ترجمات الفكر السياسي عند كارل شميدت
لويزا أوديسيوس وفابيو بيتيتو
نقاشات الصديق والعدو، السياسي والحزبي، النظام والحرب والمجال الكبير
لتلخيص حياة كارل شميدت الطويلة سوف يبدو من الضرورة أن نتوّخى الحذر بخصوص الدعاية السياسية لخصومه ومؤيّديه والتعامل معها أيضا، هذا على الأقل بخصوص حياته المثيرة للجدل. وُلِد شميدت بضواحي مدينة بليتنبارغ الألمانية في 11 جويلية 1888 لعائلة فرانكو-ألمانية كاثوليكية تنحدر من وادي موسيل ((The Moselle Valley، درس القانون بجامعات برلين، ميونيخ وستراسبورغ، متخرِّجا سنة 1915. في سنة 1921 صار أستاذا بغريفسفالد، وهنا نشر كتابه “الدكتاتورية”(Die Diktatur)، تبعه عمل مؤثّر حول موضوع “الثيولوجيا السياسية” سنة 1922، وذلك حينما انتقل شميدت إلى جامعة بون.
لقد شهدت عشرينيات القرن العشرين دخول شميدت في نقاشات قانونية وسياسية تصاعدت وتيرتها مع الأزمات المختلفة لجهورية فايمار، عارض فيها الممارسة الشكلية والمعيارية القانونية كما يبدو ذلك واضحا في أعماله ككتاب “النظرية الدستورية (Verfassungslehre) سنة 1928. تنقّل شميدت بشكل متكرّر بين مؤسّساتٍ أكاديمية عدّة كما درّس بجامعة العلوم السياسية في برلين، لينتقل أخيرا إلى جامعة كولون أين نشر سنة 1932 نسخة موسّعة لكتيبه الذّي خطّه سنة 1927 والذّي حمل عنوان “مفهوم السياسي” (Der Begriff des Politischen).
عند الحديث عن دعم جمهورية فايمار، فقد إدّعى شميدت سنة 1931-1932 أنّ حزب العمّال الاشتراكي الوطني الألماني “النازي” قد تمّ قمعه كما تمّ الضغط على الرئيس الجمهوري بول هيندنبارغ حتّى يقوم بسجن قياداته، فلم يكن يصدّق كغيره من ممثلي حزب المركز الكاثوليكي الذّي ينتسب إليه أنّه بالإمكان احتواء النازيين داخل حدود حكومة ائتلافية في الوقت الذّي كان فيه الوسط الأكاديمي محقّا في إدانة عضوية شميدت في الحزب النازي شهر ماي 1933، وكذا محاولته في جعل نفسه الفقيه السامي “رجل القانون” للرايخ الثالث، بالإضافة أيضا إلى معاداته للسامية التّي تبدو جليّة في كتاباته، فقد كان النازيون أنفسهم يشكّون به، فمنذ سنة 1935 صارت نشاطاته وتدريسه مراقبا، وفي سنة 1935 قام الناطق الرسمي “للفيلق الأسود”The SS / Das schwarze Korps)) باستدعائه لمهمّة ما ترتبط بكاثوليكيته وانتقاداته المبكّرة للنظريات الراديكالية للحزب. أوقِف شميدت بين سبتمبر 1945 وماي 1947 لفترة وجيزة من قِبل السوفيات ثمّ من طرف القوات الأمريكية المحتلّة، وقد تمّ منعه من العودة إلى التدريس لِيُعاد بعدها إلى مدينته الأمّ بليتنبارغ.
في هذه الحقبة من حياته التّي أنتج فيها مؤلّفات مهمّة في السياسة والقانون الدولي على غرار كتابه “نوموس الأرض في القانون الدولي للقواعد الأوروبية العامة” سنة 1950 (Der Nomos der Erde im Völkerrecht des Jus Publicum Europaeum)، وكذا عمله اللاحق “النظرية الحزبية” (Theorie des Partisanen) سنة 1963. واصل شميدت السفر، الكتابة والنشر ليُشكّل بكامل مؤلّفاته ما يُمكن اعتباره الأرضية المؤثرّة لعدد من مفكري ما بعد الحرب على غرار رينهارد كوسليك، هانز مورغانثو، هانو كيستينغ ورومان شنار، بالإضافة إلى عدد من الوجوه الفكرية والثقافية البارزة للقرن العشرين كأرنيست يونغار، والتر بينجامين، ليو شتراوس، جاكوب توبيس وألكسندر كوجيف.
وصف شميدت نفسه بالفقيه القانوني والباحث الأكاديمي في مجالي علم القانون: القانون الدستوري والقانون الدولي، ويعّد كلاهما جزءا من القانون العام وكلاهما مثلما حاجج بذلك شميدت مُعرّضٌ للخطر القادم ممّا هو سياسي. بالنسبة له فإنّ هذا التعرّض يعني أنّه من غير الممكن أن يتّم فصل النظرية القانونية عن النظرية السياسية وبنفس الطريقة فإنّ فهم القانون الدولي لا يمكن أن ينفصل عن فهم التحليلات السياسية الدولية، هذا ما يمكن تسميته اليوم بالنظرية الدولية. في الحقيقة فإنّ فهم شميدت للقانون مختلفٌ جذرياً عن الفهم الوضعي والشكلي له والذّي يمكن القول إنّه هيمن على القرن العشرين بتيّاراته التعميمية التجريدية والتّي قدّمت تحليلات تجريدية للقانون الدستوري والدولي لا تحمل في النهاية أيّ معنى، إنّها خالية من الاشتباك الجوهري مع مواضيع حقيقية واقعية للسياسة الداخلية والدولية.
الفكر السياسي والدولي عند شميدت:
يعدّ الإنتاج الفكري لشميدت إنتاجا جدّ واسع وغزير النطاق، يمتد من القانون إلى الفكر السياسي إلى الفلسفة فالثيولوجيا، التاريخ فالجماليات. ويمكن أن تُصنّف كتاباته ضمن ثلاث محاور أساسية: الطبيعة الفلسفية للسياسة والسيادة، نظرية الدولة وأشكالها الحكومية، تاريخ ونظرية القانون الدولي. من المؤسف أنّه في الوقت الذّي كانت فيه كتابات شميدت السياسية والقانونية أثناء السنوات الأخيرة لجمهورية فايمار ذات تأثير واضح ومتنامي على النظرية القانونية والسياسية المعاصرة في العالم “المتحدّث بالإنجليزية”، قليلا ما أُشير لفكر شميدت الدولي في قارة أوروبا باعتباره تُحفة إنتاجه الفكري، فقد تمّ تجاهله من قِبل باحثي العلاقات الدولية إلى وقت متأخّر.
