ترسيخ الاستبداد بين أطفال المدارس في مصر
أطفال المدارس
مقدمة
في ظل حالة الاستثناء[1] التي تعيشها كثير من بلدان المنطقة العربية. سواء هي حالة استثناء حقيقية أم يتم بثها لتترسخ في مخيال الشعوب العربية عن طريق أدوات السلطة الحاكمة، وفي سياقها يتم تعطيل القانون والإطاحة بالحقوق الفردية والاجتماعية لدى المواطن العربي عن طريق بثِ حالة خوف استثنائية تمُر بها الحالة الوطنية للبلاد.
وعلى مرِّ التاريخ الحديث داخل المنطقة العربية وخارجها يتم استساغة خطاب قومي يُعبر عن هوية الأمة الواحدة وتعرضها للمخاطر من قبل قوى خارجية شريرة تسعى بطرق مُختلفة لتدمير هوية تِلك الأمة، هذا الخطاب، ونُسميه هُنا خطاب سلطة الاستثناء سواء بشكله الخارجي أو بواقع عمله الفعلي، يتعامل مع كافة فئات المُجتمع المُخاطب بدايةً بالطفل وهو محل نقاشنا وصولًا إلى سِنِّ تخرجه ويفوعِه.
فضلًا عن شرائح وتنوعات المجتمع الأخرى من حيث التنوع الجندري والمواطن الموظف والمثقف والمُعارض ورجل العمامّة باختلاف معتقده وطائِفته ونخبة الأضواء مُتمثلة في رجال الإعلام والفن والألعاب الرياضية. مع عدم إهمال تشابك وتركيبات وتعاونات تلك النخبة أو بعضها في خدمة ترسيخ أفكار أو بمعنى أصحٍ تعليمات سلطة الاستثناء وقائِدها.
ويمكن تناول العلاقة بين سلطة الاستثناء في مصر ومن يُمثلها وبين الطفل في مرحلته الابتدائية. عن طريق طرح ومناقشة زاوية التعليم الرئيسية للمرحلة الابتدائية ألا وهي المناهج التعليمية التاريخية والاجتماعية التي تُلقنها السلطة إلى الطفل منذ حقبة ما بعد ثورة يوليو 1952 وإلى الآن. والتركيز تحديدًا على حقبة ما بعد يوليو 2013 وأهم تطوراتها، ليس فقط عرضًا منهجيًا بل نحاول تفكيك الخطاب النفسي التابع للسلطة والذي يُبثُّ للطفل عن طريق الأنشطة التي تُقام داخل المنظومة التعليمية سواء كانت أنشطة أساسية أم ترفيهية محاولةً منا للوصول إلى إجابة على سؤال. ماذا تريد سلطة الاستثناء من الطفل؟
زعيم الأمة والثورة المجيدة:
حدث انقلاب في حياة المصريين رأسًا على عقب قيام الجمهورية المصرية بعد يوليو 1952م على أنقاض الملكية الظالمة التي كانت تحكُم الشعب بطبقيةٍ برجوازية فوقية قسمت بدورها الشعب إلى عالم السادة وهُم عائلات الملكية أحفاد مُحمد علي ونُبلائهم، وعالم العبيد وهُم بقية الشعب من الفلاحين والعُمال. ولكن وفقًا لمبادئ جمهورية الضباط الجديدة وأنه لا طبقية بعد اليوم وكُل شيء في مصر الجمهورية من الشعب وإلى الشعب ومن خلال خطابات التأميم والتحرير والوحدة العربية الرنانة بُثت روح الدولة القومية في نفوس كافة المصريين.
انتصرت الثورة وبدأ تمجيد ضباط مؤسسة يوليو العسكرية يعلو، بدأت السلطة في تشييد وبناء المؤسسات الحكومية الخدمية الجديدة. من بينها المدارس بكافةِ مراحلها التعليمية وفي ذلك الحين لُقبت أغلب تلك المدارس باسم قائد مصر الجمهورية وزعيم الوحدة العربية وأمل الجماهير الفقيرة جمال عبد الناصر.
