوها في ديسمبر، ما أجبرهم على تسريح الموظفين، والتوقف عن تقديم الخدمات الصحية، وترك الغذاء يتعفن في المخازن.

وتنظر المحاكم حالياً في شرعية أوامر التجميد، ومن غير الواضح كيف ستتطور الأمور عندما يأتي الموعد النهائي في أبريل لإعادة إطلاق الوكالة.

ورغم أن الإدارة وافقت على 21 دفعة بقيمة 250 مليون دولار لمشاريع تعاقدت عليها قبل تنصيب ترامب، إلا أن ذلك لن يكون كافياً لتعويض الضرر. كما أن الإعفاءات التي وعدت بها الحكومة للمشاريع الإنسانية تتأخر في التنفيذ.

وتقدر الخسائر بحلول 14 فبراير، وفقاً لتحليل التحالف الأمريكي للقيادة العالمية على هذا النحو:

  • 11,500 أمريكي و54,575 شخصاً أجنبياً فقدوا وظائفهم.
  • تجميد نحو مليار دولار من المدفوعات لمشاريع تم تنفيذها بالفعل.
  • 500 مليون دولار من المواد الغذائية عالقة في الموانئ والمخازن.
  • في سوريا، تعليق المساعدات الغذائية والمساعدات الأخرى لما يقرب من 900,000 شخص.
  • في غرب إفريقيا، توقف علاج 3.4 مليون شخص في 11 دولة من أمراض استوائية قاتلة.
  • 328,000 شخص مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) في 25 دولة لم يعودوا يتلقون أدوية منقذة للحياة.

بموازاة ذلك لن يقتصر الضرر على المحتاجين فحسب، بل سيمتد إلى الأمن القومي الأمريكي، وفقاً لأبحاث التحالف:

  • فقد تم تجميد التمويل العسكري الخارجي لحلفاء رئيسيين مثل الأردن وتايوان.
  • وتوقف الحراس مؤقتاً عن العمل في تأمين مخيمات الهول وروج في سوريا، حيث يُحتجز 10,000 مقاتل من داعش و40,000 من أفراد عائلاتهم.
  • تعليق برنامج مكافحة الإرهاب التابع لـ USAID، والذي كان يدرب قوات الأمن في إندونيسيا، العراق، ليبيا، ماليزيا، الصومال واليمن.
  • وبالنسبة للعاملين في المجال الإنساني، كان الأمر بمثابة صدمة. يقول تايلور ويليامسون، وهو خبير في الصحة العامة عمل في تنزانيا، الكونغو، رواندا، غانا ومدغشقر منذ عام 2005: “في غضون أسبوع واحد، تبخرت البنية التحتية للمساعدات الخارجية بالكامل. لم يعد هناك أدوية لمصابي الإيدز، ولا أدوية للملاريا، ولا شبكات وقاية، ولا لقاحات، ولا تدريب للقابلات. لا شيء.”

وكثير من العاملين في المجال الإنساني يخشون التحدث علناً خوفاً من الانتقام. لكن منظمات الإغاثة الكاثوليكية كانت من بين الاستثناءات القليلة التي رفعت صوتها.

على سبيل المثال، حذرت منظمة خدمة اللاجئين اليسوعية في 12 فبراير من أن أكثر من 100,000 لاجئ في تشاد، كولومبيا، إثيوبيا، الهند، العراق، جنوب إفريقيا، جنوب السودان وأوغندا سيتضررون بسبب توقف تمويل USAID. (HuMedia)

  1. إقالة عدد من الجنرالات والضباط الكبار في الجيش الأمريكي: كشفت شبكة “إن بي سي” نقلاً عن مسؤولين دفاعيين أن وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيجسيث، يستعد لإقالة عدد من الجنرالات والضباط الكبار ، في خطوة تعكس إعادة هيكلة القيادة العسكرية بما يتماشى مع توجهات الرئيس دونالد ترامب. ووفقاً للتقارير، فإن معظم الضباط المستهدفين كانوا مقربين من وزير الدفاع السابق لويد أوستن، ولعبوا دوراً بارزاً في مبادرات التنوع والاندماج داخل الجيش، أو عبّروا عن مواقف لا تتوافق مع سياسات ترامب. كما أفادت المصادر بأن قيادة البنتاغون أطلعت أعضاء جمهوريين في الكونغرس على قائمة المرشحين للإقالة، ومن المتوقع أن يتم استبدالهم بقيادات عسكرية تتماشى مع رؤية هيجسيث والسياسات التي يدعمها ترامب. ويأتي هذا التطور في ظل تصاعد الجدل حول استقلالية المؤسسة العسكرية عن التوجهات السياسية، ومدى تأثير هذه الإقالات على توازن القوى داخل الجيش الأمريكي.

كما أقال ترامب رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال سي كيو براون، الضابط الأعلى رتبة في البلاد، كجزء من عملية إعادة تنظيم كبرى للقيادة العسكرية العليا.

ونشر ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي: “أريد أن أشكر الجنرال تشارلز براون على خدمته لبلدنا لأكثر من 40 عاماً”. وقال إن خمسة ضباط كبار آخرين سيتم استبدالهم أيضاً.

كان الجنرال براون ثاني ضابط أسود يشغل المنصب، والذي يقدم صاحبه المشورة لكل من الرئيس ووزير الدفاع بشأن الأمن القومي.

  1. فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لصالح إسرائيل: وافق مجلس النواب الأمريكي على فرض عقوبات ضد المحكمة الجنائية الدولية، وذلك رداً على إصدار الأخيرة مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت. تأتي هذه الخطوة في سياق تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، والتي تُعتبر منبراً دولياً لمقاضاة الجرائم ضد الإنسانية. تعتبر العقوبات التي أقرها مجلس النواب علامة على دعم واشنطن الثابت لإسرائيل، خاصة في ظل الحملة العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة. حيث يهدف القرار إلى تعزيز موقف إسرائيل ضد ما يُعتبر محاولات من المحكمة الجنائية الدولية للتدخل في شؤونها الداخلية. ويُظهر هذا الإجراء أيضاً الانقسام المتزايد في الآراء حول دور المحكمة الجنائية الدولية، حيث يعتقد البعض أنها تساهم في تعزيز العدالة الدولية، بينما يرى آخرون أنها تمثل تهديداً للسيادة الوطنية. تتضمن العقوبات المحتملة تقليص الدعم المالي للمحكمة، وتقييد التعاون الأمني والقضائي معها. هذا التحرك يعكس أيضاً الطبيعة السياسية للدعم الأمريكي لإسرائيل، حيث تسعى إدارة بايدن إلى التوازن بين الالتزامات الإنسانية والقيم الديمقراطية من جهة، والدعم الاستراتيجي لإسرائيل من جهة أخرى.
  2. رفع الحظر عن أسلحة لإسرائيل: وأصدر ترامب في يناير 2025 قراراً برفع الحظر الذي فرضته إدارة جو بايدن على شحنة قنابل زنة 2000 رطل لإسرائيل، والتي تشمل 1800 قنبلة من طراز MK-84، كانت الإدارة السابقة قد منعت تسليمها. يأتي هذا القرار في سياق جدل سياسي حول العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، حيث كان بايدن قد فرض الحظر كاحتجاج على غزو إسرائيل لمدينة رفح، ما جعله رمزاً سياسياً أكثر منه قضية عسكرية. واستغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا الحظر لحشد الجمهوريين ضد إدارة بايدن.

وكانت الإدارة الأمريكية السابقة قد أعربت عن مخاوفها من أن استخدام هذه القنابل في المناطق المكتظة بالسكان في غزة قد يؤدي إلى خسائر بشرية فادحة. حتى الآن، لم يصدر البيت الأبيض تعليقاً رسمياً بشأن رفع الحظر.

  • عقوبات ضد جنوب إفريقيا: في فبراير 2025 وقع ترامب أمراً تنفيذياً بوقف المساعدات المالية لجنوب إفريقيا، بسبب سياساتها المتعلقة بالأراضي والقضية التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، الحليف الرئيسي لواشنطن، بتهمة الإبادة الجماعية.

وذكر البيت الأبيض أن الولايات المتحدة ستضع خطة لإعادة توطين مزارعين من جنوب إفريقيا وعائلاتهم كلاجئين، مع إعطاء الأولوية للإغاثة الإنسانية، خصوصاً لأولئك الذين ينحدرون من المستوطنين الهولنديين والفرنسيين الأوائل.

واتهم ترامب جنوب إفريقيا بمصادرة الأراضي ومعاملة “فئات معينة من الناس” بشكل سيئ، دون تقديم أدلة، وهو ما أثار دعماً من الملياردير إيلون ماسك، المولود في جنوب إفريقيا، والذي وصف سياسات الأراضي هناك بأنها تمييزية ضد البيض.

  • التعريفات الجمركية-  قرارات 2 إبريل: توج ترامب قراراته التنفيذية مؤخراً بحزمة من قرارات فرض تعريفات جمركية على عشرات الدول حول العالم، إضافة للاتحاد الأوروبي، دون تفرقة بين الخصم والحليف، في يوم أطلق عليه يوم التحرير، أو يوم الاستقلال الاقتصادي!

تراوحت قيمة التعريفات بين حدها الأدنى البالغ 10%، وصولاً إلى نحو 50% في بعض الحالات. وقد أطلقت الإدارة الأمريكية على هذه الرسوم “التعريفات الجمركية التبادلية المخفضة Discounted Reciprocal Tariffs”. جاءت التسمية من الادعاء بأن هذه الرسوم محسوبة بناء على ما تفرضه الدول الأخرى من رسوم جمركية على الولايات المتحدة، مع تخفيضها بنسبة 50%. إلا أنه في حقيقة الأمر، هناك بعض من هذه الدول لا تفرض رسوماً جمركية على المنتجات الأمريكية على الإطلاق. بالمتابعة، وبالتتبع، ظهر بوضوح أن ما يقوله ترامب حول هذا الأمر هو مجرد أكاذيب، واكتشف المحللون أن هذه النسب ما هي إلا حاصل قسمة عجز الميزان التجاري الأمريكي مع دولة ما (دون أخذ الخدمات في الاعتبار)، على قيمة ما تصدِّره تلك الدولة للولايات المتحدة، مضروباً في 50%! هذه الطريقة ليس لها أي أساس اقتصادي، وتوضح الكذبة الكبرى التي تروج لها الولايات المتحدة حول الرد على من يسرقون أمريكا!

من الواضح أن هذه التعريفات الجمركية ذات الأغراض المتعددة والمتعارضة، ومنها، فضلاً عن الحماية للمنتجات الأمريكية، الضغط السياسي لتحقيق أجندات مختلفة، فضلاً عن الترويج إلى أن هذه التعريفات ستوفر لأمريكا تريليونات من الدولارات، وتحقق لأمريكا الاستقلال الاقتصادي، هي في واقع الأمر ستزيد من عزلة أمريكا عن العالم، إضافة لأثارها شديدة السلبية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي. كما يبدو أن هذا الترويج سيسوق للأمريكيين أنه سيمكِّن من إنفاذ تخفيضات ضريبية ضخمة تعوضها الأموال التي ستأتي من الجمارك، وهو ما توشك الإدارة الأمريكية على تقريره كما أوضح ترامب بالفعل.

ويرى البعض، السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي على سبيل المثال، أن سياسة التعريفات تلك ليست سياسة إقتصادية ولا تجارية (لأنها بالفعل لا تخدم هذه الأغراض)، وأنه حتى المقصود بها ليسوا بالمقام الأول الدول المنافسة تجارياً، وإنما هي سياسة تستهدف الشركات الأمريكية الكبرى بالأصل، لابتزازهم لتقديم مزايا تساعد ترامب في إحكام سيطرته على السلطة، في مقابل إعفائهم من بعض هذه التعريفات حتى لا يتعرضون لخسائر كبيرة! كما يرى البعض الآخر أن هذه التعريفات تستهدف تقويض النظام التجاري العالمي من أساسه ووضع أسس لنظام جديد.

سنتناول سياسات التعريفات الجمركية والأهداف من ورائها، وما ترتب وسيترتب عليها من أثار في الفصلين الثالث والرابع من هذه الدراسة.

تشكل هذه الأوامر التنفيذية، التي لاتزال تتوالى بعد الانتهاء من هذه الدراسة، مجموعة من التوجهات التي تهدف إلى إعادة تشكيل السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، بما يتوافق مع أجندة ترامب التي أعلن عنها أثناء حملته الانتخابية، وما يقلص نفوذ ما يطلق عليه “الدولة العميقة”.

يبدو أن ترامب ينتهج إستراتيجيته التي أشرنا إليها سابقاً، بالإغراق المتوالي بالأوامر التنفيذية والتصريحات المثيرة للجدل لإرباك معارضيه والإعلام، وحتى الجمهور العادي، لكي يعطي انطباعاً بقوته في القيادة وقدرته على الإنجاز رغم المعوقات، مدعياً أن كل العوائق القانونية والسياسية التي توضع أمامه، ليست إلا محاولات لإفشاله وعرقلة إنجازاته. وقد تكون تصريحاته حتى في بعض الملفات الخارجية (مثل موضوع سيطرة أمريكا على غزة) مجرد غطاء لإثارة جدل يبعد التركيز عما يقوم به من تغييرات كبرى في ملفات داخلية، أو ليسوغ قبول استحقاقات أخرى في نفس الملف (مثل فتح المجال للهجرة الطوعية، أو التمهيد للاعتراف بضم الضفة أو غير ذلك). يجب دائما استحضار هذه الاستراتيجية في تفسير الكثير مما يقوله أو يفعله ترامب.

ستظهر الفترة المقبلة مدى قدرة ترامب في إنفاذ أجندته، وإحكام سيطرته هو والتيار الداعم له على مفاصل القرار في “المؤسسة” الأمريكية.

الفصل الثاني: أهم الصراعات الداخلية المحتملة و مستقبل الديمقراطية الأمريكية

 طبقاً لما رصدناه في الفصل الأول من الدراسة، يمكن أن نصل إلى الاستنتاج بأن الولايات المتحدة، نتيجة وصول ترامب وإدارته للحكم، على أعتاب مرحلة مفصلية في التاريخ الأمريكي، سيتجسد فيها صراع داخلي طاحن بين أقطاب النفوذ والتأثير في الولايات المتحدة على الهيمنة على مفاصل “المؤسسة” الأمريكية، الموجه الإستراتيجي الرئيس للتوجهات العامة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وأن الأمر ليس مجرد توابع لوصول ترامب، كرئيس قوي منفلت، أو حتى جامح، في بعض الأحيان، لمقعد الرئاسة، حيث لم يتمكن خلال فترة رئاسته الأولى من مواجهة المؤسسة وهزيمتها كما كان يريد، ولكنها استطاعت استيعابه وتحجيمه داخل إطارها بشكل كبير.

أما المنتظر خلال فترة الرئاسة الثانية، بعد أن استجمع فريقاً قوياً، مدعوماً بمؤسسات وازنة، أن تبدأ بشكل سريع صراعات مهمة على النفوذ والسيطرة؛ هذه الصراعات لن تكون فقط بين منظومة ترامب ومنظومة المؤسسة التقليدية، ولكنها ستمتد أيضاً إلى داخل منظومة ترامب نفسها. هذه الصراعات المختلفة لن يكون لها تأثير على المشهد الداخلي والاستقرار الأمريكي فقط، بل سيكون لها أثار شديدة السلبية على قدرة الولايات المتحدة على القيادة، وعلى إنفاذ أجندتها الخارجية العالمية، وعلى وضعها “الإمبراطوري” في العالم.

 ونظراً لموقع الولايات المتحدة القيادي في العالم، فإن هذه الصراعات الداخلية سيكون لها بالضرورة انعكاسات في شتى أنحاء العالم، بما فيها منطقة الشرق الأوسط. من المهم فهم طبيعة أهم هذه الصراعات، بما يمكن معه أن نستشف الفروق الأساسية الإستراتيجية بين الفرق المتصارعة على النفوذ والقوة، بما يقودنا لتوقع مألات هذه الصراعات.

سيفاقم من أثر هذه الصراعات على المستوى الداخلي، التراجع الكبير في الممارسات الديمقراطية ومستوى الحريات في الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق.

الصراعات السياسية الداخلية المتوقعة بين معسكر ترامب والمؤسسة التقليدية:

عند تحليل الترشيحات الرئاسية التي قام بها ترامب من خلال الشخصيات التي اختارها لتمثل فريقه الرئاسي، نجد عدة سمات تجمع المرشحين، وأهمها الولاء لترامب، وتبني أفكاره وأطروحاته التي أكد عليها في برنامجه الانتخابي بشكل تام، بما يضمن له سلاسة في تنفيذ وعوده، بالإضافة إلى أن الكثير من المختارين هم من الشخصيات المثيرة للجدل. وربما أراد ترامب من خلال فريقه الجديد بعد أن ضمن الأغلبية الجمهورية في مجلسي الكونجرس الأمريكي، أن يعوض ما فاته في فترته الرئاسية الأولى وينتقم ممن سعوا إلى إفشالها، خاصة وأن الرئيس المنتخب، موهوم بنظرية المؤامرة ضده. لذلك فإن قرارات ترامب في اختيار أعضاء فريقه الوزاري اعتمدت بدرجة كبيرة على مدى ولائهم له أكثر من كفاءتهم المهنية، مما أثار جدلاً واسعاً حول تأثير هذه الاختيارات على الأداء الحكومي. ورغم الانتقادات، يرى ترامب أن هذه التعيينات تجسد رؤيته لملفات متعددة مثل العمل الحكومي، والصحة، والبيئة، والهجرة، والسياسة الخارجية والأمن القومي.

من واقع الترشيحات التي قمنا باستعراضها للوظائف الأساسية في الإدارة، وكذلك أهم الملفات التي أثيرت أثناء الحملات الانتخابية للرئاسة، فضلاً  عن السياسات التي سار عليها ترامب أثناء فترته الرئاسية الأولى، إضافة إلى أهم ما اتخذه من قرارات في أسابيعه الأولى في البيت الأبيض، نتوقع أن تتمحور الصراعات بين الأجهزة التي تريد السيطرة على “المؤسسة” في الولايات المتحدة حول عدد من الملفات الرئيسية المتفجرة التي تتعلق بالقضايا التالية:

  1. الملفات العسكرية والأمنية، ومن أفضل ما يعبر عن طبيعة الصراعات المنتظرة في هذه الملفات، ما كتبه  ديفيد إجناسيوس في مقال مهم في الواشنطن بوست عنوانه: “فريق ترامب المدمر للأمن القومي”، حيث كتب إجناسيوس:

“منح الناخبون الأمريكيون دونالد ترامب فوزاً كبيراً في يوم الانتخابات. لكنهم لم يمنحوه كرة تدمير، لتدمير وكالات الجيش والاستخبارات في البلاد”.

“ما يثير القلق هو ترشيح ترامب لبيت هيجسث وتولسي جابارد كوزير دفاع ومديرة للاستخبارات الوطنية على التوالي. لا أحد منهما مؤهل بشكل قريب لتولي اثنين من أهم المناصب الإدارية في الحكومة. فهما هدامين، بعبارة صريحة، بدلاً من أن يكونوا بناة. إذا تم تأكيد تعيينهما، فسيقومان بتدمير رئاسة ترامب أكثر مما يستطيع الديمقراطيون القيام به”.

وقال أيضاً: “ترامب الآن هو يجمع “مجلس حرب”، في ما يبدو أنه هجوم جاد على قيادة الجيش والمجتمع الاستخباراتي”. وقال “إذا تم تأكيد تعيينه، فإن هيجسث سيكون لديه القدرة المطلقة على طرد أي ضابط عام لا يتفق مع معايير ترامب السياسية”.

وقد بدأت هذه السياسات في الطفو على السطح بسرعة؛ على سبيل المثال، في إجراءات تشجيع العاملين في وكالة المخابرات المركزية على الاستقالة، من باب توفير النفقات، إضافة إلى الإتيان بمن يكنون الولاء المطلق لترامب، وهو ما تكرر في مكتب التحقيقات الفيدرالي، وكذلك في إقالة عدد من قيادات البنتاجون، وعلى رأسهم رئيس الأركان نفسه، مما سيثير حساسيات وأحقاد كثيرة في الأجهزة العسكرية والأمنية الكبرى في الولايات المتحدة.

  • الملف الثاني يتعلق بما يسمى تحسين الكفاءة الحكومية، الذي يخشى الكثيرون أنه ما هو إلا تطهير للإدارات الفيدرالية في جميع أجهزة الدولة من الموظفين غير الموالين لأجندة ترامب، والذين يعتقد أنهم سيسعون لإفشاله. يقدر عدد الموظفين الفيدراليين بنحو 3 مليون موظف. بالتأكيد أثار هذا الأمر قلقاً بالغا على نطاق واسع، فمن غير المعلوم المعايير التي سيتم تطبيقها لإحداث هذا “التطهير”، ولا الأعداد التي ستتعرض له، ولا الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي ستصاحب تقاعدهم، ولا الوكالات الفيدرالية التي سيتم إلغائها أو تقليص صلاحياتها (وقد بدأنا نرى ذلك بالفعل)، وبالتالي عدد موظفيها، إلخ. بدون شك هذا الملف سيكون أحد أهم الملفات المتفجرة بسبب الإدارة الجديدة.
  • أكد الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، أنه يخطط لإعلان حالة طوارئ وطنية تتعلق بأمن الحدود واستخدام الجيش الأمريكي لتنفيذ عمليات ترحيل جماعي للمهاجرين غير النظاميين. وقد نشر ترامب تأكيداً على منصته الاجتماعية مؤكداً صحة تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، الذي أفاد بأن ترامب مستعد للإعلان عن حالة الطوارئ الوطنية واستخدام الوسائل العسكرية لتنفيذ خطة ترحيل جماعي لمواجهة ما وصفه بـ”غزو” من المهاجرين خلال إدارة بايدن. وفي هذا السياق، وصف ترامب المنشور بكلمة “صحيح”، ما يعكس استعداده لتنفيذ هذا القرار.

كما أعلن ترامب عن اختيار  شخصيات متشددة في مجال الهجرة، وذلك للتعامل مع نحو 11 مليون شخص يعيشون في البلاد بشكل غير قانوني (طبقا للتقديرات)، بينما تشير التوقعات إلى أن خطة ترامب للترحيل قد تؤثر على نحو 20 مليون أسرة. وقد استمر ترامب في حملته الانتخابية في انتقاد المهاجرين غير النظاميين مستخدماً خطاباً تحريضياً ضدهم، مشيراً إلى أنهم يشكلون تهديداً للأمن الأمريكي.

هذا الأمر يحمل علامات استفهام كثيرة تتعلق بتبعات ملاحقة الأعداد الضخمة من المهاجرين بهذا الشكل، أولها التحديات الأمنية والصدامات المحتملة في مجتمع كثيف التسليح، واللوجستيات المتعلقة بالتعامل مع هذا العدد الضخم، والتداعيات الاقتصادية على الأنشطة التي تعتمد على العمالة المهاجرة الرخيصة إلى حد كبير، وأهمها الأنشطة الزراعية، فضلاً عن المآسي الإنسانية المتعلقة بمثل هذه الملاحقات.

  • المجال الآخر شديد الأهمية يتعلق بالسياسات التي ينوي ترامب اتخاذها من تخفيض الضرائب على الشركات من 21% حالياً إلى 15%، مع تعويض الحصيلة الناقصة عن طريق فرض تعريفات جمركية على البضائع الواردة من الخارج، وبشكل مرتفع على الصين تحديداً، فضلاً عن الحلفاء، كما في حالة الرسوم الجمركية العقابية التي فرضها على المكسيك وكندا (مع وقف التنفيذ مؤقتا)، والتهديد بذلك لأوروبا نفسها، ثم على باقي دول العالم، وغير ذلك.  هذه السياسات يرى العديد من الخبراء أنها ستسهم في عودة التضخم للارتفاع مجدداً (من جانبي العرض والطلب على حد سواء)، ما سيسبب الكثير من خيبة الأمل لمؤيدي ترامب ممن يريدون تحسناً واضحاً في أوضاعهم الاقتصادية، مع تزايد العجز الضخم في الموازنة الفيدرالية، إضافة لتخريب العلاقات مع أهم حلفاء الولايات المتحدة؛ المكسيك وكندا، فضلاً عن أوروبا.

السياسات الاقتصادية لترامب ستحمل أيضا صراعاً مؤكدا مع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي للاختلاف البين في الرؤية الاقتصادية. التراشق الإعلامي بين ترامب ورئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (الذي يتمتع بحصانة منصبه) مستمر منذ فترة طويلة، وتصاعدت حدته مؤخراً بعد فوز ترامب بالرئاسة.

ومن الناحية الاقتصادية، فإن ترشيح بيسنت ليشغل منصب وزيرا للخزانة الأمريكية، يؤكد سعي ترامب لتنفيذ سياساته الاقتصادية، والتي يراها إعادة لتشكيل النظام التجاري العالمي. بيسنت، الذي حقق مليارات الدولارات من خلال استراتيجيات تستند إلى تقلبات العملات وأسعار الفائدة، أمامه الآن فرصة لترك بصمة تاريخية بعد توليه المنصب، نظراً لما له من خلفية متميزة في الاستثمار الكلي، معتمداً على التحليل الاقتصادي والجيوسياسي لتوجيه قراراته، وسبق له العمل مع جورج سوروس قبل تأسيس شركته الخاصة التي حققت نجاحاً ملحوظاً. 

لذلك فإن أولويات بيسنت تتمحور حول تنفيذ أجندة ترامب الاقتصادية، بما في ذلك تخفيض الضرائب بشكل دائم، وإلغاء الضرائب على بعض الفئات، وتوسيع الإنتاج المحلي للطاقة. ويدعو بيسنت إلى استخدام التعريفات الجمركية كأداة لتعزيز المفاوضات التجارية، مشيراً إلى أن هذه السياسات قد تبدو غير متوافقة مع السوق الحر، لكنها تهدف في النهاية إلى تحقيق حرية تجارية أكثر استدامة. يرى خبراء اقتصاديون أن توليه المنصب يحمل دلالات على تعزيز الرقابة السياسية على الاحتياطي الفيدرالي والسيطرة على السياسة النقدية، وهو ما قد يؤثر على مستقبل الاقتصاد الأميركي بشكل جذري، لا سيما مع تفاقم الدين العام الذي تجاوز 36 تريليون دولار. من المتوقع أن يواصل بيسنت دفع سياسات تدعم الابتكار والاستثمار مع ضمان استمرار مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية، متماشياً مع رؤية ترامب الاقتصادية لتعزيز الهيمنة الأميركية على النظام التجاري الدولي. ([17])

  • على صعيد البيئة وقضايا المناخ، أوضح ترامب معارضته للسياسات البيئية التي تبناها الرئيس جو بايدن. في إطار توجهاته، انتقد ترامب بشكل صريح اتفاقية باريس للمناخ، وأعلن انسحابه منها مجدداً عندما تولى السلطة مرة أخرى، مشدداً على أنها تشكل عبئاً اقتصادياً على الولايات المتحدة دون تحقيق فوائد ملموسة.

خلال فترة حكمه الأولى، انسحب ترامب من الاتفاقية في عام 2017، معتبراً أنها غير عادلة للدولة الأمريكية وتفضل الاقتصادات الصاعدة مثل الصين والهند. عكس ذلك موقف بايدن، الذي أعاد بلاده للاتفاقية في 2021 وركز على تعزيز التحول نحو الطاقة النظيفة.

ترامب يدعو إلى دعم صناعة الوقود الأحفوري، معتبراً أن السياسات البيئية تقوض فرص العمل في مجالات الطاقة التقليدية، مثل النفط والفحم. كما يعارض اللوائح البيئية التي فرضتها إدارة بايدن، مثل خفض الانبعاثات وتحفيز السيارات الكهربائية، معتبراً أنها تمثل تدخلاً حكومياً زائداً وتكاليف إضافية للمستهلكين.

هذه الرؤية تضع ترامب في مواجهة مع جبهات مواجهة التغير المناخي، وتثير جدلاً داخلياً وخارجياً حول قدرة الولايات المتحدة على قيادة الجهود البيئية الدولية في ظل هذا النهج، فيما يأتي اختيار لي زيلدين الذي يتبنى رؤية ترامب نفسها لهذه القضايا، دليلاً  على عزم الأخير إحداث تحولات جذرية في هذا السياق، فضلاً عن كريس رايت الذي يتماشى تعيينه مع خطط ترامب لإلغاء السياسات البيئية التي نفذتها إدارة بايدن، مثل قانون خفض التضخم الذي خصص استثمارات كبيرة للطاقة النظيفة. كما يُتوقع أن يركز رايت على تعظيم إنتاج النفط والغاز التقليدي، مما يمثل عودة قوية للاعتماد على الوقود الأحفوري ضمن إستراتيجية إدارة ترامب للطاقة.

  • أما ما يخص قضايا الصحة، فإن اختيار ترامب لكيندي يأتي في إطار رغبة قوية في إحداث انقلاب آخر في القطاع الصحي الأمريكي، الذي كان من بين الملفات التي تم توجيه الانتقادات لترامب بسببها خلال فترة رئاسته الأولى. ترامب خلال تلك الفترة تبنى خطاباً يشير إلى أن التعامل مع فيروس كورونا كان مؤامرة سياسية تهدف إلى الإضرار بإدارته والحد من فرص إعادة انتخابه في عام 2020. هذه الاتهامات كانت جزءاً من استراتيجيته الإعلامية لمواجهة الانتقادات حول إدارته للأزمة الصحية. كما رأى أن التركيز المكثف على الجائحة وإبراز الخسائر البشرية والاقتصادية قد صُمم لتقويض نجاحاته الاقتصادية التي كانت أحد أعمدة حملته الانتخابية. واعتبر أن الدعوات للإغلاق الشامل كانت محاولة لشل الاقتصاد الأمريكي، الذي كان أحد أبرز إنجازاته.

كما عدَّ ترامب أن المؤسسات الصحية مثل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) استخدمت الجائحة كوسيلة لتعزيز سياسات تتعارض مع فلسفته، الأمر ذاته الذي يتشارك فيه مع وزير الصحة في إدارته.

التغييرات المؤسسية التي ينوي كنيدي القيام بها ستحدث اضطراباً واسعاً في منظومة الرعاية الصحية بالدولة، بما في ذلك الأثار الاجتماعية والاقتصادية ذات العلاقة. من غير المعروف أيضاً كيف سيكون التعامل إذا ما هاجمت الولايات المتحدة جائحة جديدة على غرار كوفيد 19، وهو ما تحذر منه بعض الأصوات، ويعتبره مؤيدو ترامب مؤامرة جديدة قادمة. وقد بدأت بالفعل التقليصات في المؤسسات الصحية الأمريكية بالألاف مثلما طال غيرها من المؤسسات.

  • لا يرى ترامب أهمية وجود وزارة للتعليم الفيدرالي، بالنظر لأن النظام التعليمي في الولايات المتحدة ليس مركزياً، ولا تتدخل الحكومة الفيدرالية في فرض مناهج تعليمية. قد يكون هذا هو سبب الترشيح المثير للجدل لوزارة التعليم لامرأة من خلفية إدارة حلبات المصارعة الحرة، بما سيكون تمهيداً لإلغاء هذه الوزارة في وقت لاحق. بالتأكيد سيثير هذا الأمر جدلاً اجتماعياً كبيراً ليكون أحد الأجندات المتفجرة التي تثيرها إدارة ترامب.
  • هناك صراع آخر   اندلع بالفعل، من المتوقع أن يتصاعد، بين عمالقة التكنولوجيا من الشركات الخاصة التي تسعى لأن تصبح ذراعاً معتبر اً من “المؤسسة” المهيمنة ومسيطراً عليها. تصاعد نفوذ ميليارديرات التكنولوجيا في واشنطن تمثل في حضور كلٍ من مارك زوكربيرج، مؤسس شركة ميتا؛ وجيف بيزوس، مؤسس أمازون؛ وسيرجي برين، المؤسس المشارك لجوجل؛ إضافة إلى إيلون ماسك بالطبع، حفل استلام ترامب للرئاسة، وجلوسهم في مقاعد مميزة، ما يشير إلى التوازنات الجديدة للسلطة الأمريكية. 

رغم الدعم المالي الضخم الذي يقدمه قادة قطاع التكنولوجيا، يصر ترامب على أنهم لن يحظوا بمعاملة تفضيلية. إذ أكد الرئيس الأمريكي أنه “لن يتعامل معهم بطريقة مختلفة، كما أنه ليس بحاجة إلى المال، بل يريد أن “تزدهر الأمة، ومن خلال تميزهم سيتمكنون من توفير كثير من فرص العمل”. هذه التصريحات جاءت ردا على تحذيرات جو بايدن في خطابه الختامي من تحول الولايات المتحدة إلى “نظام شمولي” يسيطر عليه مليارديرات التكنولوجيا ويتمتعون فيه “بنفوذ خطير”.

في مجتمع يشكله الذكاء الاصطناعي والتقدم التكنولوجي، تمتد مخاوف هذا التحالف لما هو أبعد من جدليات السياسة التقليدية، فوجود كبار قادة وادي السيليكون في المشهد السياسي يتبعه تأثير على عملية صنع القرار وتشكيل سياسات الحكومة بشكل مباشر.  وهنا يبرز التساؤل: كيف يؤثر هذا التحالف على تنظيم الصناعة والرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي وتطوير الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية وغيرها؟ خصوصا بعد إلغاء ترامب قرار الرئيس السابق بايدن بشأن تقييد أنظمة الذكاء الاصطناعي التي قد تشكل مخاطر أكبر على الأمن القومي أو الاقتصاد أو السلامة العامة؟

تحدثنا في الفصل الأول من هذه الدراسة عن الدور الذي يسعى أباطرة التكنولوجيا، الذين يشكلون بالفعل العقل المدبر والقيادة العليا لمنظومة ترامب، للقيام به للهيمنة على صناعة القرار في المؤسسة الأمريكية، كبديل عن التحالف الخفي التقليدي بين أجهزة المخابرات وقادة الجريمة المنظمة الذي قام بهذا الدور على مدار القرن الماضي، مما سيترتب عليه صراع هائل بين هذه القوى.

  1. لقد تنبه عدد من الباحثين مبكراً للعلاقة المتنامية بين شركات التكنولوجيا العملاقة بالدولة الأمريكية . على سبيل المثال فإن  د. محمد هشام راغب ([18]) في دراسته المنشورة في عام 2017، أثناء فترة رئاسة ترامب الأولى، استعرض وقائع جلستي استماع علنتين عقدتهما لجنتا الاستخبارات بمجلسي الشيوخ والنواب الأمريكي يوم ٣١ أكتوبر ٢٠١٧، استجوبت فيها ثلاثة مسئولين كبار في شركات جوجل وفيسبوك وتويتر حول مسئوليتها عن التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام ٢٠١٦ من خلال هذه المنصات الشهيرة. وكشفت الجلستين أموراً تتجاوز بكثير موضوع التدخل في الانتخابات، حيث تم إلقاء الضوء على النفوذ المتنامي لهذه الشركات على الدولة الأمريكية. وقال د. راغب في دراسته: “لقد مثلت وقائع الاستجواب لحظة نادرة لوضع هذه الشركات العملاقة تحت دائرة الضوء والمحاسبة وكشفت عن لاعب قوي جديد ليس على الساحة الأمريكية فقط، وإنما على الساحة الدولية، وقد يكون إيذانا بنظام عالمي جديد”.

بدأت المعارك، حتى داخل هذا القطاع سريعاً، بعد الإعلان عن مبادرة تحت اسم Stargate Initiative كتعاون لإنشاء بنية أساسية شديدة التطور للذكاء الاصطناعي بعرض الولايات المتحدة باستثمارات قدرها 500 مليار دولار، بقيادة شركتي SoftBank و  OpenAI ومشاركة شركات تكنولوجية عملاقة مثل أوراكل وإنفيديا وميكروسوفت وأرم لتصميم الرقائق ([19]). إلا أن إيلون ماسك علق فور الإعلان عن هذه المشروع قائلاً بأن “لديه معلومات مؤكدة أن سوفت بانك لم تؤمن أكثر من 10 مليار دولار من المبلغ المطلوب” ! (فضلا عن التحدي الذي أفرزه الظهور الصاروخي لـDeepSeek  ومنصات صينية أخرى، لكن هذه قصة أخرى). يؤشر هذا على الصراعات المنتظرة داخل قطاع أصبح شديد التأثير، ليس فقط على حياة الناس، ولكن على توجيه السياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً كذراع رئيس من “المؤسسة”.

من المعارك الأخرى التي أثيرت مؤخراً، ما نشر عن قيادة إيلون ماسك لتقديم عرض شراء لشركة OpenAI، عملاق الذكاء الاصطناعي ومالكة التطبيق الأكثر استخداما ChatGPT ، بمبلغ 97.4 مليار دولار أمريكا، ورد الرئيس التنفيذي للشركة سام ألتمان عليه بالشكر، وبالتعليق الساخر أنه يعرض شراء “تويتر” المملوكة لماسك بمبلغ 9.74 مليار دولار(رغم أنه كان قد دفع في شرائها مبلغ 44 مليار دولار).

قد تكون هذه المعارك ستاراً على صراعات على عقود حكومية لاحقة، ونوايا فساد ضخم، يمكن من خلالها تحقيق مكاسب خرافية ونفوذ جبار.

إن تأثير عمالقة الملياديرات العاملين في مجالات التكنولوجيا والذكاء الصناعي أمثال ماسك وثيل وبيزوس وزوكيربرج على التوجهات الإستراتيجية للحكومة الأمريكية يتصاعد بشكل كبير، ويعظم من ذلك الدور المتنامي الهائل الذي تلعبه هذه التكنولوجيات في شتى مناحي الحياة، ما حدا حتى بتقرب بعض هؤلاء العمالقة من ترامب بعد أن كانوا من ألد منتقديه (من أمثال جيف بيزوس مؤسس أمازون، الذي يمتلك صحيفة الواشنطن بوست، المعروفة بخطها الناقد لترامب على طول الخط، بل وشخصية مثل بيل جيتس مؤسس ميكروسوفت، ذو النفوذ الضخم في المؤسسة التقليدية، والذي قابل ترامب مؤخرا في منتجعه بفلوريدا لعدة ساعات!).