بالمناسبة فإنّ هذا الأمر يشرح جزئيا كيف أنّ أعمال شميدت المحورية بما فيها تلك المركِّزة على الجانب الدولي “نوموس الأرض” و”النظرية الحزبية” صارت مؤخّرا فقط متاحة بالإنجليزية. لكن هناك موضوع مشترك يربط هذه التحليلات ويُمثّل تصوّرات شميدت المركزية مثلما حاجج بذلك كارلو غالي سنة 1996، وهذا بالبحث عن نظام قانوني، داخليا ودوليا، قادر على الإجابة عن تساؤلات “مأساة الحداثة”، بعبارة أخرى نهاية الأساس غير القابل للجدل لشرعية الوحدة المسيحية القروسطية، وضرورة افتراض التعدّدية، النزاع والفوضى -السياسة كتعدّد- باعتبارها معطى أنطولوجي.
السيادة و”السياسي”:
في بداية العشرينيات، طرح شميدت في كتابه “الثيولوجيا السياسية” ما تمّ اعتباره كنظرية “تقريرية” للسيادة ((As a ‘decisionist’ theory of sovereignty تتلخّص فيما صار اليوم قولا مأثورا مألوفا: “من يحظى بالسيادة هو ذلك الذّي يقرّر أثناء الوضع الاستثنائي”. على عكس تنظيرات السيادة في العلاقات الدولية التّي تتماشى مع هذا الأمر بهدف التحكّم في الشعب، الإقليم وكذا الاعتراف الخارجي، فقد تجنّب شميدت أن ينسب محتوى ثابت لمفهوم السيادة.
ومثلما سجّل تراسي.ب. سترونغ في تصديره لطبعة 2005: “طبيعة السيد أو صاحب السيادة.. هي صناعة قرار حقيقي صريح إذا تعلّق الأمر بمسألة استثنائية”. تؤكد الاستثناءات اليوم من جديد القاعدة حينما يتّم تعليقها ووقفها: أو بالأحرى إنّها “تخلق نظاما قانونيا” خاصّة في اللحظة التّي يتّم تعليقها فيها. بعبارة سترونغ مرّة أخرى: “يجب أن يقرّر صاحب السيادة كلاًّ من الحالة الاستثنائية وماذا يجب أن نفعل بخصوص الاستثناء لنكون قادرين على خلق نظام قانوني أو استعادته حينما تُهدّد الفوضى ما هو موجود”. هذا ما يُطلق عليه جيورجيو أغامبين تسمية: “حالة ملئ وتعبئة القانون”. ومثلما يحاول هانز كيلسين تخليص القانون من وسائله الذاتية فإنّ شميدت يؤمن بشدّة أنّ “كلّ قانون هو قانون ظرفي”.
ولهذا، علاوة على ذلك: {ينتج صاحب السيادة ويتحكّم في زمام الوضع في شكله المطلق. إنّ له احتكارا على هذا القرار الأخير “المتعلّق بالحالة الاستثنائية” يقيم بذلك جوهر الدولة صاحبة السيادة “والتّي ينبغي أن تكون مُعرّفة قانونيا بشكل صحيح، ليس كمحتكر لأجل الإكراه أو التحكّم ولكن كمحتكر لأجل التقرير… إنّ القرار في هذه الحالة هو جزء من المعيار الشرعي. ولأجل “صياغة نقيضه” تثبت السلطة هنا أنّنا “لسنا بحاجة إلى الاستناد على القانون” حتّى ننتج قانونا “أي لأجل خلق نظام قانوني”}.
كان شميدت يهدف في دراسة “مفهوم السياسي” إلى توفير عبارات واضحة بخصوص مسألة التمييز والتّي تصف معنى “السياسي”، حيث يعتقد أنّ هذا التمييز قد ضمر بسبب هيمنة الفكر الليبرالي والممارسة الدولية في السنوات التّي أعقبت الحرب العالمية الأولى. فحسب شميدت: “فإنّ التمييز السياسي الأدّق الذّي يمكن من خلاله أن تكون الأفعال والدوافع السياسية قليلة هو ذلك الذّي يكون بين الصديق والعدو”. على الرغم من اعتماد كلّ تمييز على التمايزات الأخرى لأجل تقوية ذاته، فإنّ هذا التمييز: الصديق/العدو، عبر تحوّلاته السياسية، من الممكن أن يتأكّد بدون اللجوء إلى الاعتبارات الأخلاقية، الجمالية، الاقتصادية أو الاعتبارات الدينية، أيّا ما كان هذا العدو فهو ذلك الذّي يمكن أن يُقرَّر فقط عبر الحُكم إذا كان الآخر ينوي إلغاء نمط حياة خصمه، ولهذا السبب يجب أن يتّم صدّه”.
لقد تمنّى شميدت أن يدحض إمكانية تجاوز الحرب في العلاقات الدولية عبر إعادة مكانة ما هو سياسي من خلال تأكيد فهم السياسي “أي ما هو سياسي” في علاقته بالقرار 2005. أعاد شميدت تأكيده على القرار السياسي والذّي شعر أنّه يجب أن يبقي محافظا على تمايزاته النهائية حتّى تستطيع كلّ الأفعال ذات المعنى السياسي بشكلٍ خاصّ أن تُسَطّر من خلالها. يشير هذا التمايز: صديق/عدو، إلى درجة قصوى من الكثافة للوحدة أو الانفصال، من الارتباط “التلاحم” أو عدم الارتباط، وحدها تستطيع الجماعات السياسية التاريخية أو الراهنة بشكلٍ مهّم أن تُعدّ كأعداء إذا ما نُظر إليها بعين الحاضر كتهديد وجودي.