نجد من خلال بحث بسيط عشرات المدارس الابتدائية وغيرها باسم جمال عبد الناصر في جميع أنحاء مصر. في القاهرة الكُبرى وحدها يوجد العشرات متموقعةً في حي الدقي وعابدين ووسط البلد والنزهة ومنطقة مصر الجديدة ومنطقة الجيزة ومنطقة دار السلام والحي السابع بمدينة نصر ومناطق عديدة متفرقةً بالقاهرة، وفي المحافظات الأخرى تكاد لا تخلو محافظة دون اسم مدرسةٍ لجمال عبد الناصر مثل التي تقبع في حي السيوف بالمنتزه بالإسكندرية وأخرى بمحطة الرمل وسط المحافظة، ودون استطرادٍ لعشرات من أسماء المدارس والمناطق العديدة؛ التحقت الأجيال الجديدة بمدارس لُقبت باسم زعيم واحد اسمه جمال عبد الناصر لتبدأ منهجية قادة يوليو في تبجيل زعيمها، ونُنقذ الوطن من قوى الشرِّ. لِنُكمل من هُنا سردية المناهج التي وُضعت لتلك الأجيال.
المناهج التعليمية وبناء الشخصية القومية:
بعد أن استفرد جمال عبد الناصر بحُكم مصر، ولُقبت العديد من المؤسسات التعليمية باسمه عدا الجامعات؛ عيّن أحد ضباطه وهو كمال الدين حسين[2] مسؤولًا لوزارة المعارف، فيما غُيّر اسمها بعد ذلك باسم وزارة التربية والتعليم. ومع سَنِّ دستور عام 1956م وإقرار مجانية التعليم للمرحلة الجامعية[3] وحق التعليم الحكومي الشامل لِكافة المصريين ذاع صيت عبد الناصر ومشروعه القومي التعليمي في عقول شرائح كبيرة من المصريين
ومن ثَّم وُضعت مناهج التاريخ الجديدة لاسيما للمرحلة الابتدائية[4] تُمجد ثورة يوليو 1952 وزعمائِها وتوضح أسباب قيامها لتغيير عصر التبعية الملكية للاحتلال البريطاني وغير ذلك من البديهيات المحفوظة لقيام الدول وسقوطها.
وبالنسبة لمنهجية التعليم الناصري يذكر الأستاذ صابر عبد الباقي مُحاضر علم الاجتماع بجامعة المنيا أن وظيفة التعليم[5] بقيادة كمال الدين حسين كانت تُلخص عملها في نقطتين؛ الأولى هي الحشد الأيديولوجي لجميع الطلاب وراء القيادة السياسية القومية للبلاد، والثانية وهي تخُص الطلاب الأكبر سنًا في إعدادهم على المستوى التخصصي لإدارة مؤسسات الدولة بأيديولجيتها الناصرية الثابتة، بالإضافة إلى محاربة أي توجهاتٍ فكرية وإدارية مُختلفة عن عقلية السلطة الناصرية وقتها وبدون النظر لإشكاليات الخطاب القومي وتأثيره السلبي على تشكل وعي الطفل الإنساني مُنذ صغره إلا أنّه وبقياس مفهوم الاستثناء في الدولة على الواقع المصري في حقبة الناصرية (1954 – 1970) نجد أن مصر كانت في صعوبات حقيقة على المستوى الداخلي والخارجي.
ومن يوليو 1952 إلى العدوان الثلاثي 1956م إلى نكسة مصر أمام الكيان الصهيوني عام 1967. وتلك الأحداث التي استغلّتها سُلطة ناصر في سحق المعارضة مروجةً أجواء المؤامرة على مصر وشعبها، وعند المقارنة بتوجه السلطة في مصر بعد يوليو 2013 نُلاحظ أن السلطة اتخذت أسبابًا شبيهة بشكلٍ أو بآخر ولكنها أكثر دقة وتركيزًا ومارست أنشطةً تجاه الطفل المصري داخل منظومته المدرسية أكثر فاعلية.
ما بعد 2013: سياسات الاستثناء
من بعد رحيل جمال عبد الناصر وقع سقف القومية الثابت على رؤوس مُتبنيه؛ إلا أن المناهج الدراسية ظلت ثابتة بالنسبة لسيرورتها النبيلة لضباط يوليو بالرغم من تغييرها خمس مرات في عهد حُسني مبارك في الفترة بين عامي 1986 حتى 2007 وتم إضافة انتصار حرب أكتوبر عام 1973 للصف السادس الابتدائي انتصار دون الخوض في تفاصيل الحرب لِصغر سن تلاميذ المرحلة. استطاعت تلك المناهج الحفاظ على مكانة الضباط الأحرار النبيلة في أذهان الطلاب من عبد الناصر إلى السادات إلى حُسني مبارك الطيار الذي مَكث في حُكم مصر 30 عامًا حتى خلعهِ بواسطة ثورة يناير عام 2011م.