الصراعات الداخلية داخل منظومة ترامب نفسها

النوع الثاني من الصراعات الداخلية يتعلق بالصراعات المؤجلة داخل معسكر ترامب ذاته. هذه الصراعات ستظهر مع الوقت نتيجة التناقضات الأيديولوجية والمصلحية، ومن أهم ما نتوقعه منها:

  1. الصراعات بين اليمينيين الشعبويين المحافظين (المنظِّر الرئيس ستيف بانون)، واليمينيون المتحررون بعض الشيء، خاصة رموز التكنولوجيا والمستقبل (إيلون ماسك، بيتر ثيل….) الذين لا يمانعون تخفيف بعض القيود (بيتر ثيل على سبيل المثال مثليّ التوجه الجنسي).
  2. الملايين من البسطاء من أنصار ماجا، ممن سيصطدمون بتبعات سياسات ترامب الاقتصادية والصحية وغير ذلك على غير ما كانوا يتوقعونه وانتخبوا ترامب على أساسه إذا اتجه الاقتصاد لموجة من الركود التضخمي كما تشير التوقعات نتيجة سياسات ترامب المضطربة. على سبيل المثال ما حدث مؤخراً من طرح ترامب موازنة ضخمة لتجنب الإغلاق الحكومي حتى سبتمبر، مع عجز كبير، بما لا يختلف عما كانت تقوم به إدارة بايدن، مما استدعى انتقادات واسعة من رموز الماجا، ومن أهمهم النائب الجمهوري توماس ماسي، المعروف أيضاً بانتقاداته الشديدة للوبي الصهيوني. أيضاً التداعيات السلبية الضخمة التي ستتوالى نتيجة فرض ما أسماه ترامب بالتعريفات الجمركية التبادلية، مثال آخر.
  3. ذوي التوجه الساحق الداعم لإسرائيل مقابل الاتجاه الذي يتبنى الواقعية السياسية (جون ميرشايمار وجيفري ساكس على سبيل المثال شديدي الانتقاد لسياسات الحكومة الإسرائيلية وتوماس ماسي الرافض لنفوذ اللوبي الصهيوني).
  4. الساعين لمعركة “هرماجيدون” من أتباع المسيحية الصهيونية، إذا تغلب التوجه الممتنع عن التوجهات العسكرية الخارجية بضغط ممن يرفضون تلك النزعات الأيديولوجية المتطرفة.
  5. رافضي الحروب الخارجية إذا اندلعت بعض الصراعات التي قد يثيرها ترامب عسكريا (بنما، جرينلاند، إيران إذا ما دفعتها إسرائيل لذلك…إلخ).
  6. لوبي النفط عندما يؤدي الإفراط في استخراجه، أو التعرض لموجة من الركود العالمي، لتخفيض سعره، مما قد يخرجهم من السوق لاحقا.
  7. صراعات بين عمالقة التكنولوجيا من داخل معسكر ترامب على العقود الحكومية والنفوذ (مثال المناوشات الحالية بين إيلون ماسك وسام ألتمان حول محاولة ماسك الاستحواذ على شركة OpenAI، أو الجدل الحادث حول مبادرة StarGate، إلخ).
  8. الصراعات داخل إدارة ترامب نفسها كما أوضحنا سابقاً، نظراً لعدم التجانس في توجهات عدد من أهم الأعضاء.

هل يسير ترامب باتجاه انهيار الديمقراطية الأمريكية؟

بالإضافة لأثر المعارك الطاحنة المنتظرة على استقرار الوضع الداخلي في الولايات المتحدة نظراً لطبيعة هذا الصراع الطاحن، فإنه حتى لو ألت نتيجة هذا الصراع لصالح فريق ترامب، فإن العملية المنهجية للتفكيك المؤسسي التي يتبعها هذا الفريق، وليس فقط استبدال أشخاص مناوئين بغيرهم من الموالين، سيكون لها أثر سلبي بالغ على النموذج الديمقراطي الأمريكي، وعلى استقرار الوضع الداخلي، بل سيمتد هذا الأثر على النفوذ الخارجي كما سنناقش لاحقاً.

وقد بدأنا نرصد بالفعل عدد من العلامات على تراجع كبير في عدد من الممارسات الديمقراطية بشكل حاد في غضون أسابيع قليلة من بداية تولي ترامب، عن طريق إصدار أوامر تنفيذية لتفكيك مؤسسة عريقة وتسريح موظفيها مثل ال USAID، وإلغاء وزارة التعليم، والتهديد بحجب التمويل الحكومي عن جامعات عريقة مثل كولومبيا وهارفارد وغيرها بدعوى عدم اتخاذ إجراءات حاسمة لمواجهة “العداء للسامية”، وتم أيضاً توقيف عدد من الطلاب الذين شاركوا، ولو بمقال أو منشور على السوشيال ميديا، لدعم قضية غزة، وجرى إيقاف تأشيراتهم بل وإقاماتهم الدائمة. ووصل الأمر أن تجبر الإدارة الأمريكية جامعة عريقة مثل جامعة كولومبيا على تعيين موفد حكومي في منصب نائب أول رئيس الجامعة ليشرف “أكاديمياً” على “ممارسات” قسم دراسات الشرق الأوسط! وغير ذلك من الإجراءات الصارخة.

إن إرهاصات تقدم “دولة المراقبة” التي تحدثت عنها ويتني ويب كما أشرنا سابقاً، وتحدث عنها آخرين، بدأت بالظهور بشكل كبير، وذلك بالملاحقة “الفعالة” للنشطاء والمعارضين. ما مكَّن لذلك، مما لم يكن متاحاً منذ عقود، عاملا مهمان. الأول هو التطور التكنولوجي الهائل، وخاصة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية، إلخ، إضافة إلى مشاركة الشركات الخاصة في هذه الأنشطة لحساب مؤسسات المخابرات المقيدة بحكم ارتباطها الحكومي برقابة الكونجرس، ومن أهم هذه الشركات شركة بالانتير، ومؤسسها بيتر ثيل ذو النفوذ الهائل على الإدارة الحالية كما أشرنا سابقاً، والبيانات المتاحة على منصات التواصل، والتي توفرها شركات مثل ميتا لهذا الغرض، وغير ذلك.

على سبيل المثال، بدأت إدارة الهجرة والجمارك  ICE في استخدام قاعدة بيانات باسم Investigative Case Management – ICM طورتها شركة بالانتير، بالمتابعة عن قرب لجميع الطلاب وحاملي التأشيرات باستخدام معايير معينة لاتخاذ قرارات الترحيل بحق “المخالفين“، كما بدأت إدارة الأمن الداخلي DHS في استخدام هذه القاعدة في متابعة حسابات التواصل الاجتماعي لجميع الموجودين بالولايات المتحدة، للتأكد من عدم بثهم ما يمكن اعتباره “معادياً للسامية” واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم.

في دراسة مهمة بعنوان: “الطريق إلى السلطوية الأمريكية: ماذا يأتي بعد انهيار الديمقراطية”[20] التي كتبها ستيفن ليفيتسكي ولوكاس أ. واي، أشار الباحثان لكيفية تحول الديمقراطيات إلى أنظمة سلطوية، مع التركيز على إدارة ترامب كمثال حيوي. من خلال تحليل أساليب ترامب في الحكم. يوضح الباحثان أن الديمقراطية الأمريكية قد تكون معرضة للخطر بسبب استغلاله للأدوات السياسية والإدارية في محاولة للسيطرة على الدولة وتقويض النظام الديمقراطي.

1. تسييس البيروقراطيات الحكومية

ترامب استغل المؤسسات الحكومية والبيروقراطيات لصالحه، مما أضعف دورها المستقل في الحفاظ على الديمقراطية. يوضح الباحثان أن معظم الديمقراطيات الحديثة، بما في ذلك الولايات المتحدة، تمتلك بيروقراطيات كبيرة يمكن تسييسها بسهولة. في ظل إدارة ترامب، تم تطهير بعض الوكالات الحكومية من موظفين مهنيين واستبدالهم بولاء مطلق له، خصوصاً في الوكالات المسؤولة عن التحقيقات القانونية، والرقابة على وسائل الإعلام، وتنظيم الاقتصاد. على سبيل المثال، حاول ترامب تعيين موظفين موالين في وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي، مما قد يهدد حيادية هذه المؤسسات ويجعلها أداة لتحقيق أهدافه السياسية.

2. استخدام القانون لاستهداف المعارضين

واحدة من أبرز أساليب ترامب في تهديد الديمقراطية كانت استخدام القانون لاستهداف خصومه السياسيين. كما جاء في الدراسة، فإن الحكام السلطويين يستخدمون ملاحقات قضائية موجهة ضد المعارضين، وهو ما فعله ترامب عبر توجيه التحقيقات ضد خصومه السياسيين والإعلاميين. على سبيل المثال، أعلن ترامب عن نيته ملاحقة النائبة ليز تشيني وبعض المشرعين الذين شاركوا في التحقيقات بشأن هجوم 6 يناير على الكابيتول. هذا الاستخدام المنظم للقضاء يعكس محاولته لتقويض النظام القانوني وزرع الخوف في صفوف المعارضين السياسيين، ما يعرض الديمقراطية للخطر.

3. استغلال نظام التعليم

في سياق تدمير المؤسسات التي قد تشكل تهديداً لحكمه، استهدف ترامب أيضاً النظام التعليمي. من خلال وزارة التعليم، يمكن للحكومة أن تضغط على الجامعات والمراكز التعليمية التي قد تمثل مراكز للمعارضة الفكرية. من خلال تمويل هذه المؤسسات ووضع قوانين تحظر التمييز، يمكن لترامب استخدام هذه الأدوات لتوجيه انتقادات ضد الجامعات التي لا تدعمه أو تنتقد سياساته. هذا التحكم في التعليم يعزز من قدرته على تشكيل الرأي العام ويحد من حرية الفكر المستقل في المجتمع.

4. المكافآت والتهديدات الاقتصادية

ترامب استغل السلطة التنفيذية لتقديم مكافآت لمن يوالونه ومعاقبة من يعارضونه. كما يوضح الباحثان، فإن الحكام السلطويين يستخدمون السياسة الاقتصادية والقرارات التنظيمية لتقديم حوافز إلى الشركات والأفراد الذين يدعمونهم. في ظل إدارة ترامب، شاهدنا كيف سارعت بعض الشركات الكبرى مثل أمازون وجوجل وميتا إلى تمويل حفل تنصيبه ومنح دعم مالي لحملاته الانتخابية. هذه الحوافز تجعل رجال الأعمال والمجموعات الكبرى أكثر ميلاً لدعمه سياسياً، مما يعزز سلطته ويجعل المعارضة الاقتصادية أكثر صعوبة.

5. إضعاف الإعلام المستقل

أحد الجوانب الأكثر إثارة للقلق في إدارة ترامب كان محاولاته المستمرة لتقويض الإعلام المستقل. فقد شن حملات ضد الصحف والوسائل الإعلامية التي انتقدته، مثل “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز”، في محاولة لتشويه سمعتها وفرض رقابة على المعلومات التي قد تكون ضده. هذه الهجمات على وسائل الإعلام المستقلة تمثل تهديداً مباشراً للحرية الصحفية، وهي إحدى أسس الديمقراطية. كما أن سيطرة الشركات الكبرى على وسائل الإعلام قد تكون محفزاً لتقديم تغطية موجهة لصالح السلطة الحاكمة.

إدارة ترامب تبنت أساليب قد تقوض الديمقراطية الأمريكية بشكل تدريجي عبر تسييس الأجهزة الحكومية، استخدام السلطة القضائية ضد المعارضين، فرض رقابة على النظام التعليمي والإعلام، ومنح المكافآت الاقتصادية للموالين. كل هذه الأدوات تؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات الديمقراطية، وتقويض النظام الذي يقوم على مبدأ التعددية وحكم القانون. إذا استمرت هذه السياسات، فقد تؤدي إلى تحويل النظام الأمريكي إلى شكل من السلطوية التنافسية، حيث تظل الانتخابات موجودة ولكنها تصبح غير عادلة وموجهة لصالح الحاكم.

إضافة للدراسة المشار إليها أعلاه، بدأ عدد كبير من الدراسات الجادة والمهمة، فضلاً عن عشرات المقالات، إضافة إلى كم هائل من المنشورات على وسائط التواصل الاجتماعي، في تغطية جوانب مختلفة من التراجع الحاد في الممارسات الديمقراطية وتغول طبقات جديدة من ذوي النفوذ والتأثير على السلطة في البلاد، في غضون أسابيع قليلة، نشير إلى البعض منها هنا فقط، ويمكن للقارئ الرجوع إليها تفصيلياً. مجرد قراءة عناوينها قد يعبر عن التحولات الهائلة التي نتحدث عنها. (America is watching the Rise of a Dual State التي تقارن ما يحدث الآن بصعود الدولة الفاشية لهتلر في ثلاثينيات القرن الماضي، و The Dark MAGA Gov-corp Technate Part 1, Part 2 التي تكشف النقاب عن بعض من ذوي النفوذ الهائل على مستوى الكوكب ويتحكمون في السياسة الأمريكية في الوقت الراهن، و   This is the Land of Wolves Now التي تتحدث عن عملاء مقنعين يختطفون الناس في الشوارع، ويستخدم مسئولو الدولة، الحديث في هذه الحالة عن كريستي نويم وزيرة الأمن الداخلي، صور  وفيديوهات للمساجين في أقفاص بعد نقلهم إلى السلفادور مقابل ملايين الدولارات، كبروباجندا!). ([21]) ([22]) ([23]) ([24])بالتأكيد، فإن هذا التراجع السريع في الحالة الديمقراطية والحريات في الولايات المتحدة، سيضيف عاملاً مهماً إلى سلسلة العوامل التي تجعل من نهاية عصر الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية على العالم وشيكة بأكثر مما يعتقد الكثيرون.

الفصل الثالث: السياسة الخارجية المنتظرة في عهد ترامب والصراعات المتعلقة بها

تطورات السياسة الخارجية الأمريكية في العقود الأخيرة

بعد الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفيتي، أصبحت الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة المهيمنة، وكرست هيمنتها الإمبراطورية العالمية، ليس عن طريق الاستعمار المباشر على غرار الإمبراطورية البريطانية، ولكن عن طريق أكثر من 800 قاعدة عسكرية في شتى أنحاء العالم، فضلا عن أساطيلها البحرية وسيطرتها على جميع الممرات البحرية الرئيسية وخطوط الملاحة العالمية.

 بنت إدارة المحافظين الجدد في عهد الرئيس جورج بوش الابن على ذلك بتبني سياسات عدوانية توسعية تسعى لفرض الهيمنة الإمبراطورية بالقوة، فيما أسمته بالحرب على الإرهاب، واعتدت بوحشية على أفغانستان والعراق، فضلا عن خطط لضرب واحتلال ست دول أخرى في المنطقة (سوريا – لبنان – إيران – ليبيا – السودان – الصومال)، كما أفادت تسريبات من البنتاجون.

إلا أن فشل هذه السياسة في ذلك الوقت، وإعطاء الفرصة في نفس الوقت لقوى دولية وإقليمية أخرى، أهمها الصين، في وقت الانشغال في هذه الصراعات، لمد النفوذ الإقليمي والعالمي على حساب الولايات المتحدة، هذا الفشل دعا إلى مراجعة سياسة المحافظين الجدد في عهد الرئيس أوباما، حيث سعت السياسة الخارجية منذ ذلك الوقت لتقليل التواجد في ساحات الصراع القائم في منطقة الشرق الأوسط لمحاولة التركيز على مواجهة الصين والتمدد باتجاه أسيا. وقد استمر ترامب في فترة رئاسته الأولى بتبني هذه الاستراتيجية، وأبرم اتفاقاً للانسحاب من أفغانستان، وحاول سحب القوات الأمريكية من سوريا (إلا أنه لم يستطع)، وأكد على أنه لا جدوى من خوض صراعات لا تعود على الشعب الأمريكي بالفائدة، وذلك نيابة عن آخرين و حماية لهم، رغم أنهم لا يتحملون حتى نفقات الدفاع عن أنفسهم (يجب أن يدفعوا كما كان يقول!).

إلا أن إدارة الرئيس بايدن لاحقاً، اتبعت سياسة خارجية أقرب لسياسة المحافظين الجدد، واتجهت نحو فتح صراعات جديدة في أوكرانيا وفي دعم الكيان الصهيوني في غزة على سبيل المثال، وزادت من الإنفاق العسكري، وتراجعت عن سياسات ترامب الأميل إلى الانعزالية. يبدو أن ترامب يريد الآن أن يغير ذلك كله مرة أخرى، وبشكل أكثر عمقاً.

عقيدة ترامب

لكي يمكن فهم توجهات السياسة الخارجية المقبلة في عصر ترامب، هناك طريقان يسلكهما المحللون في تفسير التحركات الجديدة:

  • الطريق الأول، ويسلكه أكثر المحللون في الوقت الراهن، يتعامل مع الأمر باعتبار شخصية ترامب، وميوله الذاتية، ومزاجه المتقلب، وأهوائه الشخصية وأسلوبه كرجل أعمال يسعى للحصول على أكبر قدر من المكاسب، سواء للولايات المتحدة، أو له شخصياً.
  • الطريق الثاني، يكون باتباع منهجية أكثر عمقاً، باعتبار أن ترامب ما هو إلا رأس حربة لتوجه كبير ، مدعوماً بعدد من مراكز القوة الرئيسية، مثلما هو الحال في السياسات الداخلية كما أسلفنا.

نظرتنا التحليلية للسياسات المتبعة تشي إلى أن سياسات ترامب تعبر في حقيقة الأمر عن تيار كبير، ينازع القوى المسيطرة على “المؤسسة” التقليدية على النفوذ واتخاذ القرار، ويعمل على وراثة نفوذها، رغم ما للعامل الذاتي لدى ترامب من أهمية وتأثير بطبيعة الحال، لكننا نرى أن طبيعة ترامب تؤثر على الأسلوب الذي تدار به السياسة الخارجية، وليس الأهداف والتوجهات الحقيقية للجهات التي يمثلها ترامب.

ما يبدو لنا هو أن إدارة ترامب، بكل مكونات مراكز القوة فيها، عادت إلى تبني سياسة خارجية تستند إلى مبدأ قديم في الولايات المتحدة، وهو ما يعرف بعقيدة مونرو  Monroe Doctrine ( جيمس مونرو كان رئيساً للولايات المتحدة في أوائل القرن التاسع عشر) التي ترى إحكام السيطرة الأمريكية على نصف الكرة الغربي، شاملاً أمريكا الجنوبية، وذلك لإضعاف النفوذ الأوروبي على “العالم الجديد”. ذلك في مقابل عقيدة ويلسون Wilson Doctrine   (وودرو ويلسون كان رئيسا للولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين) التي سيطرت على السياسة الخارجية الأمريكية لنحو قرن كامل، وحولت تركيز الولايات المتحدة من كونها دولة قومية في نطاقها الجغرافي إلى دولة كونية تسعى لتوسيع تبني الديمقراطية الليبرالية في العالم أجمع، وهو ما مهد لتبني مبادئ ومؤسسات العولمة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، بل واستخدام القوة لفرض هذا النموذج، كما سعى المحافظون الجدد (وهو ما يعني في واقع الأمر تكوين إمبراطورية عالمية بكل ما لها من نفوذ اقتصادي وقواعد عسكرية وأساطيل بحرية وقوة تكنولوجية تهيمن على العالم، ولا تسمح لأية قوة دولية أو إقليمية حتى بالاقتراب من نفوذها الدولي والإقليمي في المناطق المختلفة من العالم).

في واقع الأمر فإن جيمس مونرو لم يكن يدعو للانعزالية في المفهوم الذي نشأت على أساسه الولايات المتحدة، ولكن أنصار  سياسة العزلة عادة ما يبررونها بالاستناد لمبدأ مونرو، وهو ما يبدو جلياً في كل ما اتخذه ترامب من خطوات عقب توليه السلطة مباشرة، بالعودة إلى النزعة القومية والسعي إلى مصلحة “أمريكا أولاً” ومن أجل “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. هذا التصور سيكون بديلاً لمحاولات قوى المؤسسة التقليدية إعادة ضبط العالم طبقاً للنظام الديمقراطي الليبرالي، أو ما يطلق عليه البعض The Great Reset ،  وذلك بعد أن ظهرت جلياً المشكلات البنيوية التي تعانيها تلك المنظومة الليبرالية. وبالطبع فإن رفض الهجرة الخارجية يأتي في هذا الإطار أيضاً للحفاظ على الهوية القومية في مواجهة الآخرين.

 سيقود هذا في نهاية المطاف  إلى العودة  لتصور هنتنجتون عن “صدام الحضارات”، كبديل عن مفهوم فوكوياما حول “نهاية التاريخ”، كما يجادل المفكر الروسي ألكسندر دوجين (راجع مثلاً دراسة دوجين: أيدولوجية ترامب ستغير أمريكا والعالم)، التي يركز فيها كثيراً على الجانب الأيديولوجي ذو الأبعاد السياسية والفلسفية والجيوسياسية لفريق ترامب، في مقابل عقيدة العولمة الليبرالية التي تهدف للهيمنة على العالم، وهي ليس لها في الحقيقة أيديولوجية على الإطلاق).

في تحليلنا، فإن ما يدعو لعودة هذا النهج، يستصحب تراجع الهيمنة الأمريكية في كل النواحي، ما يعني انحسار النفوذ “الإمبراطوري” بالتدريج، خاصة كما ظهر بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وكما رصدته دراستنا المنشورة ([25])  في أكتوبر 2021، وأن الاستمرار في النهج التوسعي العولمي، على غرار ما كان حادثاً، سيستنفذ قدرات الولايات المتحدة مع الوقت نظراً لتراجع قوتها في المنافسة الاقتصادية، وتمويل “مسئولياتها” الكونية، إلا بالمزيد من الديون. لن تستطيع أمريكا حتى تحقيق الانتصار النهائي في صراعاتها العسكرية، ما جعل الواقع الاقتصادي والحضاري مزرياً داخل أمريكا، بما يقتضي خطوات تصحيحية عاجلة.

إضافة إلى تراجع الولايات المتحدة ذاتياً، فإن منافسوها يتقدمون بسرعة كبيرة. على سبيل المثال، في فترة التسعينيات، كان نحو 80% من احتياطيات البنوك المركزية في العالم بالدولار الأمريكي، بينما لا تزيد هذه النسبة الآن عن 40% والباقي بعملات أخرى. ويبلغ الآن إجمالي الناتج المحلي لمجموعة الدول السبعة الكبرى G7 نحو 27% فقط من الناتج العالمي، بينما تبلغ هذه النسبة لأعضاء منظمة البريكس والمنتسبين لها نحو 34%. أيضاً الصعود الصيني الكبير في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والتسليح والانتشار الدولي لا يمكن إنكاره. كل هذه العوامل تعني تراجع النفوذ الإمبراطوري الأمريكي العالمي بشكل كبير، على عكس ما كانت المنظومة الليبرالية المتعولمة تخطط وتعمل عليه، حتى أن فوكوياما نفسه صاحب مقولة “نهاية التاريخ”، كتب في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عن “نهاية الهيمنة الأمريكية“.([26])

فهل ستؤدي السياسات الجديدة بالفعل لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، أم ستسرع بأفولها وانكسارها؟ إجابتنا عن هذا السؤال ستتضح في تحليلنا خلال الأجزاء الباقية من الدراسة.

بالتأكيد لن يكون سهلا حسم هذا التغيير لصالح فريق ترامب، سواء على مستوى التدافعات الداخلية أو الخارجية، بشكل سلس، فهناك مصالح جيوسياسية كبيرة للولايات المتحدة، تدعمها قوى داخلية نافذة ذات مصالح مباشرة، أهمها مجمع الصناعات العسكري ومؤسسات العولمة المختلفة، مما يضيف بعداً مهماً وضخما للصراع الحالي في أمريكا بين الفريقين المتنافسين على السيطرة على “المؤسسة”.

تركز سياسة العزلة الأمريكية على إدارة التنافس بين القوى الإقليمية من مسافة آمنة، بحيث تترك الأطراف المتنازعة تستنزف بعضها البعض، بينما تعزز الولايات المتحدة من قوتها. وتشير الشواهد إلى أن ترامب سيستمر في هذا النهج، مع إضافة لمساته التي يطلق عليها البعض “العقيدة الترامبية”. هذه العقيدة يتم تلمس ملامحها بناءً على كيفية إدارته لسياسات بلاده في فترة رئاسته الأولى.

تمثل العقيدة في السياسة الخارجية، المحدد الأكبر والاستراتيجية الأشمل، التي يتبناها رئيس دولة ما، وتصوغ جميع قراراته ضمن المنتظم الدولي. ولان ترامب مفتون بشعار “أمريكا أولا”، ومصمم على فرض أجندة استثنائية، إن كان على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فإن النظام العالمي اليوم على موعد مع جملة من التحديات المغلفة بالفوضى وعدم القدرة على التنبؤ. إن المقربون والمستشارون للرئيس ترامب، يجزمون بأن الفترة الرئاسية الثانية له، ستشتمل على أجندة عالمية ذات تغيرات جذرية، تتلخص بالضغط على الأصدقاء والأعداء على حد سواء، من الصين إلى أوكرانيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا وحتى القارة الأمريكية. ورغم أن ترامب وعد في حملته الانتخابية بإنهاء جميع الحروب الجارية حالياً، ومنها الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن تصريحاته وقراراته تعكس توجها خارجياً عدائياً وغير مألوف بالنسبة للسياسة الأمريكية.

بدأت معالم عقيدة دونالد ترامب تتبلور مع شعاره الانتخابي “أميركا أولاً” الذي أطلقه في 2016. بعد انتخابه، أعلن عن “رؤية جديدة” للسياسة الأميركية، حيث ارتكزت عقيدته على نهج يقوم على الواقعية المبدئية، وفق وثيقة نشرها البيت الأبيض في 2017، وأكدت أن الولايات المتحدة ستعمل بما يخدم مصالحها الوطنية ويعكس قيمها. وبينما عرّف قاموس جامعة كامبريدج “الترامبية” بأنها مجرد سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب وأفكاره، تذهب دراسات عديدة إلى أن الترامبية مثلت بداية حزب جمهوري جديد، يشكل “قطيعة حادة” مع أفكار الحزب والمبادئ التي اتبعها على مدى عقود خلت، كما ساهمت في إنشاء ما بات يعرف في الولايات المتحدة الأمريكية بـ”اليمين الجديد” وشاع استخدام المصطلح حديثا، بالإشارة إلى مجموعة من المثقفين والسياسيين الجمهوريين الذين يعملون على تحويل الترامبية إلى أيديولوجية متماسكة.

غير أن دراسة صادرة عن كلية جيتيسبيرج وصفت سياسته الخارجية بالانعزالية المصحوبة بالتدخل الانتقائي، على النقيض من سياسات باراك أوباما التي فضلت التعاون الدولي والعمل عبر المؤسسات المتعددة الأطراف. كان نهج ترامب يتسم بمرونة انتقائية، حيث تعامل مع القضايا الدولية وكأنها صفقات ثنائية بدلاً من استراتيجيات طويلة المدى. ([27])

في واقع الأمر، لم تتسم سياسة ترامب الخارجية خلال فترة رئاسته الأولى بانسجام داخلي يعكس عقيدة تقليدية، حيث يرى المحلل مايكل أنتون أن ترامب لا يلتزم بأي نموذج أيديولوجي محدد؛ فهو ليس انعزالياً ولا تدخلياً بالمطلق، بل يميل إلى اتخاذ قرارات وفقاً للمواقف الفردية التي تواجهها الولايات المتحدة، ويراها من زاويته هو ، أو من زاوية أصحاب المصالح الموجهين لقراراته.

على سبيل المثال، شهدت فترته الرئاسية الأولى تهديدات بالتصعيد العسكري مع كوريا الشمالية، تلاها مسار دبلوماسي فريد قاده إلى عقد قمة تاريخية مع كيم جونج أون. كما أبدى انفتاحاً تجاه روسيا وعقد لقاءات مع الرئيس بوتين، بينما شن حرباً تجارية قوية ضد الصين وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران، معيداً فرض العقوبات عليها.

ومع اقتراب الانتخابات الأخيرة، أعادت الترامبية تشكيل الحزب الجمهوري عبر خطابها القائم على الشعبوية الاقتصادية ورفض العولمة التقليدية. حيث يُتوقع أن يستمر نهج ترامب في التركيز على إنهاء الحروب وتعزيز الدبلوماسية الاقتصادية، مع إيلاء الأولوية للصفقات التجارية الثنائية على التحالفات المتعددة الأطراف.  لذلك تشير التوقعات إلى استمراره في التركيز على ملفات مثل أوكرانيا والصين وإيران، ولكن بأسلوب يتسم بالبراجماتية الانتقائية التي تعكس أولويات أميركا المباشرة.

وفي الشرق الأوسط، يرى البعض أن ترامب قد يعيد لعب دور الوسيط، كما فعل في اتفاقات إبراهام، ولكن دون التورط في نزاعات طويلة الأمد، بينما يرى آخرون، ونحن منهم، أن تكون سياسة ترامب في الشرق الأوسط، خاصة في العلاقة مع الكيان الصهيوني، ذات طبيعة مختلفة عن سياساته الأخرى حول العالم، وذلك في إطار تصور كلي كبير لإعادة صياغة المنطقة، كما سنفصل في الجزء الخاص بالشرق الأوسط من الدراسة.

بناء على ذلك فإن عقيدة ترامب تكشف عن تحول جذري في طبيعة السياسة الخارجية الأميركية، بعيداً عن الالتزام بمبادئ ثابتة، نحو مقاربة مرنة تقوم على المصالح الآنية وإعادة صياغة الأولويات. يختلف ذلك بعض الشيء عما يطرحه ألكسندر دوجين حول أيديولوجيا فريق ترامب، فنحن نرى أنه على الرغم من المكونات الأيديولوجية في سياسات ترامب، فإن النفعية والمصالح الأنية ستكون هي المكونات الغالبة. ويمكن فهم “كوكتيل” سياسات ترامب بشكل أفضل بالنظر لمشروع 2025، وكذلك تحليلنا اللاحق لهذا الأمر حول الاتجاهات الرئيسية لهذه السياسات.

مشروع 2025 الأمريكي وعلاقته بسياسات ترامب:

مشروع 2025 الأمريكي، يمكن أن يكون المفتاح الذي يعاد من خلاله تشكيل مستقبل الولايات المتحدة، حيث يمكن لتوصياته التي يطبقها ترامب بشكل حرفي حتى هذه اللحظة، أن تلعب دورا محورياً في إعادة تشكيل الحكومة الفيدرالية، من خلال إضعاف القضاء، والسيطرة على وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، واستبدال القوانين العلمانية بأخرى مستمدة من المسيحية المتشددة، وطرد المسؤولين غير الموالين لترامب، والانفصال عن المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، فضلا عن التوسع الإقليمي من خلال ضم مناطق مثل جرينلاند وقناة بنما. وأخيراً مخططات تحويل غزة إلى منتجع أمريكي فاخر بعد تهجير أهلها وإعادة توطينهم في بلدان أخرى. (مشروع 2025) ._([28])

تركز توصيات مشروع 2025 في السياسة الخارجية على تعزيز الهيمنة الأمريكية وتقليص الالتزامات الدولية، حيث تدعو إلى موقف أكثر صرامة تجاه الصين من خلال تعزيز الوجود العسكري في المحيط الهادئ، وفرض قيود إضافية على الشركات الصينية، إلى جانب تقديم دعم أقوى لحلفاء واشنطن الإقليميين مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية. كما تسعى إلى تصعيد الضغوط على إيران عبر إعادة تطبيق سياسة “الضغط الأقصى”، وتشديد العقوبات الاقتصادية، وتعزيز التعاون مع إسرائيل ودول الخليج لمواجهة النفوذ الإيراني.

أما في أوروبا، فيدعو المشروع إلى تقليص الدور الأمريكي في الناتو، والضغط على الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها الدفاعي، مع تبني سياسة أكثر براجماتية تجاه روسيا، تقوم على المصالح الاقتصادية بدلاً من المواجهة المباشرة. وعلى صعيد القضية الفلسطينية، يؤكد المشروع على الدعم المطلق لإسرائيل، وتوسيع اتفاقيات التطبيع، وتقليل التمويل الموجه للمنظمات الدولية التي تنتقد سياسات تل أبيب، إضافة إلى فرض شروط صارمة على أي مساعدات للسلطة الفلسطينية.

كما يتبنى المشروع تعديلات جذرية في سياسات المساعدات الخارجية، حيث يوجه الدعم نحو الدول التي تتماشى مع مصالح الولايات المتحدة، مع إلغاء البرامج المتعلقة بحقوق الإنسان والبيئة، التي تُعتبر غير ضرورية وفقاً للإدارة الجديدة. وفي المقابل، يسعى لتعزيز الاستثمار الأمريكي في البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا، للحد من النفوذ الصيني المتزايد في تلك المناطق. (SETA) ([29])

الاتجاهات المتوقعة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال رئاسة ترامب الثانية

تتباين آراء الخبراء والمحللين حول السياسة الخارجية لدونالد ترامب بين ثلاث اتجاهات رئيسية تُبرز اختلاف الرؤى بشأن طبيعة تأثيره ودوره في صياغة تلك السياسة. الاتجاه الأول يصف نهج ترامب بالبراجماتية والنفعية، مركّزاً على تحقيق المكاسب الاقتصادية والمادية للولايات المتحدة، بل ومصالحه الشخصية، تحت شعار “أمريكا أولاً”. بينما يرى الاتجاه الثاني أن ترامب لم يكن خلال فترة رئاسته الأولى المسؤول الوحيد عن رسم السياسة الخارجية، حيث لعبت شخصيات مؤثرة مثل وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشاره جاريد كوشنر دوراً محورياً في صياغة القرارات. أما الاتجاه الثالث، فيؤكد أن السياسة الخارجية الأمريكية تنبع من تفاعل معقد بين مؤسسات متعددة، مثل البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، والبنتاجون، ووكالة الاستخبارات المركزية، ومجلس الأمن القومي، مما يجعلها أقرب إلى مخرجات منظومة جماعية بدلاً من قرارات فردية . ([30]) الأمر الذي يفسر أيضاً سعي ترامب إلى إحكام سيطرته على جميع هذه المفاصل الهامة، من خلال التعيينات التي تتماشى مع أفكاره وأطروحاته الداخلية أو الخارجية على حد سواء، وتساهم في تنفيذ أجنداته.

 نحن نرى أن السياسة الخارجية المتوقعة خلال فترة ترامب الثانية ستكون مزيجاً من الاتجاهات الثلاث (مع اختلاف الأشخاص في الاتجاه الثاني بالطبع)، إضافة إلى عوامل أيديولوجية مكملة، إلا أن الصورة الكلية لن يمكن فهمها بشكل متكامل إلا في إطار فهم توجهات الأطراف المؤثرة على ترامب، والتي تسعى للسيطرة على القرار في المؤسسة الأمريكية، وتهدف إلى إحداث تغيرات جوهرية سواء داخلياً أو خارجياً في سياسات الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار تأتي مجموعة الأوليجاركية التكنولوجية التي تسعى إلى تبوأ مكانة الصدارة في السيطرة على المشهد الأمريكي والعالمي، لتأخذ مكان الأوليجاركية القديمة أحياناً، وتتفاعل معها أحياناً أخرى، كما أسلفنا في الفصلين الأول والثاني من الدراسة، بما يحقق مصالحهم ويعظم من مكاسبهم، وبما يتعدى العوامل الوطنية والأيديولوجية إذا اقتضى الأمر، مع استغلال ترامب وقواعده الشعبوية والأيديولوجية في الوصول إلى هذه الأهداف.

في خطاب التنصيب، الذي كان أشبه بإعلان حرب ملحمية، قال ترامب: “اعتباراً من هذا اليوم، ستستعيد بلادنا مكانتها الريادية على الساحة الدولية وستحظى بالاحترام العالمي الذي تستحقه. سنصبح أمة يحسدها العالم، ولن نسمح لأحد باستغلالنا مجدداً. طوال فترة إدارتي، سأضع مصلحة أمريكا في الصدارة وبكل وضوح”، وأضاف: ” وكما حدث في عام 2017، سنبني مرة أخرى أقوى جيش شهده العالم على الإطلاق. سنقيس نجاحنا ليس فقط بالمعارك التي نكسبها، ولكن أيضاً بالحروب التي ننهيها – وربما الأهم من ذلك، الحروب التي لا ندخلها أبداً”.

وتابع ترامب: ” يسعدني أن أبلغكم أنه اعتباراً من يوم أمس، قبل يوم واحد من توليي منصبي، بدأ الرهائن في الشرق الأوسط يعودون إلى ديارهم إلى وأهلهم وذويهم. ستستعيد أميركا مكانتها الصحيحة كأعظم وأقوى وأكثر أمة تحظى بالاحترام على وجه الأرض، وستثير الإعجاب والهيبة في العالم أجمع. بعد وقت قصير من الآن، سنقوم بتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أميركا – (تصفيق) – وسنعيد اسم رئيس عظيم، وليام ماكينلي، إلى جبل ماكينلي، المكان اللائق به والذي ينتمي إليه. لقد جعل الرئيس ماكينلي بلدنا ثريا جداً من خلال التعريفات الجمركية ومن خلال الموهبة – كان رجل أعمال بالفطرة – وأعطى تيدي روزفلت المال للعديد من الأشياء العظيمة التي قام بها، بما في ذلك قناة بنما، التي أعطيت بحماقة إلى دولة بنما بعد أن أنفقت الولايات المتحدة – أعني فكروا في هذا – أنفقت أموالاً أكثر مما أنفقت على أي مشروع من قبل، وفقدت 38 ألف شخص في بناء قناة بنما. لقد عوملنا معاملة سيئة للغاية بسبب هذه الهدية الحمقاء التي لم يكن ينبغي لنا أن نمنحها أبداً، ونكثت بنما بوعدها لنا. لقد تم انتهاك هدف صفقتنا وروح معاهدتنا بشكل كامل. ويتم فرض رسوم زائدة بشكل كبير على السفن الأميركية ولا يتم التعامل معها بشكل عادل بأي شكل من الأشكال. وهذا يشمل البحرية الأميركية. وقبل كل شيء، الصين هي التي تدير قناة بنما. ونحن لم نعطها للصين. لقد أعطيناها لبنما، والآن نستعيدها. ستعتبر الولايات المتحدة نفسها مرة أخرى دولة نامية – دولة تزيد من ثروتنا، وتوسع أراضينا، وتبني مدننا، وترفع توقعاتنا، وتحمل علمنا إلى آفاق جديدة وجميلة.”

ولقد بدأ ترامب فعلاً منذ اليوم الأول من تنصيبه، بإثارة الزوابع الواحدة تلو الأخرى، رغم أن يوم التنصيب ليس هو البداية الفعلية، إنما بدأ عبث ترامب منذ إعلان فوزه، واتجهت السياسات العالمية نحو انتظار ما سيؤول عليه الحال الأمريكي ضمن المنتظم الدولي مع الرئيس الجديد. فكان أول الآثار التي انبثقت عن فوز ترامب، إعلان الهدنة بين حركة حماس وإسرائيل بضغط مباشر من ترامب (سنناقش هذا الأمر بالتفصيل في الجزء الخاص بالشرق الأوسط).

ومن غزة إلى بنما وجرينلاند وخليج المكسيك، حيث استمر ترامب في استخدام الخرائط الجغرافية لتحقيق أجنداته السياسية، والتي تعكس “الأسلوب الترامبي”، من خلال تصور قومي يميني يبالغ في تهميش الشعوب، وتعظيم القدرات الأمريكية وهيمنتها على نصف الكرة الغربي. مجدداً استخدم ترامب الخرائط والتسميات الجغرافية لأغراضه السياسية، ضمن إعادة تعريف الحقائق بما يتماشى ورؤيته، حتى وإن تحدى المعايير الجغرافية المتفق عليها.