هذا ما يُقيّد ويحدّ من السياسي في هذه الآونة حينما يكون القرار السياسي بخصوص التمييز بين الصديق والعدو قد تمّ إعداده من قبل. إنّ التمييز بين الصديق والعدو لا يُقرَّر إلاّ في الحالة الشاذة المتطرّفة. وهذا الأمر يُعّد استثناء أكثر من كونه معيارا تقييميا. مرجعية شميدت لتحديد العدو العام – عدائي، ليس عدائي– تُقرَّر بواسطة قيادة الدولة (التّي تمتلك افتراضا مسبقا بمفهوم السياسي) حيث تقود إلى تجنّب أيّ ادعاءات هوياتية بخصوص العدو: “على أقل تقدير، يوجد العدو فقط حينما يقف أحدهم مقاتلا لجمعٍ من الناس، يواجه جمعا مماثلا”، فيُواجَهُ بإمكانية الموت أو القتل، بهذا المفهوم لا يمكن أن يكون الخصوم السياسيين أعداءً في أيّ يوم من الأيّام.
فمن خلال السماح للسياسي “ما هو سياسي” بأن يتحوّل عبر القرار بين صديق وعدو في الحالة الشاذة، يتحدّى شميدت بشكل كبير قدرة الممارسة الليبرالية للقانون واستقرار المؤسّسات الدولية على تعزيز السلام ومنع الحرب، وكذا تحسين وضع القيمة الإنسانية العالمية كثيرا. إذا كان التجاوز والتعالي ممكنا فإنّ السياسي “ما هو سياسي” سيكون مهدِّدا. الأمر الأكثر أهمية أنّ القرارات إذا لم تكن ممكنة، فلا يستطيع النظام القانوني، السياسي وكذا الدولي أن يكون مُنتجا أو مستداما. هذه هي حجج شميدت بخصوص استحالة أو في الحقيقة أخطار السياسة، التّي تهدف إلى “التخلّص من السياسة ذاتها”، والتّي أثّرت بدورها على محاولات كلّ من واقعية القرن العشرين وكذا ما بعد الماركسية مؤخّرا الهادفة للتفكير من جديد في مسألة العداوة الاجتماعية ((Social antagonism أو النزعة الأغونيزمية (Agonism) (التّي تحاجج بأهمية النزاع في السياسية وترى بإمكانية وجود جانب إيجابي في النزاعات أيضا) إضافة إلى إعادة التفكير في إطار المضمون السياسي للنيوليبرالية.
التأريخ لويستفاليا:
لقد كتب شميدت “نوموس الأرض” في الوقت الذّي كان يؤمن أنّ “ويستفاليا” (هذا النظام القانوني والسياسي العالمي أو “نوموس الأرض” الذّي تجسّد في القواعد القانونية الأوروبية العامة) يعّدُ تجربة بالغة الأهمية. وبالنسبة له فإنّ عملية التداعي والسقوط المؤسف يُؤرَّخ لها حقيقةً منذ نهاية عقد القرن التاسع عشر إلى بدايات الحرب العالمية الأولى. بدلا من ذلك فقد توّقع شميدت نشوء أخطار عديدة ناجمة عن التحوّل تجاه “النزعة التدخّلية الكونية” من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية كالتأثيرات المتعلّقة بتجريد وعولمة القانون الدولي “نظام دون أرضية مكانية واضحة”، تراجع وتضائل النزعة التعددية في النظام الدولي على غرار تصاعد الحرب الحزبية الطائفية والإرهاب.
بالنسبة لشميدت “النوموس” هو الفعل التأسيسي الذّي يخلق نظاما إقليميا محدّدا كنظام “شرعي” موحّد وكتوجّه مكاني. لم يكن بوسع مفهوم النوموس أن يفعل شيئا كبيرا مع فكرة الوضعيين عن القانون كأمر مجرّد، كترجمة حرفية سطحية يمكن أن تُقترح. بدلا من ذلك فقد اقترح مفهوم النوموس الذّي وضعه شميدت أنّ كلّ نظام قانوني هو أوّلا وقبل كلّ شيء نظام مكاني أُسّس من قِبل فعلٍ أو عملية استيلاء مكانية على الأرض”، لذلك “فكل قانون يكون قانونا فقط في وضعية محدّدة”.
علاوة على ذلك، فإنّ التنظيم المكاني للأرض يمكن أن يحدث فقط مع ظهور وبروز “التفكير العالمي الخطّي”، خصوصا مقاربة الحداثيين للمجال، التوّجه والقياس. فوحدها القواعد القانونية العامة الأوروبية بإمكانها أن تظهر كأوّل نوموس للأرض، فالتنظيم الأول للأرض صار في الأفق ممكنا عبر الاكتشاف والاستيلاء القسري على العالم الجديد.
لقد ارتكز “تنظيم وإدارة” الأرض – قانونيا ومكانيا – بالضرورة على حدثٍ تاريخي مرتبط بالاستيلاء على الأرض، يبدو الآن كفعل مؤسِّس للقوة والذّي أنتج القواعد والقانون، فإذا كانت ويستفاليا تبدو كنظام جيوبوليتيكي فهي أيضا “مجتمع من الكيانات السياسية الموّحدة بقواعد مشتركة.. أُعِدّت لتكون ارتباطا ملزما متبادلا لإدارة الشؤون الدولية”. مثل هذا المفهوم وضع تصوّرا للمجتمع الأوروبي الدولي الحديث، حسب الوصف الواسع للعقلانيين وتقاليد المدرسة الإنجليزية في العلاقات الدولية، إنّها إمكانية لبداية فهم ما كان يجول بذهن شميدت. لقد عرّف هيدلي بول في الحقيقة مجتمع الدول “كمجموعة دول تُقدِّم وتُصوّر نفسها لتكون ملتزمة بمجموعة معيّنة من القواعد في علاقاتها ببعضها البعض”.
وبينما فهم كلّ من بول وآدام واتسون توسِعة المجتمع الأوروبي الدولي باعتباره الذروة من حيث عالميته في القرن العشرين، فإنّ ويستفاليا بالنسبة لشميدت لهي نظام عالمي في مراحله الأولى، لأنّ أصوله والشروط الجدّ متاحة التّي يوّفرها قد ارتبطت باكتشاف عهد جديد لعالم جديد “كفضاء أو مجال” حرّ، نطاقٌ قد بدا مفتوحا أمام التوسّع والاحتلال الأوروبي.