وحتى بعد الثورة عُرف عن الجيش أنه هو الذي أجبر مُبارك على تقديم التنحية أمام الثورة المصرية ليتولى بدوره شؤون البلاد إلى حين انتخاب مجالس برلمانية جديدة وكرسي رئاسيٍّ وحكومة جديدة.
تجييش الأطفال من خلال الفن
بعد يوم 11 فبراير عام 2011 حيث تولت القوات المُسلحة المصرية شؤون البلاد حتى تسليمها لرئيس مدني مُنتخب مُنتصف عام 2012م، كانت القوات المسلحة مثالًا حيًا ومُصورًا في أعين المصريين من خلال انتشار جنود الجيش وضباطه في الشوارع وغالبية مؤسسات الدولة.
في مارس 2012 ذيع صيت أغنية “علمونا في مدرستنا” [6] وهي من تأليف وألحان الفنانيّن تامر حسين وعمرو مصطفى وإنتاج مركز دراسات بلدنا. جسدت الأغنية أطفال المرحلة الابتدائية وهم يغنون عن حُب مصر الذي تعلموه من خلال المدرسة. غلب على فيديو تصوير الأغنية لباس الأطفال العسكري والذي يمثل لباس قوات الصاعقة المصرية فضلًا عن تمارين وإعداد الأطفال على الحرب وحمل السلاح، لم تكن الأغنية وقتئذٍ محل جدالٍ إعلامي أو حتى ثقافي نُخبوي إلا في لقاء مُتلفز[7] للإعلامية والسياسية المصرية جميلة إسماعيل تُحاور فيه الروائي صنع الله إبراهيم عن كيفية استغلال الجيش للأطفال وتسليعه تُجاريًا لِتحسين صورته النبيلة في المحافظة على أمن مصر وشعبها مُبرهنةً انتقادها أن تلك الأفعال خارج إطار اتفاقيات حقوق الطفل التي تمنع تسليع الطفل تجاريًا أو اقتصاديًا أو جنسيًا لأي جهة سواء رسميةٍ أو غير رسمية.
مناهج التربية ما بعد 2013
بعد إطاحة الجيش بالرئيس المصري المنتخب مُحمد مرسي في يوليو 2013. ساد خطاب صحفي وثقافي بشكل غير واسع عن اتجاه جماعة الإخوان المُسلمين لأخونة مناهج[8] التربية والتعليم أو حتى أسلمتها وسعيها نحو تغيير هوية التعليم المصرية من القومية إلى الإسلامية الإخوانية عن طريق إبراهيم غُنيم وهو وزير التربية والتعليم الجديد الذي عيّنه الرئيس مُرسي في أغسطس 2013.
انفجرت زوبعة عن نية الجماعة بتدريس سيرة مؤسسها حسن البنا، وقيل أن كتاب التربية الوطنية في العام الدراسي الجديد 2013 -2014 للصف الثالث الثانوي يحمل صورًا لإشارة رابعة[9] وصورًا أخرى لعدة شخصيات إخوانية في الكتاب مرموزاً لها بأبطال ثورة يناير. نذكر أيضًا بالقول إن أطفال مرحلة الابتدائية لا تتغير مناهجهم التاريخية لمادة الدراسات إلا قليلًا، فمن إجراءات السلطة في تغيير المناهج لم يشمل الكثير بعد 2013 سوى إزاحة اسم محمد البرادعي من أسماء الحاصلين على جائزة نوبل كوّنه أحد شخصيات وقادة ثورة يناير[10]، عكس المراحل الإعدادية والثانوية والجامعية والتي يدرسون فيها الأحداث التي تروق للسلطة دراستها بشكلٍ مُفصل مثل إدراج أحداث 30 يونيو[11] قبل أن يتم حذفها مجددا هي وبرفقة ثورة 25 يناير لتكون الثورة المصرية الوحيدة المُقرر دراستها في المناهج التعليمية باختلاف مراحلها هي ثورة ضباط المؤسسة العسكرية الأحرار ثورة 23 يوليو 1952.