 ويبدو أن ترامب عازم في بداية فترته الثانية على وضع أسس عميقة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بحسب رؤيته الاستراتيجية، ونهجه الخارجي وفقاً لمصالح واشنطن. وينتهج ترامب أيضاً سياسة خارجية عدائية منذ اليوم الأول من تنصيبه، خاصة بالنظر إلى ما تضمنته القرارات التي تلت ذلك، وأهمها زيادة التعرفة الجمركية بنسبة 25% على الواردات القادمة من المكسيك وكندا الجارتين الحليفتين، وتهديد الاتحاد الأوروبي بمثل هذا الأجراء. ويرى محللون أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب قد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المستهلكين الأمريكيين، بما في ذلك متاجر البقالة ومحطات الوقود.  ترامب برر قراره بأنه جاء ردا على فشل كندا والمكسيك في السيطرة على الهجرة غير النظامية وتهريب المخدرات إلى الأراضي الأميركية. بل يدعو ترامب علناً لأن تكون كندا الولاية الواحدة والخمسين من الولايات المتحدة، ويطلق على ترودو رئيس وزراء كندا السابق لقب “المحافظ – Governor” ترودو!

نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كريمر، ([31]) أكد أن استراتيجية ترامب في استخدام كافة وسائل الضغط الاقتصادية – أو ما وصفها بـ “الأسلحة الاقتصادية” – تمثل تحولاً جذرياً في السياسة الخارجية الأمريكية. وأشار إلى أن هذا النهج يختلف بشكل جوهري عن سياسات الإدارات السابقة التي كانت تتبنى أساليب أكثر انتقائية وتحفظاً في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. من وجهة نظر تحليلية، يُعد استخدام الضغط الاقتصادي كأداة رئيسية في السياسة الخارجية محاولة لإعادة تشكيل النظام الدولي وفقاً للمصالح الأمريكية، حيث يسعى ترامب إلى فرض شروط صارمة على الدول التي يعتبرها لا تخدم أولويات الولايات المتحدة، أو تتحدى الهيمنة الاقتصادية للدولار، أياً كانت علاقتها أو تحالفها مع الولايات المتحدة.

وتعكس هذه الاستراتيجية تغييراً في ملامح السياسة الخارجية الأمريكية، حيث ينظر إلى استخدام الأسلحة الاقتصادية كخطوة لإعادة تعريف العلاقات الدولية على أساس المصلحة القومية الأمريكية، مع تحول ملحوظ عن الأساليب التقليدية القائمة على الحوار والتفاوض. كما تكشف هذه الإجراءات عن رغبة في فرض نظام دولي يتوافق مع رؤية ترامب للهيمنة الاقتصادية والسياسية، مما يزيد من حدة الصراعات الدولية، ويطرح تساؤلات حول استدامة النظام العالمي في ظل استخدام مثل هذه الأساليب القسرية. وكنا قد رأينا بعضاً من ذلك في فترة ترامب الأولى، حيث انخفض التأييد الدولي للزعامة الأمريكية إلى أدنى مستوى تاريخي، وأصبحت الثقة في الرئيس دونالد ترامب مساوية تقريباً للثقة في الرئيس الصيني شي جين بينج.

تَمثَّل السلاح الاقتصادي الأهم الذي أشهره ترامب فيما أطلق عليه التعريفات الجمركية التبادلية، والتي أصدرها في قرارات تنفيذية في الثاني من إبريل، الذي أطلق عليه ترامب “يوم التحرير”، بما يؤثر على أغلب دول العالم، وهو ما ألقينا بعض الضوء عليه في الفصل الأول من هذه الدراسة. هذه القرارات بدون شك ضربت النظام التجاري العولمي في مقتل، وأسست لقواعد مختلفة تماماً سيكون لها أثار ضخمة على العالم بأسره.

من الممكن استكشاف الرؤية السياسية والاقتصادية خلف هذه القرارات، وبأنها ليست رؤية عشوائية، ولكنها منهجية ومدركة للمخاطر المحيطة بها، بالنظر للدراسة المهمة التي نشرها في نوفمبر 2024 ستيفن ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في الإدارة الأمريكية، والحاصل على الدكتوراة في الاقتصاد من جامعة هارفارد، والذي يعتبر الآن المستشار الاقتصادي الأول لترامب، بعنوان “الدليل لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي. ([32]) ويفترض المحللون أن سياسة التعريفات في إدارة ترامب الثانية تتبعها حرفياً، انتهاء بما يطلق عليه “اتفاق مارا لاجو“. ([33])

رغم أن الدراسة لا تضع ما يمكن أن يطلق عليه “خطة” بالمعنى الحرفي، إلا أنه يمكن أن تستشف ما وراءها من خلال 3 مراحل، الأولى بفرض بعض التعريفات الجمركية الانتقائية (وهو ما حدث بالفعل في مارس الماضي)، تليها مرحلة فرض تعريفات جمركية تبادلية بشكل واسع النطاق (وهو ما تم مؤخراً). منطلق هذه التعريفات أنها ستحدث اضطراباً عالمياً وحتى محليا كبيرا على الصعيد الاقتصادي، مما يجبر الأطراف المختلفة (الخارجية منها والداخلية) للقدوم لترامب والتفاوض معه لعقد اتفاق (لذلك يطلق عليه البعض اتفاق مارالاجو)، يتم بموجبه استبدال الأسس التي بني عليها النظام التجاري العالمي في اتفاقية برايتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية، ثم الإطار العولمي النيوليبرالي منذ ثمانينيات القرن الماضي، والذي لم يعد صالحاً لمصلحة أمريكا بحسب الكاتب، لأنه أدى إلى فقدان القاعدة الصناعية الأساسية في الولايات المتحدة لحساب قوى أخرى مما ينبغي استعادته، بقواعد مختلفة يخضع لها العالم تحت الضغط الأمريكي! تستهدف سياسات التعريفة أيضاً إحداث انخفاض في سعر الدولار الأمريكي، مما يشجع الآخرين على الاستيراد من الولايات المتحدة، مما يعدل من الميزان التجاري الأمريكي.

إذن هناك منطق سياسي واقتصادي، وليس مجرد عبث ترامبي، يتصور  أن الواقع لا يعمل، وأنه يمكن أن يحقق مصالح الولايات المتحدة بهذا الأسلوب، الذي يتعامل مع الأثار السلبية التي وقعت على الولايات المتحدة جراء سياساتها التجارية الدولية على مدار نحو ثمانية عقود، رغم الفوائد الجمة التي حققتها بالهيمنة على النظام العالمي طوال هذه الفترة. وقد خرجت تصريحات من البيت الأبيض بالفعل تؤكد أن “مؤسسات ما بعد الحرب العالمية الثانية لا تناسبنا ولا تناسب وضعنا الاقتصادي في الوقت الراهن“. وبرغم هذا المنطق، فإن فرص نجاح هذه “الخطة” هي شيء آخر، وهو ما سنتعرض له في الفصل الرابع من هذه الدراسة.

الملمح الرئيس الآخر لسياسات ترامب الخارجية، والذي يكاد يكون من ثوابتها، بل والموجه لها في أحيان كثيرة، هو الدعم غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل. هذا الدعم يجعل ترامب في أحيان كثيرة يتبنى سياسات في المنطقة لا تتوافق مع الإستراتيجيات العامة التي يتبناها في مناطق أخرى، وهو ما سنتعرض له لاحقاً في الفصل الخامس من هذه الدراسة.

قد يكون من المفيد هنا للتأكيد على بعض المعاني السابقة، الإشارة إلى المقابلة الهامة التي أجراها ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط في مارس 2025، وأحد أدواته المهمة في التفاوضات الدولية، مع الإعلامي الشهير تاكر كارلسون، والداعم لترامب بشدة. تناولت مقابلة ويتكوف، ملامح السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب الثاني، وروجت لها، مع التركيز على الملفات الأكثر تعقيداً في منطقة الشرق الأوسط.

شدد ويتكوف على أهمية فهم اللاعبين الرئيسيين في المنطقة للوصول إلى حلول دبلوماسية مستدامة، مسلطاً الضوء على دور قطر كوسيط رئيسي في النزاعات، وكال لها المديح بشكل كبير، خاصة في ظل غياب الحوار المباشر بين الولايات المتحدة وحماس. كما أشار إلى تعقيد المفاوضات مع الحركة، حيث تتأثر بالحقائق الميدانية والانفعالات الناتجة عن أعمال العنف.

ناقش ويتكوف العلاقة بين الدبلوماسية الأمريكية والقوى الإقليمية، مؤكداً أن أي حل للصراع في غزة يجب أن يراعي الظروف السياسية والاقتصادية للمنطقة. كما تطرق إلى الدور الاستراتيجي لإسرائيل في التعامل مع تهديدات حزب الله وحماس، مشيراً إلى نجاح العمليات العسكرية الإسرائيلية في تحييد قادة هذه التنظيمات، مما أضعف النفوذ الإيراني في المنطقة. وأكد أنه لا يمكن السماح “لبلد صغير” كإيران أن تكون له قوة نووية تجعل نفوذه مهيمناً (لم يقل بالطبع ولماذا هذا مسموحاً بالنسبة لإسرائيل، وهي أصغر كثيراً من إيران)! إلا أنه أكد في نفس الوقت عن السعي الحثيث للرئيس بالوصول إلى حل مع إيران، بدليل أنه هو الذي بدأ بإرسال رسالة للإيرانيين.

بالإضافة إلى ذلك، ركّز ويتكوف على أهمية التعاون مع دول الخليج، التي تسعى لتحقيق استقرار اقتصادي من خلال تحالفات سياسية وتجارية. ومن اللافت التصور الذي طرحه حول أهمية الشكل الجديد للشرق الأوسط في ظل التطبيع مع إسرائيل، التي تمتلك قدرات تكنولوجية عالية، ودول الخليج ذات القدرات المالية، وإمكانيات “الشباب”، مما ينشئ “مركز قوة جديد في العالم”، وهذا جيد للعالم بعد أن كاد أثر أوروبا يتلاشى!

في سياق أوسع، قارن ويتكوف بين مفاوضات الشرق الأوسط ونزاعات أخرى مثل الحرب الأوكرانية والتوترات بين أذربيجان وأرمينيا، مشيراً إلى ضرورة اتباع نهج تفاوضي مرن يستند إلى المصالح الاستراتيجية لكل طرف. وتساءل ويتكوف عن كيف سيكون شكل العالم عندما تتعاون أمريكا مع روسيا؟! وكيف أن من لا يحب هذا التعاون هم المستفيدين في واشنطن من استمرار الصراعات. “ترامب سيقضي على ذلك”.

على الصعيد الشخصي، تحدث ويتكوف عن تأثره العميق بسياسات ترامب ونهجه في القيادة، مشيراً إلى تأثير خسارته الشخصية في حياته على تعاطفه مع عائلات الرهائن. كما أكد أن الولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي من خلال مبادرات اقتصادية، مشيراً إلى إمكانية خلق بيئة استثمارية متقدمة في المنطقة إذا تحقق السلام.

وأشار ويتكوف إلى أن السياسة الأمريكية في الولاية الثانية لترامب تركز على تقليل النزاعات والحد من التدخلات العسكرية، مع السعي لإيجاد حلول دبلوماسية تضمن استقرار الشرق الأوسط، مع الأخذ في الاعتبار التحولات السياسية والاقتصادية في المنطقة. إلا أنه تهرب من الإجابة عن سؤال متكرر حول “خطة إسرائيل” للمنطقة، خاصة أنها تحتل بالفعل أجزاء من سوريا ولبنان. ([34])

التوجهات الأمريكية الراهنة حول الأطراف والقضايا الدولية  المختلفة

في الأجزاء التالية سنقوم باستعراض نماذج من السياسات الخارجية لترامب وإدارته تجاه الأطراف الدولية ذات العلاقة، باستثناء أطراف منطقة الشرق الأوسط، التي سنفرد لها فصلاً خاصاً في نهاية الدراسة.

أوكرانيا وأوروبا

منذ وصول ترامب إلى السلطة، كانت السياسة الأمريكية تركز بشكل كبير على محاولات إيجاد حلول لإنهاء النزاع بين روسيا وأوكرانيا. ومن أبرز هذه الجهود كان دعوة المبعوث الأمريكي الخاص إلى أوكرانيا، كيث كيلوغ، في فبراير 2025 لكلا من روسيا وأوكرانيا لتقديم تنازلات من أجل التوصل إلى حل سلمي. وقد تجسد هذا بشكل ملموس في اجتماع الرياض بين واشنطن وموسكو في منتصف فبراير، الذي عزز موقف روسيا دبلوماسياً، وأدخل أوكرانيا وحلفاءها الأوروبيين في أزمة متزايدة.

في هذا السياق، دفعت واشنطن كييف إلى تقديم “التنازلات الإقليمية” و” الضمانات الأمنية” لموسكو، والذي سيؤدي بموافقة أمريكية إلى احتفاظ موسكو بالأراضي التي سيطرت عليها في اوكرانيا، وهو ما يزيد من قلق القيادة الأوكرانية حول مستقبل سيادتها.

وكان ترامب يبرز من خلال سياسته الخارجية التنافر الواضح مع الأنظمة الأوروبية الليبرالية مثل فرنسا وألمانيا، وفي المقابل يسعى لتعزيز علاقاته مع حكومات يمينية مثل إيطاليا والمجر. في ظل هذا، تسعى الولايات المتحدة إلى دفع أوكرانيا لتقديم “تنازلات إقليمية” و”ضمانات أمنية” لموسكو، مما يزيد من قلق القيادة الأوكرانية بشأن مستقبل سيادتها. علاوة على ذلك، يبدو أن العلاقات الأمريكية – الروسية آخذة في التطور على صعيد إيجابي لصالح روسيا، في وقت تشهد فيه العلاقات مع أوروبا توترات متزايدة.

في هذا الصدد، أشارت تقارير إلى قلق مسؤولي الأمن والسياسيين الأوروبيين من أن ترامب قد يوافق على سحب القوات الأمريكية من بعض الدول الأوروبية، خاصة من دول البلطيق وكوسوفو، مما قد يترك الحلفاء الأوروبيين في مواجهة تهديدات روسية مباشرة. هذا التطور يأتي في وقت يتزايد فيه قلق القادة الأوروبيين من احتمال قطع المساعدات الأمريكية عن أوكرانيا أو فرض وقف إطلاق النار لصالح روسيا.

وفي وقت سابق، اتخذ ترامب خطوة استراتيجية استثنائية، حيث قرر أن يحرم القوات الأوكرانية من معلومات استخباراتية حيوية، مثل صور الأقمار الصناعية التي كانت تكشف تحركات وتجهيزات القوات الروسية. وقد استغل بوتين هذا النقص لتعزيز هجماته في كورسك باستخدام وحدات نخبة وطائرات بدون طيار ومدفعية دقيقة، مما أعاد رسم معالم الصراع لصالح موسكو.

كان هذا الإجراء يُعتبر جزءاً من محاولة للضغط على الرئيس الأوكراني زيلينسكي لتوقيع صفقة سلام بشروط أمريكية، مع التوصل أيضاً لصفقة تضمن الاستفادة الأمريكية من المعادن النادرة في أوكرانيا، وهو ما عكس نهجاً أحادياً تضع فيه الولايات المتحدة مصالحها فوق كل اعتبار، رغم علاقة التحالف السائدة بين البلدين والدعم الأمريكي الواضح في عهد إدارة بايدن.

يُفسر هذا القرار كجزء من محاولة ترامب للضغط على الرئيس الأوكراني زيلينسكي لتوقيع صفقة سلام بشروط أمريكية، في إطار سياسة أحادية الجانب تضع مصالح الولايات المتحدة أولاً، مما يترك حلفاء أوكرانيا دون الأدوات اللازمة للدفاع عن مواقفهم. وفي ظل هذه التحركات، برزت الدعوات الأوروبية لبناء شبكة دفاعية واستخباراتية مستقلة لتقوية القدرات الوطنية لدى الدول الأوروبية، في مواجهة التحديات التي يفرضها غياب الدعم الأمريكي الكامل.

في واقع الأمر، فإن التعامل الأمريكي الجديد مع القضية الأوكرانية يأتي في سياق أوسع، وهو العلاقة الأمريكية الأوروبية، ورغبة أمريكا في التحلل من التزامها بتوفير الحماية الأمنية لأوروبا، بعد عقود طوال من هذه الحماية. في هذا السياق، أشار وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيجسيث، إلى أن الولايات المتحدة لن تكون الضامن الدائم لأمن حلفائها في أوروبا، وأن على الدول الأوروبية تحمل المزيد من المسؤولية في تعزيز دفاعاتها. وبينما كانت هناك جهود لتقليص عدد القوات الأمريكية في أوروبا في فترة سابقة، إلا أن واشنطن لا تزال ملتزمة بالحفاظ على قوتها العسكرية هناك، مع التأكيد على ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي.

بحسب البنتاجون، تنتشر حالياً قوات قوامها نحو 100 ألف جندي أميركي في أوروبا، يتمركز أكثر من ثلثهم في ألمانيا. ومع ذلك، فإن ترامب سبق وأن سعى خلال ولايته الأولى إلى تقليص عدد القوات الأميركية في ألمانيا بسبب خلافات مع المسؤولين الألمان، لكن قادته العسكريين تمكنوا من إبطاء تنفيذ هذه الخطوة في ذلك الوقت.

ويأمل ترامب أن اضطلاع أوروبا بمسئولية الحفاظ على أمنها سيجبرها على زيادة الإنفاق الدفاعي، وفي نفس الوقت لن يكون أمامها إلا شراء السلاح الأمريكي، وهو ما سيحقق فائدة إقتصادية كبيرة لأمريكا دون تحمل أية أعباء، خاصة إذا تمكن ترامب من الوصول لتفاهمات مرضية مع روسيا. بمعنى آخر، يريد ترامب إبقاء أوروبا ضعيفة، ومعتمدة عليها في السلاح والطاقة، وبالتالي تستمر الهيمنة الأمريكية عليها.

ونشرت صحيفة “فزغلياد” الروسية تقريراً تسلط فيه الضوء على الخطاب القاسي الذي ألقاه نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث انتقد فيه الحلفاء الأوروبيين مما أثار ردود فعل واسعة في أوروبا.

فانس اتهم أوروبا بتقييد حرية التعبير وقمع المعارضين وفرض رقابة مشددة، كما أشار إلى أن السلطات الأوروبية تحاول فرض قيم غريبة على الناس، تصل إلى حد معاقبة “الجرائم الفكرية”، فضلاً عن غياب انتخابات حرة في العديد من الدول الأوروبية بسبب استبعاد الأحزاب اليمينية من العملية السياسية وإقصائها عن المشاركة في الحكومة، مثلما حدث في رومانيا، حيث تم إلغاء نتائج الانتخابات بدعوى ولاء بعض الأحزاب لروسيا.

وقال فانس إن “التهديد الرئيسي لأوروبا ليس روسيا، بل المشاكل الداخلية، وخاصة قضية الهجرة”. وتساءل عن سبب هذا “الجلد العلني لأوروبا” وكيف يمكن اتهام دول تعتبر نفسها معياراً للديمقراطية، بممارسة “الديكتاتورية”.

وبحسب الصحيفة، فإن هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء هذا التوبيخ العلني. أولاً، الانتقام والتعبير عن الازدراء من قبل ترامب وإدارته بسبب دعم بعض القادة الأوروبيين لكامالا هاريس ورفضهم الصريح لفوز ترامب، بالإضافة إلى التشابه بين النخب الأوروبية الحالية وما يكره ترامب داخل الولايات المتحدة من ممارسات قمعية وفرض الرقابة.

ثانياً، دعم ترامب وفانس الأحزاب ذات التوجهات الوطنية مثل “البديل من أجل ألمانيا” وفيكتور أوربان في المجر، مما يعكس دعمهم لأيديولوجيات يمينية تسعى إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي.

أما السبب الثالث، فقد تمثل في رغبة الولايات المتحدة في إجبار أوروبا على الخضوع في القضية الأوكرانية. ووفقاً للسوسيولوجي ديمتري سوسلوف، فإن الولايات المتحدة لا تنظر إلى أوروبا ككتلة موحدة، بل كـ”لاعب يجب أن ينفذ الإرادة الأمريكية”. الولايات المتحدة، التي تضع أولويتها في مواجهة الصين، تريد إنهاء الصراع الأوكراني بسرعة وتحميل أوروبا مسؤولية ذلك، بما في ذلك مسؤولية حماية نفسها.

وأردف التقرير إن أوروبا لم تسمع صوتها في تحديد مبادئ الأمن الأوروبي والدولي منذ اتفاقات لوكارنو عام 1925. كما أشار إلى أن الأوروبيين قد لا يتقبلون هذا التجاهل الأمريكي العلني، خاصة بعد أن راهنوا على الهزيمة الاستراتيجية لروسيا في النزاع الأوكراني.

في ختام التقرير، نوهت الصحيفة إلى أن الاتحاد الأوروبي يعارض استراتيجية ترامب ويعمل بالتعاون مع النظام في كييف على تدميرها. وخلصت إلى أن مهمة فانس في ميونيخ كانت توجيه رسالة تحذير للأوروبيين، بأن أي محاولة لتدمير الاستراتيجية الأمريكية ستقابل بعقاب صارم. ([35])

وفي السياق نفسه، تواجه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقاشات داخلية بشأن إمكانية التخلي عن قيادة الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذلك ضمن خطة إعادة هيكلة موسعة للقيادات القتالية ومقار القيادة العسكرية. ووفقاً لما نقلته شبكة NBC الإخبارية عن مسؤولين عسكريين، فإن تنفيذ هذه الخطة سيشكل تحولاً استراتيجياً غير مسبوق، إذ سينهي الدور الأمريكي في قيادة قوات الناتو في أوروبا، وهو المنصب الذي حافظت عليه واشنطن منذ قرابة 75 عاماً. ويشرف القائد الحالي لهذا المنصب على العمليات العسكرية الداعمة لأوكرانيا في مواجهتها مع روسيا، ما يجعل أي تغيير في هذا الهيكل القيادي ذا تداعيات مباشرة على التوازن العسكري في المنطقة. وعلى الرغم من عدم تحديد جدول زمني واضح لتنفيذ الهيكلة، فإن هذه الخطوة قد تخضع لمراجعات لاحقة، خاصة في ظل التحولات المستمرة في السياسة الدفاعية الأمريكية.

وتأتي هذه الخطوة ضمن توجه إدارة ترامب، بقيادة وزير الدفاع بيت هيجسيث، نحو تقليل الإنفاق الحكومي وتقليص الاعتماد على الولايات المتحدة في الدفاع الأوروبي، حيث سبق لترامب أن دعا الدول الأوروبية لتحمل مسؤولية أمنها بشكل أكبر. وإذا تم تنفيذ الانسحاب الأمريكي من قيادة الناتو، فسيواجه الحلف تحدي اختيار دولة بديلة لهذا المنصب، مما قد يؤثر على توازن القوى داخله. وتشمل خطة إعادة الهيكلة أيضاً دمج بعض القيادات القتالية الأمريكية بهدف تقليل عددها من 11 إلى 6 قيادات فقط، وذلك لتعزيز الكفاءة التشغيلية وخفض التكاليف. ومن بين المقترحات المطروحة دمج القيادة الأمريكية في أوروبا مع القيادة الأمريكية في إفريقيا ضمن قيادة موحدة مقرها شتوتجارت، ألمانيا، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في كل من القارتين الأوروبية والإفريقية.

روسيا:

يبدو أن العلاقات الأمريكية – الروسية آخذة في التطور على صعيد إيجابي تزامناً مع توتر العلاقات مع الدول الأوروبية. حيث كان الرابح الأكبر من محادثات الرياض دبلوماسيا واستراتيجيا هو موسكو، والخاسر الأكبر كييف، التي تواجه عزلة متزايدة وضعفاً في موقفها التفاوضي وتخلي أمريكي عنها. كما أن أوروبا التي تتخوف اليوم من تنصل واشنطن من التزاماتها العسكرية ستحاول البحث عن استراتيجيات جديدة لتعزيز دفاعاتها بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، مما يدفع بتحول في الموازين الجيوسياسية.

وقد تمكنت موسكو من تعزيز موقفها عبر تقديم نفسها كطرف محاور  رئيسي للولايات المتحدة، مما يدعم روايتها بأن الحرب في أوكرانيا ليست سوى صراع بينها وبين حلف شمال الأطلسي (الناتو). كما أن الاقتراح الأمريكي برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، بعد سنوات من التوتر، يعكس تحسناً في العلاقات يخدم المصالح الروسية.

وتتمحور القضية الجوهرية في النزاع بين روسيا وأوكرانيا، حسب مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، حول عدة نقاط محورية أبرزها السعي لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو. وقال ويتكوف، في مقابلته المشار لها سابقاً مع تاكر كارلسون، فيما بدا وكأنه تبني لسردية روسيا في نزاعها مع أوكرانيا، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تولى منصبه لأكثر من 25 عاماً، كان ثابتاً في مطلبه الرئيسي طوال فترة رئاسته، وهو أن يتوقف حلف الناتو عن التوسع نحو حدود روسيا، وألا تنضم أوكرانيا، أكبر جارة لروسيا، إلى الحلف. هذا المطلب يُعتبر، حسب الكثير من الخبراء، شرطاً أساسياً لتحقيق السلام في المنطقة. بمعنى آخر، ترفض روسيا أن تكون أوكرانيا جزءاً من الناتو، كما ترفض أن يتمكن الحلف من تهديد أمنها بشكل مباشر، مثلما ترفض إسرائيل وجود حماس على حدودها، بحسب ويتكوف.

ويضيف أنه في إطار هذا النزاع، تتواجد أيضاً قضايا تتعلق ببعض المناطق التي تشهد نزاعاً طويل الأمد، مثل دونباس، القرم، ولوجانسك، وهي مناطق ذات أغلبية ناطقة باللغة الروسية. ومن خلال الاستفتاءات التي أجريت في تلك المناطق، أبدى سكانها رغبتهم في الانضمام إلى روسيا أو البقاء تحت حكمها. هذه القضايا تعتبر جوهرية في النزاع المستمر، حيث أن روسيا ترى أنها تسيطر على تلك المناطق بشكل فعلي.

من ناحية أخرى يقول ويتكوف أن أوكرانيا تواجه مشكلة دستورية حول ما يمكنها التنازل عنه فيما يتعلق بالأراضي التي تسيطر عليها روسيا حالياً. تظل النقطة الأساسية في هذا الصراع هي الاعتراف الدولي بما إذا كانت هذه الأراضي جزءاً من روسيا أم لا. بالإضافة إلى ذلك، يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تحدياً سياسياً في حال اعترف بتلك المناطق كجزء من روسيا، مما قد يؤثر على استقرار حكمه.

أما فيما يتعلق بنظام الحماية الذي قد تمنحه الولايات المتحدة وأوروبا لأوكرانيا، فقد أصبح من المتفق عليه، طبقاً لويتكوف، أن أوكرانيا لا يمكن أن تكون عضواً في حلف الناتو في أي وقت قريب. من الممكن أن تحصل على نوع من الحماية بموجب المادة 5 من ميثاق الناتو، لكن تبقى هذه الفكرة قابلة للنقاش. في هذا السياق، يُعد الاعتراف بأن أوكرانيا لن تكون عضواً في الناتو أحد شروط السلام المقبولة عالمياً، على الرغم من أن هذه المسألة تظل مفتوحة للنقاش بحسب ويتكوف.

وفيما يتعلق بالعلاقات الشخصية بين القادة، أشار ستيف ويتكوف، إلى لقائه المباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، حيث عبر عن إعجابه ببوتين وقال إنه وجده صريحاً وواضحاً في تعاملاته. يعتقد ويتكوف أن بناء الثقة مع شخص مثل بوتين، وهو قائد دولة نووية، أمر ضروري لحل النزاع، مشيراً إلى أن المفاوضات يجب أن تتضمن تبادل الأفكار والمشاعر الإيجابية بين الطرفين. وأوضح أن هذا النوع من الحوار كان غائباً، حيث أكد بوتين له أنه لم يتحدث مع الرئيس الأمريكي جو بايدن لمدة ثلاث سنوات ونصف، وهو ما يبرز حجم التوترات في العلاقات بين الطرفين.

ختاماً، أكد ويتكوف أن روسيا لا تسعى لتوسيع حدودها عبر أوروبا وأن الهدف من النزاع على أوكرانيا ليس احتلال أراض جديدة، بل السيطرة على المناطق التي تم الاستحواذ عليها بالفعل. وأكد أن الرئيس بوتين، رغم كونه شخصاً ذكياً، لا يسعى إلى إشعال حرب جديدة في أوروبا.

وتأتي التطورات الأخيرة لتؤكد أن ترامب يستعيض عن مواصلة الضغط على موسكو، بفتح أبواب للشراكات الدبلوماسية التي تعزز العلاقات بين البلدين. لذلك كان ترامب حريصاً على العمل مع روسيا لإنهاء الحرب، وهو النهج الذي من المرجح أن يلبي العديد من مطالب رئيسها فلاديمير بوتين.

وأدت محادثات الرياض بين موسكو وواشنطن مؤخراً إلى توافق استراتيجي على أربعة مبادئ أساسية تهدف إلى إعادة تنشيط العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الجانبين، مع تركيز واضح على إنهاء الصراع في أوكرانيا. ففي هذا السياق، تم الاتفاق على تسريع تعيين السفراء وبدء مشاورات على مستوى نواب وزراء الخارجية لإزالة القيود عن أنشطة البعثات الدبلوماسية، وتعيين فريق أمريكي رفيع المستوى للمساعدة في إنهاء الحرب، بالإضافة إلى فتح حوار حول سبل استئناف التعاون في المجالات الاقتصادية والجيوسياسية. كما تضمن الاتفاق استئناف قنوات الاتصال بشأن القضايا الدولية الأخرى، مما يعكس المسؤولية المتبادلة بين الدولتين في مسائل السلام والأمن كقوتين نوويتين وعضوين دائمين في مجلس الأمن، أي أن الحوار تجاوز كثيراً مجرد محاولة إيجاد سبل لحل الأزمة الأوكرانية. ويشير هذا التوافق إلى تحول في الاستراتيجية الأمريكية التي كانت تركز على تكبيد روسيا خسائر سياسية واقتصادية وعسكرية لا تُحتمل، نظراً للتحديات الأمنية العالمية مثل سباق التسلح، الدفاع الصاروخي، والأمن الإلكتروني، فضلاً عن تدخل روسيا في مناطق مثل الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية والقطب الشمالي.

وعند مقارنة هذه الرؤية مع التحديثات الجديدة، وميل واشنطن نحو موسكو مع بداية عهد ترامب الثاني، يظهر أن الاستراتيجية الأمريكية قد شهدت تحولا ملحوظاً؛ إذ باتت الإدارة الجديدة تتجه نحو إعادة فتح قنوات الاتصال وتشكيل فرق رفيعة المستوى للتفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا، مما يشير إلى محاولة لإعادة ترتيب الأولويات بعيداً عن السياسة التصادمية التقليدية. ويرجع هذا التغيير جزئياً إلى الاعتراف بأن التصعيد المباشر مع روسيا لا يخدم مصالح الولايات المتحدة في ظل الصراعات المتعددة، خاصة مع صعود الصين كتهديد استراتيجي رئيسي، حيث تحول الهدف الأمريكي إلى محاولة جر روسيا بعيداً عن أي تحالف استراتيجي مع الصين.

ما يبدو لنا هو أن سياسة ترامب تجاه روسيا في محاولة إبعادها عن الصين ليست فقط مجرد إعطاء تنازلات في ملف أوكرانيا، ولكن محاولة إغراء روسيا لتكون لاعباً كبيراً على المستوى الدولي، بالتباعد عن أوروبا، والتخلي عن القوة الناعمة التي كانت تزاحم النفوذ الروسي عن طريقة وكالة المعونة الأمريكية مثلاً، وغير ذلك.

لذلك يحاول ترامب أن يتخلى عن النهج التقليدي القائم على الالتزام الثابت بحلفاء الولايات المتحدة التقليديين، لصالح خطوات تكتيكية قد تحقق مكاسب قصيرة المدى مع روسيا على حساب الثقة مع شركاء مثل أوكرانيا، وأوروبا بشكل عام. هذا التغيير الاستراتيجي قد يؤدي إلى عواقب سلبية على المدى الطويل، إذ يمكن أن يُضعف من نفوذ الولايات المتحدة عالمياً ويفتح الباب أمام قوى منافسة مثل الصين لاستغلال الفراغ وفرض رؤيتها الخاصة على النظام الدولي.  بنظرة استشرافية أخرى، ربما يبرز تساؤل حول ما إذا كان التقارب الأمريكي – الروسي، يمكن أن يعطي بصيص أمل في أن تحدث تسوية لاحقة مع الصين، مفادها تفاهمات لتقاسم مناطق القوة والنفوذ في العالم (أي نهج تعدد الأقطاب، وليس هيمنة القطب الواحد)، بما يمكن أن يذكرنا بتفاهمات “يالطا” بين أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

وتعتبر قمة يالطا التي عقدت عام 1945 مثالاً بارزاً لكيفية رسم معالم النظام العالمي وتوزيع النفوذ بين القوى الكبرى، حيث اجتمع كل من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل لتحديد ملامح مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ساهمت نتائج هذه القمة في تحقيق الاستقرار العالمي لعقود، حتى انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات.

 واليوم، يجد العالم نفسه في ظروف مشابهة من التعقيدات السياسية والتنافس الدولي، خاصة مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، مما يعيد إلى الواجهة فكرة الحاجة إلى “يالطا جديدة” لإعادة ترتيب النظام الدولي وفق توازنات جديدة.

في يالطا 1945، كان العامل الرئيسي الذي أوصل إلى توافق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا هو الحاجة إلى الاتفاق على تقسيم ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كانت هذه الدولة تمثل التهديد الأكبر آنذاك، وكان لابد من إعادة هيكلتها لمنع نشوب صراع جديد. واليوم، قد تلعب أوكرانيا دوراً مشابهاً، حيث أصبحت محور الصراع بين القوى العظمى.

مثلما كان تقسيم ألمانيا بعد الحرب عاملاً أساسياً في إعادة رسم النظام العالمي، فإن مصير أوكرانيا يمكن أن يكون نقطة الارتكاز لأي “يالطا جديدة”. فإذا كان الهدف هو تحقيق الاستقرار العالمي، فقد يكون الحل المطروح هو صياغة اتفاق دولي يحدد مستقبل أوكرانيا، لكن الفارق الجوهري هو أن تقسيم ألمانيا كان نتيجة حرب عالمية كبرى انتهت بهزيمة طرف واضح، أما أوكرانيا فهي اليوم جزء من صراع مفتوح، لم تحسمه قوة واحدة بعد، مما يجعل الحلول أكثر تعقيداً، ويتطلب اتفاقاً يراعي المصالح المتشابكة لجميع الأطراف، بما في ذلك الدول الأوروبية والصين. فهل يمكن أن تصبح أوكرانيا أساساً لنظام عالمي جديد كما كانت ألمانيا في منتصف القرن العشرين، بدلاً من تمهد لحرب عالمية ثالثة إذا لم يمكن الوصول لتفاهمات مرضية للجميع؟

يبدو لنا أن روسيا ترصد المحاولات الأمريكية الحثيثة التي تحدثنا عنها، وستكون سعيدة بالحصول على التنازلات الأمريكية التي يقدمها لها ترامب بدون مقابل؛ لكن هل سيدفعها ذلك بالفعل للتباعد عن الصين؟ إن ما بين الصين وروسيا الآن وصل لمرحلة المصالح الإستراتيجية المستدامة، ولا يمكن أن تضحي روسيا بذلك في ظل مكاسب تكتيكية، خاصة بالنظر للتوجه الأمريكي الدائم بتغيير تحالفاتها والتحلل من التزاماتها، كما يظهر الآن بقوة.

على جانب آخر، هناك من يرى أن من أهم ما يدفع الآن للتقارب الروسي مع إدارة ترامب هي أسباب أيديولوجية، مثلما يؤكد ذلك بشكل متكرر المفكر الروسي المؤثر ألكسندر دوجين. ويقول دوجين بأن روسيا في عهد بوتين تركت النهج “الشيوعي الليبرالي” الذي تنامى في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، الذي ساد في التسعينيات بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وعادت لجذورها المسيحية المحافظة.  ويرى دوجين أن ترامب أيضاً يعود بالولايات المتحدة من مسار العولمة الليبرالية التي يتبناها العلمانيون المتعولمون Globalists إلى الجذور المسيحية المحافظة، وهذا ما هو دفع لتقارب أكبر بين بوتين وترامب. هذا التقارب الأيديولوجي هو الذي يدفع، من وجهة نظر دوجين، لمحاولة ترتيب العالم في الوقت الراهن بشكل مختلف.

قد يكون العامل الأيديولوجي قائماً بالفعل عند البعض، إلا أننا نرى أنه على الأقل على مستوى بوتين وترامب والنخب الداعمة لكل منهما، فإن المصالح والواقعية السياسية هي التي قد تدفع للتقارب بين الطرفين حالياً كما أسلفنا، رغم الثوب الأيديولوجي الذي قد يسبغه الطرفان على علاقاتهما.

الصين:

يشهد العالم تحولاً جذرياً في موازين القوى، حيث يتراجع التفوق الأمريكي لصالح صعود الصين كقوة عالمية مؤثرة. هذا التحول ليس مفاجئاً، بل هو نتيجة لعقود من السياسات الاقتصادية والاستراتيجيات السياسية الحذرة، والتطور التكنولوجي السريع، مما جعل الصين تنافس واشنطن بشكل حقيقي. يطرح هذا الصعود تساؤلات حول كيفية تحقيقه وتأثيراته على النظام الدولي.

بدأ الصعود الصيني بعد اللقاء التاريخي بين الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون والزعيم الصيني ماو تسي تونغ في السبعينيات، حيث سعت الولايات المتحدة في ذلك الوقت لفصل الصين عن المعسكر السوفيتي، وقطع الطريق على أي تقارب بينهما، بينما سعت الصين لتوسيع انفتاحها الاقتصادي للاستفادة من التكنولوجيا والاستثمارات الأمريكية، وفي نفس الوقت تستفيد الولايات المتحدة من الصين في إطار العولمة الليبرالية باعتبارها “مصنع العالم”. أدت هذه السياسات إلى تطبيق نموذج “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”، الذي اعتبره الغرب شكلاً من أشكال “رأسمالية الدولة”.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شعرت الولايات المتحدة أن نمو الصين قد يخرج عن السيطرة، خصوصاً مع استمرار الاقتصاد الصيني في النمو. وفي ظل هيمنة الولايات المتحدة كمنافس وحيد، تم طرح مفهوم “أحادية القطبية”.

رغم القلق الأمريكي من صعود الصين، انصب تركيز الولايات المتحدة على قضايا الشرق الأوسط، و”الحرب على الإرهاب”، مما سمح للصين بتعزيز قدراتها الاقتصادية والعسكرية. استغلت الصين هذا الفراغ لتصبح مركزاً لجذب الشركات والاستثمارات الأجنبية، معتمدة على تكاليف الإنتاج المنخفضة ووجود سوق كبيرة. إلا أن إدارة الرئيس أوباما تنبهت لهذا الأمر، وبدأت تعد له بشكل استراتيجي من ناحية ترتيب الأولويات الأمريكية في السياسة الخارجية.