بعد سنة 1492 بقليل، وفي الوقت الذّي خُطّت فيه الخرائط والعوالم الأولى، فقد رُسمت أيضا الخطوط الأولى من طرف القوى الأوروبية المستولية لتوزيع وتقاسم المجال العالمي الجديد. كشف شميدت كيف أنّ الخطوط العالمية الأولى، المملكة الإسبانية-البرتغالية (معاهدة تورديسيلاس 1494) كيف كانت توّزع وتقسّم الغايات ممّا يعني أنّها كانت تهدف إلى إحداث تقسيم داخلي للأراضي الجديدة إلى قسمين من الأراضي المستولَى عليها من قِبل الأمراء المسيحيين بما فيها النظام المكاني للجماعة المسيحية. وقد كانت مصونة من قِبل السلطة المشتركة للبابا كزعيم للكنيسة الكاثوليكية بروما. لقد استقرت “خطوط الصداقة” الفرنسة-الإنجليزية اللاحقة مع معاهدة كاتو كامبريسيس 1559، حيث ارتكزت على أسس متباينة كلّيا مجسِّدةً وثيقة محتضرة. لقد وضعت جانبا مساحتين متمايزتين اعتبرتا كفضاءات حرّة أو مفتوحة: الكتلة الأرضية للعالم الجديد من جهة والتّي لم تُعتبر كملكية للسكان الأصليين، ومن جهة أخرى ترسيم الخرائط الجديدة للمياه أي البحار الصالحة للملاحة، وفي كلتا أنماط “الفضاء المفتوح” بإمكان القوى الأوروبية المستولية أن تستعمل القوة البحرية وعبر القهر أيضا، حيث كانت هذه المساحات مخصّصة لاختبارات حاسمة للقوة.
على هذا المنحى انتهت أوروبا وبدأ العالم الجديد. على كلّ حال انتهى هنا القانون الأوروبي أي القانون الأوروبي العام.. فيما وراء ذلك، كانت هناك منطقة “فيما وراء البحار”، ونظرا لعدم وجود أيّ حدود قانونية للحرب، فقد كان قانون القوي لوحده ساري المفعول، كما يقول شميدت.
لقد شرح شميدت بوضوح كيف برزت الحاجة للتبرير الشرعي القانوني والسماح بالاستيلاء على هذه الأراضي فيما وراء “الأفق” على غرار تنظيم البحار، والتّي قادت إلى خلق ويستفاليا، النوموس الأوروبي الأوّل والذّي يُعّد بحقّ الميزة الجيوبوليتيكية العالمية الأولى.
حاجج شميدت بعدها لأجل تاريخٍ للسياسة الدولية الحديثة والذّي لا تنفصل بدايته عن صعود النزعة العقلانية العلمية وحسب، ولا حتّى عن تاريخ انتشار الرأسمالية كما تؤكّد الروايات الأكثر شيوعا للحداثة، ولكن أوّلا وقبل كلّ شيء فإنّ هذا التاريخ لا ينفصل عن بداية عملية الاستيلاء على أرض العالم الجديد من قِبل القوى الأوروبية. لكن وخلافا لذلك، فإنّ الأراضي الويستفالية المستولى عليها وعملية التحكّم في المياه الصالحة للملاحة وما خلقته من مركز (الأرض الأوروبية) وهامش (الفضاء الحرّ للعالم الجديد)، هي أمور أساسية لفهمنا لويسفاليا كنظام للعلاقات وأيضا لفهمنا تلك الإمكانية الكبيرة المرتبطة بصعود هذا النظام.
بتسليط الضوء على النوموس بما يتضمنّه من مسارات ظهور الدولة الأوروبية الحديثة كوسيلة حاملة للعلمنة وعالميتها الجيوبوليتيكي وصفتها المناسبة أيضا، كلّها مسائل أتاحت لشميدت بأن يحدّد كيف أنّ هذا النظام البيني “بين الدول” كان قادرا على الحدّ من الحرب وكذا عقلنتها و”أنسنتها” على هذا النحو. لقد عنى شميدت بذلك أنّ ويستفاليا كانت ناجحة في الحدّ من الحرب مؤسّساتيا خاصّة على أساس ترسيم التمايزات الجيوبوليتيكية بين الفضاء الأوروبي والغير أوروبي. فلنفتح قوسين، حسب المعنى الواضح لهيجينغ Hegung)) لم يكن ترسيم حدود الحرب وحسب بل أيضا حفظ مستمر للحرب، تماما كأن يُقلّم أحدهم حدود زهرة ما في بستان، فإنّ السياسة بالأحرى أكثر من مجرّد فعل قانوني مذهل وفريد.
لقد قيّم شميدت هذا الحدث باعتباره إنجازا سياسيا وقانونيا كبيرا بفضله تمّ المحافظة على مسافة أمان من الحرب على التراب الأوروبي، يقول شميدت:
“بالمقارنة مع الحروب الدينية والطائفية الوحشية، والتّي تعدّ بطبيعتها حروب إبادة حيثُ يُعامل العدو كمجرم وكقرصان، وبالمقارنة مع حروب الاستعمار التّي تُخاض ضدّ الشعوب ‘الوحشية البربرية’، فإنّ الحرب الأوروبية بهذا الشكل دلّت على الإمكانية الأكثر قوّة لعقلنة وأنسنة الحرب”.
بالنسبة لشميدت، فإنّ هذا هو المكسب الأساسي “لويستفاليا” النظام البيني (فيما بين الدول) الذّي وُجد في أوروبا حتّى سنة 1914 تمّ بحثه من خلال قانونه الدولي “للحؤول دون حروب الإبادة، أي إلى حدّ اعتبار أنّ الحرب كانت أمرا حتميا لا مفرّ منه”. لم تسعَ ويستفاليا لإنهاء الحرب – كتلك المحاولات التّي هدفت مثلا لإلغائها، إبطالها أو إبعادها عن العلاقات الدولية– مثل تلك المحاولات التّي عُرضت بهدف إحداث أنماط جديدة أو ربّما حتّى بائسة للحرب كالارتداد إلى الحرب الأهلية وكذا أنماط حروب الإبادة الأخرى. لقد سعت بدلاً من ذلك لإيجاد طرق تتمكّن بواسطتها من قياس قوّة الخصم وذلك من خلال السعي عادة للاستيلاء على الأراضي في العالم الجديد أو من خلال خوض حروب محدودة على التراب الأوروبي، وأيضا من خلال الاعتراف بخصم الدولة الأوروبية كعدو يقف على قدم المساواة مع الآخرين.