إغلاق مدارس وفصل مُعلمين
اتخذت أيضًا الحكومة المصرية عن طريق هيئات قضائية وإجراءات قانونية أُخرى[12] عدة قرارات بإغلاق أو الإشراف على عشرات المدارس الخاصة بداعي أن تلك المدارس يُشرف عليها مُعلمون تابعون لجماعة الإخوان المُسلمين والذين بدورهم يبثون الفكر الإخواني[13] لتجنيد مئات الأطفال في مصر.
لا تعتمد السُلطة الآن في مصر في إدارتها لأذهان الطُلاب في مرحلتهم الابتدائية على بثّ مناهج وأفكار مُحددة لصعوبة ذلك على أذهان النشأة من سنِّ 6 إلى 12 عاما. بل توفر ذلك المجهود لما هُم في مراحل مُتقدمة كالإعدادية والثانوية والجامعة، بل تستخدم أنشطةً مُكثفة ترعاها هي بنفسها داخل المؤسسة التعليمية.
أنشطة الجيش الدراسية
مرةً أُخرى في أكتوبر عام 2013 وعن طريق المؤلف تامر حسين والمُلحن عمرو مُصطفى يطلقان أغنية تعظيم سلام[14] يُنشدها أطفال المرحلة الابتدائية لِتقدير وشكر الجيش المصري على حماية البلاد من الإرهاب والفوضى والحرب الأهلية وأي قوة شريرة تُريد العبث بمصر وشعبها.
ومع تعويم الخطاب الديماغوجي للسلطة الحاكمة بقيادة عبد الفتاح السيسي، وحديثه المُستطال الذي لا ينفذ ولا يملُّ عن الإرهاب والفوضى ودور الجيش في إنقاذ مصر من مأزق أخواتها سوريا والعراق الموجه لكافة شرائح المُجتمع المصري مُثقفيه منهم وكَنبتِه، لكن هذا الخطاب بدوره لا يلقى وجهًا نافعًا لدى أطفال الناشئة الابتدائية، لا يفهمونه ولا يتابعونه، ويجهلون إداركه، ولذلك أقامت الشؤون المعنوية لدى المؤسسة العسكرية أنشطة عديدة لهؤلاء الأطفال داخل معقلهم التعليمي بدايةً بفناء المدرسة وطابور الصباح وحتى داخل فصولهم الدراسية.
طابور الصباح. قالوا ايه علينا؟
مطلع عام 2018 أنتجت الشؤون المعنوية للجيش المصري أُغنية خاصة[15] بتمجيد رجال الصاعقة المصرية وشهدائِها بعنوان “قالوا ايه علينا دولا وقالوا ايه”. تناولت الأغنية أسماء شهداء الجيش المصري جراء تبادل إطلاق نار مع جماعات مُسلحة في منطقة شمال سيناء وغيرها.
ومع الحملة الإعلامية في القنوات والصحف الرسمية وغير الرسمية، لترويج تلك الأغنية، أعلنت وزارة التربية والتعليم[16] أن أغنية الصاعقة الجديدة ستذاع يوميًا وتُغنى بواسطة طلاب المدارس باختلاف أعمارهم، ومن بعد ذلك شهدت ساحات الفناء مئات إن لم يكُن آلاف المدارس إذاعة وغناء تلك الأغنية في طوابير الصباح من قبل الطُلاب والمُعلمين، من بعدها في مشاهد تراجيدية حزينة من الحماس[17] البريء لدى الأطفال وهُم يغنون أو حتى في لباس كوميدي طريف[18] يُضحك من داخل أسوار المدرسة ومن خارجها ولمدة أشهر انتشرت مئات المقاطع من الفيديو بصوره المشاعرية المُختلفة لإلقاء وغناء أغنية الصاعقة في فناء المدارس المصرية.
حديث الصنم. كيف يضلل المُعلمينَ الأطفال؟
لم يكتفِ نشاط المُعلمينَ والمُعلمات من بث وإلقاء الأنشودات أمام التلاميذ فقط، بل ارتدوا اللباس المُمّوّه لقوات الصاعقة المصرية التي ارتدتها مُعلمة داخل إحدى فصول الروضة بالمدرسة[19] واستفاضت تُحدث التلاميذ الصغار الذين لا يُدركون أي شيء عن واجب الجيش ودوره في حماية أمن مصر، حتى ردّت عليها طفلةً صغيرة تقول لها “إن الجيش بيفتشنا” عن سؤالها عن دور الجيش في البلاد.