مع وصول الرئيس دونالد ترامب للسلطة في المرة الأولى، تكرس الأسلوب المواجه في السياسة الأمريكية تجاه الصين، حيث ألغى عدة اتفاقيات، وأدخل رسوماً جمركية مرتفعة على المنتجات الصينية. ومع ذلك، لم تحقق هذه السياسات النتائج المرجوة، إذ أصبحت الصين أقل اعتماداً على السوق الأمريكية.

تعتبر مبادرة “الحزام والطريق” إحدى الأدوات الرئيسية لتعزيز النفوذ الصيني العالمي، حيث تهدف لإعادة إحياء طريق الحرير التاريخي من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية، مما يمنح الصين نفوذاً سياسياً واقتصادياً في أكثر من 140 دولة، مع تجنب الانخراط سياسياً واقتصادياً في قضايا العالم المختلفة.

في موازاة ذلك، سعت الصين للهيمنة على القطاعات التكنولوجية المستقبلية عبر طرح مبادرة “صنع في الصين 2025″، مما أثار قلق الولايات المتحدة التي فرضت قيوداً على تصدير التكنولوجيا إلى الصين، خاصة في مجال الرقائق الإلكترونية، مما أبطأ من وتيرة تقدم الصين في تحقيق مبادرتها للعام 2025.

ومع سعي الصين لبناء تحالفات جديدة في دول الجنوب العالمي، تعززت تبادلاتها التجارية بالعملات المحلية. كما تسعى الصين لتقليل هيمنة الدولار الأمريكي، وتقديم نفسها كبديل للنظام المالي الغربي.

رغم هذه النجاحات، تواجه الصين تحديات تتعلق بالضغوط الأمريكية والعقوبات الاقتصادية، بالإضافة إلى التحديات الداخلية مثل تراجع النمو السكاني وارتفاع الديون. (انظر[36])

وعقب وصوله إلى البيت الأبيض أمر ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات من الصين، مما يعد جزءاً من الحرب التجارية الأوسع التي تهدف إلى تقويض النمو الاقتصادي الصيني وإعادة هيكلة العلاقات التجارية بما يخدم المصلحة الأمريكية، إلا أن الصين ردت بفرض رسوم من جهتها على البضائع الأمريكية. ويبدو أن الصين ستنتهج استراتيجية متكاملة للتعامل مع سياسات ترامب ([37]) ، ما لن يجعل مهمة ترامب بنفس سهولة تلك المهمات المتعلقة بكندا والمكسيك وبنما.

في وقت لاحق، اعتبر ترامب أنّه من “الممكن” التوصّل إلى اتفاق تجاري بين البلدين، لكنه قام بعد أيام قليلة بتوقيع مذكرة تهدف إلى كبح الاستثمارات الصينية في قطاعات استراتيجية أمريكية، بما فيها التكنولوجيا والبنى التحتية الحيوية، وذلك عبر لجنة مراقبة الاستثمارات الأجنبية.

المذكرة الرئاسية، تمنح لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة سلطات موسعة لتقييد استثمارات الصين في مجالات رئيسية مثل التكنولوجيا المتقدمة، البنية التحتية الحيوية، الطاقة، الزراعة، والرعاية الصحية، كما تشمل فرض قيود على تدفقات رأس المال الأميركي المتجه إلى الصين، لا سيما في القطاعات الأكثر حساسية مثل الذكاء الاصطناعي، أشباه الموصلات، الحوسبة الكمية، والتكنولوجيا الحيوية. هذه الإجراءات لا تقتصر على تقييد النفوذ الاقتصادي الصيني فحسب، بل تسعى الإدارة الأميركية من خلالها إلى تحفيز الاستثمارات من شركائها التجاريين وتعزيز سيطرة واشنطن على سلاسل التوريد العالمية، لكن تداعيات هذه السياسات لن تظل محصورة بين واشنطن وبكين، بل ستمتد لتشمل الأسواق العالمية. ([38])

وفي خطوة تصعيدية ضمن الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، رفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرسوم الجمركية الإضافية على الواردات الصينية من 10% إلى 20%، مبرراً هذا القرار بعدم اتخاذ الصين إجراءات كافية للحد من تدفق مادة الفنتانيل إلى الولايات المتحدة. ويأتي هذا الإجراء ضمن تعديل على أمر تنفيذي سابق وقّعه ترامب في 1 فبراير، حيث فرض حينها رسوماً جمركية بنسبة 10%، دخلت حيز التنفيذ في 4 فبراير. ووفقاً لنص الأمر التنفيذي، تعتبر هذه الخطوة ضرورية لحماية الأمن القومي والسياسة الخارجية والاقتصاد الأمريكي من التأثيرات السلبية للمواد الأفيونية الاصطناعية التي يتم تهريبها من الصين. إضافة إلى ذلك، فقد فرض ترامب تعريفات جمركية على الصين ضمن قراره التنفيذي الشامل في الثاني من إبريل 2025 حول التعريفات التبادلية بمقدار  34%، ليصبح إجمالي التعريفة 54% على أية بضائع صينية. وقد ردت الصين بفرض تعريفة جمركية على الواردات من الولايات المتحدة بنفس النسبة، 34%، مما دفع بترامب لرفع إجمالي التعريفة على الصين لتصل في النهاية إلى 145% يوم 10 إبريل بعد أن وصلت التعريفة الصينية بعد الرد الصيني إلى 84%! كل ذلك ينذر بتصاعد الحرب التجارية بين البلدين بشكل غير مسبوق.

ويستمر الغموض في توجيه سياسات ترامب تجاه الصين، حيث يعكس مزيجاً من التهديدات والتودد، مما يعكس حالة من عدم اليقين في العلاقات الثنائية. إذ يتوقع المحللون أن يتم استخدام استراتيجيات استباقية من قبل واشنطن لإجبار بكين على تعديل سياساتها بما يتماشى مع المصالح الأمريكية. ومع استمرار التطورات، يبقى من المهم متابعة كيف ستتفاعل القوى العالمية مع هذه الديناميكيات وكيف ستؤثر على التوازن الأمني والسياسي الدولي. إلا أن بكين لايزال لديها بدائل كثيرة كما أسلفنا، ويمكن أن تستغل قرارات التعريفة التبادلية على شتى دول العالم ببناء شراكات مع أطراف جديدة لا تطمئن للتعامل مع الولايات المتحدة بعد الآن. على سبيل المثال، رشحت أنباء عن اتفاق اليابان وكوريا الجنوبية، الحليفان الرئيسان للولايات المتحدة في أسيا، على تنسيق الرد مع الصين بشأن التعريفات الجمركية الجديدة.

لكن على أية حال، تبقى النظرة الإستراتيجية الأمريكية للصين باعتبارها التهديد الإستراتيجي الأول للولايات المتحدة، كما ترى منظومة ترامب أن الصين هي التي استفادت من منظومة العولمة، وليس الولايات المتحدة، وهو الوضع الذي ينبغي تصحيحه. منظومة ترامب تريد حصر الصين في كونها قوة إقليمية كبيرة تحت السيطرة، وليس كقطب مكافئ يتقاسم معها النفوذ في العالم. ومن هذا المنطلق، تسعى إدارة ترامب للتقارب مع روسيا حتى لا تندفع في تحالف مع الصين يهدد المصالح الأمريكية في العالم. 

مجموعة البريكس:

هدد ترامب بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 100% على دول مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، فضلاً عن عدد من الدول المنضمة للمنظمة حديثا) في حال تبنت هذه الدول بدائل للدولار الأميركي. يُظهر هذا التهديد حرص الإدارة الأمريكية على الحفاظ على هيمنة الدولار كعملة احتياطية عالمية، وهو ما يعد من المبادئ الأساسية في السياسة الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة. إلا أن هذه المكانة للدولار تتعرض حالياً للكثير من التهديدات بسبب مجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية داخل الولايات المتحدة وخارجها، كما أوضحنا في هذه الدراسة.

المكسيك وكندا:

هناك وضع خاص للمكسيك وكندا بوصفهما البلدان المجاوران مباشرة للولايات المتحدة والمتحالفتان معها، واللتان تعتمدان عليها بشكل كبير في تجارتهما الخارجية. إلا أن ترامب أصدر قراراً تنفيذياً بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على هاتين الدولتين في حال فشلهما في مواجهة تدفقات الهجرة غير النظامية وتجارة مخدر الفنتانيل. تُظهر هذه الخطوة ممارسة الضغط على الجارتين الحليفتين لتطبيق سياسات داخلية تخدم الأمن الحدودي الأمريكي، وهو ما يرتبط بدعم السيادة الوطنية وتعزيز أمن الولايات المتحدة. ورغم أن كلا الدولتين أطلقتا تصريحات نارية في البداية كرد فعل على هذه القرارات، إلا أنهما رضختا للضغوط والتزمتا في محادثات تليفونية مع ترامب باتخاذ إجراءات محددة لحماية الحدود، ما دعا ترامب لتعليق قراراته لمدة 30 يوماً، ما يظهر أثر هذه الإجراءات بالفعل على هذه الدول التي لا يمكنها تحمل الضغط الأمريكي القوي بهذه الطريقة.

وعلى الرغم من ذلك، فقد قرر الرئيس ترامب لاحقاً المضي قدما في فرض هذه الرسوم بعد انقضاء فترة الـ 30 يوماً، وتصاعدت الأمور مرة أخرى، خاصة مع كندا، التي اتهم ترامب رئيس وزرائها السابق ترودو بأنه يستغل هذه الأزمة لرفع شعبيته قبيل الانتخابات المقبلة.

بالغ ترامب عقب تنصيبه في إبراز أمريكية خليج المكسيك، من خلال ربطها بسياقات اقتصادية وأمنية، خاصة في قضايا الهجرة والتجارة، في محاولة فرض سردية سياسية بعينها. وعقب تنصيب ترامب، قامت الداخلية الأمريكية بتغيير اسم خليج المكسيك رسمياً إلى خليج أمريكا، وأوضحت الوزارة في بيان أن هذا القرار جاء بناء على توجيهات الرئيس دونالد ترامب، مشيرة إلى أن “هذه التغييرات تؤكد التزام الأمة بالحفاظ على التراث الاستثنائي للولايات المتحدة وضمان احتفال الأجيال القادمة من الأميركيين بإرث أبطالها ومقدراتها التاريخية”. قرار ترامب تجاهل الاعتراف الدولي باسم خليج المكسيك، واستخدامه كمرجع ملاحي بحري منذ مئات السنين.

بعد صدور قرارات التعريفات الجمركية التبادلية الأخيرة، ألقى رئيس وزراء كندا الجديد، مارك كارني، الاقتصادي الدولي  المخضرم والرئيس السابق للبنكين المركزيين في كندا وبريطانيا، كلمة بها الكثير من المرارة، ويكاد أن يكون نعى فيها النظام التجاري العالمي المرتبط بالولايات المتحدة، والقيادة الاقتصادية الأمريكية العالمية، والعلاقة الخاصة الممتدة لعقود بين الولايات المتحدة وكندا.

بنما:

في ظل تزايد التهديدات التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن السيطرة على قناة بنما، من غير الواضح إن كان هذا التهديد يُعتبر مجرد وسيلة ضغط لضمان مصالح الولايات المتحدة في هذا الممر المائي الحيوي، أم أنه جاد فيه، خاصة بعد نجاح الصين في توسيع نفوذها فيه.

خلال أدائه القسم لولاية ثانية، أكد ترامب أنه يسعى “لاستعادة” قناة بنما، مشيراً إلى أن “روح معاهدتنا انتهكت بالكامل”، في إشارة إلى الاتفاق الذي أبرمه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عام 1977، والذي نقل السيطرة على القناة إلى بنما في عام 1999. واعتبر ترامب أن السفن الأمريكية تواجه ضرائب مرتفعة ولا تتلقى معاملة عادلة.

تاريخياً، بُنيت قناة بنما، التي تمتد بطول 82 كيلومتراً، من قبل الولايات المتحدة وافتتحت في عام 1914. وقد تسلمتها بنما بموجب معاهدات توريخوس-كارتر، وتخضع القناة  من وقتها للسيادة البنمية، وفقاً للمعاهدات التي تعطي بنما الحق الحصري في إدارتها، مما يعكس عدم إمكانية الولايات المتحدة استعادة السيطرة دون موافقة بنما.

وعد ترامب باستعادة قناة بنما لمواجهة النفوذ الصيني وسيطرة الصين على القناة بحسب الرئيس الأمريكي. وربما نرى أن ما يسعى إليه ترامب هو جزء من حرب جيوسياسية اقتصادية مع الصين، لمحاولة دفع بنما إلى تخفيف علاقتها مع بكين إلى الحد الأدنى، كجزء من أدوات تفاوضية.

في جلسة التصديق على ترشحه أمام مجلس الشيوخ، أكد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن الولايات المتحدة لا تنوي استخدام القوة العسكرية فيما يتعلق بقناة بنما، لكنه شدد على ضرورة اتخاذ خطوات لمعالجة ما وصفه بـ “المخاوف الجدية” بشأن تنامي النفوذ الصيني في هذا الممر البحري الاستراتيجي، الذي يربط بين المحيطين الأطلسي والهادي. وأضاف روبيو أن القناة تمثل عنصراً حيوياً في التجارة العالمية، مما يستدعي تعزيز دور واشنطن في ضمان أمنها واستقرارها (تربط قناة بنما بين المحيطين الأطلسي والهادي، وتملكتها الولايات المتحدة أوائل القرن العشرين قبل أن يتم تسليمها في نهاية المطاف إلى بنما عام 1977 بموجب معاهدة ضمنت حيادها. وتعد الولايات المتحدة أكبر مستخدم للقناة وهي مسؤولة عن حوالي 3 أرباع البضائع التي تمر عبرها كل عام، وتأتي الصين في المرتبة الثانية).

بالرغم من أن ترامب يروج لفكرة التدخل الأمريكي، إلا أن القانون الدولي يحظر ذلك إلا في حالات معينة تهدد حيادية القناة، حيث لا يمكن للولايات المتحدة التراجع عن المعاهدة دون موافقة جميع الأطراف، وفقاً لاتفاقية فيينا لعام 1969. على الرغم من التهديدات، استنكر الرئيس البنمي خوسيه راول مولينو تصريحات ترامب، مؤكداً أن القناة ستبقى تحت السيطرة البنمية، مما أدى إلى تنظيم مظاهرات في بنما احتجاجاً على تصريحات ترامب.

وكما يتساءل المحللون عن مدى جدية التهديدات الأمريكية، مشيرين إلى أن التصريحات قد تكون جزءاً من سياسة الضغط على بنما لإعادة التفاوض حول شروط إدارة القناة، إلا أنه في الوقت نفسه، تعكس تحركات ترامب رغبة في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة. تجدر الإشارة إلى أن الصين تسعى إلى توسيع نفوذها في بنما، وفي أمريكا اللاتينية بشكل عام، بفتح طرق تجارية مباشرة مع الصين عن طريق المحيط الهادي، حيث تعمل على تنفيذ مشاريع استثمارية وبنية تحتية، وهو ما يزيد من توتر العلاقات الأمريكية-الصينية.

وفي موقف يبرز خضوع بنما إلى ضغوط ترامب، أعلن الرئيس البنمي مولينو، انسحاب بلاده من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وذلك بعد أيام قليلة من استقباله وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في فبراير 2025، الذي يسعى لخفض النفوذ الصيني في قناة بنما.

مولينو، الذي أعلن سابقاً أنه لن يجدد مذكرة التفاهم مع الصين، ذكر خلال مؤتمر صحافي أن سفارة بنما في بكين قد قدمت الوثيقة التي تتضمن “الإعلان عن الخروج من الاتفاق” ضمن المهلة المحددة بـ 90 يوماً المنصوص عليها في الاتفاق.

في تطور آخر، أعلنت الولايات المتحدة أنها سفنها الحكومية سيسمح لها بعبور قناة بنما “مجانا” دون دفع أي رسوم، بعد الضغوط التي مارسها الرئيس دونالد ترامب على السلطات البنمية. وفي بيان على منصة “إكس”، أكدت الخارجية الأمريكية أن “السفن الحكومية الأمريكية تستطيع الآن عبور قناة بنما دون فرض رسوم مرور، مما سيوفر ملايين الدولارات سنوياً للحكومة الأمريكية”.

وفي خطوة مهمة توضح كيفية تعامل منظومة ترامب مع مثل هذه القضايا، وافقت مجموعة مقرها هونغ كونغ على بيع حصتها المسيطرة في شركة تدير موانئ استراتيجية بالقرب من قناة بنما إلى تحالف تقوده شركة “بلاك روك” الأميركية، مما يمنح واشنطن نفوذاً كبيراً على الممر المائي الحيوي. ستمنح الصفقة تحالف “بلاك روك” السيطرة على 43  ميناءً في 23 دولة، تشمل موانئ بالبوا وكريستوبال في بنما، إلى جانب مواقع رئيسية في المكسيك، هولندا، مصر، أستراليا، باكستان، وغيرها. ويؤشر ذلك إلى توترات متزايدة بين واشنطن وبكين حول النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي في أمريكا اللاتينية. (الجزيرة)

إلا أنه وردت أنباء لاحقة أن السلطات الصينية لتنظيم الأسواق قامت بإيقاف الصفقة وإجراء تحقيقات حول المخالفة المحتملة لقواعد منع الاحتكار طبقاً للقوانين الصينية.

الدانمارك وجرينلاند:

تضمنت التهديدات فرض رسوم جمركية على الدانمارك ما لم تتنازل عن سيطرتها على جرينلاند، بعد رفض كلٍ من الدنمارك وجرينلاند عرض بيع الجزيرة للولايات المتحدة، ما حدا بالرئيس الأمريكي للتلويح باستخدام القوة العسكرية في حسم هذا الأمر.

وكما رأينا آنفاً كيفية فهمه لأزمة خليج المكسيك التي عمل على إثارتها عقب فوزه، فإن ترامب عاد لاستخدام مفهوم الملكية الجغرافية مع جزيرة جرينلاند، التي تبعد عاصمتها نوك عن مدينة نيويورك الأمريكية مسافة أقل مما تبعد عن العاصمة الدنماركية كوبنهاجن. وتقع جرينلاند في قلب المنافسة بين القوى العالمية، مما يجعلها نقطة ارتكاز في سياسات الأمن القومي الأمريكي التي يركز عليها ترامب. ورغم عدد سكانها القليل بالنظر إلى مساحتها الكبيرة كأكبر جزيرة في العالم، إلا أنها تقع بالنسبة لأمريكا على أقصر طريق بين أمريكا الشمالية وأوروبا. موقعها الاستراتيجي هذا يوفر لواشنطن فرصة لتعزيز وجودها العسكري في هذه المنطقة، خاصة مع تزايد التهديدات الروسية والصينية في القطب الشمالي (تقع الجزيرة بين المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي، شرق أرخبيل القطب الشمالي الكندي، وهي جزء من قارة أمريكا الشمالية).

السياسات الأمريكية تجاه جرينلاند لم تبدأ مع ترامب، بل تعود إلى الحرب الباردة عندما سعى الرئيس هاري ترومان إلى شراء الجزيرة مقابل 100 مليون دولار في صورة ذهب، لكن الدانمارك رفضت (تخضع جرينلاند لسيطرة الدانمارك منذ قرون، في السابق كمستعمرة والآن كإقليم شبه مستقل تحت مملكة الدانمارك، وتخضع للدستور الدانماركي). ومع ذلك، فإن الفرق بين موقف ترومان وترامب هو أن الأخير تبنى خطاباً أكثر علنية وصدامية حول الأمر، وهو ما يتسق مع نهجه في استخدام القوة الاقتصادية، والعسكرية إذا لزم الأمر، لفرض إرادة الولايات المتحدة على المسرح العالمي. ورغم أن الدنمارك وجرينلاند رفضتا عرض ترامب، فإن الوجود الأمريكي في الجزيرة لم يختفِ، حيث تستضيف جرينلاند قاعدة بيتوفيك الجوية الأمريكية، والتي تظل جزءاً أساسياً من النظام الدفاعي لحلف الناتو. ونص اتفاق عام 1951 بين الولايات المتحدة والدانمارك على حق واشنطن في بناء قواعد عسكرية في جرينلاند وحرية نقل قواتها على أراضيها ما دامت أخطرت الدانمارك وجرينلاند.

ومع استمرار الاحتباس الحراري وذوبان الجليد، من المرجح أن تزداد الأهمية الجيوسياسية لجرينلاند، بوقوعها على طرق الملاحة البديلة التي ستتوفر في أوقات معينة من السنة عند ذوبان الثلوج. وعبرت الولايات المتحدة عن اهتمامها بتوسيع وجودها العسكري هناك، بوسائل منها وضع رادارات لمراقبة المياه بين الجزيرة وآيسلندا وبريطانيا، إذ تعد تلك المياه بوابة للسفن البحرية والغواصات النووية الروسية.

وبالإضافة إلى أهميتها العسكرية، تتميز الجزيرة بثرواتها من المعادن النادرة والنفط والغاز الطبيعي، رغم أن التنمية فيها بطيئة. وأظهر مسح أجري في 2023 أن 25 من أصل 34 معدنا تعتبرها المفوضية الأوروبية من “المواد الخام الأساسية” تسنى العثور عليها في جرينلاند. وتشمل هذه المعادن المواد المستخدمة في البطاريات مثل الجرافيت والليثيوم وما تسمى بالعناصر الأرضية النادرة المستخدمة في المركبات الكهربائية ومولدات طاقة الرياح وصناعة الذخائر، وغير ذلك. ([39])

 إن اهتمام ترامب بجرينلاند ليس مجرد طموح شخصي، بل يعكس توجهاً أوسع في السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، يتمثل في إعادة رسم الخرائط السياسية والاقتصادية بما يخدم الهيمنة الأمريكية انطلاقاً من السيطرة التامة على نصف الكرة الغربي، وهو ما يظهر في مناطق أخرى غير جرينلاند.

جنوب إفريقيا

تصاعد التوتر مؤخراً بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن وقف تقديم المساعدات والمعونات لجنوب إفريقيا، محذراً من قانون مصادرة الممتلكات الذي يعتبره تمييزياً ضد المزارعين البيض. واعتبر ترامب أن هذا القانون يسمح لحكومة جنوب إفريقيا بالاستيلاء على الأراضي الزراعية للأقلية العرقية دون تعويض، وأصدر أمراً تنفيذياً بتجميد أي تمويل طالما استمرت هذه الحكومة في “ممارساتها الظالمة وغير الأخلاقية”.

كما انتقد ترامب حكومة جنوب إفريقيا بسبب اتهامها لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية نتيجة الحرب في غزة، وأشار إلى تعزيز العلاقات بين بريتوريا وطهران. وصرح بأن الولايات المتحدة لا يمكنها دعم حكومة تنتهك حقوق مواطنيها أو تضر بالسياسة الخارجية الأمريكية، ووعد بتشجيع إعادة توطين اللاجئين الأفارقة الفارين من التمييز العنصري.

تأتي هذه التصريحات في وقت حساس بالنسبة لجنوب إفريقيا، حيث أن قضية مصادرة الأراضي تثير جدلاً كبيراً، خاصةً في سياق جهود معالجة عدم المساواة الناتجة عن نظام الفصل العنصري. وقد انتقد إيلون ماسك، الجنوب أفريقي الأصل الذي شكى له والده الذي يعيش هناك من تنفيذ القوانين المتعلقة برفع الظلم عن الأغلبية السوداء في البلاد فيما يتعلق بتوزيع ملكية الأراضي، حكومة رامابوزا واصفاً قوانينها بأنها “عنصرية”. كذلك، أبدى وزير الخارجية ماركو روبيو استياءه من الحكومة الجنوب إفريقية، مشيراً إلى غيابه عن محادثات مجموعة العشرين المزمع إجراؤها في البلاد.

قد يكون أحد أسباب الضغوط الأمريكية المتنامية على جنوب إفريقيا أيضاً، دفعها للوصول إلى اتفاقيات تعكس المصالح الأمريكية في الحصول على المعادن النادرة، المتوافرة في البلاد، وذلك للتقليل من أثر الضغوط الصينية التي تمتلك اليد الأولى عالمياً في استخراج وتجهيز وتصنيع هذه المعادن.

في ردود فعل على قرار ترامب، أعرب رامابوزا عن قلقه إزاء تعليق المساعدات الأمريكية، حيث تمول واشنطن حوالي 17% من برامج مكافحة الإيدز في جنوب إفريقيا، التي تسجل إحدى أعلى النسب العالمية للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية.

ومن الملفت للانتباه أن جنوب إفريقيا قامت بشجاعة بالرد على قرارات ترامب، فقامت بإلغاء أنشطة الشركات الأمريكية في البلاد، بما يشمل حقوق استغلال المعادن النادرة، فضلاً عن إجراءات أخرى.

كولومبيا:

وُجهت لكولومبيا تهديدات بفرض رسوم جمركية وعقوبات اقتصادية، مما دفعها لاحقاً إلى قبول استقبال المهاجرين المرحّلين من الولايات المتحدة رغم الرفض الأولي. هذا الإجراء مرة أخرى أثبت نجاعة في استخدام الضغط الاقتصادي لإعادة توزيع الأعباء المتعلقة بالهجرة، وهو ما يعد تحولاً في كيفية تعامل الولايات المتحدة مع الأزمات الإنسانية والهجرة.

إجراءات ضد المنظمات الدولية

جدد ترامب العقوبات ضد المحكمة الجنائية الدولية التي يتّهمها بـ”القيام بأعمال غير مشروعة ضد الولايات المتحدة وحليفنا المقرّب إسرائيل” بعد إلغاء الرئيس السابق جو بايدن العقوبات السابقة، ما يعتبر تصرفاً غير مسبوق في السياسة الدولية تجاه المنظمات الأممية.

وقد أدى خروج ترامب من المؤسسات المتعددة الأطراف مثل منظمة الصحة العالمية، والمعاهدات مثل اتفاقية باريس للمناخ، والسياسات التقييدية بشأن الهجرة، والاستخدام العدواني للرسوم الجمركية إلى نفور حلفاء الولايات المتحدة وغير الحلفاء على حد سواء، وسيساهم في زيادة العزلة الأمريكية تحت إدارة ترامب. 

السياسات المتعلقة ببعض أدوات السياسة الخارجية الأمريكية

الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)

في 7 فبراير 2025، أثيرت تساؤلات حول مستقبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، حيث تم إغلاق مكاتبها واعتزام إدارة ترامب دمجها مع وزارة الخارجية الأمريكية. أعلنت الوكالة أن الآلاف من موظفيها سيتم وضعهم في إجازة بعد عودة ترامب إلى الحكم، مما أدى إلى سحب الموظفين من مهامهم حول العالم.

عبر ترامب عن رغبته في توجيه الإنفاق الخارجي بما يتماشى مع سياسته “أمريكا أولاً”، مما سيكون له تأثير عميق على البرامج الإنسانية عالمياً. نشر ترامب على حسابه في “Truth Social” أن إنفاق USAID “غير مبرر تماماً… يجب إغلاقها!”، فيما ادعى إيلون ماسك، الملياردير التكنولوجي، أن الوكالة “منظمة إجرامية” وأن ترامب وافق على “إغلاقها”.

تأسست USAID في أوائل الستينيات لتقديم برامج المساعدات الإنسانية، وتوظف حوالي 10,000 شخص، ثلثاهم يعملون في الخارج. تشمل أنشطتها تقديم الطعام للدول المتضررة من المجاعات، وعمليات التطعيم ضد الأمراض، ودعم المؤسسات الإعلامية، مما يجعلها من أكبر الجهات المانحة في مجال التنمية الدولية.

في عام 2023، أنفقت الولايات المتحدة 68 مليار دولار على المساعدات الدولية، حيث مثلت ميزانية USAID أكثر من نصف هذا المبلغ. وتعد الولايات المتحدة أكبر منفق في العالم على التنمية الدولية.

يعتبر ترامب من النقاد الدائمين للإنفاق الخارجي على مثل هذه الأنشطة، حيث انتقد USAID بشدة. واستندت إدارته إلى مزاعم “الإسراف” لتبرير إغلاق الوكالة، ما أثار جدلاً حول كيفية عرض هذه النفقات. بعد عودته إلى الحكم، وقع ترامب أمراً تنفيذياً لوقف جميع الإنفاق الدولي لمدة 90 يوماً، مما أحدث اضطرابات كبيرة في قطاع المساعدات الإنسانية.

الهدف من دمج USAID مع وزارة الخارجية هو محاولة مواءمة الإنفاق الدولي مع الأهداف السياسية للحكومة، وهو ما يُحتمل أن يؤثر على تقديم المساعدات الإنسانية عالمياً، مما يثير المخاوف بشأن التأثيرات السلبية المحتملة على الأمن القومي.

تُظهر هذه التطورات أهمية دور USAID في المشهد الدولي، حيث تُعد الوكالة لاعباً رئيسياً في تقديم الدعم والمساعدات في مناطق الأزمات، ويُتوقع أن تؤثر أي تغييرات في هيكليتها على مستوى المساعدات الدولية بشكل كبير. (BBC)

وقد صرح وزير الخارجية الأمريكي مؤخراً أنه قرر إلغاء 83% من برامج الوكالة، وذلك بعد مراجعة دامت ستة أسابيع! وبرر ذلك بأن هذه البرامج كلفت الدولة عشرات المليارات ولم تخدم، بل وأضرت أحياناً، بالمصالح الأمريكية.

إلا أننا نرى أن استهداف USAID من قبل منظومة ترامب يأتي بالأساس لأنها أحد أهم أدوات القيام بالدور الإمبراطوري المعولم للولايات المتحدة، وهو ما تسعى إدارة ترامب للتقليص منه نظراً لأثاره السلبية التي تراها على الداخل الأمريكي، كما سبق الإشارة إليه. هذا الاستهداف سيؤثر بكل تأكيد على القوة الناعمة التي تنفذ من خلالها المؤسسة الأمريكية التقليدية سياستها الخارجية.

وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) ووكالة الأمن القومي ((NSA

أعلنت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) عن إطلاق خطة مغادرة طوعية لكامل قوتها العاملة، في إطار الجهود المبذولة من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب لخفض التكاليف في المؤسسات الفدرالية. تشير التقارير إلى أن الوكالة ستصبح أول هيئة استخباراتية تنضم إلى هذا البرنامج، الذي يسعى إلى تقليص عدد العاملين في الحكومة الفيدرالية لتعزيز الكفاءة وتقليل النفقات. يأتي هذا في وقت يشهد فيه القطاع الاستخباراتي الأمريكي إصلاحات شاملة، مما يثير جدلاً واسعاً حول تأثيرات هذه الخطوة.

تتضمن تداعيات تخفيض عدد موظفي CIA مخاطر كبيرة على العمليات الاستخباراتية والأمن القومي الأمريكي. يعتمد نجاح الوكالة على الكوادر البشرية المدربة في جمع المعلومات وتحليلها، وفقدان عدد كبير من الموظفين ذوي الخبرة قد يترك فراغاً يصعب تعويضه. تشير الدراسات إلى أن فقدان هذه الخبرات قد يؤدي إلى تراجع مستوى التحليل الاستخباراتي، مما قد يؤثر سلباً على القرارات السياسية الأمريكية ويزيد من التهديدات من قِبل جماعات إرهابية أو أجهزة استخبارات دول معادية.

على الرغم من أن الوكالة قد تسعى لتعويض نقص القوى العاملة من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، إلا أن هذه الحلول التقنية لا تستطيع تعويض الخبرة البشرية المطلوبة في مجالات التجسس والعلاقات الميدانية. يعزز هذا القلق من إمكانية استغلال الخصوم لأي ثغرات أمنية قد تظهر نتيجة لهذا النقص، مما يضع الولايات المتحدة أمام تحديات جديدة في مجالات الأمن القومي والسياسة الخارجية.

في سياق هذه التغييرات، تولى جون راتكليف قيادة الوكالة، حيث يُعتبر ثاني مرشح يحصل على هذه الموافقة خلال ولاية ترامب. راتكليف، الذي شغل سابقاً منصب مدير الاستخبارات الوطنية، يأتي في وقت حساس يتطلب توازناً بين تعزيز الكفاءة وتقليل التهديدات الأمنية. إن عدم معالجة تداعيات خطة المغادرة الطوعية بشكل فعّال قد يُعرض الأمن القومي الأمريكي لمخاطر أكبر، مما يتطلب رؤية استراتيجية واضحة لضمان استمرارية فعالية الوكالة في مواجهة التحديات المستقبلية. (مونت كارلو)

  • ويعتبر  ترامب أن الأجهزة الاستخبارية، وعلى رأسها وكالة المخابرات المركزية، هي أحد أهم أدوات الدولة العميقة التي تسعى لإفشاله، ولذلك فيجب من وجهة نظره استبدال كوادرها بكوادر موالية له. وهو ما استمر في فعله لاحقاً، على سبيل المثال، بإقالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مدير ونائب مدير وكالة الأمن القومي، في قرار واحد، وهي وكالة الاستخبارات السيبرانية النافذة في الولايات المتحدة، وفقاً لأعضاء لجنتي الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب ومسؤولين سابقين مطلعين على الأمر.

ويُعدّ إقالة الجنرال تيموثي هو، الذي يقود أيضاً القيادة السيبرانية الأمريكية – وهي وحدة الجيش السيبرانية الهجومية والدفاعية – تغييراً جذرياً في مجتمع الاستخبارات الأمريكي الذي يمر بتغييرات كبيرة في الشهرين الأولين من إدارة ترامب. كما أُقيلت في نفس الوقت ويندي نوبل، نائب هو في وكالة الأمن القومي، وفقاً للمسؤولين السابقين والمشرعين.

وقد علق ترامب على هذه الإقالة قائلاً: “أحياناً نتخلى عن أشخاص لا نحبهم”!

الفصل الرابع: الانعكاسات المتوقعة للسياسات الترامبية على مستقبل الولايات المتحدة والعالم

ما يظهر لنا، ومن استعراض كل ما سبق من توجهات منظومة ترامب داخلياً وخارجياً، أن التغيرات التي ستقدم عليها أمريكا في الفترة المقبلة تتجاوز مجرد تداعيات تغيير رئيس ديمقراطي بآخر جمهوري، كما تتجاوز تداعيات السمات الشخصية المتقلبة لترامب، والتي يظهر أنه يتخذ قراراته وفقاً لها. نحن نرى أن التحولات في السياسة الداخلية والخارجية لإدارة ترامب ستترتب عليها تداعيات جوهرية على الولايات المتحدة، وعلى العالم أجمع، ستبدأ أثارها في التكشف تباعاً.

اضطراب منظومة السياسات والصراعات الداخلية وتدمير المؤسسات

تشكل منظومة السياسات الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة مزيجا يعطي تأثيرا متبادلاً بينهما. وفي ضوء الصراعات الكبري التي سيخوضها ترامب وداعميه على مستوى السياسات الداخلية، كما أوضحنا سابقاً في هذه الدراسة، نجد أنه لا يمكن فصل التوجهات المستقبلية لإدارة ترامب بالذات في السياسة الخارجية عن تلك الصراعات الداخلية.  ما نراه هو أن الصراعات الخارجية لترامب، في بعض الأحيان، يمكن أن تستخدم كغطاء للصراعات الداخلية، وللسعي للسيطرة على المؤسسة الأمريكية ومراكز القوة فيها. إن إعادة انتخاب دونالد ترامب تشير إلى تغيير جوهري في علاقة الولايات المتحدة بالعالم من جهة، وفي علاقة المؤسسات الأمريكية داخلياً من جهة أخرى.

على المستوى الداخلي، يتملك ترامب شعورا قهرياً بالانتقام من خصومه السياسيين، مع إيمان راسخ أن فترته الرئاسية السابقة قد سلبت منه بالمؤامرات والأزمات المفتعلة. ومنذ اللحظة الأولى لتسلمه الحكم، بدأ ترامب بشن حملة سياسية وقضائية ضد معارضيه، بدءاً من القضاة الذين أصدروا أحكاماً ضده، وصولاً إلى محاميه السابق مايكل كوهين الذي كان شاهدا ضده في قضية “أموال الصمت”. ترامب، المهووس بفكرة “الخيانة”، لم يكتفِ بتصفية الحسابات السياسية فحسب، بل سعى أيضاً إلى إعادة تشكيل المشهد القضائي الأميركي عبر تعيين قضاة أكثر  ولاءً له، لضمان حماية أجندته المستقبلية.

أيضاً لم تكن سياسة الهجرة لدى ترامب مفاجئة، لكنها اتخذت أبعاداً أكثر حدة هذه المرة. وبالنسبة للاقتصاد، فقد ذكرنا آنفاً كيف يعمل ترامب من خلال سياساته الاقتصادية والرسوم الجمركية العقابية على استفزاز الدول المحيطة، ليس هذا فحسب، بل أن هذه السياسة سوف تلقي بظلالها الثقيلة على الاقتصاد الأمريكي، ولن تكون حلاً سحرياً على الإطلاق، ويمكن وضعها جزئياً في خانة إجراءات المساومة والاستنزاف ضمن حرب جيوسياسية صريحة يقودها ترامب لإعادة هيكلة النفوذ الأمريكي، الذي سيتأثر بها الشركاء التجاريين التقليديين للولايات المتحدة، من بينها كندا التي لوّح ترامب بفكرة ضمها كولاية أمريكية قبل فرض رسوم جمركية بقيمة 25 بالمئة عليها.

ترامب لم يكتفِ بإعادة ترتيب المشهد الداخلي، بل تعهّد، في إطار حربه مع “الدولة العميقة”، بكشف أسرار خطيرة تتعلق بتاريخ الولايات المتحدة الحديث، بما في ذلك تفاصيل اغتيال الرئيس الأسبق جون كينيدي، والناشط الحقوقي مارتن لوثر كينج، وكذلك إصابة آلاف الجنود على حاملة الطائرات روزفلت بفيروس كورونا، وتلاعب القوى العالمية بالاقتصاد الأميركي. بعض  هذه التهديدات وضعت أوروبا في موقف دفاعي، حيث بدا واضحاً أن الدول الغربية الكبرى، مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا، قد تكون الهدف التالي للعقوبات التجارية الأميركية.

كما بدأ إيلون ماسك في تنفيذ أجندة تقليص الحكومة الفيدرالية ونفقاتها، واتخذت إجراءات راديكالية ضد بعض الوكالات مثل وكالات المخابرات المركزية والأمن القومي، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID  كما أوضحنا، بما سيقلص من تأثير عدد من أهم أدوات السياسة الأمريكية في الخارج.

على جانب آخر، ورغم التماسك الظاهري، تعاني إدارة ترامب الجديدة من افتقار واضح للانسجام الداخلي. فقد اختار الرئيس فريقاً متنوعاً أيديولوجياً، ما قد يؤدي إلى صراعات داخلية مستمرة، خصوصاً أن بعض الأسماء البارزة تعبر عن توجهات متباينة قد لا تتكامل بسهولة داخل المنظومة الحكومية. على سبيل المثال:

ملف الرعاية الصحية: اختيار روبرت كينيدي جونيور، المؤيد لحقوق الإجهاض، يضعه في تناقض مباشر مع التيار المحافظ في الحزب الجمهوري، الذي يسعى إلى فرض مزيد من القيود على هذه الحقوق. ذلك فضلاً عن التناقضات داخل فريق كنيدي نفسه كما أوضحنا سابقاً.