لقد كان تطّور مفهوم العدو العادل· والمتساوي (The just and equal enemy/ justus hostis) مفتاحاً لمثل هذا الإنجاز، إذ تطوّر المصطلح جنبا إلى جنب مع توحيد الدولة الحديثة، لأنّه ومع هيمنة هذا النمط من الكيان السياسي وكذا ضعف السُلطة الأخلاقية للكنيسة فإنّ الحرب صارت غير تمييزية عنصرية، وقد انفصل بذلك من الأسباب الموضوعية الحقيقية للعدالة: “باعتبارات النتائج والمخرجات، فقد جاءت الحرب حتّى تكون منصفةً عادلة”، وأن تصير شكلا من أشكال العلاقات السياسية بين الدول كما يقول شميدت.
إنّ أيّ عدو كان له شكل دولة ما اعتبر عدوا عادلا، وبالتالي فبإمكان الحرب أن تُشّن ضدّه. لقد تفادى هذا التطّور حروبا تُشّن عن قناعة إيمان راسخ، عن مذهب ما أو عن دين، (يرتكز هذا الأمر على سبب عادل)، والتّي أنزلت تاريخيا الدمار وسمحت بإبادة العدو. بالنسبة لشميدت الذّي كان يعتقد أنّ الحرب كانت شيئا حتميا لا مفّر منه في الحياة السياسية للعالم، نظام الحرب هذا من دون سبب موضوعي حقيقي كان يعني ويتطلب “عقلنة، أنسنة وشرعنة الحرب”. إنّ رؤية العدو كشريك منصف ومساوي كان يعني أنّ هناك إمكانية لصنع السلام مع هذا العدو: “لا يتّم السعي إلى دماره النهائي المطلق ولكن كان النزاع معه نزاعا ممكنا ومنظّما”.
كنتيجة لذلك، فقد صارت الحرب “حربا مُهيّئة” كما يقول شميدت، بموجبه فإنّ العدالة لم تكن مُحدّدة لمدّة طويلة من خلال أسباب الحرب، ولكن من خلال صيغة ملائمة للأطراف المتحاربة، بعبارة أخرى فقد صارت الحرب شيئا شبيها بالمبارزة، نزاعا مسلحا بين أقاليم تميّز روح الجماعة الشخصية بما فيها ملامح القانون الأوروبي العام على حدّ تعبير شميدت. وقد رأى شميدت في مثل هذه الحروب نقيضا جدّ عكسيٍ للاختلال وللإنظام.
علاوة على ذلك، فإنّ مفهوم العدو العادل ((The just enemy يعني أنّ مثل هذا النظام من الحرب قد سمح لفعل المقاومة، الدفاع الذاتي وكذا الوازن، يجعلنا ذلك نقول إنّه بالقضاء على السبب العادل فإنّ العدو يكون عادلا بداهةً، كما يكون حقّه في الدفاع الذاتي والمقاومة معروفا. لقد أتاح هذا الأمر تنمية المؤسّسات الحيادية لطرف ثالث من الدول في القانون الدولي. تبقى حالة اللادولة والحرب الخاصّة لوحدها شيئا جائراً غير عادلٍ، فالمتمردون، القراصنة، الخارجون عن القانون، مثيرو المشاكل ومن ماثلهم، من الممكن أن يُتعامل معهم عبر إجراءات عقابية جزائية بالمعنى الذّي يشير إليه القانون الجنائي الحديث أو إجراءات التنظيم. بالإضافة إلى ذلك فقد أتاحت القواعد القانونية الأوروبية بناء وحفظ التوازن، كما يُحاجج شميدت، والذّي عُرف في العلاقات الدولية “بتوازن القوى”. يرتبط ذلك بتجنّب حروب الدمار لأنّه وإذا كان التوازن هدفا سياسيا وعسكريا فمن الممكن أن تقّل الحروب لأجل المحافظة عليه. خلافا لحروب الأسباب العادلة التّي تتطّلب إمّا إذعان الخصم أو إعادة تمدينه إمّا معياريا وإمّا بالقوة. لقد مثلّت مؤتمرات السلام التّي أُبرمت تحت إشراف القوى الكبرى مسألة المَأسَسَة الشرعية لصرح القانون الدولي الأوروبي، وقد بُني توازن القوى على مبدأين أساسيين، أوّلا كلّ حرب ذات أهميّة بين الدول الأوروبية تُمثّل قلقا مشروعا لجميع أعضاء مجتمع الدول الأوروبية. وثانيا، يقع على كاهل القوى الكبرى مهمّة ضمان الانتظام المكاني الأوروبي بهدف إدراك التغيّرات الإقليمية ذات الصلة، مثلما يُحاجج شميدت.
أزمات ما بعد ويستفاليا: العدو، النظام والحرب:
في أواخر عقود القرن التاسع عشر دخلت القواعد القانونية الأوروبية العامة سنواتها الأخيرة، لقد شخّص شميدت نهاية النوموس الأوّل للأرض في ثلاث عمليات أساسية: تطوّر القواعد القانونية الأوربية العامة إلى قانون دولي عام هُلامي، وكذا تمّ مأسسته في نظام عصبة الأمم، تحوّل مغزى الحرب، الدور الجديد للولايات المتحدة وبروز مجال النصف الغربي من العالم كمجال مركزي بالنسبة لخطابه المتعلّق بالسياسة الخارجية. نضيف إلى جانب كلّ هذه العمليات التّي قادت إلى تحوّلات تاريخية أساسية وصنعت عهدا جديدا: نهاية أوروبا كمركز للأرض. ففي القرون الماضية قامت المؤتمرات الأوروبية بتحديد معالم النظام المكاني للعالم بعد الحرب العالمية الأولى ومثلما حدث في مؤتمر باريس للسلام، لأوّل مرّة كان العالم هو الذّي قرّر بشأن النظام المكاني لأوروبا.