مشهدٌ آخر لو أخذ وصفًا لكان الاستبداد الكوميدي[20] في أعلى درجاته، في درجةٍ لم يذكرها جورج أورويل ذاته في روايته 1984، في فناء المدرسة حيث طابور الصباح والتلاميذ مُصطفة تخرج المُعلمة حاملةً أمامها صورةً خشبية للسيسي بحجم الإنسان الطبيعي، وتختبئ المُعلمة خلف الصورة، وتُلقي المعلمة السلام وكأنها مجسدةً شخصية السيسي في خطابه للناس وتبدأ في تحية الأطفال، وتبدأ مسرحية درامية يسرد فيها الأطفال من ورقةٍ مكتوبةٍ لهم إنجازات السيسي من حفر التفريعة الثانية لقناة السويس، وتشكر فتاة ابتدائية صغيرة بفستانها الأبيض السيسي لاستلامها شقة تتزوج فيها، وطفلٌ آخر بجلبابٍ أزرق يطلب أمنيته بقطعة أرضٍ من السيسي يزرعُها فيهديها له السيسي، ويشكرهم جميعًا ويؤكد لهم أنهم نور عيّنه بصوت المُعلمة المختبئة وراء صورته.
الدعم المادي والاقتصادي
دائمًا ما يزور رُتبٌ عسكرية المدارس لِتوزيع الأدوات المدرسية سواء داخل الفصول على الطلاب مباشرةً أو بطريقةٍ غير مباشرة بالتنسيق مع إدارة المدرسة، ومن هؤلاء اللواء توفيق توحيد قائد المنطقة العسكرية المركزية بالقاهرة والمحافظة التابعة لها على أبناء محافظة الجيزة[21] مصوبًا بوصلته نحو مدرسة الشرفاء، مشهدٌ آخر في محافظة أسوان[22] حيث قام بعض الرُتب من القوات المُسلحة بزيارة إحدى المدارس وتوزيع الأدوات المدرسية من أقلام وكشاكيل على التلاميذ الصغار، فيما صرحت بعد ذلك نوال شلبي مدير مركز تطوير المناهج التعليمية التابع لوزارة التربية والتعليم والتعليم الفني بأن المركز يستقبل ويناقش مُقترحات إدراج قصص لأبطال الجيش والشرطة لوضعها في كتاب القراءة في عدة مناهج للمرحلة الابتدائية.
الدعم الفني – نُخبة الأضواء
بُثَّ على شاشات المصريين فيلم الممر[23] والتي تدور أحداثه عن فرقة الصاعقة التابعة للجيش المصري تُنفذ عملية تحرير للأرض والأسرى خلال حرب الاستنزاف بعد نكسة 1967، شارك في بطولة الفيلم عدد من المُمثلين، مثل أحمد عز وهند صبري وأحمد فلوكس الذي استشهد بطعناتٍ لضابط إسرائيلي مُنتصف الفيلم. بعد ذلك بأيام ومع التنسيق مع وزارة الثقافة. قام الفنان أحمد فلوكس وهو الشهيد الحيّ بزيارة مدرسة بمحافظة الفيوم والتقط عددًا من الصور مع التلاميذ ممّا أثار حملة تنمُر واسعة[24] على موقعي فيس بوك وتويتر انتقادًا لما يفعله فلوكس وكأنه مات بشكلٍ حقيقي، بعد ذلك تداولت أخبار أن فلوكس بالأساس يزور المدارس ليست بصفته الممثل الشهيد في الفيلم، بل لمشاركته مؤسسة صناع الحياة[25] في أعمالها الخيرية في إحدى المدارس، وأن ربط الأحداث والتنمر عليه ضمن حملةً مُمنهجة على أبطال فيلم الممر بعد نجاحه.
سواء الرواية الأولى صحيحة أم الثانية إلا أنه وبلا شك تلعب الشؤون المعنوية دورًا رياديًا في تقديم وزرع ثورة المؤسسة العسكرية وأبطالها في أذهان أطفال المرحلة الابتدائية، عن طريق زيارة بعض من نُخب الأضواء الفنية، أو إنتاج أناشيد كأغنيتيّ علمونا في مدرستنا وتعظيم سلام؛ ليس لرفع الروح الوطنية وحب الجيش، بل لتمثيل الجيش المصري كأنه فوق مؤسسات الدولة الأخرى لوجوده في مكانة المُحارب وسط الفوضى وقوى الشر المُحيطة بالوطن ليسأل المذيع[26] عددًا من الأطفال بعد ذلك عن أمنية عملهم عند بلوغ المستقبل فتكون الإجابات بين ضابطٍ وعسكري لحمل السلاح وحماية الوطن من الأعداء في صورةٍ واضحة لتهميش ذهن الطفل لمَهنٍ أُخرى.