السياسة الاقتصادية: سكوت بيسينت، وزير الخزانة، يحمل خلفية مالية قوية مستمدة من وول ستريت، لكنه كان على علاقة مهنية بالممول الليبرالي جورج سوروس، مما قد يجعله موضع شك داخل الأوساط الجمهورية التقليدية، فضلاً عن كونه مثليّ التوجه الجنسي بشكل معلن.

في السياسة الخارجية، تعيين ماركو روبيو وزيراً للخارجية يعكس رغبة ترامب في تبني نهج متشدد في العلاقات الدولية، وقد يحسبه البعض على تيار المحافظين الجدد الذ يعاديه ترامب، لكنه في الوقت نفسه عين تولسي جابارد لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية، وهي شخصية معروفة بمواقفها التصالحية تجاه روسيا، ما يثير تساؤلات حول الاتساق في استراتيجيات الأمن القومي.

كما برزت على السطح مؤخراً الخلافات بين إيلون ماسك من جهة، وباقي الوزراء من جهة أخرى، نظرا لأسلوبه الفج في التدخل في شئون وزاراتهم عن طريق إدارة DOGE الجديدة، ما دعا الرئيس ترامب لتقليص صلاحياته لتكون استشارية له فقط، وتترك القرارات التنفيذية للرئيس، خلافاً للوضع الذي كان قائماً عند تعيين ماسك. قد يدفع ذلك مع الوقت لحدوث خلافات بين ماسك وترامب نفسه، بما يدفعه لترك المهمة التي تم تكليفه بها، وهو ما بدأ يتردد بقرب مغادرة ماسك لمنصبه خلال أشهر.

وهكذا….

منظرو إدارة ترامب يرون أن هذا التشكيل غير التقليدي يعكس مرونة وقدرة على تجاوز القيود البيروقراطية التي كانت تعرقل كفاءة الحكومات السابقة. لكن على الجانب الآخر، هناك مخاوف متزايدة من أن هذه الفجوات الأيديولوجية قد تؤدي إلى صراعات داخلية، خصوصاً في الملفات الحساسة مثل الأمن القومي والسياسة الخارجية.

الملف الصيني مثال واضح على هذه الإشكالية، حيث لا يوجد توافق بين كبار مسؤولي الإدارة حول كيفية التعامل مع الصين. فبينما يدفع بعضهم نحو تصعيد اقتصادي وسياسي حاد، يفضل آخرون نهجاً أكثر حذراً، قد يكون من بينهم ترامب نفسه، فضلاً عن إيلون ماسك ذي المصالح والأعمال الكبيرة في الصين، مما قد يخلق حالة من التخبط في القرارات الاستراتيجية.

السؤال المهم هنا: هل سيتمكن ترامب من الحفاظ على هذه التركيبة غير المتجانسة ضمن إدارته، أم أن تضارب المصالح والأيديولوجيات سيتحول إلى صراع داخلي يعطل تنفيذ أجندته؟

لكن السؤال الأهم هو: كيف سيتم حسم الصراع الذي أوضحنا بعض ملامحه بين المعسكرين الساعيين للسيطرة على القرار والتوجهات الإستراتيجية في المؤسسة الأمريكية، وكذلك صراعات النفوذ داخل معسكر ترامب نفسه؟

بالنظر لما قدمناه في الفصل الثاني من هذه الدراسة، من المنتظر أن يتبلور نوعين من الصراعات السياسية والاجتماعية نتيجة وصول ترامب للرئاسة:

الصراع الأول: هو الصراع على السيطرة على قرار وتوجهات المؤسسة الأمريكية التقليدية. هذا الصراع بدأ ساخناً منذ اليوم الأول لتولي ترامب. أهم القوى النافذة في معسكر ترامب طبقة “الأوليجاركيين” الجدد من مليارديرات التكنولوجيا، وأهمهم إيلون ماسك في الواجهة، وبيتر ثيل في الخلفية، وآخرين، وذلك لتوطيد نفوذ كبير على الحكومة الأمريكية في مقابل القوى التقليدية المتبنية للعولمة، أصبح منذ فترة مع الوقت واقعاً بالفعل، من قبل أباطرة التكنولوجيا في السليكون فالي. هؤلاء أصبح لهم نفوذ، منذ بداية الألفية في الدوائر المخابراتية والأجهزة الأمنية الحكومية (شركة بالانتير مثالاً). يضاف إلى هؤلاء عدد من القوى المتحكمة في رؤوس الأموال (بعض شركات إدارة الأصول على سبيل المثال مثل بلاك روك، والتي تتحكم في تريليونات الدولارات).

أيضا هناك أصحاب النفوذ في الدوائر المسيحية الصهيونية المتبنية للحزب الجمهوري، وأغلب اللوبي الصهيوني بشكل عام، وبعض أعضاء الكونجرس النافذين. يعتمد هذا المعسكر على دعم الإعلام البديل، وأهم أدواته منصة إكس المملوكة لإيلون ماسك.

هذا المعسكر يواجه المعسكر التقليدي للمؤسسة، والمتمثل في وزارة الدفاع، وما يعرف بمجمع الصناعات العسكرية من شركات السلاح الخاصة، وبعض اللوبيات المؤثرة الأخرى الداعمة للعولمة، والساسة المدعومين منهم، وأهمهم الساسة الديمقراطيين النافذين، فضلا عن وسائل الإعلام الرئيسية من الصحف والقنوات التلفزيونية.

الصراع الثاني: يتعلق بالصراعات المؤجلة داخل معسكر ترامب ذاته. هذه الصراعات ستظهر مع الوقت نتيجة التناقضات الإيديولوجية والمصلحية بين الأطراف المختلفة، والمتناقضة أحياناً، والتي أشرنا إليها سابقاً في الفصل الثاني من هذه الدراسة.

إن هذه الصراعات الداخلية المختلفة، والتوجه لهدم الكثير من المؤسسات الأمريكية الراسخة، قد تسرع بتراجع النفوذ والقوة الأمريكية بشكل حاد، أياً كان اتجاه حسم الصراعات، وذلك بدلاً من أن تكون “أمريكا عظيمة مرة أخرى”.

التعريفات الجمركية والحروب التجارية

بالإضافة للصراعات الطاحنة في الملفات الداخلية. هناك صراعات أخرى بدأت بالبروز في الملفات الخارجية، فالتوجه الجديد لإدارة ترامب يتبنى سياسات قومية تركز على قوة التواجد الأمريكي في نصف الكرة الغربي، مع تطبيق سياسات التهديد والضغوط القصوى لفرض النفوذ، على الخصوم والحلفاء على حد سواء، في مقابل التوجهات المبنية على العولمة والهيمنة الكونية والتدخلات العسكرية، كما أوضحنا سابقاً.

ومما تثار  عنه التساؤلات الأثار التي ستترتب على الحروب التجارية التي يثيرها ترامب عن طريق فرض التعريفات الجمركية، على الخصوم والحلفاء على حد سواء، بشكل عشوائي لا تنظمه سياسة ثابته، بل يتم فرضها لتحقيق أهداف، تبدو متعارضة أحياناً،  تختلف باختلاف الأطراف التي تطبق ضدها؛ سواء أهداف سياسية أو اقتصادية. نتوقع أن يترتب على هذه الحروب أثار شديدة السلبية، سواءً على المستوى الداخلي في الولايات المتحدة، أو في شتى أنحاء العالم.

داخلياً، فإن من يسدد مقابل هذه الأعباء الإضافية في واقع الأمر هو الشعب الأمريكي، سواء كارتفاع في أسعار المنتجات الزراعية والمشتقات البترولية والسلع المستوردة تامة الصنع، أو ارتفاع أسعار مدخلات الصناعة القادمة من سلاسل التوريد، مما سيؤدي مع الوقت لارتفاع نسبة التضخم مرة أخرى.

سيصبح الإنتاج الصناعي والتكنولوجي داخل الولايات المتحدة أكثر تكلفة، مما سيدفع لخروج متزايد للإنتاج خارجها، على عكس ما يهدف له ويروج ترامب إليه. سيكون ذلك بسبب أن أعداداً أكبر من المستهلكين حول العالم ستتجه بشكل أكبر  لشراء المنتج الصيني وغيره، بدلاً من الأمريكي، لأنه أرخص سعراً وقد يكون أفضل جودة (السيارات الكهربائية مثال واضح)، مما يجعل الشركات الأمريكية تفضل التواجد خارج الولايات المتحدة بشكل أكبر، وليس كما يرجو ترامب.

وبشكل عام، فمن غير المنتظر أن تفيد التعريفات الجمركية الاقتصاد الأمريكي، ذلك لأن هذا الاقتصاد ليس قائماً أساساً على الإنتاج، الذي يمكن أن يستفيد بالسياسات الحمائية مثلما كان في الماضي، ولكنه قائم على الخدمات والمضاربات وتجارة الديون وتوريق الأصول والخدمات المالية الأخرى (التي يغالط ترامب بالفعل في عدم إدخالها في حساب الميزان التجاري مع الدول الأخرى)، وليس على الصناعة (وهو ما تهدف إلي معالجته بالفعل الإجراءات التي اقترحها ستيفن ميران كبير المستشارين الاقتصاديين لدى ترامب)، وبالتالي من غير المتوقع أن يكون لهذه التعريفات أي أثر إيجابي على المستهلك، ولن تؤدي إلا للمزيد من ارتفاع الأسعار وعزلة أمريكا عن باقي العالم. فضلاً عن ذلك، فإن هذه الظروف ستدفع باتجاه الانكماش، ثم يسود في النهاية نمط الركود التضخمي المدمر للاقتصاد.

أيضاً لن تؤدي هذه السياسات لتقليل العجز التجاري كما يدعي ترامب، لأنه رغم توجه الواردات للانخفاض بسبب هذه التعريفات، ستتجه الصادرات أيضاً للانخفاض، بسبب العقوبات المضادة، وارتفاع الأسعار.

هذا النمط الاقتصادي في واقع الأمر سيسرع بتراجع النفوذ الأمريكي الإمبراطوري العالمي، حيث أنه لا ينتج شيئاً ملموساً غير المزيد من الديون.

تتضح هشاشة هذا النظام الاقتصادي لو علمنا أن إجمالي قيمة الذهب المتداول في العالم لا يزيد عن نحو 14 تريليون دولار، بينما النقد المتداول قد يصل إلى 110 تريليون دولار. هذا يعني أن نحو 85% من النقد المتداول عالمياً ليس له غطاء، وبالتالي إذا انهارت قيمة الدولار ستتبخر هذه “الأصول”، وقد ينهار الاقتصاد العالمي بالكامل.

يصل الأمر ببعض المحللين أن يروا أن هذه السياسات هي بالفعل متعمدة من قبل أصحاب الهيمنة على القرار الآن في أمريكا من الطبقة الأوليجاركية المتوحشة، ليس للصالح الأمريكي، ولكن لتقويض النفوذ الأمريكي على التجارة العالمية بعد أن استنفذ أغراضه ولم يعد مربحاً لهذه الطبقة، الذين قد يرون الآن أنهم سيحققون أرباحاً أكثر بنقل مراكز الثقل للتجارة العالمية جهة الشرق (الصين ومن يدور في فلكها تحديداً)، حيث أنهم لا يهتمون بمصلحة أمريكا في واقع الأمر، بل بما يراكم ثرواتهم ونفوذهم.

مع الوقت، سيجد الأمريكيون من أهل الـ MAGA أن ترامب لم يحقق لهم ما وعد به من تحسن في ظروف المعيشة، وأن السياسات الاقتصادية التي يتبعها تؤدي إلى عكس ما وعدهم به. ظهر ذلك أيضاً على سبيل المثال في الموازنة التي طرحتها إدارة ترامب في شهر مارس لتتفادى الإغلاق الحكومي حتى سبتمبر المقبل، على عكس ما وعد به ترامب بتخفيض الإنفاق الفيدرالي. كل ذلك سيؤثر على القاعدة الشعبية الداعمة له بعد أن يظهر أن هذه السياسات في حقيقة الأمر هي لمصلحة الأوليجاركيين من أركان نظامه، وأن أمريكا لم تعد عظيمة مرة أخرى، بل أصبحت أكثر ضعفا.

الطريقة المتذبذبة التي تم فرض التعريفات بها (فرضها ثم تعليقها ثم إعادتها أو زيادتها ثم فرض تعريفات بأشكال أخرى، ثم تعليقها…إلخ) تسبب بالفعل في اضطراب كبير في أسواق المال الأمريكية، حيث هوت على سبيل المثال أسعار مؤشرات البورصة جميعا في الأسبوع الذي بدأ اعتباراً من 10 مارس 2025، خاصة في أسهم شركات التكنولوجيا التي هوت بشكل غير مسبوق. وجاءت الطامة الكبرى بعد فرض التعريفات الجمركية التبادلية في الثاني من إبريل، ما أدى لانهيار سريع في جميع مؤشرات البورصات الأمريكية لما يتجاوز 10% في جميع المؤشرات في يومي 3 و 4 إبريل عقب صدور قرارات التعريفة، وخسرت سوق المال في وول ستريت في يومين ما قيمته نحو 5.4 مليار دولار، وهوى سعر النفط، الذي تأثر أيضاً بقرار الدول المنتجة له بزيادة كمياته في نفس التوقيت! بل حتى سعري الذهب والفضة، اللذان يعتبرهما الكثيرون ملاذا أمنا، انخفضا بعد فترة من الارتفاعات المتتالية. مؤشر القابلية للاشتعال Volatility Index VIX S&P 500 ، الذي يقيس اللجوء للأصول الأكثر أماناً في أوقات الأزمات، ارتفع بشكل حاد ووصل إلى ما يتجاوز  52 دولاراً يوم الثامن من إبريل (في العادة يعتبر مستوى الـ 20 دولار  وما تحته مؤشراً لقلة المخاطر) ، وهو ما يقترب من مستويات وقت أزمة الكوفيد، بل وحتى الأزمة المالية العالمية في 2008. نتيجة لذلك، بدأ شبح الركود التضخمي يخيم على الولايات المتحدة بسبب هذه السياسات المضطربة.

من الأثار الهامة لهذه الحزمة من التعريفات، الهبوط الكبير لأسعار سندات الخزانة الأمريكية (البعض يقول بأن ذلك ناتج عن بيع الصين كميات كبيرة منها قد تصل إلى 50 مليار دولار، والبعض الآخر يقول بأن اليابان هي من قامت بذلك)، وارتفعت بذلك العائدات على السندات طويلة الأجل إلى نحو 4.5%، ما يعني اقتراب الدخول في موجة من الركود.

في أعقاب ذلك، وفي يوم 9 إبريل، قام ترامب بتعليق أغلب التعريفات المفروضة لمدة 90 يوما، عدا تلك المفروضة على الواردات الصينية، ونسبة ال 10% المفروضة على الجميع، وكذلك تلك المفروضة على واردات السيارات والصلب والألمونيوم، على أساس إفساح المجال للتفاوض عل اتفاقات ثنائية جديدة مع الأطراف المختلفة. في أعقاب ذلك ارتفعت كافة مؤشرات البورصة الأمريكية، وكذلك البورصات العالمية، وعوضت أغلب خسائرها في الأيام السابقة. وبدأ سعر الذهب يعود للارتفاع، إلا أن سعر النفط ظل في إطار الانخفاض.

يفسر بعض المحللين ما قام به ترامب كتراجع نتيجة ما حدث في البورصات، وخصوصاً بسبب أداء السندات. من وجهة نظرنا فإن هذا ليس السبب الدافع للتراجع؛ قد يكون محدداً لتوقيت الإجراءات التراجعية، لكننا نرى أن ذلك يدخل في إطار استراتيجية ترامب الثلاثية للتعريفات الجمركية نفسها، بحيث يحدث الأثر الصاعق ثم تبدأ التفاوضات مع الأطراف الأخرى عندما تأتي راغمة وتطلب التفاوض حول أسس جديدة للتجارة.

هناك سبب آخر خفي، إلا أننا نراه حاضراً، وهو تمكين طبقة الأوليجاركية التي تقف خلف السلطة من تحقيق المزيد من الأرباح وتراكم الثروة، وذلك لأنه رغم ما قيل من خسائر ضخمة لهؤلاء نتيجة هبوط البورصات، فإن هذه مجرد خسائر ورقية، لا تتحقق إلا بالبيع. ما يتاح لهؤلاء من معلومات حول توقيت الإجراءات المقبلة للإدارة نظراً لقربهم الشديد منها، يجعلهم في وضع يمكِّنهم من شراء المزيد من الأسهم عندما ينخفض سعرها كثيراً أثناء الموجة الهبوطية، وبالتالي عندما تعود الأسهم للارتفاع يحققون المزيد من الأرباح، ويتحقق المزيد من انتقال وتراكم الثروة لديهم على حساب المضاربين البسطاء الذين يندفعون للبيع بعد إصابتهم بالهلع أثناء موجات الهبوط لتجنب المزيد من الخسائر. هذا النموذج يبين في حقيقة الأمر سلوك هذه الطبقة الأوليجاركية لتحقيق المزيد من تراكم الثروات، بصرف النظر عن مصالح بلادهم أو ما يتعرض له الملايين من البسطاء بخسارة مدخراتهم (تجدر الإشارة إلى أن ترامب نفسه في ثمانينيات القرن الماضي وجهت له اتهامات كاد يسجن بسببها حول التلاعب في البورصة عن طريق ممارسات كالتي أشرنا لها للتو).

بشكل عام لا يتوقع أن ينتهي الأمر  عند هذا الحد، بل من المتوقع أن تزداد الحرب التجارية، مع الصين على الأقل، اشتعالاً، وأن يستمر أداء الأسواق في التذبذب بشكل حاد، وصولاً إلى أفاق وأزمات لا يمكن التنبؤ بحجمها وتوقيتها وأثارها.

على المستوى الخارجي، فإن سياسات التعريفات الجمركية العشوائية ستتسبب في اضطراب علاقات الولايات المتحدة، ليس فقط مع منافسيها كالصين، ولكن مع أقرب حلفائها مثل كندا والمكسيك والإتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، ما يزيد من عزلة الولايات المتحددة وتقليص نفوذها العالمي، ويدفع هؤلاء الحلفاء وغيرهم لمراجعة نهجهم في التعامل مع الولايات المتحدة، وهو ما تهدف إليه الاستراتيجية التي وضعها ستيفن ميران، كبير المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض، والتي أشرنا إليها في الفصل الثالث من هذه الدراسة.

التدخلات الأمريكية لتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية، كما في حالات التهديد بالتدخل للسيطرة على قناة بنما وجزيرة جرينلاند، سيشجع أطرافاً أخرى أن تقوم بالمثل لتحقيق أهدافها الإستراتيجية الخاصة (كأن تقوم الصين مثلاً بضم تايوان، وتتوسع روسيا بشكل أكبر في أوكرانيا…إلخ)، خاصة في ضوء سياسات العزلة الأمريكية. هذا سيعني ببساطة انهيار النظام العالمي القائم والعودة إلى الصراعات والحروب الباردة والسعي للردع وتوازن القوى.

الأهم من ذلك، أن التجربة التاريخية تفيد بأن مثل هذه الحروب التجارية تؤول في نهاية المطاف إلى حروب عسكرية. في بداية ثلاثينيات القرن العشرين، ومع حدوث الكساد العظيم، بدأت الولايات المتحدة حروباً مماثلة من فرض التعريفات الجمركية. في العام 1930، فرضت الولايات المتحدة تعريفة سموت-هاولي “Smoot-Hawley Tariff Act”، وهي واحدة من أكثر القوانين التجارية إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي. بسبب ارتفاع التعريفات، أصبحت السلع الأجنبية أغلى، مما أدى إلى انخفاض الواردات.

الدول الأخرى ردّت بفرض تعريفات انتقامية على الصادرات الأمريكية، ما أدى إلى انخفاض حاد في تلك الصادرات، وبالتالي لعبت هذه التعريفة دوراً رئيسياً في تفاقم الكساد الكبير، ليس فقط داخل الولايات المتحدة، ولكن على مستوى العالم أيضاً بين عامي 1929 و1934، حيث انخفضت التجارة العالمية بنسبة 66%! ، وتضرر الجميع بالتالي من هذه السياسات، وساد الكساد شتى أنحاء العالم. تضررت ألمانيا وإيطاليا بشدة، مما زاد من الفقر وعدم الاستقرار الاجتماعي. استغل أدولف هتلر وبينيتو موسوليني هذا الوضع للوصول إلى السلطة، مما ساهم لاحقاً في اندلاع الحرب العالمية الثانية. اشتعال هذه الحرب، فضلاً عن التوترات السياسية، كان من أهدافها أيضاً تشغيل ماكينات الصناعة المتوقفة في الإنتاج الحربي لكي تدور عجلة الإنتاج مرة أخرى.

 فهل ستؤدي سياسات الحروب التجارية التي افتتحها ترامب إلى تراجع الولايات المتحدة عن سياساتها الانعزالية، لتضطر للانخراط في نزاعات عسكرية، وهو عكس ما تقول به إدارة ترامب في الأصل، فلا يمكن في واقع الأمر التحكم في الفوضى التي قد تنشأ عن هذه الحروب التجارية، فالفوضى يمكن البدء بها، لكن لا يمكن التحكم في مسارها بنفس السهولة؟ أم أن أمريكا في واقع الأمر تسعى بإرادتها لفرض هذا الركود العالمي لتسعى من خلاله لفرض قواعد جديدة للعبة (ما يستشف من استراتيجية ستيفن ميران وسكوت بيسينيت وزير الخزانة)، مما سيؤدي إلى إشعال الحروب في منطقة الشرق الأوسط أو أوروبا، ومن ثمَّ يتم التخلص من عبء الديون التي تثقل كاهلها من خلال الدفع بعملات رقمية يتم تغطيتها بالذهب بدلاً من الدولار الذي سينهار؟ وهل ستكون الساحة المفضلة للحرب هي منطقة الشرق الأوسط بما يسمح لأمريكا وإسرائيل بالسيطرة على ممرات تجارة النفط من خلال مضيق هرمز، بهدف خنق الصين اقتصادياً التي تعتمد تماما على هذا النفط؟ وهل ستسكت الصين على ذلك، أم ستقوم مثلاً بالتحالف مع إيران وتدخل حرباً ضد الولايات المتحدة دفاعاً عن مصالحها؟

إذا كان التفكير غير المعلن عنه يتجه لذلك السيناريو(كما يقول بعض المحللون المتشائمون)، فستكون هذه مقامرة غير مأمونة العواقب، إلا أن المقامرة هي إحدى سمات شخصية ترامب، فلماذا لا يكون ذلك متوقعاً؟!

بين الصراعات الأمريكية الداخلية والخارجية

بالنظر إلى حالة الانقسام الداخلي الموجودة والمرجحة إلى الازدياد، تترك الولايات المتحدة الأمريكية الباب مفتوحا على سيناريوهين ضمن تأثير الحالة الداخلية على السياسات الخارجية لواشنطن:

السيناريو الأول: سياسة خارجية عدوانية لتعويض الضعف الداخلي

في هذا السيناريو، قد يسعى ترامب إلى تصعيد سياسته الخارجية لمواجهة الضغوط الداخلية إذا لم يستطع إدارة هذه الصراعات بشكل مربح بالنسبة له، فضلاً عن التعامل مع أزماته المالية المزمنة كما أوضحنا، وذلك من خلال اتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه خصوم الولايات المتحدة، أو الدخول في مواجهات مباشرة، سواء سياسية أو اقتصادية أو حتى عسكرية، على الرغم من مخالفة ذلك للتوجهات المعلنة لترامب.

مؤشرات هذا السيناريو:

  1. التصعيد مع الصين:
    1. استمرار فرض العقوبات الاقتصادية والتعريفات الجمركية.
    1. تضييق الخناق على الشركات الصينية في الأسواق العالمية.
    1. تصاعد التوترات العسكرية في بحر الصين الجنوبي.
  2. السياسة الحازمة تجاه الشرق الأوسط:
    1. دعم مطلق لإسرائيل في النزاعات الإقليمية، وقلة الأفق في الوصول لهدنة طويلة الأمد في غزة، فضلاً عن التصعيد الإسرائيلي في الضفة.
    1. استهداف إيران بعقوبات أشد وربما عمليات عسكرية محدودة أو حتى واسعة إذا لم تستجب إيران لدعوات ترامب للتفاوض (وهو ما يظهر حتى الآن)، أو بضغط إسرائيلي للقضاء على أي تهديد إيراني في المستقبل .
    1. إعادة النظر في الاتفاقيات مع الحلفاء التقليديين مثل السعودية وتركيا، وفقاً لمصالح اقتصادية مباشرة.
  3. التعامل مع روسيا وأوروبا:
    1. تقارب متزايد مع موسكو لمحاولة إجهاض تشكيل تحالف استراتيجي مع الصين.
    1. استمرار الضغط على الحلفاء الأوروبيين لزيادة إنفاقهم الدفاعي داخل الناتو.
    1. فرض تعريفات جمركية جديدة على الواردات الأوروبية لتعزيز “أمريكا أولاً”.

التأثير المتوقع:
يؤدي هذا السيناريو إلى تعزيز نفوذ ترامب داخلياً عبر توحيد القاعدة الجمهورية خلفه، لكنه قد يسبب توترات غير مسبوقة في العلاقات الدولية، والمزيد من الحروب التجارية والنزاعات اقتصادية،  والتي قد تتطور إلى عسكرية كما أسلفنا.

السيناريو الثاني: انعزالية متزايدة وإعادة ترتيب الأولويات

على الجانب الآخر، قد يتبنى ترامب نهجاً أكثر انعزالية، مدفوعاً بضغوط داخلية تتطلب منه التركيز على القضايا المحلية بدلاً من الدخول في مغامرات خارجية.

مؤشرات هذا السيناريو:

  1. انسحاب تدريجي من بعض النزاعات الدولية:
    1. تقليص التدخل الأمريكي في النزاعات الإقليمية، مثل أوكرانيا وسوريا.
    1. خفض المساعدات العسكرية لبعض الحلفاء التقليديين.
    1. إعادة النظر في التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف الناتو.
  2. تحولات في السياسة الاقتصادية العالمية:
    1. التركيز على إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي بدلاً من الإسراف في المساعدات الخارجية والإنفاق الضخم على السياسات الأمنية.
    1. خفض التعريفات الجمركية على بعض الشركاء التجاريين لتعزيز النمو الاقتصادي الداخلي.
    1. السعي لعقد اتفاقيات جديدة أكثر نفعاً للولايات المتحدة بدلاً من التورط في نزاعات اقتصادية طويلة الأمد.
  3. إعادة هيكلة التحالفات:
    1. تقليل الالتزامات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا.
    1. تكثيف الضغط على الدول الأوروبية لتحمل مسؤوليات أمنية أكبر.
    1. التركيز على تطوير تحالفات تجارية بديلة، خاصة مع أمريكا اللاتينية وأفريقيا.

التأثير المتوقع:
قد يؤدي هذا النهج إلى تقليل التوترات الدولية، لكنه في الوقت ذاته قد يضعف النفوذ الأمريكي على المستوى العالمي، مما يفسح المجال لقوى أخرى مثل الصين وروسيا لملء الفراغات الاستراتيجية.

أي السيناريوهين أكثر ترجيحاً؟

التوجه النهائي سيعتمد على توازن القوى داخل الإدارة الأمريكية، وعلى مدى قدرة ترامب على التعامل مع الضغوط الداخلية. ومع تصاعد الانقسامات السياسية، من المرجح أن تكون السياسة الخارجية للولايات المتحدة مزيجاً من كلا السيناريوهين، حيث نشهد تصعيداً في بعض الملفات وانسحاباً في ملفات أخرى، وفقاً لأولويات الإدارة وتأثير اللوبيات السياسية والاقتصادية المختلفة.

وبالعموم، تعكس توجهات ترامب في السياسة الخارجية مزيجاً من التوجهات المتباينة. فبينما يتبنى شعار “أمريكا أولاً”، فإن هذا لا يعني بالضرورة عزلة تامة عن الشؤون الدولية. سيواجه ترامب ضغوطاً من دعاة المشاركة العميقة لتعزيز الدعم لإسرائيل، ومواجهة إيران، وزيادة المساعدات لأوكرانيا، واحتواء الصين. في المقابل، ستحاول الأصوات الداعية للتحفظ الاستراتيجي التأثير على قراراته، خاصة في أوروبا والشرق الأوسط، خاصة إذا أمكنهم تقديم رؤية موحدة لصالح تقليص التدخلات.

هناك عامل إضافي قد يكون مؤثراً في هذا الإطار. كما ذكرنا، فإن من أهم الأسباب التي تدفع إدارة ترامب الجديدة للتخفف من الصراعات العسكرية الخارجية، فضلاً عن الأسباب الأخرى التي مررنا عليها في الأجزاء السابقة، هو التفرغ لإدارة الصراعات الداخلية الطاحنة للفوز بالنفوذ على حساب قوى المؤسسة التقليدية، حيث ترى هذه الإدارة أن الدور الأمريكي القوي في العالم لن يكون إلا “بجعل أمريكا قوية مرة أخرى” داخلياً، وهو ما لن يتحقق، من وجهة نظرهم، إلا بهزيمة ما يسمونه “الدولة العميقة”، وتطهير الحكومة من نفوذها ومن الذين تعتبرهم الإدارة يساريين ماركسيين خونة للمشروع الأمريكي.

أيضاً فإن بعض هذه الصراعات ستتضمن تغييرات جوهرية في منظومة وشخوص البنتاجون والمؤسسات الأمنية، مما لن يسمح بإدارة صراعات عسكرية مهمة في هذه المرحلة “التطهيرية”.

إلا أن التساؤل المطروح في هذا الصدد هو: هل ستسعى قوى المؤسسة التقليدية، خاصة في وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات من ذوي التوجهات التدخلية، بشكل أو بآخر، لإثارة صراعات عسكرية خارجية بأشكال غير مباشرة لكي تجبر الإدارة الحالية على الانشغال عن معاركها الداخلية معها؟ هذا سؤال افتراضي يبقى أن نتابعه، لكن ما دفع لطرحه هو ما قامت به إدارة بايدن في أواخر أيامها بالسماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ الأمريكية في ضرب العمق الروسي دون سبب ظاهر، مما كان يمكن عليه تورط الولايات المتحدة في صراع عسكري مع روسيا، التي فيما يبدو تحكمت في رد فعلها لتفويت الفرصة على إدارة بايدن، ولتكون في وضع جيد عند التعامل مع إدارة ترامب، الأكثر استعداداً للتعاون معها.

أفول الإمبراطورية الأمريكية؟

على الرغم من أن التوجه الأمريكي الجديد يحاول أن يتعامل بواقعية مع تراجع القوة النسبية للولايات المتحدة كامبراطورية عالمية كما أسلفنا، فإنه على الأغلب سيؤدي إلى تسارع أفول الهيمنة الأمريكية بعد تفريطها في الكثير من أدوات القوة الرئيسية لديها، كما يحاجج الصحفي المخضرم كريس هيدجز  عن أن “الإمبراطورية تدمر نفسها” (قمنا بترجمته في المعهد المصري). ([40])

يقول هيدجز: ” الواقع أن أولئك المليارديرات، والفاشيين المسيحيين، والمحتالين، والمختلين عقلياً، والمعتوهين، والنرجسيين، والمنحرفين الذين استولوا على الكونجرس والبيت الأبيض والمحاكم، يفككون أجهزة الدولة. وسوف تشل تلك الإصابات التي يحدثها أصحابها بأنفسهم – وهي الصفة التي تشترك فيها جميع الإمبراطوريات الغابرة – بل وتدمر مخالب السلطة تماماً. وبعد ذلك، لن يبقَ إلا أن تنهار الإمبراطورية تماماً مثل بيت من الورق.

ويقول: “هؤلاء الفاشيون المسيحيون، الذين يحددون الأيديولوجية الأساسية لإدارة ترامب، لا يعتذرون عن كراهيتهم للديمقراطيات التعددية والعلمانية. إنهم يسعون، كما يوضحون بالتفصيل في العديد من الكتب والوثائق “المسيحية” مثل مشروع 2025 لمؤسسة التراث (هيريتدج)، إلى تشويه السلطة القضائية والتشريعية للحكومة، إلى جانب وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، إلى مجرد ملحقات لدولة “مسيحية” يقودها زعيم تضُفى عليه مسحة إلهية”.

ويقول على سبيل المثال: “إن تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ــ التي يزعم إيلون ماسك أنه يديرها “عش أفاعي من الماركسيين اليساريين المتطرفين الذين يكرهون أمريكا” – وهو مثال على كيف أن هؤلاء المشعلين للحرائق لا يدركون كيف تعمل الإمبراطوريات”…… “إنني أشك في أن إيلون ماسك وجيشه من الأتباع الشباب في وزارة كفاءة الحكومة (DOGE) – وهي ليست وزارة رسمية داخل الحكومة الفيدرالية – لديهم أي فكرة عن كيفية عمل المنظمات التي يدمرونها، ولماذا توجد أو ما يعنيه ذلك لزوال القوة الأمريكية”.

وفي النهاية يتوقع أن يكون السيناريو الأسود لمأل الإمبراطورية الأمريكية بعد الصراعات التي تنهش فيها: “وسوف تُستخدم مجموعة الأدوات المستخدمة في بسط الهيمنة العالمية – المراقبة الشاملة، وانتهاك الحريات المدنية بما في ذلك الإجراءات القانونية الواجبة، والتعذيب، والشرطة العسكرية، ونظام السجون الضخم، والطائرات بدون طيار والأقمار الصناعية العسكرية –ضد السكان الذين تسودهم الاضطرابات ويشتعل بينهم الغضب”.

هناك أيضاً نموذجاً مهماً آخر يستعرض حجم الهواجس الضخمة المتنامية بعد تولي ترامب، وذلك في مقال رأي مهم نشرته صحيفة الجيروزاليم بوست الإسرائيلية للكاتب مايكل سالامون. قال سالامون أن “الولايات المتحدة تشهد أزمة غير مسبوقة، حيث تتعرض أسس الديمقراطية الأمريكية لهزة عنيفة تهدد استقرارها، مما قد يكون له تداعيات عالمية خطيرة”….. “نحن أمام زلزال سياسي وعاصفة كاملة من التآكل الديمقراطي لم يشهد التاريخ الأمريكي مثيلاً لها”.

ويقول: “في غضون أسابيع قليلة، تمكن تحالف صغير لكنه نافذ من زعزعة أسس الديمقراطية الأمريكية. على رأس هذا التحالف يقف أغنى رجل في العالم، الذي تُثار حول قراراته تساؤلات كبيرة بسبب أسلوبه في اتخاذ القرارات وتجاهله للآثار الاجتماعية والسياسية لقراراته. يحيط به فريق من رواد التكنولوجيا الشباب، تتراوح أعمارهم بين 19 و25 عاماً، يتمتعون بذكاء استثنائي في مجالاتهم، لكنهم يفتقرون إلى الوعي بعواقب أفعالهم على النظام السياسي والاجتماعي”.

“هذا الفريق، الذي يقوده شخص وُصف بأنه نرجسي مرضي يفتقر إلى أي اهتمام حقيقي بالحكم، يعمل وفق أجندة تركز على تحقيق المصالح الشخصية وإعادة تشكيل النظام الأمريكي وفق رؤيته الخاصة، دون مراعاة القيم الديمقراطية الأساسية.”

ويقول: “من أخطر التطورات الجارية هو التفكيك المنهجي للمؤسسات الحيوية في الولايات المتحدة، مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، بدلاً من إعادة تقييم هذه المؤسسات وإصلاحها، يتم تفكيكها بشكل يترك فجوات خطيرة في منظومة الأمن القومي الأمريكي”……”ولا يقتصر التأثير على السياسة الداخلية فحسب، بل يمتد إلى الدور الأمريكي على الساحة الدولية. فمن خلال الانسحاب المتسارع من التزاماتها العالمية، كما أشار نائب الرئيس جي دي فانس في مؤتمر ميونيخ الأمني في 14 فبراير، تفتح الولايات المتحدة المجال لقوى مثل الصين وروسيا وإيران لسد الفراغ وفرض نفوذها عالمياً”.

يقول أيضاً: “ما يثير القلق أكثر هو الخلفية الأيديولوجية التي تدفع هذه التغييرات، حيث يبدو أن هناك توجهاً لتوظيف فكر ديني متطرف يرى في الاضطرابات العالمية مقدمة لتحقيق نبوءات معينة. هذا المزج بين التفكير الأبوكاليبسي (نهاية العالم) والسلطة السياسية يشكل خطراً غير مسبوق على الديمقراطيات حول العالم”…..”فانهيار الديمقراطية الأمريكية لن يكون مجرد مشكلة داخلية، بل سيعيد تشكيل النظام العالمي برمته”……”نحن لا نشهد مجرد تحول تدريجي، بل عملية “حرب خاطفة” ضد المؤسسات الديمقراطية. التعديلات المقترحة على وزارة العدل والأمن الداخلي وقيادات الجيش ليست مجرد تعديلات سياسية، بل إعادة هيكلة جذرية للأمن القومي الأمريكي.

ويقول في النهاية: “هذا ليس تهويلاً، بل واقع يفرض نفسه. عندما تتراجع الديمقراطية في أقوى دولة في العالم، فإن آثار ذلك تمتد إلى كل ركن من أركان الكرة الأرضية. أولئك الذين يخططون للهجرة لا يبالغون في رد فعلهم، بل يتصرفون بواقعية تجاه وضع غير مسبوق. ما نشهده اليوم قد يكون نقطة تحول في التاريخ، حيث سيحدد مسار الأحداث المقبلة ليس فقط مستقبل أمريكا، بل استقرار العالم بأسره.” (Jerusalem Post)

وكتب أيضا الكاتب الأمريكي الليبرالي توماس فريدمان: “في ظل ترامب أمريكا في طريقها للانهيار العظيم”، حيث يقول: ” إن ترامب ونائبه جي دي فانس …. بات شعار إدارتهما: “لن ندفع أي ثمن، ولن نتحمل أي مشقة، وسنتخلى عن أي صديق ونتودد لأي عدو إذا كان ذلك يخدم بقاء ترامب في السلطة”.

هناك العديد من الكتابات العميقة المماثلة، التي ترى في الصراعات الداخلية الراهنة في الولايات المتحدة إسراعاً بأفول نفوذها الإمبراطوري، وانفراطاً في عقد النظام العالمي المستقر منذ الحرب العالمية الثانية.

وفي هذا الإطار، تستعرض بعض الكتابات الحالة البائسة التي وصلت إليها الولايات المتحدة، والضرر الذي تتسبب فيه للعالم أجمع، إلى الدرجة التي تستدعي فيها أصوات أوروبية مقاطعة عالمية للولايات المتحدة كدول مارقة! يقول الكاتب ريتشارد سيلفرشتاين :  “الولايات المتحدة في ظل حكم الرئيس دونالد ترامب تحترق بخمسة إنذارات. الفاشية في صعود. أنظمة التعليم والفن والثقافة والعلوم والرعاية الاجتماعية والإنسانية والصحية تنهار. بنية تحتية وطنية بُنيت على مدى 250 عاماً تتفكك أمام أعيننا.”