حسب شميدت، فقد فشل نظام عصبة الأمم في تعويض القواعد القانونية الأوربية العامة نظرا لكونه بُني على حالة قصوى من الاختلال غير المستقر، صُنع بشكلٍ واضح جليّ من قبل الجميع فيما يخصّ طريقة تعامله مع موضوع الحدّ من الحرب، ذلك المقصد المركزي من أيّ قانون دولي. لقد صار هدفه المركزي هو القضاء على الحرب بدلاً من الحدّ منها، من خلال تقديم المصطلحات الجديدة للحرب العنصرية-التمييزية والنظر إلى الحرب باعتبارها جُرما. كانت هذه محاولات لأجل تجريم حروب الاعتداء، لأجل خلق محكمة دولية والمطالبة بإصلاح الأضرار الناشئة عن المسؤولية الشرعية لشن حرب عدوانية غير عادلة، إنّ كلّ ذلك يؤشر لحدوث تحوّل تاريخي فيما يخّص مفهوم الحرب والعدو. كما يشير ذلك بما لا يدع مجالا للشك إلى نهاية عهد نوموس الأرض القديم. لقد صارت النتائج واضحة في بروز حروب القرن العشرين المطلقة، حروبٌ طائفيةٌ تُخاض باسم الإنسانية، والتّي كان لها أن تكون شاكرة لوسائل الدمار الحديثة “كالقوة الجوية”، متحوّلةً إلى “إجراءِ شُرطة تدخّلي”· (Police action) في مواجهة “مروّجي” السلام، المجرمين وكذا الخارجين عن القانون.
هذا التحوّل من الحرب إلى إجراءِ شرطة تدخّليٍ، صار موضوعا متناقشا حوله كثيرا اليوم في إطار مضمون الحرب العالمية على الإرهاب، لم يكن هذا الأمر متاحا وممكنا لولا الدور التأسيسي الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، والذّي حللّه شميدت من خلال النظر إلى مجال نصف الغربي للعالم باعتباره مجالا مركزيا لخطاب سياستها الخارجية، لقد مثّل النصف الغربي للكرة الأرضية الفضاء الأمريكي العظيم منذ الصيغة الشهيرة لمبدأ مونرو الشهير سنة 1823 “الغروسروم/المجال الكبير بتعبير شميدت Grosraum))، معرِّفا القارة الأمريكية كمجال حيوي مكاني للولايات المتحدة الأمريكية. بمفهوم “التفكير الخطّي العالمي”، فإنّ خطّ نصف الكرة الغربي يعتبر خطّا دفاعيا حول منطقة أمنية وخطّا للعزلة الذاتية، كما أنّه أيضا خطٌّ مناهضٌ للأوروبيانية ارتكز على ازدراء أمريكي لأوروبا القديمة “المعطوبة”. لكن وخلال سنوات الحروب البينية والتّي انتقلت فيها الطبيعة الأصلية الانعزالية لنصف الكرة الغربي (أي الولايات المتحدة) بشكلٍ متدرج إلى النزعة التدخلّية الإنسانية العالمية، والتّي سعت لتبرير التدخّل الأمريكي في كلّ الشؤون السياسية، الاجتماعية والاقتصادية الراهنة للعالم، والتّي بُنيت على أساس العودة إلى النظرة القديمة لتقليد الحرب العادلة.
في سياق هذا المعنى لنهاية ويستفاليا ينبغي أن تُفهم تصوّرات شميدت عن الحرب الحزبية. لقد خطّ كتاب شميدت “نظرية الحزبي” (Theory of The Partisan) تاريخيا مسألة بروز الحرب الحزبية مع الحرب الأهلية الإسبانية (1808-1813). على الرغم من إنظاميه المقاتل ومرونته العالية في التحرّك، وفقا لمعايير القوات النظامية، فقد فُهمت الحزبية بشكل أحسن من خلال “التزامه السياسي الشديد”، تجاه مجموعات نشطة سياسيا أو جماعات ذات نشاط قتالي ميداني. ويرى شميدت أن “لا قدرة طويلة للدول على دمج أعضائها وأتباعها بشكل مطلقٍ كحزب ثوري بمقاتليه النشطاء”. كما أنّ هذه الحزبية كانت فاعلا سياسيا جديدا “قادرا على إعادة جدّية الحرب وخطورتها” الأمر الذّي يُدمّر ويُفقد قبضة الدولة على السياسة والحرب. إنّ عدم تصوّر حدوث الحرب بين الدول لا يَعِدُ بالتالي بالسلام، أو بالأحرى، تدفّق العنف وخروجه عن السيطرة التّي تتجاوز الدولة.
هذا الالتزام الشديد بالهدف والمبتغى السياسي يرتبط أيضا بالخاصية النامية للحزبي، والتّي يعني شميدت من خلالها أنّه مرتبط بإقليم محدّد باعتباره المدافع عن “الديار أو أرض الوطن”.. بالنسبة لشميدت فإنّ الحزبي موجود في وضعية دفاعية جوهرية، والتّي تجعل نشاطاته السياسية محدودة مكانيا، تجعلها خاصّة ومجسدّة بدلا من صفة العالمية والتجريد. علاوة على ذلك فإنّ العدالة ذات أهمية، وهذا يعني بقاء الحزبي التقليدي مرتبطا عمليا بفكرة تقويض العدو والحدّ منه -ارتبط ذلك بمفهوم الاعتداء العادل- مقوَّضا برغبته في الدفاع والتّي تحفظه من “مطلقيه” العدالة المجرّدة. إنّ التخلّي عن العداء المحدود في الحرب كان من بين أكثر التغيّرات الملحوظة بمجرّد أن يبدأ الحزبي في تحديد –علاقته- “بالعدوانية المطلقة للإيديولوجية الثورية العالمية أو التكنولوجية”. حقيقةً، فقد استوعب شميدت هذا التطوّر من العدوانية المحدودة إلى العدوانية المطلقة من خلال تفحّص التحوّلات التّي قادت إلى شكل الحزبي انطلاقا من القتال الدفاعي اللانظامي للحرب الأهلية الإسبانية “1808-1813” عبر تنظيراتها التّي رُسمت بواسطة لينين ثم ماو تسي تونغ فيما بعد.