استنساخ حالات الاستثناء – روسيا مثالًا
مقارنةً بدولٍ أُخرى قديمة العهد مع حالات الاستثناء في تعاملها مع الطفل؛ فالدولة المصرية لا تعني الكثير بالنسبة لروسيا الاتحادية مثالًا في تعطيل أبجديات القانون وحقوق الإنسان والطفل، بشاهدٍ آخر قديًما وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي أُنشأت مدرسة للأطفال عُرفت باسم رواد لينين[27] وهي مدرسةً تابعةً للجيش الروسي تُربي أطفال روسيا على تعاليم الحزب الشيوعي الحاكم للبلاد، ربما أُعيدت النسخة مرخرًا في عهد القيصر الحالي فلاديمير بوتين عن طريق مدرسة الشبيبة أو يوناراميا[28] وهي حاليًا تضُم مئات الآلاف من الأطفال الروس من الجنسين بين عامي 8 إلى 18. لها تحديدًا 85 فرعًا مؤسسيًا يُعد فيه الأطفال تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية بتدريب على تفكيك السلاح والقفز والمصارعة والتمارين الرياضية الشاقة، فضلًا عن ذلك والأهم هو ترسيخ قيم ومبادىء روسيا الاتحادية رواجًا للماضي واستعدادًا لرجوعه في استعادة مجد القيصرية في مواجهة قوى الشر الرأسمالية المُتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب معًا، فضلًا عن كسب أصوات مُستقبلية لانتخابات رئاسية يربحهَا بوتين بلا منافس.
وبالمقارنة على الواقع المصري حاليًا في ظل نظامه المُرّوج للاستثناء لم يؤسس مدرسة لتجييش الأطفال بالمعنى المؤسسي بل اكتفى بترسيخ فكرة الخوف من قوى الشر وتقديس سيرورة المؤسسة العسكرية الحاكمة في أذهان الأطفال أو حتى كما تفسر حنة آرنت في كتابها أسس التوتاليتارية[29] التي استعرضت فيه أسس الحكم الشمولي وعلاقة سلطات الاستبداد بمن حولها من الشعب من التخويف والهول بخطر الإرهاب وقوى الشر وبثِّ إيديولوجية السلطة في عقول رعيّتِه بكافة شرائِحها.
يشرح الباحث المصري مصطفى حجازي في دراسته السيكولوجية المعنونة بالإنسانِ المهدور[30] طبيعة الإنسان العربي ووسائل هدر حقه الإنساني بواسطة الأنظمة الاستبدادية التي تحكمُه، يأتي حجازي إلى نظرية غرز الطاعة العمياء للسلطة الحاكمة من قبل الفرد عن طريق تقديس قائد السلطة أو مؤسسة بعينها في السلطة وترسيخ مفهوم أن طاعتها وجبت كشرطٍ لِحُب القيمة العُليا كان الدين أم القومية مثالًا، وهذا ما نجده في حالات كثيرة مُشابهة للواقع المصري.
خاتمة
بالضرورة يجب زرع قيم وأخلاقيات عُليا للناشئة في مؤسساتهم التعليمية، قيمٌ نصت عليها اتفاقيات حقوق الطفل ودور التعليم تجاههم. مع الحرص على شرح وتوضيح دور كُل مؤسسة وأهميتها دون تفضيل مؤسسةٍ على أُخرى. مؤسسة الدفاع الوطنية يجب أن تأخذ حقها في توضيح دورها المثالي في حماية وأمن والدفاع عن الوطن من الأعداء، ولكن بالضرورة أن هذا لا ينقص من دور المؤسسات الأخرى، بل لكلٍ وظيفته مع الحرص عن الابتعاد عن تقديس فردٍ بعينه أو مؤسسةٍ بعينها ويتم اتخاذ إجراءات تضر وتنتهك حقوق الطفل في المعايشة المدنية والإنسانية له حتى يبلغ سن اليفوع فيبدأ بعد ذلك في اختيار وِجهة مُستقبله دون تأثير أيديولوجية السلطة الحاكمة على ذلك[31].