” رؤساء الجامعات ومجالس الأمناء يرتعدون خوفاً. شركات المحاماة الكبرى تتسابق للتقرب من ترامب. عمالقة التكنولوجيا يعلنون الولاء له، مقدمين أرباحهم على مصالح المستهلكين. الطلبة الأجانب يُعتقلون ويُخفون في معسكرات اعتقال. وحتى القضاء الفيدرالي، حين يصدر أحكاماً ضد إدارة ترامب، لا يُحدث أي مقاومة حقيقية”.

“ترامب دمّر علاقات الولايات المتحدة بدول كانت حلفاء وثيقين لعقود. هدد بغزو جرينلاند وكندا، وبالاستيلاء على واحد من أهم الممرات المائية في العالم من بنما. مزق الاتفاقيات الدبلوماسية التاريخية، وسعى إلى إجبار الشركات والباحثين على التخلي عن برامج التنوع والمساواة والشمول، مهدداً بحرمانهم من السوق الأمريكي والتعاون البحثي”.

في ما يسمى بـ “يوم التحرير”، فرض ترامب تعريفات جمركية عقابية على الواردات الأجنبية…….شملت معظم دول العالم المصدّرة للولايات المتحدة”.

“الأسواق انهارت، وخسرت 11 تريليون دولار منذ تنصيبه في يناير، أكثر من نصفها في الأيام الأخيرة فقط. وصف المتداولون ما يحدث بـ”المجزرة” و”حمام الدم. كل ذلك في محاولة بائسة لإحياء التصنيع الأمريكي. لكن هذه السياسات ستجثو بالشركات المحلية والدولية على ركبها، وقد تؤدي إلى موت قطاعات صناعية بأكملها”.

“الأكثر تضرراً سيكونون من الطبقة العاملة – سواء في الخارج أو داخل أمريكا. فقد خسر 275 ألف شخص وظائفهم الشهر الماضي فقط بسبب هذه السياسات “الاقتصادية بالمنشار”، وهي مستويات لم تُسجل منذ جائحة كوفيد-19. أما النخب الثرية، حلفاء ترامب الطبيعيون، فسيخرجون سالمين بل ومستفيدين من التخفيضات الضريبية الجديدة.”

“تخلى ترامب عن تحالفات عسكرية حافظت على الأمن والاستقرار العالمي لعقود. ترك أوروبا تواجه التهديد الروسي وحدها”.

“أفضل وسيلة لمواجهة المتنمر هي المقاومة الجماعية والمنسقة. …..”الدول المهددة لديها أدوات قوية – من بينها سلاح المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات (BDS)، كما طبّق في جنوب أفريقيا ضد الأبارتهايد، وضد إسرائيل بسبب سياساتها في فلسطين”.

“على الدول المتضررة من سياسات ترامب أن تنظم حملة عالمية لمقاطعة الحكومة الأمريكية، وشركاتها، وجامعاتها. يجب فرض عقوبات على مسؤولي إدارة ترامب بشكل فردي.على العالم التوقف عن استيراد المنتجات الأمريكية بقدر المستطاع، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي، وإنهاء التعاون الثقافي والبحثي، وقطع العلاقات المالية. يجب التحرك لفك الارتباط بالدولار كعملة عالمية، وبناء مؤسسات بديلة. على العالم أن يعزل الولايات المتحدة، ويُحمّل ترامب مسؤولية هذا الخراب”…

“هذه لحظة مصيرية. تتطلب قيادة وشجاعة. لا يمكن للعالم أن ينتظر أربع سنوات أخرى. فإذا فعل، قد نجد الدبابات الروسية تجتاح بولندا ودول البلطيق. تخلّوا عن الولايات المتحدة. عاملوها كما تستحق: دولة منبوذة. اجعلوا ترامب يدفع ثمن جرائمه. لا تسمحوا للمتنمر بأن ينتصر”.

في موضع الحديث عن التراجع الإمبراطوري الأمريكي، لابد من الإشارة إلى طبقة الأوليجاركيين من أباطرة التكنولوجيا بشكل خاص، والمال بشكل عام، لمن يوجهون سياسات الولايات المتحدة نحو مصالحهم الخاصة، وليس المصالح الأمريكية. قد يكون هؤلاء يستغلون ترامب نفسه لتحقيق هذه المأرب، رغم ما قد يبدو من تحكمه في مقعد القيادة، فالسياسات التي تتخذها إدارة ترامب في واقع الأمر، لا تصب في جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، على النحو الذي تريده الكتلة الصلبة من مؤيدي ترامب من أهل MAGA و MAHA و”أمريكا أولاً” وغير ذلك، كما أوضحنا في هذه الدراسة. إن هذه الطبقة مما يعرفهم البعض بالـ Technocracy لا تهمها أمريكا، وهم ليسوا قوميين في الواقع، بل يديرون السياسات التي تعظم من مكاسبهم وسلطاتهم، أياً كان مكان ممارسة أنشطتهم حول العالم، بل يضحون بالمصالح الأمريكية نفسها، ويسعون حتى للتخلص من الهيمنة الأمريكية على العالم إذا كان ذلك سيخدم مصالحهم ويزيد من أرباحهم، وهو ما سيزيد بكل تأكيد من سرعة الأفول الإمبراطوري الأمريكي.

إن ما نراه من خطوات تتخذها الإدارة الأمريكية، وتبدو لنا عشوائية وغير مفهومة وفي غير صالح الولايات المتحدة، يمكن النظر إليها في حقيقة الأمر كخطوات يائسة تتخذها الإمبراطوريات عادة وهي في طريقها للانهيار. إن الدول المنضبطة تدفع بالتدخل الحكومي الحاسم عندما تواجه مشكلات كبرى (مثلما فعل روزفلت قبل الحرب العالمية الثانية، أو فعل ريجان عندما وقع اتفاقية فندق بلازا الشهيرة في العام 1985)، بحيث تتسلم الدولة مقعد القيادة لتخرج بالوطن إلى بر الأمان. لكن أن تلقي الأمة بمصيرها إلى يد طبقة أوليجاركية منتفعة لكي “تنقذها” بينما هي المتسببة أصلاً في الأزمات، على أساس أن القطاع الخاص دائماً “أكثر كفاءة”، لهو أشبه بحالة الانتحار، فهو ما يشكل نقل السرعة في طريق الانحدار بأقصى درجات الاندفاع.

الجدير بالذكر أن كل الكتابات التي أشرنا إليها حول التوجه نحو أفول الإمبراطورية الأمريكية تتعرض فقط للجوانب المادية والجيوبوليتيكية والإستراتيجية لمظاهر هذا الأفول. لكننا، على الجانب الآخر، لا نستطيع أن نغفل العوامل الثقافية والحضارية التي تؤشر على هذا الأفول، قبل العوامل المادية. يمكن الرجوع على سبيل المثال لآخر كتابات عالم الاجتماع الفرنسي الشهير  إيمانويل تود “هزيمة الغرب” ([41]) الذي استعرض فيه نتائج دراسته وتحليله لتركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات، على مدى نصف قرن من الزمان. وقد وصل إلى نتيجة، باستخدام البحث الأكاديمي الصرف وليس باستخدام التحليل السياسي أو القراءة العسكرية، مفادها أن “أميركا تحوّلت إلى «إمبراطورية عدمية»، ولم تعد أمة وبلداً له حدوده الواضحة، بل اختلط الداخل بالمصالح الخارجية بشكل يهدد كيان الدولة،  وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالآخرين، والعجز التجاري كبيراً، ويتصاعد بسرعة. منحنى الانحدار بدأ منذ منتصف ستينات القرن الماضي. والحمائية التي تنشدها أميركا اليوم، سببها انعدام المركزية الثقافية وفقدان القيادة الأمينة لماضيها، وتاريخها وتقاليدها”.

هناك الكثير من الدراسات التي تتحدث عن هذا الجانب من منظور حضاري، ومنها بعض كتابات ألكسندر دوجين التي أشرنا إليها من قبل، إلا أننا لن نتعرض إليها هنا نظراً لأنها ليست موضوع هذه الدراسة، مع أهميتها التي قد تفوق أثر العوامل المادية والجيوبوليتيكية. من العوامل المرتبطة بذلك الاستقطاب المجتمعي، والانهيار الأخلاقي، والتفكك الأسري، وتراجع مستوى التعليم، والتفاوت الضخم في مستوى الثروة واتساع دائرة الفقر، وانتشار السلاح والجريمة والمخدرات، وغير ذلك من العوامل التي تنخر في المجتمع الأمريكي حالياً بقسوة شديدة.

من اللافت للنظر تقرير حديث أصدره معهد الأمن القومي والسياسة الخارجية بمؤسسة هيريتدج في مارس 2025، بعنوان “استراتيجية إسرائيل – أمريكا: من علاقة خاصة إلى شراكة استراتيجية 2029 – 2047″. هذا التقرير يوصي بوضوح إلى أن إسرائيل لا ينبغي لها أن تبني أمنها ووجودها على الدعم الأمريكي إلى الأبد، وإنما ينبغي أن تتخذ من الخطوات ما يكفل لها الاستقلالية والقدرة الذاتية بحلول 2030. استدعى هذا التقرير هجوماً إسرائيلياً عارماً، واستغرب البعض صدوره عن مؤسسة صهيونية مثل هيريتيدج. لكن ألا يمكن أن يكون التقرير قد استبطن تراجع الحالة الإمبراطورية الأمريكية، وأنه بحلول 2030 لن تكون الولايات المتحدة قادرة على تقديم الدعم غير المحدود التي تقدمه لإسرائيل الآن؟ في الأغلب هذا هو المنطق من وراء توصية التقرير. ([42])

الفصل الخامس: السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط في ظل الرئاسة الثانية لترامب

لا شك أن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ستشكل نقطة تحول في التوازن الإقليمي، فكما تحدثنا في دراستنا في الفصول السابقة، عن التأثيرات الحاصلة أو المحتملة لسياسات إدارة ترامب الداخلية والخارجية، فإن من المؤكد أن امتدادات التوجهات الترامبية المختلفة والباحثة عن تغيّرات جذرية، ستطال منطقة الشرق الأوسط من بوابة عدة ملفات سنفصل كل منها على حدة. تأتي هذه التغيرات في وقت يشهد فيه النظام الدولي هشاشة غير مسبوقة، مع تصاعد أزمات إقليمية، كملف غزّة على سبيل المثال، واتخاذ أزمات أخرى أشكالاً جديدة، كما حدث في سورية. السؤال المطروح هو؛ هل من المتوقع أن تكون سياسات ترامب في الشرق الأوسط متماثلة ومتماشية مع السياسات الانعزالية التي تحدثنا عنها بالنسبة لباقي العالم؟

لفهم هذا السياق، يجب علينا البحث عن الثابت والمتغير في علاقة ترامب مع الشرق الأوسط. ويمكن ان نستند من خلال رؤيتنا لهذا المنحى، على أن التصور المزدوج الذي يحرك السياسات الترامبية نحو هذه البقعة الجغرافية يفسره عاملين منفصلين ومجتمعين في آن معاً، الأول يتمحور في رغبة ترامب باصطياد ما يمكن اصطياده من دول الشرق الأوسط الغنية مالاً أو نفوذاً، من مبدأ سياسة أكثر انتهازية سواء لتأمين المصالح الأمريكية، أو حتى مصالحه الشخصية هو وعائلته، حيث تقوم رؤيته على إعادة تقييم كل التزامات الولايات المتحدة من منظور المنفعة المباشرة.

أما المحرك الآخر فهو مستند إلى تصور أيديولوجي، يحمله ترامب، والقطاع الأكبر من داعميه، بإيمان عميق بهذا التصور أيديولوجياً وعقائدياً، وفقاً للعقيدة الإنجيلية الصهيونية المسيحية التي يتبناها عشرات الملايين من الشعب الأمريكي، ثم تبنِّيه سياسياً، من خلال تحركات عنيفة ومتطرفة وخارجة عن أي التزامات دولية، والحديث هنا عن الملف الفلسطيني في الصدارة، وما يمكن أن يدور في فلكه أيضاً كملفات عديدة مثل الملف الإيراني والعلاقة مع دول الخليج.

يرتبط بهذا المحرك، الخط الأمريكي الثابت، أياً كان الحزب الحاكم، في الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني، انطلاقاً من التماهي التام في تعريف المصالح المشتركة، فضلاً عن تأثير أقوى اللوبيات الأمريكية على الإطلاق، اللوبي الصهيوني. وقد رأينا في الفصل الأول من الدراسة كيف أن إدارة ترامب هي واحدة من أكثر الإدارات الأمريكية في تاريخها الحديث ضماً لعناصر شديدة التطرف في دعم الكيان الصهيوني.

لقد عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وموازين القوى في الشرق الأوسط قد اختلفت اختلافاً جذرياً عما كانت عليه خلال فترة رئاسته الأولى.

كان الشرق الأوسط خلال السنوات الأربعة الماضية، بيئة خصبة للتحولات الجذرية المستمرة منذ أواخر عام 2010. إلا أن نقطة التحول الأكثر تأثيراً، والتي تلتها عدة متغيرات هامة أعادت تشكيل خارطة القوى والصراع مجدداً في المنطقة، تمثلت في هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، والذي شنته حركة المقاومة الإسلامية حماس على إسرائيل، وقوبل بحرب إسرائيلية دموية على قطاع غزة حتى توقيع اتفاقية الهدنة في 15 يناير/كانون الثاني 2025. الحرب التي بدأت في غزة وصل صداها إلى طهران، ثم بيروت،

أهم هذه الأصداء تمثلت في مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (من التيار المحافظ) ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، وعدد آخر من المسؤولين الإيرانيين في تحطم مروحيتهم على الحدود مع أذربيجان في مايو/أيار 2024، مما أتاح المجال لوصول الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان إلى رئاسة إيران، برضا المرشد علي خامنئي، الذي دعا إلى سياسات معتدلة في الداخل وتحسين العلاقات مع الغرب. تلى ذلك اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، خلال توجهه لحضور مناصب ترسيم الرئيس الإيراني الجديد، وذلك في 31 يوليو/تموز 2024.

لكن الضربة القاسمة التي تلقاها ما يطلق عليه محور المقاومة المدعوم إيرانياً، تمثلت في اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله في غارة جوية على الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 سبتمبر/أيلول 2024. وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول 2024 أعلنت حركة حماس مقتل يحيى السنوار في تبادل لإطلاق النار مع جيش الاحتلال الإسرائيلي.

هذه المتغيرات التي عصفت بالمنطقة في الشهور الأخيرة، أثرت بشكل كبير على ميزان القوى، وفتحت الباب أمام تغيّرات جذرية تحاول المنطقة التأقلم معها.  إلا أن متغيّراً آخر أضاف بعداً آخر شديد الأهمية، وكان مفاجئاً على صعيد إقليمي ودولي، تمثل بسقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. وبالتالي تهاوى النفوذ الإيراني في المنطقة بعد انهيار الأدوات العسكرية-المليشياوية الإيرانية فيها، التي كانت متمثلة بشكل رئيسي في مليشيات حزب الله في لبنان وسوريا بالإضافة إلى مرتزقة “شيعة” جندتهم إيران لصالحها. كما تراجع النفوذ الروسي في المنطقة بعد انهيار النظام الذي استدعاها في الأصل.

في ظل هذا السياق، يأتي ما نراه من خلال تتبع تحركات ترامب منذ اليوم الأول لتنصيبه على الصعيد الداخلي والخارجي، ما يمكن ربطه مع سلسلة من النقاط التي تبناها مشروع 2025 الذي أصدرته مؤسسة Heritage الفكرية. المشروع اعتبره معارضون لترامب خطيراً ويمثل دليل حكم استبدادي بأجندة يمينية متطرفة. ومن خلال هذا المشروع تم تقديم مخططاً مفصلاً للسياسات التي ينبغي على ترامب اتباعها في ولايته الثانية. وتشير بعض التقارير إلى أن الشخصيات التي تم اختيارها لتولي مناصب عليا في الإدارة الجديدة، مثل ماركو روبيو كوزير للخارجية وبيت هيجسيث كوزير للدفاع، لديهم مواقف متشددة تتماشى مع توصيات المشروع (فضلاً عن التوجهات الصهيونية اليمينية الواضحة، وبشكل ربما غير مسبوق، لباقي أفراد فريق إدارة ترامب، فضلاً عن روبيو وهيجسيث بالطبع، كما استعرضنا في الفصل الأول).

لقد تابعنا تحركات فعلية تستند إلى رؤى مشروع 2025 على الصعيد الداخلي كما رأينا في الفصول السابقة، وعلى الصعيد الخارجي أيضاً.

وفي مقابلة ستيف ويتكوف مستشار الرئيس ترامب مع الإعلامي تاكر كارلسون، والتي أتينا على ذكرها في مبحث سابق لأنها تعطي مؤشرات مهمة للغاية حول توجهات السياسة الخارجية لإدارة ترامب بشكل عام، وتميزت بقدر كبير من الفجاجة والصراحة، أشار  ويتكوف إلى أن سياسة الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب كانت تسعى إلى تقليل الفوضى في العالم ومنع الحروب قدر الإمكان. وهذا كان يتماشى مع سياسة الرئيس في تجنب النزاعات غير الضرورية والتركيز على الأمن الداخلي.

وفيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية مع دول الخليج وإسرائيل، كان من الواضح أن هناك مصلحة مشتركة بين الأطراف، على الرغم من أن الخطط المستقبلية لهذه العلاقة لا تزال غير واضحة تماماً. من هنا، قال ويتكوف أنه يؤمن أن المفاوضات في الشرق الأوسط تحتاج إلى تفكير بعيد المدى، مع ضرورة التعاون بين جميع الأطراف لتحقيق السلام المستدام.

إمكانات اقتصادية للسلام في الشرق الأوسط

تحدث ستيف ويتكوف عن أهمية السلام والاستقرار في منطقة الخليج، موضحاً أن هذه المنطقة قد تكون واحدة من الفرص غير المستغلة التي يمكن أن تتحقق إذا تم تحقيق السلام في المنطقة. مع حل قضية إيران، سيكون من الممكن جذب الاستثمارات في هذا السوق المتنامي. ويتكوف يشير إلى التفوق التكنولوجي لإسرائيل، التي تتفوق في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والبلوكتشين، التي تشترك فيها أيضاً الإمارات والسعودية وقطر. ويخيل له أنه إذا تعاونت هذه الدول معاً، يمكن أن تنشأ سوقاً كبيرة ربما تعوض أفول الدور الأوروبي في ظل الأزمات التي تعاني منها القارة الأوروبية.

تابع ويتكوف قائلاً إن الاقتصاد المتقدم الذي تملكه هذه الدول في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا المالية يمكن أن يساهم في جعل المنطقة واحدة من أكثر المناطق ازدهاراً في المستقبل. مع توفر استقرار سياسي، يمكن لهذه الدول أن تخلق بيئة مثالية للتجارة والابتكار، مع تحسين مستوى الحياة لمواطنيها.

التحديات والمخاوف حول السيطرة الجغرافية

تحدث تاكر كارلسون عن سؤال أساسي في النزاع في الشرق الأوسط، وهو رسم خريطة للمنطقة بعد حل النزاع. على مدى آلاف السنين، كان الصراع يدور حول الأرض: من يسيطر على ماذا؟ ويشير إلى التأثيرات المدمرة لهذا النزاع على بعض البلدان الفقيرة والمكتظة بالسكان مثل الأردن ومصر، حيث يبلغ تعداد السكان في مصر حوالي 100 مليون نسمة. ويتساءل عن الخريطة التي يمكن أن تظهر في النهاية من منظور إسرائيل، مشيراً إلى أن إسرائيل قد تكون قد توسعت إلى لبنان وسوريا ولكنها لا تعتبر هذه الأراضي جزءاً منها بشكل رسمي. هذا يفتح المجال للتساؤل عن ما الذي ترغب إسرائيل في السيطرة عليه بعد انتهاء النزاع؟

يعترف ويتكوف بأن هذا التساؤل هو أمر بالغ الأهمية في تحديد مستقبل المنطقة، دون أن يعطي إجابة واضحة عنه، حيث يجب أن يكون هناك وضوح تام بشأن الحدود والحقوق السياسية لتجنب الصراعات المستقبلية. وهو يرى أن هذا النقاش ضروري من أجل الوصول إلى حل دائم. وعبر  ويتكوف عن خشيته على مستقبل أنظمة مصر والأردن والسعودية، والتي ستتعرض لضغوط ضخمة إذا استمرت قضية غزة بدون حل، وقال أنه إذا خسرت المنطقة مصر بتغير نظامها، فستمحو هذه الخسارة المكاسب الاستراتيجية التي ترتبت عن اغتيال نصر الله وقادة حماس، وهو ما فسره البعض بتهديد مبطن للنظام المصري إذا لم يتماشى مع المخططات الأمريكية والإسرائيلية للمنطقة.

فيما يتعلق بسوريا، ذكر  ويتكوف أن الجولاني ربما يكون قد تغير عن ماضيه بالفعل، ومن الوارد أن ينتهي به الأمر  بإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل. وقد أشاد بتركيا، وقال أن ما يتم فيها هو مرحلة تحول كبرى، وأن علاقة ترامب بأردوغان جيدة، وستظهر أخبار جيدة عن تركيا في القريب العاجل!

ما يعنينا في هذا الفصل، هو السياقات المحتملة لسياسات ترامب في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بقضايا محورية كالقضية الفلسطينية، الملف الإيراني، علاقة ترامب وتركيا، الحدود السورية مع إسرائيل، واتفاقيات التطبيع العربية.

يبدو لنا أن الثابت في علاقة ترامب مع الشرق الأوسط والعالم العربي، يتمحور حول دعم إسرائيل وتمكينها من الوصول للهيمنة التامة على المنطقة، بعد إنهاء أي توجه عملي للمقاومة في المنطقة، وهو في ذلك لا يتبنى سياسة انعزالية تماما إلى الحد الذي يقتلع الولايات المتحدة من المنطقة، وفي الوقت نفسه، أن لا تكون مضطرة للضلوع بشكل مباشر في صراعات الشرق الأوسط بالطريقة التي تجعلها تخسر مواردها المالية أو العسكرية. يتم ذلك من خلال تكريس اتفاقيات تطبيع واسعة بين الدول العربية وإسرائيل تؤدي إلى تحقيق مصالح أمريكا الاستراتيجية وحماية نفوذها الاقتصادي عبر احتواء القوى المناوئة لها وللكيان الصهيوني، من خلال بناء تحالفات إقليمية تُمكّن إسرائيل والدول العربية المطبّعة معها من تحمل مسؤولية الأمن الإقليمي. هذا النهج يهدف إلى تخفيف التورط الأمريكي المباشر في المنطقة، مما يسمح لواشنطن بالتركيز على التحدي الصيني المتصاعد في شرق آسيا والمنافسة العالمية على النفوذ الاقتصادي والسياسي.

لكن هنا يبرز العامل المتغير عن عموم السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب، من قراءة واشنطن-ترامب لهذه العلاقة عندما يتعلق الأمر بالملف الفلسطيني والصراع مع إسرائيل، وذلك من منطلق أيديولوجي مسيحي – صهيوني، يرى في دعم إسرائيل اللا مشروط قضية مبدأية عقائدية تتبناها القاعدة الشعبية الترامبية، وهذا ما سنراه لاحقاً خلال هذا المبحث.

ترامب والقضية الفلسطينية و مصر  والأردن

لقد بدأت لمسات دونالد ترامب في الملف الفلسطيني تظهر جليّة قبيل موعد تنصيبه في يناير 2025، وذلك من خلال السعي إلى بلورة هدنة بين إسرائيل وحركة حماس، تنهي الحرب الدموية التي شنتها تل أبيب على القطاع منذ السابع من أكتوبر 2023. لكن مساعي ترامب التي تكللت بالنجاح، لم تكن تعني بأي حال من الأحوال أن ترامب قادم كـ”حمامة سلام” إلى الشرق الأوسط، بل على العكس؛ خاصة بعد مرور عدة أسابيع بعد عقد اتفاق الهدنة، حيث ظهر أن ترامب يهدف للانطلاق من هذه الهدنة لتنفيذ أجندات أوسع وأشمل وتخدم المصالح الإسرائيلية بالدرجة الأولى.

وكان ترامب قد اقترح بعد أيام من بدء الهدنة، وكرر اقتراحه عدة مرات بصيغ مختلفة، نقل سكان غزة إلى دول مجاورة مثل مصر والأردن، بهدف “تطهير” القطاع من سكانه ([43]). تستند الخطة إلى رؤية سابقة قدمها نتنياهو بعنوان “غزة 2035″، والتي تهدف إلى تحويل القطاع إلى منطقة حضرية متطورة تضم ناطحات سحاب وبنية تحتية حديثة. تتألف هذه الرؤية من ثلاث مراحل: القضاء على حركة حماس، إعادة الإعمار بإشراف دول عربية، ومنح غزة حكماً ذاتياً كمنطقة تجارة حرة. وقد أثار اقتراح ترامب بشأن غزة انتقادات واسعة، حيث اعتبره البعض دعوة للتطهير العرقي، وهو ما يشكل جريمة حرب بموجب القانون الدولي. كما رفضت كل من مصر والأردن هذه الفكرة، مؤكدتين على أهمية بقاء الفلسطينيين في أراضيهم. هذا الاقتراح يتماشى مع سياسات ترامب السابقة التي تركز على دعم إسرائيل، دون مراعاة لحقوق الفلسطينيين.

اقترح ترامب أن تتولى الولايات المتحدة إدارة قطاع غزة وتحويله إلى “الريفيرا في الشرق الأوسط”، مع دفع الفلسطينيين في القطاع المدمر إلى البلدان المجاورة دون حق العودة. وهدد ترامب، في حال لم توافق الأردن ومصر على قبول اللاجئين الفلسطينيين من غزة، بقطع المساعدات الأمريكية عن البلدين، رغم أنهما من بين الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة ومتلقين كبار للمساعدات الأجنبية.

ولا بد أن نذكر بأن المساعدات الأمريكية لمصر والأردن تلعب دوراً رئيسياً في تعزيز الاستقرار الاقتصادي والعسكري في البلدين، حيث تتنوع هذه المساعدات بين المالية والعسكرية والإنسانية، وتأتي ضمن استراتيجية الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. المساعدات العسكرية  تسهم في تعزيز القدرات الدفاعية للبلدين. تتلقى مصر حوالي 1.3 مليار دولار سنوياً، فيما يحصل الأردن على 300 مليون دولار  لدعم برامجه الأمنية ومكافحة الإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، تشكل المساعدات الإنسانية جزءاً مهماً من الدعم الأمريكي، حيث توجه لدعم الفئات الأكثر ضعفاً في مصر بنحو 50 مليون دولار سنوياً، بينما تخصص للأردن 200 مليون دولار سنوياً لدعم اللاجئين وبرامج الإغاثة.

لا تقتصر أهمية هذه المساعدات على الجانب الاقتصادي فقط، بل تمتد لتؤثر على سياسات البلدين الداخلية والخارجية. ففي مصر، تستفيد الحكومة من المساعدات الأمريكية لتنفيذ برامجها التنموية وتعزيز الاستقرار الداخلي، غير أن هذا يجعلها أكثر استجابة للمطالب الأمريكية، خاصة في القضايا الأمنية ومكافحة الإرهاب. الأهم هو التأثير الأمريكي القوي على المساعدات والقروض التي تحصل عليها مصر من المؤسسات المالية الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أما الأردن، فيرى في هذه المساعدات وسيلة لضمان استقرار الحكومة وسط التحديات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية، غير أن الاعتماد المفرط على المساعدات قد يؤثر على استقلالية القرار السياسي لكلا البلدين. كما أن الدعم السياسي الأمريكي يساهم في تعزيز مواقف الحكومتين على المستوى الدولي، حيث تستفيد مصر منه لتعزيز علاقاتها مع الدول الغربية، فيما يساعد الأردن في مواجهة التوترات الإقليمية والتحديات الأمنية.

وقد تجلى تأثير المساعدات الأمريكية على سياسات البلدين بوضوح في موقفهما من خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط، إذ كان للمساعدات دور في تشكيل المواقف الرسمية تجاه هذه الخطة. ففي البداية، أبدت مصر موقفاً حذراً، لكنها سعت لاحقاً للحصول على مزيد من الدعم المالي مما دفعها إلى اتخاذ موقف أكثر إيجابية، لكنها رفضت خطة تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها باعتبارها تهديداً للأمن القومي.

أما الأردن، فقد أبدى تردداً أكبر في تبني الخطة، رغم تلقيه مساعدات مالية كبيرة، وذلك بسبب الضغوط الشعبية والاعتبارات الوطنية، حيث يشكل السكان ذوي الأصل الفلسطيني أكثر من 50% من سكان البلاد، وإذا حدثت هجرات فلسطينية كبيرة، سواءً من قطاع غزة أو الضفة الغربية، فسيشكل ذلك تهديداً للنظام الملكي الهاشمي بكامله.

تجلت الضغوط الأمريكية في مقابلة ترامب للملك عبد الله ملك الأردن في فبراير في البيت الأبيض، حيث طرح ترامب اقتراحاته بشكل علني أمام الإعلام في وجود الملك، مما سبب له حرجاً كبيرا. كان من المفترض أن يزور السيسي أيضاً في وقت لاحق، ولكن الأرجح أن الطريقة التي تعامل بها مع الملك عبد الله، ولاحقاً مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، دفعت السيسي لإلغاء زيارته لواشنطن تجنباً لنفس الحرج.

من المرجح أن يستمر الدعم الأمريكي للنظامين المصري والأردني، رغم الضغط عليهما للاستمرار في أداء أدوار وتقديم تنازلات، حيث أن أي تغيير في تركيبة هذين النظامين في الوقت الراهن يمكن أن يسبب ارتباكاً كبيراً للخطط الأمريكية للمنطقة.

وكان قد أكد مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط ويتكوف مع تاكر كارلسون أن النزاع في غزة لا يزال يشكل تهديداً كبيراً للاستقرار في المنطقة. ولكن في الوقت نفسه، يرى أن الوضع في غزة يتطلب خطة جديدة وواقعية. من خلال إعادة التفكير في الحلول القديمة التي اقتصرت على الحرب وإعادة البناء، في تبرير علني لخطة ترامب بشأن غزة. ويرى ويتكوف أن السلام في غزة قد يبدأ بخلق فرص أفضل لأبناء الشعب الفلسطيني، مثل التعليم والعمل. ويرى أن خطة الرئيس ترامب كانت تهدف إلى تغيير طريقة التفكير حول غزة والتركيز على توفير حياة أفضل لأهالي القطاع.

وتوقع ويتكوف أن يتبلور اتجاه الحل في قضية غزة خلال 6 إلى 12 شهراً، وأن ما كان يجري الحديث عنه خلال ال 40 – 50 سنة السابقة لا ينفع أن يستمر طرحه في الوقت الراهن!

كما ذكر ويتكوف أن الحل المركزي لقضية غزة هو نزع سلاح حماس، ولا يمكن ترك منظمات مثل “حماس والإخوان والجهاد” لتكرر ما حدث في 7 أكتوبر! وأن الموضع ليس “التخلص” من حماس، فهذا غير ممكن لأنهم فكرة وأيديولوجيا.

وذكر أن حماس لم تقبل بمقترحاته الجديدة، رغم أنه أوضح بجلاء للقمة العربية أن الضرب سيعود بمنتهى القوة إذا لم تقبل حماس (وهو ما يشكل تجاهلاً شديد الغرابة أن هذا يشكل خروجاً من الاتفاق الأصلي، الذي تم برعاية أمريكا نفسها، والتزمت به حماس، إلا أن الدلالة واضحة في التماهي التام للأجندة الأمريكية والإسرائيلية، وأن كل ما يتم من خطوات في مباحثات الهدنة هو مجرد مراوغات، لا تهدف إلا لاستعادة أكبر قدر ممكن من الرهائن الإسرائيليين دون أي تنازل إسرائيلي، ولو بوقف الحرب وإدخال المساعدات).

التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية

ويتكوف يعتقد أن هناك فرصة كبيرة لتحسين الوضع الاقتصادي في غزة إذا تم إيجاد خطة واضحة لمستقبل المنطقة. مع ذلك، لا يتعلق الأمر فقط بتوفير البنية التحتية، بل أيضاً بتوفير الفرص للأجيال القادمة. يشير إلى أن الفلسطينيين في غزة لم يكن لديهم سابقاً الفرصة لتحقيق مستوى معيشة أفضل، ويرى أن الرئيس ترامب كان يروج لفكرة توفير هذه الفرص المستقبلية، والتي قد تتضمن نموذجاً اقتصادياً أو سياسياً جديداً قد يتضمن أو لا يتضمن حل الدولتين. في هذا السياق، يذكر كارلسون أن التوجه نحو “حل الدولتين” أصبح موضوعاً مثيراً للجدل في الوقت الراهن، لكن ويتكوف لا يرى مشكلة في طرحه. يضيف أن القضية الأساسية ليست مجرد إقامة دولة فلسطينية، بل كيفية توفير فرص حقيقية للشعب الفلسطيني في غزة.

وأكد على تصوراته الحالمة بأن خططهم لغزة ليست مجرد تعمير، ولكنها “حياة ومستقبل أفضل للأطفال”. ممكن في النهاية بعض أهل غزة يعود والبعض لا يعود، لكن هذه ليست المشكلة! ستتوفر الوظائف، ويتم الدخول للذكاء الصناعي والتكنولوجيا، أي التمكين الاقتصادي. أليس هذا بديل أفضل من الوضع المزري الحالي؟!

ويتكوف يضيف أنه من الضروري التأكيد على أن أي خطة للسلام في غزة يجب أن تشمل البنية التحتية الأساسية مثل المساكن والتعليم، وكذلك فرص العمل. يجب أن يكون هناك تركيز على تحسين الظروف الاقتصادية بشكل يسمح للأفراد بتحقيق تطلعاتهم.

وعلى جانب آخر، أشار  ويتكوف إلى أن مصر تعاني من مشكلات اقتصادية كبيرة، حيث يصل معدل البطالة بين الشباب إلى 45%، ما يجعل استقرار الحكومة المصرية مهدداً. وقال أن الاستقرار في السعودية هو أيضاً محل قلق، خاصةً في ظل التحديات التي يواجهها ولي العهد محمد بن سلمان مع الشباب في المملكة.

ويؤكد أن حل النزاع في غزة يعد أمراً أساسياً لتجنب تصاعد الأزمات في المنطقة، ويُعد شرطاً مسبقاً لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وتحدث عن الاتفاقات التي تم التوصل إليها في إطار “اتفاقات أبراهام” التي توسطت فيها الإدارة الأمريكية السابقة، ويأمل أن يتم توسيع هذه الاتفاقات لتشمل دولاً جديدة.

بالنسبة لغزة، فمن الواضح أن السياسة الأمريكية تسير دعماً لتصور الحكومة الإسرائيلية بالكامل، فعلى الرغم من أن اتفاق الهدنة تم برعاية أمريكية، وبضغط من الرئيس ترامب شخصياً، إلا أن الانخراط الأمريكي في التفاوض المباشر مع حركة حماس، رغم أنه كان ينظر إليه إيجابياً، يبدو أنه يستهدف أن تمارس أمريكا عن طريق مبعوثها ويتكوف ضغوطاً شديدة على الحركة للتنازل عن مطلبها ببدء تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، دون الضغط على إسرائيل بالمثل لتنفيذ استحقاقات المرحلة الأولى، في الوقت الذي تنصلت فيه إسرائيل من التزاماتها لتلك المرحلة، حيث أعادت منع دخول المساعدات الإنسانية، وأعلنت عن عدم نيتها في الانسحاب من محور فيلادلفيا، بل وهددت باستئناف العمليات العسكرية إن لم تفرج المقاومة عن المزيد من الرهائن (غير المتفق عليهم في المرحلة الأولى)، وهو ما تم لاحقاً بالفعل. 

تحركات ترامب في غزة قد تكون مصحوبة أيضاً برغبة إسرائيل في ضم الضفة الغربية، حيث يمكن أن يُنظر إلى تهجير سكان غزة كخطوة لتخفيف الضغط الديموغرافي على إسرائيل وتسهيل عملية الضم. كما أن الضغط على إسرائيل لقبول هدنة مع حماس قد يكون جزءاً من استراتيجية أوسع لتحقيق هذه الأهداف. يدعم من ذلك اختيار ترامب لمايك هاكابي سفيراً لواشنطن في إسرائيل، والذي يدعو صراحة لضم الضفة، حيث يرى أنه  لا يوجد شيء اسمه الضفة الغربية، وإنما يهودا والسامرة، وأنه لا توجد أراضي محتلة أو مستوطنات، بل “مجتمعات إسرائيلية”. كان ترشيح هاكابي في أساسه مؤشراً مهما على الطريقة التي سيتعامل بها ترامب مع ملف القضية الفلسطينية. وحتى صهر ترامب ومستشاره للشئون العربية، مَسْعَد بولس، اللبناني الأصل، استخدم تعبير “السامرة” في حديثه عن الضفة أثناء استقباله يوسي داغان رئيس مجلس المستوطنين في الضفة الغربية في منزله في واشنطن.

تجدر الإشارة إلى أن أحد الوعود التي منحها ترامب للمليارديرة الصهيونية ميريام إديلسون، والتي دعمت حملت ترامب الانتخابية بأكثر من مائة مليون دولار، هو الاعتراف بضم الضفة الغربية إلى دولة إسرائيل عندما تقدم على هذه الخطوة، مثلما فعل بنقل السفارة الأمريكية للقدس في فترة رئاسته الأولى.

على الجانب الآخر، تسير حكومة الاحتلال الإسرائيلي في تسريع ضم الضفة الغربية من خلال تشريعات جديدة، مثل مشروع القانون الذي صادق عليه الكنيست بالقراءة التمهيدية، والذي يسمح للمستوطنين بامتلاك الأراضي في الضفة دون قيود. هذه الإجراءات تهدف إلى فرض واقع قانوني وسياسي جديد يجعل من الضفة الغربية جزءاً من السيادة الإسرائيلية، في انتهاك واضح للقانون الدولي. وقرارات الأمم المتحدة. 