بالنسبة للينين، فقد حاجج شميدت بأنّ العدو المطلق كان “العدو الطبقي، البرجوازية، الرأسماليين الغرب ونظامهم الاجتماعي في كلِّ دولة حكموها”، وبالتالي فإنّ الصراع مع هؤلاء كان يجب أن يرتبط بالحضور الذاتي العالمي للعدو. وبالنسبة للحرب العالمية ضدّ عدوٍ مطلق فلم يبق التقويض والمحدودية أمرا ممكنا. كذلك فإنّ تصوّر لينين للحرب الحزبية باعتبارها منتمية “لنطاق أساليب الحرب الأهلية”، فما شغَله مسبقا كان “تساؤلات تكتيكية أو استراتيجية محضة مرتبطة بالحالة الملموسة على أرض الواقع”، لكنّه شعر بأنّ الحرب الحزبية يجب أن تستخدم أيّ طرق “شرعية أو غير شرعية، سلمية أو عنيفة، نظامية أو غير نظامية” لتحقيق مبتغاها، التّي كانت هي الثورة الاشتراكية في كلّ دول العالم، “فكل ما يخدم هذا المبتغى يعدّ شيئا جيّدا وعادلا أيضا”.
إنّ تصوّرات شميدت لمنتصف القرن العشرين حول النظام الذّي برز “ما بعد ويستفاليا”، وعن أشكال الحرب التّي سنحت لها صفاتها المعيارية الجيوبوليتيكية بالبروز، كلّها كانت مرتبطة بسؤاله المبكّر بخصوص التمييز بين الصديق والعدو، تُصاغ اليوم بقوة أكثر كسؤال الأنماط الجديدة المتوقّعة للعداوة التّي ظهرت للوجود. إذا أعدنا القول أنّ محور تعريف شميدت للسياسي “لما هو سياسي” هو التمييز بين الصديق والعدو، علاوة على الافتراض المسبق لكلّ من الصديق والعدو أنفسهم، وحينما نكون خارج الإجراءات المعيارية الويستفالية، فإنّ العداوة المحدودة “الحقيقية” المرتبطة بمصطلح الاعتداء العادل، تنزلق إلى العداوة المطلقة أثناء تحوّلها من صيغة العدو إلى الخصم اللدود متأصّل العداوة (From enemy to foe)، هذا يسمح للخصوم بأن يُودع كلّ منهم الآخر في هاوية التقويض المطلق، ويجعل دمارهم المادي والقضاء عليهم أمرا ممكنا متاحا، إنّها إبادة وخراب تصير مجرّدة مطلقة بشكل كلّي، على حدّ تعبير شميدت. تستهدف الإبادة المُفنية شبح العدو المطلق والذّي يجب أن يكون مُنتَجا وأن يبقى أيضا مجرداً أو بعيد المنال. إنّ تجريديتها هذه هي التّي تتيح النبذ المطلق للعدو. ومثلما يحاجج جون بيسلي موراي فإنّه خارج الأقواس الأوروبية للحرب: “في صفقة الموت هذه، ما كان يُعدّ أمرا غائبا هو التبادل أو حتّى العلاقة بين مواضيع من الممكن أن تنظّم بعضها البعض، تواجه كلّ الأطراف على الأرض أو في السماء خصما مجهولا… يصبح العدو مجرّدا في كلّ الحالات والمناحي”.
مثل هذه الإبادة والخراب لا تستهدف بالضرورة العدو الحقيقي ولكنّها تخدم فقط -شيئا- آخر، تحقيق الهدف الظاهري للقيم العليا، والتّي في سبيلها لا يوجد ثمن مرتفع كمُقابل. إنّها التخلّي عن العداوة الحقيقية والتّي تفتح الباب لأجل عمل الإبادة والخراب الذّي تمارسه العداوة المطلقة؛ كما يقول شميدت. يسمح الحضور الشبحي والصعوبة التّي يُمارسها العدو المطلق بصياغة وتحيين “القيم العليا”.
بزوغ التصنيفات المطلقة للعداوة والتّي يمكن أن تكون مدمّرة “للقيم العليا” يقود إلى حدوث تغيّر في كلّ من شكل، نمط ومجال الحرب ذاتها وأيضا إلى السؤال الأساسي المرتبط بالبحث عن نوموس –نظام- جديد للأرض، هو موضوع كرّس لأجله شميدت شيئا ضئيلا من التصوّرات في أواخر كتاباته. لكن بالنسبة لتلك التّي جادل واقتنع بها فقد كان من المبكّر جدّا الاستجابة والرّد عليها. مثل هذه المخاوف تسبق وربّما تُنبؤ بأكثر التحليلات راهنية والمتعلقة بالسِمة الجيوبوليتيكية لصعود النظام العالمي المعاصر، وكذا النطاق اللامحدود والمدّة التّي تستغرقها حروبه. راهنية الفكر الدولي لشميدت تتجلّى بقوة حينما ننظر إلى التقارب –التلاقي- المعاصر الذّي يثير مفارقة متجلّية بوضوح لأصحاب النزعة العسكرية الانفرادية وكذا المواضيع الإنسانية ذات النزعة الليبرالية على مستوى الخطاب والممارسة في الحرب العالمية على الإرهاب. يذّكرنا هذا مباشرة بالإدانة القويّة لشميدت حينما قال: “أيّا كان هذا الذّي يتحجّج بما هو إنساني فإنّه يريد أن يخادع ويغّش”. مثلما هو الحال بالنسبة لملاحظاته المميّزة لكلتا جوانب الطبيعة السياسية لمفهوم الإنساني. بموجبه فإنّ القتال باسم الإنسانية يعني رفض وإنكار فكرة أن يصير العدو إنسانيا. لقد كانت إمكانية عودة ظهور حروب الدمار والإبادة قد بُنيت على تحوّل مفهوماتي راديكالي لمفهوم السبب والحجّة العادلة والذّي دفع الفكر “الهرطقي” الدولي لشميدت لإعادة سرد تاريخي للإنجازات المتضاربة لويستفاليا فيما يخصّ مسألة تعيين حدود الحرب وتحديدها بين الدول الأوروبية والانتباه في الوقت ذاته للمخاطر التّي يسبّبها التخلّي عن وضع الحدود كمتابعة سياسية لتنظيم العالم.