الهامش
[1] تعريف حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي، وقد ناقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ الإنسان الحرام. أنظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.
[2] وفاة كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة، المصري اليوم، 19-6-1999، رابط https://bit.ly/38kvSb1
[3] وثيقة دستور يناير عام 1956 المواد المُخصصة للتعليم، 4 مواد هم 48-49-50-51
[4] ثورة 23 يوليو للصف السادس الابتدائي، مادة التاريخ. رابط https://bit.ly/2DXX0P6
[5] ثورة 23 يوليو والتعليم، د. صابر أحمد عبد الباقي، الموقع الرسمي للباحث، رابط https://bit.ly/354yaZX
[6] فيديو كليب علمونا في مدرستنا، يوتيوب، رابط https://bit.ly/2YuawDs
[7] جميلة إسماعيل تهاجم الجيش بعد أغنية علمونا في مدرستنا، يوتيوب، رابط https://bit.ly/2rt6cs8
[8] القومية والتجانس في المناهج الدراسية المعاصر، معتز عطا الله وفريدة مقار- المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أغسطس 2014. ص 9.
[9] إحالة واضعي كتاب التربية الوطنية للتحقيق لوضعهم صورًا لـ«إشارة رابعة، المصري اليوم، رابط https://bit.ly/36sH0B5
[10] In new Egyptian textbooks, ‘it’s like the revolution didn’t happen’، Washington Post، https://wapo.st/2sdXcXH
[11] التعليم تحذف ثورتي يناير و30 يونيو من منهج التاريخ بالثانوية العامة، اليوم السابع، رابط https://bit.ly/36sHcAj
[12] المصري اليوم تنشر قائمة وزارة العدل بأسماء 87 مدرسة تابعة الجماعة الإخوان. رابط https://bit.ly/2YuYtWF
[13] المدارس بوابة الإخوان لتجنيد الأطفال، بوابة فيتو، رابط https://bit.ly/2RD3haX
[14] أغنية تعظيم سلام من أطفال مصر إلى القوات المسلحة، يوتيوب، رابط https://bit.ly/2RD3pHt
[15] أغنية قالوا ايه علينا دولا وقالوا ايه، الجيش المصري، يوتيوب رابط https://bit.ly/36hFmBV
[16] تعميم نشيد الصاعقة بمدارس الجمهورية، صدى البلد، رابط https://bit.ly/2Rx03Wm
[17] أغنية قالوا أي بصوت الطالب أحمد كساب، يوتيوب، رابط https://bit.ly/36kHAQW
[18] قالوا يا علينا بصوت مدير المدرسة، يوتيوب، رابط https://bit.ly/2P1F8cp
[19] طالبة روضة تصدم مدرستها، الجيش بيفتشنا، رابط https://www.facebook.com/AJA.Egypt/videos/403626700299395/?t=9
[20] فيديو، فيس بوك، رابط https://www.facebook.com/watch/?v=2581622645195633
[21] قائد المنطقة العسكرية يوزع أدوات على تلاميذ مدرسة بالجيزة، اليوم السابع، رابط https://bit.ly/2Psdc0n
[22] القوات المسلحة توزع الأدوات المدرسية في إحدى المدارس بمحافظة أسوان، الجزيرة. نت، رابط https://bit.ly/2qEhSYI
[23] فيلم الممر، موقع بي بي سي عربي. رابط https://bbc.in/2Pwb4or
[24] أحمد فلوكس يزور عددا من المدارس بعد تألقه في در الشهيد بفيلم الممر، موقع من حولك، رابط https://bit.ly/2rkWjNg
[25] حقيقة زيارة أحمد فلوكس للمدارس، موقع ده بجد، رابط https://bit.ly/2Yw9NSa
[26] أطفال مصر، نفسنا نبقى في الجيش علشان نحمي بلدنا، اليوم السابع فيديو، رابط https://bit.ly/2LDy03N
[27] Russia training up “Young Army” amid tension with U.S، cbs news،.https://cbsn.ws/2YwUVmB
[28] آلاف الأطفال الأيتام الروس في جيش شبيبة بوتين، بي بي سي عربي، رابط https://bbc.in/2sdYhPf
[29] حنة آرنت، كتاب أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، الطبعة الثانية 2016، دار الساقي، بيروت، ص 243.
[30] مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص 111.
[31] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.
إقرأ أيضاً: عسكرة وزارة التعليم
الوسوم