من الواضح أنه ثمة ترابط وثيق بين مخطط تهجير سكان غزة ومساعي الضم في الضفة الغربية. فمن منظور استراتيجي، يمكن النظر إلى تهجير سكان غزة على أنه محاولة إسرائيلية – أمريكية لحل “المعضلة الديموغرافية”، حيث تسعى إسرائيل إلى تقليل عدد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لتسهيل فرض سيطرتها الكاملة. وبالتالي، فإن الضفة الغربية، التي تضم أكثر من 3 ملايين فلسطيني، تصبح الهدف التالي للمخططات الإسرائيلية، خصوصاً بعد أن يتم إضعاف غزة ديموغرافياً. ويأتي ذلك في إطار سعي الكيان الصهيوني لإجهاض أي حديث مستقبلي عن دولة فلسطينية، حتى لو كانت منزوعة السيادة وتحت إدارة سلطة محمود عباس،

 بناء على ما سبق، لم يعد من الملفت أن إدارة ترامب مارست ضغوطاً على إسرائيل للقبول بوقف إطلاق النار في غزة، وهو ما يمكن تفسيره برغبة ترامب في تهدئة الأوضاع ميدانياً لتسهيل تنفيذ المخططات السياسية، ومنها إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من الرهائن الإسرائيليين، فضلاً عن تهجير السكان وإعادة ترتيب الوضع الجغرافي. فهدنة طويلة الأمد (طبقاً لقواعد المرحلة الأولى فقط من اتفاق الهدنة)، قد تمنح واشنطن وتل أبيب الوقت الكافي لتهيئة الظروف لتنفيذ خطوات أخرى ضمن المخطط الأوسع، والذي قد يشمل تشجيع الفلسطينيين على “الخروج الطوعي” من غزة أو تهيئة الأرضية القانونية لضم الضفة بشكل أوسع.

وفي سياق الحديث عن هذا المخطط، يعود إلى الواجهة تقرير مسرب صادر عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية عن توصية بترحيل سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة قسراً وبشكل دائم إلى شبه جزيرة سيناء في مصر. الوثيقة الرسمية التي تم تسريبها لأول مرة بشكل كامل عبر موقع “لوكال كول” الشريك لموقع +972، بتاريخ 13 أكتوبر 2023، تحمل شعار وزارة الاستخبارات، وهي هيئة حكومية صغيرة تختص بإعداد أبحاث السياسات ومشاركة مقترحاتها مع أجهزة الاستخبارات والجيش والوزارات الأخرى. توصي الوثيقة بإجلاء السكان إلى سيناء خلال الحرب، وإنشاء مدن خيام مؤقتة تتبعها مدن دائمة في شمال سيناء لاستيعاب السكان المرحلين. كما تقترح إقامة “منطقة عازلة معقمة” داخل الأراضي المصرية لمنع الفلسطينيين من العودة إلى مناطقهم الأصلية. وتشدد الوثيقة على ضرورة الضغط على الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، للمشاركة في تنفيذ هذه الخطوة وإقناع مصر باستقبال اللاجئين الفلسطينيين.

يتزامن هذا المقترح مع تحركات أخرى داخل الأوساط اليمينية الإسرائيلية الداعمة للسيطرة الكاملة على الضفة الغربية، إذ نشر معهد “ميسجاف” اليميني وثيقة مشابهة تدعو إلى ترحيل سكان غزة إلى سيناء. ورغم حذف التقرير بعد انتقادات دولية، إلا أن ارتباط وزارة الاستخبارات بمعهد “ميسجاف” ودعمه بمليون شيكل لإجراء أبحاث حول الدول العربية، يشير إلى وجود تنسيق بين الجهات الحكومية ومراكز التفكير اليمينية للترويج لهذه الأفكار.

مشروع معهد ميسجاف لا يقتصر فقط على غزة، بل يمثل جزءاً من رؤية أوسع تهدف إلى إعادة رسم الخارطة الديموغرافية والجغرافية في الأراضي الفلسطينية، ما يهدد مستقبل حل الدولتين ويعزز مشاريع الضم الإسرائيلي في الضفة الغربية، وذلك بحسب التقرير الصادر منذ أكثر من عام عقب بدء الحرب على غزة. ([44])

خلال فترة دونالد ترامب الأولى، طرح الرئيس الأمريكي ما عرف إعلامياً بـ”صفقة القرن” والتي هدفت إلى تطبيع  العلاقات السياسية والاقتصادية بين إسرائيل والدول العربية مقابل إقامة دولة فلسطينية رمزية منزوعة السلاح لا تمتلك أي سيادة على القدس. إلا أن خطته لم يكتب لها النجاح حين تعثرت مع بداية السباق الرئاسي الأمريكي ووصول جو بايدن إلى السلطة.

خطة غزة اليوم لا تختلف جوهرياً عن صفقة القرن التي تم الحديث عنها قبل خمس سنوات، حيث تتفق الخطتان على الدعم المطلق لإسرائيل وإطلاق يدها في الأراضي الفلسطينية على حساب الفلسطينيين. إلا أن ما يميّز خطة ترامب الأخيرة للقطاع، أنها أكثر جرأة وقفز على السياقات الدبلوماسية العالمية، بشكل يرتقي إلى محاولة ممنهجة للتطهير العرقي، حيث تتجاوز الخطة مفهوم التسوية السياسية. فصفقة القرن رغم ميلها الصريح تجاه إسرائيل وتجاهل حقوق الفلسطينيين بشكل كامل، إلا أنها كانت تنص على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومحدودة السيادة بشروط قاسية جداً، بينما مخطط ترامب الجديد، ركّز على قطاع غزة، كصفقة متممة لحالة الأمر الواقع التي تحاول إسرائيل فرضها على بقية الأراضي الفلسطينية، وساعد في ذلك الحال المزري الذي وصل إليه القطاع بعد حرب السابع من أكتوبر وتدميره بشكل شبه كلي. مما يجعل الحياة فيه شبه مستحيلة دون دعم دولي كبير وخطط مكثفة لإعادة الإعمار، وهو ما تحاول أمريكا وإسرائيل منعه بشتى الطرق للضغط على الفلسطينيين لقبول التهجير طوعاً بشروط قسرية.

ويميل بعض المحللين إلى إلقاء الضوء على شخصية ترامب “التاجر” وصانع الصفقات بالنظر إلى خطته تجاه غزة. فبوادر خطته المعلن عنها في الآونة الأخيرة ظهرت قبل نحو عام على لسان صهره جاريد كوشنر، الذي كان قد قال في فعالية في جامعة هارفارد إن “العقارات على الواجهة البحرية لغزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة، إذا ما ركز الناس على توفير سبل العيش”، مضيفا أنه “من وجهة النظر الإسرائيلية يمكن نقل السكان خارج المنطقة وتنظيفها”. كوشنر (اليهودي الصهيوني، والذي تربى في منزل نتنياهو) الذي كان قد وصف الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين بأنه “ليس أكثر من نزاع عقاري”، كان مهندس صفقة القرن. لا يمكن بالتالي استبعاد جانب المصلحة الشخصية التي قد يسعى ترامب لتحقيقها له ولعائلته.

في سياق اقتصادي متصل، ربما من المفيد التذكير بحقل الغاز البحري “غزة مارين” الذي تم اكتشافه عام 1999 من قبل شركة “بريتيش بتروليوم”. ويقع الحقل على بعد 30 كيلومتراً من ساحل غزة. يُقدَّر حجم احتياطي الحقل بنحو 30 مليار متر مكعب، وهو حجم صغير نسبياً مقارنة باحتياطات الغاز في الحقول” الإسرائيلية” المجاورة، مثل تمار (2009) وليفياثان (2010)، والتي تحتوي على 1000 مليار متر مكعب من الغاز. في البداية، اعتُبر تطوير “غزة مارين” غير مجدٍ اقتصادياً بسبب التكلفة العالية للبنية التحتية اللازمة لبدء عمليات الحفر والاستخراج. ومع ذلك، تغيَّرت الصورة بعد اكتشاف إسرائيل كميات ضخمة من الغاز في حقولها البحرية، حيث أصبح توصيل “غزة مارين” بالبنية التحتية الإسرائيلية خياراً اقتصادياً أكثر جدوى مقارنة بإنشاء منشآت مستقلة له. رغم الجدوى الاقتصادية الجديدة، رفضت إسرائيل السماح بتطوير الحقل، خشيةً من استفادة حركة حماس من عائداته إذا سيطرت على قطاع غزة. كما لم تُثمر المحاولات اللاحقة لتطوير الحقل، رغم مباحثات جرت بين السلطة الفلسطينية ومصر، خاصة بعد ارتفاع أسعار الغاز عالمياً عقب الغزو الروسي لأوكرانيا.

لكن ورغم أن عقلية التاجر يمكن أن تفسر جزءاً من دوافع ترامب لإعلان هذه الخطة بهذه الطريقة الفجة. إلا أن مثل هذا التحرك قد يكون له رمزية سياسية وجيواستراتيجية أبعد من ذلك. فترامب يعلم جيداً أن دفعه نحو تنفيذ مثل هذه الخطة لن يكون بالسلاسة التي يتحدث بها. كما أن هذا التغيير الجذري لن يمرّ دون إثارة الحروب التي يقول ترامب أنه قادم لإيقافها. كما أنه ليس سهلاً على النظامين في الأردن ومصر المجازفة والارتهان لابتزاز ترامب السياسي والاقتصادي، إذ أن الخضوع لترامب والتسليم لمخططه سيكون حاسماً بتهديد العرش الملكي في الأردن والنظام في مصر. الأمر الذي يمكن أن يحيلنا إلى طريقة تنفيذ بعيدة عما يروج له ترامب، لكن تحقق النتائج ذاتها التي يريدها من هذا المشروع. لذلك فإننا نرى أن التلويح بمثل هذا المخطط قد يكون قمة الجبل الجليدي ليس إلا، فيما سيكون نجاح تنفيذه أو فشله مرهون بالسيناريوهات التالية:

السيناريو الأول: استمرار رفض الدول العربية لخطة ترامب، والخروج بخطة عربية مشتركة تصيغ وضع القطاع بعد حرب السابع من أكتوبر، بحيث لا يكون لحركة المقاومة الإسلامية حماس يد في إدارته سياسياً أو عسكريا، وتسليم هذه المهمة لإدارة إقليمية أو دولية. هذا في حال بقاء الهدنة بين حماس وإسرائيل سارية دون انهيارها. إلا أن تطبيق مثل هذا السيناريو سيجد مقاومة عنيفة وقد ينذر بحرب أخرى أكثر ضراوة. لكن في نفس الوقت، قد يكون هدف ترامب بإثارة خطته مجرد الضغط التفاوضي لتسهيل قبول الخطة البديلة، حيث ستكون أقل حدة ولا تتطلب تهجير الفلسطينيين أثناء عملية التعمير.

السيناريو الثاني: انهيار الهدنة بين حماس وإسرائيل، نظراً لعدم إمكانية تحقيق توافق، فضلاً عن الرغبة الإسرائيلية في عدم تحقيق ذلك التوافق، ما يؤدي لاشتعال الحرب مرة أخرى، وهو ما سيجبر جزء من أهالي غزة إلى النزوح لدول مجاورة في حال تم فتح المعابر، ما سيخلق نوعاً من تخفيف الحمل الديمغرافي لسكان القطاع لصالح إسرائيل، لكنه سيتسبب في مشاكل كثيرة، خاصة للجانب المصري.

السيناريو الثالث: استمرار الهدنة لكن مع عدم تحقق أدنى مقاومات العيش لسكان القطاع في ظل الحصار المستمر، وهو ما يجعل أمر الخروج من القطاع سبيلاً لا مفر منه بحثا عن الحياة الكريمة.

وفي أثناء كتابتنا لهذه الدراسة، قام الكيان الصهيوني في ليلة 18 مارس 2025 باعتداء وحشي جديد على قطاع غزة، استخدم فيه القصف الجوي مدعوما بالقصف البحري والبري على عدة مواقع، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 400 شهيد، أغلبهم من النساء والأطفال، وجرح آلاف آخرون. وقد ذكر مسئولون ووسائل إعلام إسرائيلية أن هذا العدوان الجديد كان بهدف الضغط على حماس لإعادة جميع الأسرى، وأنه جاء بضوء أخضر من ترامب بعد عدم استجابة حماس للشروط المطروحة. هذا الهجوم يرجح تقدم السيناريو الثاني، ويؤكد التواطؤ الأمريكي الإسرائيلي في استخدام لعبة التفاوض تحت ضغط الحصار والقتل لكسر إرادة المقاومة وفرض الشروط المُملاة عليها، بما فيها التهجير.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا العدوان قد استهدف قيادات الصف الأول المدنية للعمل الحكومي في قطاع غزة، مثل وكيل وزارة الداخلية، والمدير العام لجهاز الأمن الداخلي، ورئيس مكتب متابعة العمل الحكومي، ووكيل وزارة العدل، وغيرهم. هذا يعني التوجه لتفريغ القطاع من قيادات السيطرة الميدانية، ما قد يمهد لعملية عسكرية برية أخرى قادمة.

وبغض النظر عن مصير خطة ترامب،  أو الخطة المصرية العربية البديلة، أو أي مخطط يجمع بينهما بشكل أو بآخر (تعمير وتهجير)، فإن الثابت هنا هو التحول الجذري في السياسة الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ظل إدارة ديمقراطية، تتبنى، شكلياً على الأقل، حل الدولتين، مع إعادة تركيزه بصورة أكثر ضراوة وتشكيل الواقع بوسائل قسرية تنبئ بأن ترامب وإدارته مستعدون للقيام بأي تحرك يخدم مصالح إسرائيل ويثبتها كقوة إقليمية في الشرق الأوسط، مع وأد أي مشروع أو بؤرة مقاومة.

من الدلائل الأخرى على ازدياد هذا الدعم السافر لإسرائيل بمجرد استلام ترامب منصبه، فقد تم استئناف إرسال قنابل مدمرة تزن 2000 رطل إلى إسرائيل، وأسلحة أخرى تزيد قيمتها عن 7.5 مليار دولار، وهو ما كانت إدارة بايدن قد أوقفته منذ عدة أشهر.

يأتي أيضاً في هذا الإطار رد الفعل الأمريكي تجاه الخروقات الإسرائيلية السافرة لاتفاق الهدنة الذي جاء برعاية ترامب نفسه، وجاء ذلك مصحوبا بتهديدات من قبيل فتح أبواب الجحيم إن لم يتم إعادة جميع الرهائن قبل ساعة معينة (رغم أن الاتفاق نفسه كان ينص على إعادة ثلاث رهائن فقط، وذلك إذا ما أوفت إسرائيل بالتزاماتها بإدخال المساعدات الإنسانية، وهو ما لم يحدث).

ختاماً، التحليل السابق يقودنا إلى الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في البداية، حيث من المؤكد أن الولايات المتحدة في سياستها في ظل إدارة ترامب نحو دعم إسرائيل، تتبنى نهجاً مختلفاً عن توجهاتها الأساسية الأخرى في سياساتها الخارجية، وتمارس في ذلك، حتى الآن، دوراً تدخلياً بامتياز، وليس انعزالياً. يتأكد هذا مع تحليلنا في الجزء التالي عن إيران وما يسمى بمحور المقاومة. الدعم الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني قد يكون هذا مدفوعاً بالحرص على استمرار دعم الكتلة المسيحية الصهيونية الشعبية الأمريكية، والأهم، الاحتفاظ بتأييد اللوبي الصهيوني في ظل المعارك الداخلية الشرسة التي يقودها ترامب مع القوى التقليدية في المؤسسة الأمريكية.

من الواضح أن الهدف النهائي من الانخراط الأمريكي هو، في نهاية المطاف، إيصال إسرائيل إلى درجة العلو والتفوق المطلق في المنطقة، بعد إنهاء أية مقاومة للمشروع الصهيوني، بما يتيح لأمريكا ترك المنطقة لاحقاً في “أيدٍ أمينة”، وتُخدِّم على هذه السياسة الكتيبة الصهيونية التي ملأ بها ترامب أروقة إدارته بشكل غير مسبوق. وفي جميع الأحوال، يأتي هذا الدعم، ليس لمجرد تحقيق النصر في الصراع الراهن في غزة، لكن الأهم، هو المضي قدماً في إتمام المراحل النهائية من المشروع الصهيوني الذي بدأ عملياً بوصول نتنياهو للحكم في العام 1996 (ونظرياً منذ تأسيس دولة الكيان)، بالتكريس لشرق أوسط جديد تقوده إسرائيل، وتهيمن عليه، في ظل علاقات طبيعية مع كافة دول الإقليم، وبعد إنهاء أية مقاومة للمشروع، بما يكفل التوسع الجغرافي على حساب الضفة والأردن وأجزاء من سوريا ولبنان، وربما شبه جزيرة سيناء، ومن ثمَّ، الهيمنة التامة والعلو المطلق في المنطقة. جميع الشواهد التي استعرضناها تؤكد على أن هذا هو الهدف النهائي للدعم الأمريكي للكيان الصهيوني، بل التماهي التام مع أجندته.

السياسة الأمريكية تجاه طهران ومحور المقاومة

في 4 فبراير 2025، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مذكرة رئاسية للأمن القومي (NSPM) تعيد تفعيل سياسة “أقصى ضغط” على إيران. تهدف هذه السياسة إلى منع طهران من امتلاك سلاح نووي، والتصدي لنفوذها الإقليمي، ووقف دعمها للجماعات المسلحة، وذلك عبر مجموعة من العقوبات، والتدابير الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية.

تحدد المذكرة الرئاسية عدة خطوات رئيسية لتنفيذ هذه الاستراتيجية، حيث وجه الرئيس ترامب وزارة الخزانة الأمريكية إلى فرض أقصى العقوبات الاقتصادية على الحكومة الإيرانية، مع التركيز على قطاعي النفط والتمويل. كما تم تكليف الوزارة بتوجيه تحذيرات لكافة القطاعات التجارية، بما في ذلك الشحن والتأمين والموانئ، من مخاطر انتهاك العقوبات الأمريكية عند التعامل مع إيران أو وكلائها. إضافة إلى ذلك، ستعمل وزارة الخارجية على إلغاء أي استثناءات سابقة للعقوبات، مع التركيز على تصفير صادرات النفط الإيرانية، مما يعزز الحصار الاقتصادي عليها.

على الصعيد الأمني، تشمل السياسة الجديدة مواجهة التهديدات الإيرانية داخل الولايات المتحدة وخارجها. حيث أصدر المدعي العام توجيهاته باستخدام كافة الأدوات القانونية المتاحة لملاحقة الشبكات المالية واللوجستية المرتبطة بإيران، إضافة إلى محاكمة عناصر الجماعات المسلحة المدعومة من طهران، ومطالبة الدول الحليفة بتسليم المطلوبين للولايات المتحدة.

وفيما يتعلق بالملف النووي، شدد ترامب على أن امتلاك إيران لسلاح نووي أمر غير مقبول تحت أي ظرف، مؤكداً أن الولايات المتحدة ستواصل الضغط على طهران لمنعها من تطوير قدراتها الصاروخية والتقليدية وغير التقليدية. تأتي هذه التصريحات استكمالاً لموقفه السابق الذي عبر عنه عام 2020، حين قال: “طالما أنا رئيس الولايات المتحدة، لن يُسمح لإيران أبداً بامتلاك سلاح نووي.”

صراع الجيوبوليتك

تتمتع منطقة الشرق الأوسط بأهمية استراتيجية بالغة على المستوى العالمي، حيث تشغل موقعاً محورياً في النظام الجيوسياسي الدولي. وقد دفع ذلك القوى الكبرى إلى السعي للتحكم في معادلات القوة داخل المنطقة. أحد الأبعاد الجيوبولتيكية لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” هو منع نشوء نظام إقليمي عربي موحد، بما يخدم المصالح الأمريكية ويحول دون تشكيل قوة عربية مؤثرة. بالنسبة لإيران، يمثل الشرق الأوسط مجالها الحيوي الأول وفقاً لنظريتها الجيوبولتيكية الشيعية، ولذلك تسعى بكل جهد إلى امتلاك القدرات النووية، بهدف ترسيخ هيمنتها الإقليمية وكسر الاحتكار الإسرائيلي للسلاح النووي. ومن خلال ذلك، تسعى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية طويلة المدى. وقد استغلت إيران ثورات الربيع العربي لتعزيز دورها كلاعب دولي رئيسي، حيث تمكنت من توسيع نفوذها التقليدي في العراق وسوريا واليمن (فضلت عن لبنان بالطبع)، والسيطرة على ملفات إقليمية حساسة.

من جهة أخرى، تعتبر إسرائيل أن موقعها الجغرافي يشكل نقطة انطلاق نحو تحقيق مجالها الحيوي الممتد من النيل إلى الفرات. وتسعى إسرائيل جاهدة إلى تنفيذ مشروعها الجيوبولتيكي الأعلى، الذي يتمثل في إقامة إسرائيل الكبرى كقوة إقليمية عظمى ذات هوية يهودية نقية، مما يعكس سعيها المستمر لفرض تفوقها الجيوبولتيكي في المنطقة.

وبغض النظر عن المواقف المتباينة التي يروج لها البعض حول دور إيران كراعي أساسي لمحور المقاومة، كما تروج لنفسها إقليمياً ودولياً، فإن صراع الجيوبوليتيك بين طهران وتل أبيب (ومن خلفها واشنطن) يعد سبباً رئيسياً في التأجيج الدولي لهذا التصادم. إن هذا الصراع يعمق الخلاف بين واشنطن وطهران، ويجعله مقبولاً في السياق الدولي كجزء من المنافسة الاستراتيجية في المنطقة. ونتيجة للضغوط القصوى التي فرضها ترامب بين عامي 2018 و2021، انخفضت صادرات النفط الإيراني إلى أقل من 200 ألف برميل يومياً، وزاد سعر صرف الدولار بنسبة 167% خلال سنة واحدة. كما ارتفع معدل التضخم من حوالي 9.6% في عام 2017 إلى 26.9 في المائة في عام 2018 تحت وطأة هذه الضغوط.

ومع تأكيد ترامب أن هدف سياسة الضغوط القصوى “2” هو تصفير صادرات النفط الإيرانية، سيكون ترامب في مواجهة مباشرة مع الصين أيضاً بسبب طهران.

من الناحية الاقتصادية، تُعتبر إيران مصدراً حيوياً للطاقة بالنسبة للصين، كونها واحدة من أكبر مستوردي النفط في العالم. إذ أن النفط الإيراني يلعب دوراً أساسياً في استراتيجية الصين لتنويع مصادر الطاقة، ما يساعد في تقليل الاعتماد على الموردين التقليديين مثل المملكة العربية السعودية التي تعتبر حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة.

إيران تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي، إذ تقع على طول مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وهي بمثابة حلقة وصل أساسية بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. ومن خلال الاستثمارات في البنية التحتية الإيرانية، تستفيد الصين من تعزيز قدرتها على ربط هذه المناطق وبالتالي توسيع نفوذها العالمي.

من خلال دعم إيران، تسعى الصين أيضاً إلى موازنة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، مما يعزز موقف بكين في المفاوضات مع واشنطن بشأن قضايا أوسع، حيث قد تُستخدم إيران كأداة استراتيجية من قبل الصين في المفاوضات الدولية.

لذلك فإن إجراءات ترامب التي تهدف إلى تحقيق أقصى ضغط على طهران، قد يفضي إلى سيناريوهين:

السيناريو الأول: دفع طهران باتجاه عقد اتفاق مشرّف مع واشنطن تتنازل من خلاله عن برنامجها النووي لصالح رفع سياسة الضغط الأقصى والعقوبات عنها، خاصة مع وجود نظام إصلاحي دفع المرشد علي خامنئي باتجاهه تحضيراً لمرحلة ما بعد بايدن، خشية من تفاقم الوضع الاقتصادي سوءاً، والذي قد يهدد النظام الإيراني المتهالك أصلاً. كما يمكن لطهران استغلال عودة علاقتها بالرياض بوساطة صينية للضغط على ترامب دبلوماسياً لقبول التفاوض مجدداً. إلا أن الأهداف الأمريكية تتعدى مجرد السيطرة على البرنامج النووي الإيراني، ولكن أيضاً السيطرة على برنامجها الصاروخي، وعلى علاقاتها الإقليمية، ودعمها “لمنظمات إرهابية” وفقاً للتصنيف الأمريكي. ومع صعوبة تصور تنازلات إيرانية في جميع هذه الملفات، إلا أن البراجماتية الإيرانية في ضوء التراجعات التي حدثت في وضعها الإستراتيجي مؤخراً، قد تدفعها لتقديم بعض التنازلات فيما يتعلق بها لتجنب الخسارة الإستراتيجية بالنسبة لها إذا سقط النظام، خاصة في ظل وجود تيار سياسي قوي داعم لهذا التوجه يتزعمه رئيس الجمهورية، ويقوده من الخلف محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الأسبق، ونائب رئيس الجمهورية، المنصب الذي استقال منه مؤخراً.

يدعم هذا السيناريو الرسالة التي أرسلها ترامب إلى المرشد الإيراني، والذي قيل أن فحواها يحمل ميلا نحو السلام بالرغم من نهج الضغوط الذي اتبعه ترامب منذ وصوله إلى السلطة، ما أدى إلى الاتفاق على محادثات غير مباشرة بين الطرفين الأمريكي والإيراني تبدأ في عُمان السبت 12 إبريل، بحضور  ويتكوف مبعوث الرئيس الأمريكي، وعراقجي، وزير الخارجية الإيراني.

اعتبر  ويتكوف في مقابلته مع كارلسون أن القضية الأولى في هذه المنطقة هي كيفية التعامل مع إيران، خاصة فيما يتعلق ببرنامجها النووي. إذا تمكنت إيران من الحصول على أسلحة نووية، سيكون لذلك تأثير مدمّر على استقرار المنطقة بحسب ويتكوف، مشبهاً ذلك بكوريا الشمالية التي تتمتع بنفوذ كبير رغم صغر حجمها.

وأشار  ويتكوف إلى أن الرئيس ترامب قد أرسل رسالة إلى إيران، وهو ما يعد أمراً غير تقليدي، حيث كان من المتوقع أن تكون إيران هي التي ترسل رسالة. الرسالة التي أرسلها الرئيس ترامب كانت تحمل نبرة سلام، حيث أوضح أنه يفضل الحوار على استخدام القوة العسكرية، مؤكداً على ضرورة إزالة المفاهيم الخاطئة والضمانات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني. كما عبر عن رغبته في إعادة إيران إلى المجتمع الدولي وتخفيف العقوبات المفروضة عليها، وهو ما يمكن أن يسهم في تحسين الاقتصاد الإيراني الذي كان ذات يوم مزدهراً. ويؤكد ويتكوف أن إيران قد تواصلت عبر قنوات خلفية مع الولايات المتحدة في هذا الصدد، وأنه يعتقد أن هناك إمكانية حقيقية لحل القضية دبلوماسياً، ليس فقط بسبب المحادثات المباشرة، ولكن لأن الحل الدبلوماسي يعد الخيار الأكثر منطقية.

وفقاً لويتكوف، فإن الرئيس ترامب مستعد لبناء الثقة مع إيران إذا كان ذلك ممكناً، ويسعى إلى تسوية الأمور عبر الحوار بدلاً من التصعيد العسكري. يرى ويتكوف أن أي نزاع يمكن حله من خلال الحوار وتوضيح المفاهيم الملتبسة بين الأطراف. ورغم تعقيدات الملف النووي الإيراني، يؤمن أن فرصة الحل السلمي لا تزال قائمة، وأن ترامب سيسعى جاهداً لتجنب الحرب، إلا إذا كانت هناك ضرورة ملحة لاستخدام القوة العسكرية. يختتم ويتكوف بتأكيده على أهمية الخبرة التقنية لحل هذه القضية، ويأمل في أن يكون هناك فرص للتفاوض بشكل بناء مع إيران في المستقبل.

السيناريو الثاني: أن تقوم طهران بمقاومة الضغوط الأمريكية لتقديم تنازلات كبيرة، وتعمل على إكمال برنامجها لتخصيب اليورانيوم وصولاً إلى إعلان امتلاكها للسلاح النووي. وهو ما يضعها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة. إلا أن مثل هذا السيناريو قد يكون مكلفاً جداً بالنسبة لطهران، وقد لا ترغب في الوصول إليه لما له من أضرار عسكرية واقتصادية كبيرة خاصة وأن أدوات طهران في المنطقة كحزب الله أصبحت أضعف من السابق بكثير، فضلاً عما حدث بعد التغييرات الأخيرة في سوريا.

إلا أن ما يدعم سيناريو المواجهة العسكرية حقيقة، هو الرغبة الإسرائيلية الكبيرة في توجيه ضربة عسكرية قاصمة لإيران، وإجهاض مشروعها النووي، وتحجيم نفوذها الإقليمي الذي يشكل أحد العقبات أمام التوسع الصهيوني، وهي في ذلك تمارس ضغوطاً كبيرة على الإدارة الأمريكية، وتواصل اختلاق الذرائع، لتوجيه ضربة عسكرية لإيران، ربما تساهم أيضاً في إسقاط نظام الملالي. يساعد على ذلك، ازدحام إدارة ترامب الحالية بعدد من الصقور ذوي التوجه المتشدد تجاه إيران.

ما يدلل أيضاً على سلوك إدارة ترامب في تعاملها مع المنطقة نهجاً مختلفاً عن النهج الإنعزالي الدولي، الضربات المتتالية التي وجهها الجيش الأمريكي مؤخراً لجماعة الحوثيين، بدعوى إزالة التهديد على الملاحة في البحر الأحمر، وحماية إسرائيل من التهديدات. من الواضح أن هذا ليس هو الهدف الرئيس، الذي يتمثل في توجيه رسالة جادة لإيران بأن أمريكا مستعدة لاستخدام القوة العسكرية في المنطقة لتحقيق أهدافها، وفي هذا الإطار يكون ذلك جزءاً من الضغوط القصوى التي تمارسها أمريكا على إيران للتفاوض وفقاً لشروطها.

أيضاً بالنسبة لدعم إسرائيل في استهداف محور المقاومة الإيراني، تغض أمريكا الطرف عن عدم التزام إسرائيل بالتنفيذ الكامل لاتفاقية وقف إطلاق النار في جنوب لبنان مع حزب الله، رغم أن أمريكا نفسها هي التي قامت برعايتها، حيث تصر إسرائيل على عدم الانسحاب من 5 مناطق في الجنوب “لدواع أمنية”، كما تقوم بقصف القرى اللبنانية من وقت لآخر بدعوى وجود قوات من حزب الله تخطط للعمل ضد إسرائيل.

ترامب وسوريا

قبل سقوط الأسد بيوم واحد، وخلال اشتداد المعارك على جبهات المدن السورية بعد تقدم هيئة تحرير الشام، قال ترامب في السابع من ديسمبر 2024 إن “سوريا في حالة فوضى وهي ليست صديقتنا والمعركة ليست معركتنا فدعوها كما هي ولا تتدخلوا، دعوها تنهار”.

ترامب اعتبر أن ما يحصل في سوريا معركة لا تعنيه رغم وجود قوات أمريكية على الأراضي السورية منذ أعوام، ومهمتها الرئيسية حراسة قوات سوريا الديمقراطية- الفرع السوري لتنظيم PKK المصنف على قوائم التنظيمات الإرهابية الأمريكية، حيث بدأ التدخل العسكري الأمريكي المباشر في الشأن السوري في سبتمبر/أيلول 2014 بهدف معلن هو محاربة تنظيم الدولة، من خلال قيادتها لجهد دولي سُمي عملية “العزم الصلب”.

وفي تصريحاته في 31 يناير/كانون الثاني 2025، قال ترامب إن الولايات المتحدة “ستتخذ قرارا” بشأن القوات في سوريا، عقب تقرير إسرائيلي أفاد بأنه ينوي سحب القوات الأمريكية.

وقال ترامب للصحفيين في البيت الأبيض “لا أعرف من قال ذلك، لكننا سنتخذ قرارا بشأن ذلك. نحن لسنا متورطين في سوريا. سوريا في حالة من الفوضى. لديهم ما يكفي من الفوضى هناك. إنهم لا يحتاجون إلى مشاركتنا”.

وعلى مدى السنوات الثمان التي تلت تولي ترامب للرئاسة في المرة الأولى، حافظت واشنطن على وجودها العسكري، على الرغم من إعلان الرئيس ترامب خلال فترة حكمه الأولى القضاء على تنظيم الدولة.

وكانت الولايات المتحدة قالت لسنوات إنه يوجد لديها حوالي 900 جندي في سوريا، لكن البنتاجون اعترف في ديسمبر/كانون الأول الماضي بأن أعداد هذه القوات ارتفعت إلى حوالي ألفي جندي يتركزون شرق سوريا.

وكان ترامب خلال فترة رئاسته الأولى قد حاول سحب جميع القوات من سوريا عام 2018، البالغ عددها 2500، مما دفع وزير الدفاع السابق جيم ماتيس إلى الاستقالة. كما أعلنت حينها القيادة الوسطى العسكرية بأنه لا يوجد “تاريخ انتهاء” للتدخل الأميركي في سوريا.

ومن أبرز القواعد الأميركية في سوريا:

  • قاعدة كوباني أو عين العرب بريف حلب الشمالي.
  • قاعدة تل أبيض على الحدود السورية مع تركيا.
  • قاعدة رميلان شرق القامشلي.
  • قاعدة تل بيدر شمال محافظة الحسكة.
  • قاعدة الشدادي قرب مدينة الشدادي النفطية.
  • قاعدة عين عيسى شمال سوريا.
  • قاعدة التنف في أقصى جنوب شرق محافظة حمص في منطقة مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية.

وذلك فضلاً عن القواعد في الأردن والعراق بالقرب من الحدود السورية.

تعقيدات الملف السوري ويد واشنطن

فعلياً فإن تعقيدات الملف السوري لا تنتهي بسقوط نظام الأسد، وذلك تبعاً لعدة مؤشرات داخلية وتعقيدات خارجية مرتبطة بتداخل الملف السوري مع ملفات الإقليم بشكل متشابك إلى حد الترابط. ورغم رغبة الرئيس الأمريكي الجديد الانسحاب من الشرق الأوسط وتقليل التدخل الأمريكي في ملفات هذه المنطقة، إلا في سياق ما يخدم المصالح الأمريكية، إلا أن التعامل مع حكومة دمشق الجديدة، قد يكون بمثابة اختبار لسياسته في الشرق الأوسط.

ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية بعيدة عن الصراع الذي كان جارياً على الأراضي السورية من بوابة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، ودعم الانفصاليين الأكراد، وحماية إسرائيل. إلا أنها لم تتدخل بشكل فعليّ لإسقاط نظام الأسد، ولم تلعب دوراً حقيقياً في منع تغوّل المليشيات الإيرانية في سوريا. ويبدو أن الهدف الأمريكي غير المعلن من عدم التدخل المباشر في سوريا لإنهاء حالة الرعب التي كانت سائدة أيام النظام السابق، هو ما قاله ترامب بشكل فج في معرض تصريحه عن سوريا “المعركة ليست معركتنا.. دعوها تنهار”.

وإذا ما حاولنا الحديث عن الملفات التي تقايض حولها واشنطن في سوريا بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض كرئيس للمرة الثانية، فإن المعلومات المتوافرة لدينا تفيد بأن المقايضات الأمريكية تنحصر بالنقاط التالية:

  1. ملف العقوبات الأمريكية على سوريا وإمكانية رفعها.
  2. تصنيف هيئة تحرير الشام والرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع على قائمة الإرهاب.
  3. ملف إعادة الإعمار.

وتستخدم هذه المقايضات من قبل الولايات المتحدة في محاولة فرض إرادتها في الملفات التالية:

  1. أمن إسرائيل.
    1. عدم السعي لتصدير الثورة، وأمن الأنظمة في البلدان المجاورة.
    1. مألات اتفاقيات النظام السابق (مع روسيا، مع إيران، القواعد العسكرية، الديون، التوافقات الأمنية الدولية، إلخ).
    1. التفاهمات الجديدة (أزمة شمال شرقي سوريا بين حكومة دمشق وقسد، ووجود القوات الأمريكية وما له من ترابط مع ملفات إقليمية كالعلاقات الأمريكية مع تركيا، ملفات الأقليات، وشمولية الحكومة الجديدة، تواجد الأجانب في الإدارة السورية.. إلخ).

ولا يبدو إلى لحظة نشر هذه الدراسة أي بوادر أو مؤشرات على رفع قريب للعقوبات الأمريكية أو إنهاء التصنيف الإرهابي في سوريا. في حين تحتل قضايا التعامل مع قسد وإسرائيل الأولوية في التعامل الأمريكي مع الملف السوري.

يعزز من هذا الافتراض، قيام الولايات المتحدة بإبلاغ البعثة السورية في نيويورك، عبر مذكرة رسمية سُلّمت من خلال الأمم المتحدة، عن تغيير وضعها القانوني من “بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة” إلى “بعثة تمثّل حكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة”. وتضمنت المذكرة أيضاً تحويل تأشيرات أعضاء البعثة من فئة G1، المخصصة للدبلوماسيين المعترف بهم، إلى فئة G3 التي تُمنح لممثلي حكومات غير معترف بها.

القرار الأميركي أثار جدلاً حول الجهة المستهدفة به، سواء كانت بعثة النظام السابق بقيادة بشار الأسد أو الإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، وتشير التحليلات إلى أن هذه الخطوة تحمل أبعاداً رمزية قوية وتعيد تصنيف سوريا دبلوماسياً إلى موقع شبيه ببعثات فنزويلا أو طالبان في فترات سابقة. إضافة إلى ذلك، يُشار إلى دور لجنة أوراق الاعتماد في الأمم المتحدة (The Credentials Committee)، وهي لجنة تُنتخب سنوياً من قبل الجمعية العامة عند بداية كل دورة، وتُعنى بمراجعة شرعية تمثيل وفود الدول الأعضاء، خصوصاً في حالات سقوط الأنظمة أو التغيرات السياسية الكبرى. في الحالة السورية، وهو ما عبر عنه المتحدث السابق باسم الحكومة السورية بعهد بشار الأسد جهاد مقدسي، الذي أضاف أن اللجنة قامت بمراجعة وضع الوفد السوري ووجدت أن شرعية تمثيلهم باتت موضع شك نتيجة سقوط النظام السابق. وبناء على ذلك، قررت، ريثما يتم البت في الوفد الذي سيمثل الدولة السورية الجديدة، أن يتم تغيير وضع الإقامة القانونية لأعضاء الوفد الحالي وفقاً لقوانين الهجرة الأميركية، بما يشمل تقديم طلبات جديدة ومنحهم إقامات لا تتضمن حصانة دبلوماسية إلى حين تثبيتهم أو استبدالهم رسمياً. وعلى الرغم من الطابع التقني والإجرائي لهذا القرار، إلا أنه يحمل تداعيات سياسية حساسة تتقاطع مع مواقف الدول تجاه شرعية الحكم في سوريا. ([45])

نحن نرى أن كل هذه الخطوات تأتي في إطار ممارسة الضغوط على الإدارة السورية لكي تقبل ما يملى عليها من مطالب.

في السياق ذاته، أفادت تقارير بأن إدارة ترامب قدّمت شروطاً محددة لرفع العقوبات عن سوريا، دون اشتراط انسحاب القوات الروسية، مع تأكيدها على ضرورة اتباع نهج تدريجي في هذا المسار، مما يشير إلى استمرار التفاعل الأميركي الحذر مع الوضع السوري المعقد.