من المؤسف أنّ “المصير الدولي” لشميدت كان قد خُتم بتأويل خاطئ لمفهومه المتداول كثيرا عن السياسي (أي ما هو سياسي) باعتباره تمايزا بين صديق وعدو، والذّي يحصر فكره ويُصنّفه كما يبدو دون أدنى شكّ ضمن المنظور الواقعي للتنظير الدولي المعاصر، مقدّما هذا غالبا كتمثيل جدّ ممتاز ومتكامل لطبيعة العلاقات الدولية باعتبارها سياسة القوة. لكن بالنسبة لشميدت فإنّ المفتاح الأساسي لأيّ مصطلح متعلق بالسياسي “ليس العدو في حدّ ذاته ولكن التمايز والتمييز بين الصديق والعدو”. بعبارة أخرى يرتكز السياسي على حقيقة الاختلاف والتعدّدية وكذا على إمكانية تسيسه وقابليته لذلك. انطلاقا من ذلك، فإنّ التركيز الأساسي للبناء الكامل لشميدت، من كتاباته القانونية الفايمارية (نسبة لعهد حكومة فايمار) إلى كتاباته الأصيلة عن نوموس الأرض، لم يكن تركيزا على العداوة أو النزاع ولكن بدلاً من ذلك كان بحثا عن جوهور النظام “الشرعي”. لهذا السبب تحدّث كولومبو بطريقة استفزازية عن “الواقعية المؤسّساتية” لشميدت كمجهود مستمر يهدف للتوفيق والتوليف، يقول:
“الصيغة والقرار، القوة الفاعلة والقانونية في محاولة تمييز الكيفية التّي تكون عليها القوة دائما (القوة أي القدرة المحضة والبسيطة لفرض إرادة طرف على الآخرين) عن الكيفية التّي تصير إليها هذه القوة عبر القانون (أو القوة الكابحة كمّا عرّفها شميدت) مستعيرا عن المفكر بولين (Pauline) مصطلح الكاتيشون الإنجيلي katechon المُعبِّر عن قوة الكبح وضبط النفس، ليُعبّر عن قدرةٍ راهنةٍ تهدف إلى تحويل عدم ضبط النفس الذي لا يقهر المميّز للسياسي إلى شكل قانوني ما”.
لمزيد من القراءات:
- Dyzenhaus, David (ed.) (1998) Law as Politics: Carl Schmitt’s critique of
- liberalism, Durham, NC: Duke University Press. Accessible and widely read edited collection of essays on Schmitt’s engagement with liberalism.
- Odysseos, Louiza and Petito, Fabio (eds) (2007) The International Political
- Thought of Carl Schmitt: Terror, Liberal War and the Crisis of Global Order,
- London: Routledge. A recent collection of essays engaging with the heterodox
- international thought of Schmitt and critically utilizing his thought for a
- critique of contemporary war and order.
- Schmitt, Carl (1986) Political Romanticism, trans. G. Oakes, Cambridge:
- MIT Press. Schmitt’s engagement and critique of the romantic movement in
- which he outlines the emergence of the private individual of bourgeois society
- out of the movement’s drive for secularization, subjectification and privatization.
- Schmitt, Carl (1993) ‘The age of neutralizations and depoliticizations’,
- trans. J. McCormick and M. Konzett, Telos 96: 130–42. Influential essay
- based on a lecture from 1939 outlining Schmitt’s view of Western history as
- the successive search for neutral compromize and peace within the epochal
- central spheres of contention.
- Schmitt, Carl (2005) Political Theology: Four Chapters on the Concept of
- Sovereignty, trans. G. Schwab, Chicago: University of Chicago Press.
- Schmitt’s influential text on sovereignty, which is today extensively used in
- contemporary political philosophy, as in for example the work of Giorgio
- Agamben.
- Strauss, Leo (1996) ‘Notes to The Concept of the Political’ in Schmitt
- (1996a). Strauss’s influential and widely read critique of Schmitt’s major text.
نبذة عن الكاتب
لويزا أوديسيوس: أستاذة محاضرة في العلاقات الدولية بجامعة ساسيكس، تتمحور اهتماماتها البحثية حول النظرية الدولية، الأخلاق وكذا الفلسفة ما بعد البنيوية. هي مؤلفة كتاب بعنوان مسألة التعايش المشترك: الغيرية (أي الآخرون) في العلاقات الدولية (جامعة مينيسوتا، 2007)، كتاب معالجة نقدية مطولة لعمل مارتن هايدغر في العلاقات الدولية، مثلما كانت محرِّرة مشاركة مع فابيو بيتيتو لكتاب عن الفكر السياسي الدولي لكارل شميدت: الخوف، الحرب الليبرالية وأزمة النظام العالمي (روتليدج، 2007)، وأيضا محرِّرة مشاركة لهاكان سِكينلجين لكتاب “جندرة الدولي” (بالغراف ماكميلان، 2002). شاركت أيضا كمحرّرة ظيفة في مسائل خاصّة متعلّقة بموضوعات الجندر والعلاقات الدولية في مجلة الألفية: مجلة الدراسات الدولية (27، 4، 1998)، وكذا موضوعات مرتبطة بالنظرية الدولية لكارل شميدت في مجلة ليدن للقانون الدولي (19، 1، 2006).
فابيو بيتيتو: أستاذ محاضر في العلاقات الدولية بجامعة ساسيكس، تتمحور اهتماماته البحثية حول نظرية السياسة الدولية والسياسة الدولية للبحر الأبيض المتوسط. هو محرِّر مشارك (مع لويزا أوديسيوس) لكتاب الفكر السياسي الدولي لكارل شميدت: الخوف، الحرب الليبرالية وأزمة النظام العالمي (روتليدج، 2007)، كما أنّه مشارك أيضا في تأليف كتاب (مع بافلوف هاتزوبولوس) حمل عنوان: الدين في العلاقات الدولية: العودة من المنفى (بالغراف، 2003).
ورد هذا البحث المترجم ضمن أعمال كتاب جماعي بعنوان:
Critical Theorists and International Relations, Edited by Jenny Edkins and Nick Vaughan-Williams, First published 2009, Routledge Publications, P: 263-305-316. [1].
الهامش
· مفاد هذا المفهوم الذّي طرحه شميدت هو إضفاء الشرعية والطابع الإنساني على العدو أملا في احتواء العنف والكراهية الناتجة عن النزاع معه (المترجم).
· يُشير هذا المصطلح القديم إلى إجراء أو عمل عسكري تدخّلي يتّم مباشرته من طرف القوات المسلحة النظامية من دون إعلان رسمي للحرب (كما كان يجري في عرف الدول) ويُتّخذ ضدّ الأشخاص المنتهكين للسلام والنظام الدوليين (المترجِم).
[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.