من وجهة النظر الأمريكية، وفيما يبدو لنا حتى الآن، أن استقرار سوريا ووحدتها تصب في المصلحة الأمريكية، حيث تريد أمريكا تهدئة الأوضاع في المنطقة وعدم فتح جبهات تؤدي إلى تورط الجنود الأمريكيين الموجودين في سوريا بالفعل في أية صراعات. تتعارض هذه الرغبة الأمريكية مع ما ترغب إسرائيل في رؤيته، من حيث بقاء سوريا ممزقة، وغارقة في الصراعات ومقسمة، بما يحيِّد أي تهديد مستقبلي منها تجاه إسرائيل. بذلك ستكون، فيما نرى، هذه نقطة خلاف بين أمريكا وإسرائيل في التعامل مع الملف السوري.

لم يتضح بعض حجم أو توقيت خروج القوات الأمريكية من سوريا، إن تم، لكن وردت بعض الأنباء عن عزم الإدارة الأمريكية إخراج هذه القوات تدريجياً، فيما عدا من قاعدة التنف ذات الأهمية الإستراتيجية لها.

بالنسبة لملف الجنوب المتاخم مع إسرائيل، فإن التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية، وما رافقها من تطورات ضمن المشهد الداخلي السوري، تمثلت بإعلان عدد من المسلحين تشكيل المجلس العسكري للسويداء (خارج نطاق الدولة). هذه الخطوة التي اعتبرت تمرداً من قبل جهات عديدة في سوريا، رافقها تصريحات لوزير الخارجية الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكد عدم سماح إسرائيل لدخول الجيش السوري الجديد أو عناصر من هيئة تحرير الشام إلى المناطق الجنوبية في سوريا، وأضاف أن إسرائيل ستقف أمام أي محاولة لتهديد الدروز في سوريا. هذه التطور من الممكن أن يلقي بظلاله كاختبار للسياسة الأمريكية في سوريا، إذا ما تصاعدت الأزمة بين حكومة دمشق وتل أبيب على خلفية هذه التطورات.

واشنطن وتركيا – قسد وداعش

في 10 مارس/آذار 2025، تم توقيع اتفاق تاريخي في دمشق بين الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، يتألف من ثمانية بنود رئيسية تهدف إلى دمج قسد في الجيش السوري الجديد ومؤسسات الدولة، مع التأكيد على أن المجتمع الكردي جزء أصيل من الشعب السوري. يشمل الاتفاق ضمان تمثيل كافة السوريين في العملية السياسية، ويضع أسس بناء الدولة السورية على الكفاءة، مع التأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم. كما يطالب بعودة كافة المهجَّرين السوريين إلى شمال شرقي سوريا، مع ضمان سيطرة الدولة على كافة المعابر الحدودية، المطارات، وحقول النفط. في المقابل، ينص الاتفاق على وقف إطلاق النار في كافة الأراضي السورية، وتوحيد كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في المنطقة التي تسيطر عليها قسد ضمن الهيكلية السورية الجديدة، ويشمل ذلك التنسيق مع الدولة السورية في مكافحة فلول النظام السابق. وقد تم تحديد لجان تنفيذية للإشراف على تطبيق بنود الاتفاق قبل نهاية العام الحالي.

على الرغم من هذا التقدم، يظل تنفيذ الاتفاق موضع شكوك بسبب لغة الصياغة العامة، التي قد تؤدي إلى صعوبات عند التطبيق. في الفترة السابقة، كانت قسد قد طالبت بحكم ذاتي في سوريا على أساس فيدرالي أو لا مركزي، بالإضافة إلى تمثيلها في قيادة الجيش، ما قوبل بالرفض من دمشق.

ويبدو أن الموقف المتراخي نوعا ما لقوات قسد عن موقفها السابق شديد التعنت الذي قادها إلى توقيع اتفاق مع الحكومة السورية، يأتي في سياقات داخلية وإقليمية ودولية، دفعتها للعب على عامل الوقت، وإظهار نوع من التنازلات، للوصول إلى تسويات ملائمة مع دمشق.

داخلياً، ساهم فشل العصيان المسلح في الساحل غربي البلاد والذي قاده متمردون من “فلول” النظام السابق، في تعزيز موقف الدولة السورية، مما جعل القوى الانقسامية في شرق سوريا تعيد حساباتها، خاصة مع أنباء تواردت حول تنسيق محتمل بين فلول الأسد وقوات سوريا الديمقراطية شرقي البلاد، والانفصاليين الدروز في جنوبها، على إعلان كل منهما الانفصال في مناطقه عن الدولة السورية في حال نجح الانقلاب.

أما السياقات الإقليمية فتتعلق أولاً بموقف تركيا، التي تحشد قواتها على الحدود الجنوبية الشرقية مع سوريا، استعداداً للبدء بمعركة “اجتثاث” للقوات الكردية، إذا ما انهارت المفاوضات ووصلت إلى طريق مسدود. إلا أن التريث من الجانب التركي له أهداف دبلوماسية أيضاً تتعلق بمحاولة الحزب الحاكم حل المسألة الكردية في الداخل التركي بطريقة أقرب للسلمية، على وقع المفاوضات التي تجري مع زعيم التنظيم عبدالله أوجلان في محبسه في جزيرة إميرالي التركية، والتي أفضت إلى نداء أطلقه عبدالله أوجلان عبر رسالة أرسلها إلى حزب العمال الكردستاني، طالب فيها الحزب بإلقاء سلاحه والانخراط بمفاوضات مع الحكومة التركية.

أوجلان ذاته كان قد بعث برسالة إلى قسد “لم يعرف فحواها” وفق ما أعلنته عائشة غول المسؤولة في حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” في تركيا، إلا أن التأكيدات دارت حول توافق فحوى رسالة أوجلان إلى قسد، مع الاتفاقية التي وقعتها مع الحكومة السورية بدافع إنهاء التمرد في كل من سوريا وتركيا على حد سواء.

وفي السياق الدولي فإن سعي إدارة ترامب إلى تخفيف الأعباء عنها في الشرق الأوسط، دفع بـ  القائمة بأعمال السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة دوروثي شيا بالقول أمام مجلس الأمن، إن المساعدات الأميركية لإدارة وتأمين معسكرات في شمال شرقي سوريا تضم ​​سجناء مرتبطين بتنظيم “داعش”، لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، وهو ما يمكن اعتباره من قبل الإدارة الكردية منطلقاً للتخلي الأمريكي عن دعمها، ويدفعها للبحث عن تحالفات أخرى بعيدة عن واشنطن من الممكن أن تتمثل بطهران أو موسكو، وكسب الوقت مع حكومة دمشق.  كما يمكن للتفاهمات بين أنقرة وواشنطن، أن تدفع الأخيرة للتخلي عن قوات قسد، مقابل عدم إثارة أي أزمات في العلاقات الأمريكية التركية.

وهنا فإن سياسة واشنطن تجاه الملف الكردي في سوريا سترتبط بعاملين:

الأول: الحفاظ على تحالفاتها الاستراتيجية مع أنقرة وعدم الدخول في أزمات تتعلق بمستقبل الأكراد معها، والثاني: هو في رغبتها تخفيف أعباء الملف السوري عنها. لكن هذا لا يعني بأي حال سحب القوات الأمريكية بشكل نهائي من سوريا وهو ما لا يلوح حالياً في الأفق، ونرى أنه يمكن لواشنطن أن تسحب جزءاً من قواتها مع إبقاء جزء آخر متمركز بحجة منع عودة تنظيم داعش مجدداً إلى الواجهة، فضلاً عن البقاء في قاعدة التنف كما ذكرنا سابقاً.

كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن الجيش الأميركي لعب دوراً محورياً في الوساطة بين الحكومة الانتقالية في سوريا وجماعات مسلحة، بهدف تحقيق استقرار سياسي ومنع اندلاع صراع جديد. ووفقاً لما نقلته الصحيفة عن ضباط أميركيين، فإن القوات الأميركية المنتشرة في سوريا، والتي تركز على مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، ساهمت في تسهيل المحادثات بين الحكومة الجديدة في دمشق والمقاتلين الأكراد المدعومين من واشنطن. كما شجعت الولايات المتحدة “جيش سوريا الحرة”، الذي يتعاون معها في جنوب شرق سوريا بالقرب من قاعدة التنف، على التوصل إلى اتفاق مع الإدارة السورية الجديدة، مما يعكس جهوداً أميركية لضمان نفوذها في رسم مستقبل البلاد.

وتهدف هذه التحركات، وفقاً لمصادر عسكرية أميركية، إلى تثبيت الاستقرار ومنع سوريا من الانزلاق مجدداً إلى أتون الحرب الأهلية، وهو ما قد يعقّد الجهود الدولية لمكافحة تنظيم داعش. كما تسعى الولايات المتحدة من خلال هذه الوساطة إلى ضمان حضورها في أي تسوية سياسية مقبلة، مما يمنحها تأثيراً مباشراً على مسار الأحداث في سوريا. ورغم هذه التقارير، رفضت القيادة المركزية الأميركية التعليق على دور واشنطن في المفاوضات، بينما لم تصدر الحكومة السورية ولا قوات سوريا الديمقراطية أي تصريحات حول التدخل الأميركي في هذه المحادثات.

الدور التركي في سوريا هو بالتأكيد من أهم محددات العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا، إلا أنه هناك أدوار اً أكثر أهمية لتركيا بالنسبة للإدارة الأمريكية، أهمها بالطبع مكانة الجيش التركي في الناتو كثاني أقوى جيش بعد الجيش الأمريكي. هذا قد يساعد الولايات المتحدة على التخفف من أعباء حمايتها الأمنية لأوروبا، وترك المجال لتركيا للعب دور مهم في المنظومة الأمنية الأوروبية مستقبلاً. أوروبا تدرك ذلك بالفعل ولذلك دعت تركيا للمشاركة في القمة الأمنية الأوروبية التي عقدت في بريطانيا مؤخراً، كما نقل عن الرئيس أردوغان تصريحات إيجابية نحو الاستعداد للقيام بهذا الدور. قد تستفيد تركيا بذلك في دفع ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي إلى الواجهة مرة أخرى، فضلاً عن تكريس المكانة الإقليمية والدولية لتركيا في المنطقة وفي العالم بشكل عام.

العلاقة في العموم جيدة بين الرئيسين ترامب وأردوغان، مما سيسهل فتح أفاق تعاون كبيرة بين البلدين، وبما يعطي تركيا أدواراً مهمة في المنطقة بدعم أمريكي. ذلك ما لفت إليه ويتكوف أيضا في حديثه مع كارلسون، حيث قال أن العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة تشهد تطوراً إيجابياً في ظل هذه الظروف، وأن الحلول السلمية والتعاون المستمر قد يسهمان في تقليل حدة التوترات التركية الإقليمية. لكنه لفت في الوقت نفسه إلى أن تركيا، مثل غيرها من الدول الإقليمية، تواجه تحديات اقتصادية وسياسية داخلياً نتيجة للأحداث في المنطقة، مما يجعل إدارة أردوغان تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية في ذات الوقت. كما عبر عن قلقه من أن الأوضاع في تركيا، بسبب توتراتها الإقليمية، قد تؤدي إلى أزمة سياسية أكبر في المستقبل. حيث يمكن لأردوغان أن يجد نفسه في موقف صعب، مع تصاعد الانتقادات الداخلية لسياساته.

ترامب ودول الخليج

لم تكن الفترة الأولى لرئاسة ترامب سيئة بالنسبة لدول الخليج، على العكس، فلقد  كانت العلاقات بين ترامب وكل من السعودية والإمارات والبحرين وثيقة للغاية، مما يجعل هذه الدول الأكثر تفاؤلاً بفوزه مجدداً. أسلوب ترامب الشخصي والبراجماتي في التعامل مع السياسة الخارجية كان متماشياً مع الطريقة التي يدير بها مسؤولو الخليج علاقاتهم الدولية، وهو ما عزز التواصل المستمر بين الجانبين حتى بعد مغادرته البيت الأبيض.

ويرتبط ما يريده ترامب من دول الخليج بعاملين مهمين: العلاقات الاقتصادية الوثيقة والتي تعود بالفائدة على المصالح الأمريكية و “الترامبية” الشخصية على حد سواء، وما يمكن أن يحققه ترامب من مكاسب من هذه الدول على غرار فترة ولايته الأولى. تجدر الإشارة إلى علاقات الشراكة المباشرة بين جاريد كوشنر، صهر ترامب، وبعض الجهات الخليجية السعودية والإماراتية، والتي تشكل العمود الفقري المالي لاستثمارات عائلة ترامب، بعد الأزمات المالية التي تعرضت لها منذ سنوات. ولعل ذلك هو سبب عدم التحاق كوشنر بإدارة ترامب رسمياً في الفترة الرئاسية الثانية، على غير ما حدث في الفترة الأولى، وذلك لكي يتفرغ لإدارة هذا الجانب الاقتصادي الهام، والذي من المؤكد سيكون له انعكاسات سياسية أيضاً.

أما العامل الثاني وهو ضمان تنفيذ أجندة ترامب في الشرق الأوسط المتعلقة بإتمام اتفاقيات أبراهام وعمليات التطبيع العربية مع إسرائيل، ما يضمن تحقيق فرص السلام كما يراها ترامب وإدارته من خلال تحقيق أمن إسرائيل وبشكل رسمي.

إلا أن هناك قلقاً خليجياً بشأن مدى قدرة ترامب على الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، خاصة مع التغيرات الكبرى التي شهدتها خلال السنوات الماضية. على سبيل المثال، تغيرت سياسات الخليج تجاه إيران، حيث انتقلت دول مثل السعودية والإمارات من دعم سياسة “الضغط الأقصى” التي تبناها ترامب خلال فترته الأولى، إلى اتباع نهج أكثر دبلوماسية للتعامل مع طهران وهو ما أفردنا له دراسة نشرت في المعهد المصري للدراسات في 19 نوفمبر 2024. ([46])

المملكة العربية السعودية من جهتها أكدت على لسان وزارة خارجيتها في الخامس من فبراير 2025، أنها لن تقيم علاقات مع إسرائيل من دون إنشاء دولة فلسطينية. وقالت وزارة الخارجية السعودية في بيان “تؤكد وزارة الخارجية أن موقف المملكة العربية السعودية من قيام الدولة الفلسطينية هو موقف راسخ وثابت لا يتزعزع، وقد أكد الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، هذا الموقف بشكل واضح وصريح لا يحتمل التأويل بأي حال من الأحوال”.

وقالت الخارجية السعودية في البيان إن المملكة تؤكد “ما سبق أن أعلنته من رفضها القاطع المساس بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، سواء من خلال سياسات الاستيطان الإسرائيلي أو ضم الأراضي الفلسطينية أو السعي لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه.. وتؤكد المملكة أن هذا الموقف الثابت ليس محل تفاوض أو مزايدات”.

لذلك حتى إذا أراد ترامب البناء على اتفاقيات أبراهام التي أرست التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية، فإن السعودية، كما في مواقفها المعلنة حتى الآن، لن توافق على تطبيع رسمي مع إسرائيل دون تقديم تنازلات بشأن القضية الفلسطينية، خاصة في ظل الرفض الإسرائيلي الحالي لفكرة إقامة دولة فلسطينية.

في ظل نهج ترامب الذي يمزج بين الأعمال والسياسة، قد تعتمد سياساته في الشرق الأوسط على المصالح الاقتصادية والمساومات السياسية. ومع غياب رؤية أمريكية شاملة للمنطقة، قد تجد الدول الخليجية نفسها مضطرة لتنويع تحالفاتها والبحث عن شراكات أعمق مع الصين وروسيا، بل وحتى إيران، في حال لم تقدم إدارة ترامب الضمانات التي تسعى إليها، مما يجعل العلاقة متاحة بين الشد والجذب.

إلا أن الجانب الهام والجديد نسبياً، هو إفساح الولايات المتحدة المجال للمملكة العربية السعودية للقيام بأدوار هامة على المستوى الدولي والإقليمي. من أهم ما قامت به المملكة مؤخراً استضافة ورعاية حوار ومفاوضات حول القضية الأوكرانية، والوساطة لإطلاق سراح المعلم الأمريكي مارك فوجل  المسجون لدى روسيا، بالإضافة في قيام ولي العهد السعودي بالتفاوض على أكبر عملية تبادل أسرى بين الولايات المتحدة وروسيا منذ الحرب الباردة، وذلك في أغسطس آب 2024. وتضمنت تلك الصفقة، التي أُعد لها في سرية لأكثر من عام، 24 سجينا، 16 منهم نُقلوا من روسيا إلى الغرب، وبينهم الصحفي الأمريكي إيفان جيرشكوفيتش، وثمانية أُعيدوا إلى روسيا من الغرب.

ومن الواضح أن إدارة ترامب تولي الدور السعودي أهمية كبيرة في استراتيجيتها في المنطقة، سواء لأسباب إقتصادية أو سياسية لدفعها في طريق التطبيع مع إسرائيل، ما يجعل الولايات المتحدة مطمئنة للقيادة المستقبلية للمنطقة بعد مغادرتها، وذلك بإدارة إسرائيلية وأموال سعودية.

الخلاصة

عملنا في هذه الدراسة على تتبع الملامح الرئيسية لتوجهات السياسة الداخلية والخارجية في إدارة ترامب الجديدة، وذلك بغرض استكشاف أهم تداعياتها على الولايات المتحدة، وعلى العالم بشكل عام، وعلى منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، في المرحلة المقبلة. ونظراً لأن هذه الفترة الثانية لولاية ترامب، بعد فجوة فاصلة مدتها 4 سنوات عن إدارته الأولى، فقد وفر ذلك الكثير من المعطيات للمهمة التي اضطلعنا بها في الدراسة، سواءً بدراسة توجهات ترامب في الفترة الرئاسية الأولى، أو أهم عناصر الخطاب الذي استخدمه أثناء الحملة الانتخابية الثانية، أو الشخصيات الأساسية التي اختارها ترامب في فريقه الرئاسي الجديد، أو فترة الأسابيع الأولى من رئاسته الثانية، والتي اتخذ فيها الكثير من القرارات الرئاسية في إطار الوعود التي كان قد قدمها، فضلاً عن التصريحات والأعمال التي قام بها خلال هذه الفترة.

كنا قد أجرينا من قبل من خلال المعهد المصري للدراسات عدداً من الدراسات، تطرقنا فيها تفصيلياً للملامح الرئيسية لفترة رئاسة ترامب الأولى، وخرجنا من هذه الدراسات باستنتاج مفاده أن ترامب كان يحاول مواجهة ما يسمى “بالمؤسسة” في الولايات المتحدة، أو ما يطلق عليه هو وأنصاره “الدولة العميقة”، وذلك سعياً لفرض أجندته حول “أمريكا أولاً”، و ” جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، بناء على “القيم المسيحية” التي أهدرتها الإدارات الديمقراطية المدعومة من الدولة العميقة؛ هذه الأيديولوجية القومية الدينية، المطعمة بطبيعة ترامب الشخصية كرجل أعمال يجيد التفاوض و”عقد الصفقات”. وقد دعمت الرئاسة في ذلك الوقت أدوات ضعيفة من بعض الشخصيات والأدوات الإعلامية، مع دعم شعبوي كبير، لذلك لم تستطع تحقيق النصر على الدولة العميقة، والتي استطاعت خلال عدة أشهر فقط احتواء ترامب داخل إطارها، واستبدلت رجال ترامب برجال المؤسسة التقليدية مما أجهض محاولات ترامب في إحداث اختراقات تغير من طبيعة تلك المؤسسة.

إلا أننا نرى أن الأمر قد اختلف مع الدخول في الفترة الرئاسية الثانية لترامب، فالمشروع لم يعد مجرد مشروع “ترامبي” تحركه طبيعة الرجل الشخصية وتوجهاته وأهواؤه، رغم وجود قدر لابأس به من كل هذا في المشروع، إلا أننا نرى أن هذه العوامل الشخصية ترجع بشكل أكبر ، وفي نفس الوقت تؤثر على، “طريقة الأداء” للوصول للأهداف، وليس على الأهداف والتوجهات نفسها؛ بمعنى أن هناك مجموعات وأصحاب مصالح وقوى نافذة، أقوى كثيراً من فريق ترامب في الرئاسة الأولى، تسعى لمنافحة سيطرة القوى التقليدية على مكامن القوة والنفوذ والقرار داخل “المؤسسة”، وتجعل من ترامب رمزاً لها، وواجهة وكذلك رافعة لتحقيق مشروعها.

هناك تركيبة غير متجانسة تمثل المجموعة الرئيسية الداعمة لترامب، لكن العناصر الأهم فيها تتمثل في عدد من البليونيرات ورجال الأعمال البارزين من الطبقة الأوليجاركية، الذين كونوا ثرواتهم في قطاع التكنولوجيا الحديثة بالأساس، أو في إدارة الأصول واستثمارات الآخرين، وتضخمت تلك الثروات بالمضاربات المالية وتضخم قيمة الأسهم في أوقات قياسية، ما أعطى لهم نفوذا كبيراً داخل وخارج الولايات المتحدة. هناك أيضاً غالبية القطاع المسيحي اليميني، صهيوني التوجه، الذي يعطي البعد العقائدي للتيار الترامبي. فضلاً عن التيار الشعبوي العام، الذي يتبنى سردية الماجا، بين الجماهير  المحبطة من عقود من التهميش والتراجع، وترغب في حدوث تغيير بناء على المبادئ الي يدعو إليها ترامب.

المشروع الذي يدعو إليه هذا الخليط، بقيادة أو رمزية ترامب، له توجهات رئيسة تهدف إلى إحداث تغييرات كبرى في السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، وذلك عن طريق استخدام القوة التنفيذية لإدارة ترامب، لتفكيك مكامن قوة المؤسسة الأمريكية على النحو الذي استفاضت الدراسة في شرحه. أهم ملامح السياسات الداخلية لمنظومة ترامب تتعلق بمحاربة الهجرة، وطرد المهاجرين غير الشرعيين، و”تطهير” مؤسسات الحكومة الفيدرالية وجعلها “أكثر كفاءة”، والتيسير المالي وخفض ضرائب الشركات لزيادة الأعمال وتوفير الوظائف، وفرض تعريفات جمركية ضخمة على سائر بلاد العالم، الحليف منها والخصم، لإخضاعها لقواعد جديدة في التجارة فيما بينها، ومحاربة التوجهات غير الأخلاقية الساعية لفرض المثلية الجنسية وحرية الإجهاض، مع استعادة النفوذ الروحي والقيم المسيحية، وضبط السياسات الصحية ومحاربة فساد وجشع شركات الأدوية، وصولاً إلى التراجع عن سياسات حماية البيئة من التغيرات المناخية وتشجيع استخراج النفط والغاز.

 هذه السياسات تستلزم بالضرورة خوض غمار صراعات داخلية طاحنة للتغلب على قوى المؤسسة التقليدية التي تدعم الوضع القائم، كما أن هناك صراعات مؤجلة داخل منظومة ترامب ذاتها نظراً للاختلافات البينة بين العناصر التي تشكلها.

الملمح الآخر المهم على الساحة الداخلية يتمثل في التراجع شديد السرعة في الحريات وفي السماح بالآراء الأخرى المخالفة، الأمر الذي كان يميز الولايات المتحدة من واقع أن هذه الحريات هي من صلب الحقوق الدستورية. تتراجع أيضاً الممارسات الديمقراطية، ويزداد الاعتماد على القوة التنفيذية للرئاسة في إنفاذ الأجندات المطروحة، ما يجعل السمت الأمريكي الديمقراطي تحت تهديد شديد.

بالنسبة للسياسة الخارجية وممارسة النفوذ الأمريكي، فتتخذ إدارة ترامب توجها يركز على تقوية الهيمنة الأمريكية على نصف الكرة الغربي، واستخدام هذه القوة في فرض النفوذ على العالم، ليس بأدوات القوة العسكرية الخشنة، ولكن باتباع سياسات الضغوط الاقتصادية القصوى، وفرض التعريفات الجمركية العقابية التي تجعل الأطراف الأخرى تستسلم أمام الإرادة الأمريكية. من الواضح أن إدارة ترامب تهدف إلى إحداث تغييرات جذرية في طبيعة النظام التجاري العالمي، الذي فرضته الولايات المتحدة نفسها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. تعمل الإدارة على محاربة وتفكيك أدوات العولمة ومؤسساتها، وكذلك على الانسحاب من المسئوليات التي تقتضى تحمل تبعات مالية ضخمة، سواء في المساعدات الخارجية أو النفقات الدفاعية عن الآخرين، على أساس أن الشعب الأمريكي أحوج ما يكون لهذه الموارد، بدلاً من إنفاقها على حماية أطراف يفترض أن تحمي أنفسها، أو  أن تطلب هذه الأطراف الدعم الأمريكي بعد سداد مقابله المالي، طبقاً لما يقوله ترامب.

في حقيقة الأمر تبدو هذه السياسات نابعة عن إدراك لعدم قدرة الولايات المتحدة على مواصلة تحمل تكاليف استمرار سيطرتها الإمبراطورية الكونية، وبذلك تتراجع لحساب ترك مساحات لقوى دولية وإقليمية أخرى لممارسة بعض النفوذ، مع محاولة وضعها تحت السيطرة عن طريق الضغوط الاقتصادية أو عقد الاتفاقات والصفقات معها. إضافة إلى ذلك فإن الأوليجاركية ذات القوة المالية الضخمة في منظومة ترامب، تسعى، عن طريق السياسات التي تفرضها الإدارة، لتحقيق أقصى قدر من الربح، في أي مكان في العالم، على ألا تتحمل أية أعباء أو مسئولية عن الآخرين، بل تهدف فقط للمزيد من مراكمة الثروة وممارسة النفوذ، سواء على الحكومة الأمريكية أو الحكومات الأخرى، أو على شتى مناحي الحياة في العالم، حتى لو كان ذلك ضد مصلحة الولايات المتحدة نفسها، أو على حساب نفوذها الدولي، إذا كان ذلك يزيد من انتقال الثروة ومراكمة أرباح ونفوذ هذه الطبقة.

الاختلافات الجوهرية بين معسكري المؤسسة التقليدية والمزيج “الترامبي” الجديد، تفضي، منذ اليوم الأول لتنصيب ترامب، إلى معارك طاحنة في شتى الملفات الداخلية والخارجية، سعيا لفرض الهيمنة من جانب التيار الجديد، أو مقاومة التغيرات من جانب التيار القديم. من المبكر الحكم على الكيفية والمألات التي سيحسم بها هذا الصراع الطاحن، إلا أنه من المؤكد أن هذا الصراع، مع تسارع وتيرة هدم المؤسسات الأمريكية التقليدية المؤثرة منذ عشرات السنين، سيترتب عليه خسائر كبيرة في قدرة الولايات المتحدة على القيادة والسيطرة، ودعم سياساتها داخلياً وخارجياً.

يضاف إلى ذلك، الأثار المدمرة على الأدوات التي سعت من خلالها الولايات المتحدة على الهيمنة الإمبراطورية على العالم في إطار الجهد المبذول من التيار الجديد لإنفاذ توجهاته. هذان العاملان، الصراعات الداخلية والتوجه نحو العزلة الخارجية، إضافة إلى التراجع الديمقراطي وعوامل التراجع الحضاري الأخرى المتنامية منذ فترة ، ستؤدي بالتأكيد إلى تراجعات حادة في القدرات الأمريكية على إنفاذ أجندتها العالمية، مقارنة بالنظام العالمي الذي صنعته أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن تفاعلاتها الداخلية وعزلتها الخارجية ستحولها بالتدريج إلى مجرد قوة إقليمية، تواجه قوى أخرى، دون القدرة على فرض هيمنتها الإمبراطورية التي سادت خلال العقود الماضية.

هذا النمط من التراجع، هو في واقع الأمر نفس نمط تراجع الحضارات الأخرى التي سبقت الولايات المتحدة، التي لا تشكل استثناءً عنه. فهل ستدفع الولايات المتحدة أخيراً ثمن قرونٍ من الممارسات الظالمة، بدءاً من تأسيسها باستخدام المذابح على حساب السكان الأصليين، مرورا بسياسات التفرقة العنصرية البغيضة، وصولاً إلى الهيمنة العولمية التي تستخدم في تكديس الثروة ومراكمة القوة العسكرية الجبارة، واستخدامها في قتل ملايين البشر، أو دعم القوى التي تقتلهم؟ هل يدرك من يخططون لمستقبل الولايات المتحدة والعالم الآن في عهد ترامب ذلك، وهل هم واعين لأثار ما يقومون به؟

وعلى الرغم من أن الهدف الكبير للتيار الجديد هو تقليل الصراعات العسكرية الدولية، والتركيز على أدوات الضغط الاقتصادي، فإن ممارسة هذه الأدوات ستؤدي بسرعة لانهيار وتفكك منظومة النظام العالمي بشكلها الراهن، حيث ستسعى القوى الأخرى لمواجهة الضغوط الأمريكية القصوى، وبالتالي لن يخرج من هذه المعارك طرف رابح، وسيتلو ذلك تداعيات اقتصادية وأزمات من الكساد الحاد، لن يمكن الخروج منها إلا بالعودة لفتح جبهات الحروب لإعادة عجلة الإنتاج للدوران والخروج من حالة الكساد، على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي من حروب اقتصادية وكساد مترتب عليها، ما أل بالعالم في نهاية المطاف لخوض الحرب العالمية الثانية! فهل ستدفع الممارسات الحالية العالم إلى الحرب العالمية الثالثة بنفس الأليات؟

وتمثل منطقة الشرق الأوسط، من وجهة نظرنا، استثناءً من توجهات السياسة الخارجية للتيار الترامبي الجديد، حيث تُظهر سياسات ترامب في الشرق الأوسط تحوّلاً جيوسياسياً عميقاً يهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الإقليمي بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيما إسرائيل. ويُعد اقتراح ترامب بنقل سكان قطاع غزة إلى دول مجاورة خطوة استراتيجية حادة تتجاوز حدود السياسة التقليدية، فهذه الخطة لا تسعى فقط لإنهاء الأزمة الإنسانية العاجلة بعد الحرب، بل تُستغل لتقليل الكتلة السكانية الفلسطينية في غزة، مما يُسهّل أمام إسرائيل المضي قدماً في مشاريع الضم والهيمنة على الأراضي الفلسطينية الأخرى مثل الضفة الغربية. في واقع الأمر، هناك تماهي كامل في السياسة الأمريكية مع التوجهات الإسرائيلية في القضية الفلسطينية، مع وجود توزيع للأدوار هدفه في النهاية تمكين العلو الصهيوني في المنطقة وضمان الهيمنة الإسرائيلية عليها بعد إنهاء أية مقاومة لذلك.

من جهة أخرى يشكل الملف النووي حجر الزاوية في سياسة ترامب مع إيران، إذ يُصر على منع إيران من الحصول على سلاح نووي بأي ثمن. هذا التصعيد لا يُستبعد أن يؤدي إلى مواجهة مباشرة بين طهران والولايات المتحدة، سواءً تحت تأثير الضغط الإسرائيلي، أو بدعم صقور الإدارة الأمريكية شديدي التشدد نحو إيران، مع تداعيات جيوسياسية تمتد لتشمل مواجهة القوى الكبرى مثل الصين وروسيا في المنطقة.

إن السياسة الخارجية الانعزالية التي يتبناها ترامب لا تجد صداها في منطقة الشرق الأوسط، بل على العكس، هناك ميل لاستمرار التدخل الصارخ، الذي قد يصل إلى الدخول في مواجهات عسكرية، بهدف التمكين للمشروع الصهيوني في الوصول لقيادة منفردة في المنطقة بشكل نهائي.

إن التحركات الجذرية مثل تهجير سكان غزة وتصعيد الضغط على إيران تحمل مخاطر كبيرة، فقد تؤدي إلى اندلاع نزاعات جديدة، وزيادة عدم الاستقرار الإقليمي، وتعميق الانقسامات بين الدول العربية. كما أن استخدام الضغوط الاقتصادية، حتى على الحلفاء، يمكن أن يؤدي إلى تقويض الاستقرار السياسي للدول. وبالرغم من أن هذه السياسات قد تحقق مكاسب على المدى القصير في إطار تأمين مصالح حلفاء الرئيس ترامب، إلا أنها تحمل في طياتها مخاطر تهدد استقرار الشرق الأوسط وتكرس تعميق الصراعات الإقليمية.

في نهاية المطاف، فإن كل ما استعرضته الدراسة من معلومات وتحليلات، تشي بأن العالم مقبل على حالة من التغيرات الكبرى المتسارعة، مدفوعة بالأساس بانفراط عقد النظام العالمي القائم بقيادة الولايات المتحدة، وتردي الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية التي استمرت على مدى عقود. هذا بالتأكيد يدعو القوى المسحوقة في شتى أنحاء العالم، وفي القلب منها في منطقتنا العربية والإسلامية، لأخذ كل ذلك في الاعتبار، والبحث عن مخارج، ليس فقط للقدرة على الحياة في ظل صراعات لانهائية بين أطراف أخرى شرقاً وغرباُ، ولكن لنكون لاعباً مؤثراً على الساحة العالمية بما نمتلكه من قدرات ومقومات.


[1] قضية إبستين.. شبكة للدعارة بالقاصرات تورط فيها ساسة وأثرياء أميركيون وإسرائيليون. (2024, February 12). الجزيرة

[2]One nation under blackmail Vol 1 Whitney Alyse Webb. Trine Day

[3]One nation under blackmail Vol 2  Whitney Alyse Webb. Trine Day

[4] د. عمرو درّاج. (2017, January 20). سياسات ترامب: ضد الإخوان أم ضد الإسلام؟. المعهد المصري للدراسات  /

[5] د. عمرو درّاج, & نبيل عودة. (2017, May 10). ترامب بعد مائة يوم: المسارات والسيناريوهات. المعهد المصري للدراسات

[6] د.عمرو درّاج, & نبيل عوده. (2017, May 31). العسكرة في إدارة ترامب: التوجهات والأولويات. المعهد المصري للدراسات/

[7] – د.عمرو درّاج. (2017, March 13). إدارة ترامب والفراغ في السياسة الخارجية الأمريكية. المعهد المصري للدراسات. 

[8] – د.عمرو درّاج. (2017, April 7). الضربة الأميركية: هروب ترامب إلى الأمام. المعهد المصري للدراسات

[9]ويتني ويب من وراء اختيار ترامب لمن سيشغل منصب نائب الرئيس المعهد المصري للدراسات(2024, July 29).

[10] – عمرو درّاج. (2025, February 5). إدارة ترامب والفراغ في السياسة الخارجية الأمريكية. المعهد المصري للدراسات. 

[11] –  Policy issues under the Trump administration, 2017-2021).

[12] قضية رو ضد وايد – ويكيبيديا. (2022, August 3)

[13]7 big issues at stake in the 2024 election. (2024, April 18).

[14] – راجع النشرات السابقة المنشورة في المعهد المصري للدراسات، انظر، انظر، انظر

[15] – صوفيا خوجاباشي. (2024, December 18). نحن والعالم عدد 28 نوفمبر

[16]مؤيد قوي لإسرائيل ويدعم الاستيطان.. ترامب يعيّن هاكابي سفيراً لدى تل أبيب. (2024, November 13).  العربية  TRT  

[17]ماذا يكشف اختيار بيسنت عن توجهات ترامب؟. (2024, November 25).

[18]علاقة شركات التكنولوجيا العملاقة بالدولة الأمريكية. (2017, December 5). رؤيا للبحوث والدراسات

[19]صوفيا خوجاباشي – نحن والعالم عدد 23 يناير 2025

[20]Steven Levitsky and Lucan A. Way. The path to American authoritarianism, (2025, February 24) – Foreign Affairs.

[21] – Huq, A. (2025, April 3). America is watching the rise of a dual state. The Atlantic. 

[22] – Davis, I. (2025, March 27). The dark MAGA Gov-Corp Technate — Part 1. Unlimited Hangout. 

[23]The Dark MAGA Gov-Corp Technate — Part 2. (2025, March 15). davidicke.com . 

[24] – Last, J. V. (2025, March 27). This is the land of wolves now. The Bulwark | Substack. 

[25] – عمرو دراج. (2021, October 25). ما بعد الهزيمة الأميركية في أفغانستان: المسارات المستقبلية للمنطقة العربية. المعهد المصري للدراسات. 

[26]Francis Fukuyama on the end of American hegemony. (2021, August 18). The Economist. 

[27] – هاني الفراش. (2025, January 20). الترامبية.. دليلك لفهم سياسة أميركا الخارجية. موقع الحرة.

[28]https://www.project2025.org/

[29]Trump’ın İkinci Döneminde DIS Politikası | Küresel Meseleler ve DIS Politika Öncelikleri. (2025, January 23). SETA. 

[30]دونالد ترامب 2.0: الثابت والمتحول في سياسة واشنطن الدولية. (2024, November 28).

[31]واشنطن بوست: ترامب يهدد دولة تلو الأخرى بالأسلحة الاقتصادية الأميركية. (2025, January 28).

[32] – “، Miran, Stephen. “A User’s Guide to Restructuring the Global Trading System” (PDF). Hudson Bay Capital.

[33] – Karma, R. (2025, March 24). The wild Trump theory making the rounds on Wall Street. The Atlantic.

[34]Steve Witkoff has no background in diplomacy but has turned out to be the most effective American diplomat in a generation. Here’s how he’s trying to resolve the conflicts in Gaza and Ukraine.

[35]صحيفة روسية: نائب الرئيس الأمريكي يمنح الاتحاد الأوروبي “علامة سوداء“. (2025, February 16).

[36] – محمد مكرم بلعاوي. (2025, February 16). الصعود الصيني ونهاية عصر أحادية القطبية | مجلة المجتمع الكويتية. Retrieved from

[37] – Sun, Y. (2025, March 12). China’s Trump strategy. Foreign Affairs. https://www.foreignaffairs.com/china/chinas-trump-strategy

[38]قيود جديدة على استثمارات بكين.. هل تتأثر مصر بالحرب التجارية بين أمريكا والصين؟- موقع بانكير

 (2025, February 23).

[39]سؤال وجواب.. لماذا يريد ترامب ضم جرينلاند؟ وهل يمكنه ذلك؟. (2025, January 10).

[40]كريس هيدجز: الإمبراطورية تدمر نفسها. (2025, February 11). المعهد المصري للدراسات

[41]إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية». (2025, March 12). الشرق الأوسط: تغطية شاملة لأخبار اليوم العربية والعالمية. 

[42]The Kathryn and Shelby Cullom Davis Institute for National Security and Foreign Policy at The Heritage Foundation. (n.d.). U.S.–Israel strategy: From special relationship to strategic partnership, 2029–2047. The Heritage Foundation. 

[43] –  Trump’s Gaza proposal rejected by Allies and condemned as ethnic cleansing plan. (2025, January 26).

[44] – Yuval Abraham. +972 Magazine (2023, October 30). Expel all Palestinians from Gaza, recommends Israeli gov’t ministry.

[45]https://x.com/Makdissi/status/1909076650119331913

[46] – د. عمرو دراج, & صوفيا خوجاباشي. (2024, November 18). العلاقات السعودية الإيرانية – الواقع واحتمالات المستقبل.


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


د. عمرو درّاج

سياسي وأكاديمي مصري، رئيس المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، وزير التخطيط والتعاون الدولي في حكومة الرئيس محمد مرسي، 2013.

صوفيا خوجاباشي

صحفية وباحثة في العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى