fbpx
تقديرات

تركيا: بين التطهير الداخلي والتحدي الخارجي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

تمهيد:

من الواضح أن فشل انقلاب الخامس عشر من يوليو 2016 سيدشن لمرحلة جديدة من تاريخ تركيا، لما سيتلوه من خطوات يمكن أن تُعتبر انقلابًا مضادًا من الحكومة ضد مناوئيها في الداخل، وعلى رأسهم حركة الخدمة التابعة لفتح الله جولن. ومن هنا نستطيع أن نقول أن الفترة القادمة لن تكون سهلة على تركيا، باعتبار أن المضي قدمًا في عملية تطهير واسعة في صفوف الجيش والقضاء والشرطة وبقية مؤسسات الدولة ستدخل البلاد في حالة من عدم الاستقرار لما ستثيره تلك العمليات من ردود فعل داخلية من الأطراف التي ستتهم بالانتماء إلى محاولة الانقلاب الفاشلة، بالإضافة إلى ردود الفعل العالمية، بالرغم من أن تلك المرحلة ستكون أهون كثيرًا على تركيا مما كان سيحدث لها في حال نجاح الانقلاب.

تشكل الانقلاب واحتمالات تكراره:

الانقلاب في حد ذاته لم يكن بعيدًا عن تصور المراقبين بالوضع في الاعتبار نية العدالة والتنمية لتعديل الدستور لمزيد من تقليل سيطرة العسكر بل وصدور تصريحات تتعلق بدور العلمانية في الدستور الجديد كما صرح بذلك رئيس البرلمان إسماعيل كهرمان، بالإضافة إلى نية أردوغان تحويل النظام إلى رئاسي وبدء سيطرته الكاملة على مقاليد الحكم في البلاد مع فشل المعارضة في منافسته فعليًا، وهو المناخ المثالي لتدخل الجيش بالنظر إلى انقلاباته السابقة التي كانت تتكرر كل عشر سنوات تقريبًا.

كما أن الوضع الإقليمي ربما ساهم في زيادة احتمالات حدوث انقلاب؛ حيث إن نية تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي كانت أهم أسباب تقليم أظافر العسكر وتعديل الدستور للتماشي مع معايير كوبنهاجن وتدخل الجيش في السياسة، لكن اليوم بعد أن ضعف الاتحاد الأوروبي وبريق الانضمام إليه بعد خروج بريطانيا، فإن العسكر لم يعودوا ينظرون إلى الثمن المدفوع على أنه يستحق إقصاؤهم من السياسة، بالإضافة إلى الأوضاع الإقليمية التي تخوضها تركيا بسبب ما يراه الكماليون والقوميون إقحام تركيا في صراعات لا طائل من ورائها، واستنزاف موارد الدولة في استضافة لاجئين نتيجة لسياسات خاطئة، وكذلك تزايد احتمالية خوض الجيش لعمليات عسكرية ليس في المناطق الكردية وحدها ولكن كذلك في الصراع السوري مما رجح زيادة نفوذ العسكريين في المشهد بصورة عامة (المشهد التركي).

تلك المعطيات تعطي مؤشرات على أن الخطر لم يزل نهائيًا عن تدخل الجيش في العملية السياسية، وأن ما يظهر من العملية الانقلابية ليس سوى نذر يسير من اتجاه ربما يكون أكبر من المعلن بكثير، وفشل العملية الانقلابية لم يكن بالضرورة بسبب عدم إيمان قطاعات كبيرة من الجيش بمبدأ الانقلاب، ولكن لأن العملية لم تأت من سلسلة القيادة الهرمية داخل الجيش ومن ثم انتشارها في كل القطاعات، والفشل في التخطيط وتزامن الإجراءات وفشلهم في اعتقال الرئيس وأعضاء الحكومة، إلى جانب أسباب كثيرة أخرى.

لكن فشل الانقلاب لا يعطي مؤشرًا حقيقيًا عن مدى إيمان الضباط بضرورة الانقلاب ذاته؛ كما أن عملية التطهير المرتقبة داخل الجيش ستجعل الكماليين وحلفاءهم البراجماتيين من أتباع فتح الله جولن مثل النمور الجريحة، التي يمكن أن تفعل أي شيء قبل أن يطال رأسها السكين.

فقد رأى العميل السابق في الاستخبارات الأمريكية روبرت باير أن فرص نجاح الانقلاب كانت ضئيلة، ثم استدرك قائلا إنه ما زالت هناك فرصة لتنجح المحاولة، مضيفا أنه لو أراد الجيش التركي أو الضباط الذين حاولوا الانقلاب خوض حرب ضد الشعب لاشتعلت حرب أهلية، “لكن من يدري فغدا يوم آخر، وعناصر الجيش ليسوا واثقين، ولا حتى الحكومة” (الجزيرة).

كما أن قادة العدالة والتنمية طالبوا الجماهير بالاستمرار في الميادين، وتم إلغاء الإجازات السنوية للموظفين الحكوميين وذلك لعدم خروجهم في إجازات خارج المدن الرئيسية، وتم تمديد حظر الطيران الجوي فوق بحر مرمرة، وكلها شواهد تؤكد أن الخطر لم يزل بالكامل حتى الآن، واستشعار الحكومة باستمرار خطورة الأوضاع لاسيما مع تزايد الإجراءات التطهيرية التي تقوم بها الدولة حاليًا ضد من يشتبه في تورطهم بالمؤامرة الانقلابية الفاشلة.

هل التطهير هو الحل الأمثل؟

بالنظر إلى توجه أحمد داود أوغلو فنستطيع أن نلمس أنه لم يكن مرحبًا بفكرة استئصال جماعة فتح الله جولن، بسبب انتشارها وتغلغلها داخل الدولة، وكذلك باعتبارها فصيلا كان مساندا لأردوغان منذ بدايته، بل وكان من ضمن أسباب نجاحه وصعوده في بداياته، بل إن من ضمن الفرضيات الأساسية أن ذلك الانقلاب الذي حدث بتلك الصورة غير المنسقة بالكامل كان استباقًا لعملية تطهير وشيكة كانت ستحدث في الجيش ضد أتباع الحركة، ومن ثم استعجلت عناصر الجماعة ذلك الانقلاب بصورة عشوائية متخبطة أدت إلى فشله، كما صرح يوهانس هان، المفوض المسؤول عن توسعة الاتحاد الأوروبي إن عمليات الاعتقال السريعة التي تمت في صفوف القضاة وغيرهم بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا تشير إلى أن الحكومة أعدت قائمة الاعتقالات سلفا (العربية).

ولكن السؤال الآن هل تجاوزت تركيا وقت اتخاذ حلول توافقية بشأن تلك الجماعة؟ وهل من الحكمة أن تسعى الدولة إلى تطهير فصيل يبلغ أعداده بالآلاف داخل مؤسسات الدولة فضلا عن تغلغلها المجتمعي في قطاعات الاقتصاد والتعليم والإعلام، وما هو مصير أولئك المفصولين من الجيش والشرطة والاستخبارات والقضاء؟ وهل هذا يصب في مصلحة السلم الأهلي ولُحمة الشعب التركي؟ وهل الجماعة بالفعل بذلك الخطر الذي يمكن من أجل استئصاله المخاطرة بإدخال البلاد في أتون صراعات داخلية؟

فقد أعلن وزير العدل عن توقيف 6 آلاف شخص حتى الآن في الجيش والقضاء وحدهما (فرانس 24)، ووزارة المالية أوقفت 1500 موظف آخر عن العمل للاشتباه في علاقتهم بفتح الله جولن (الجزيرة)، وأعلن رئيس الوزراء عن إقالة 30 حاكما إقليميا وأكثر من 50 من كبار الموظفين في تركيا بالإضافة إلى وقف 8877 من منتسبي وزارة الداخلية على خلفية المحاولة الانقلابية، وهي كلها أعداد تشير إلى نطاق واسع من التغيير في الهيكل الإداري للدولة بكامله.

كما أن نفوذ جماعة فتح الله جولن يتجاوز المؤسسات السابقة إلى الاقتصاد بسلسلة متاجر شهيرة لها فروع في مختلف المدن والبلدات التركية، وكذلك إلى الإعلام بالرغم من تفكيك أردوغان لمؤسسات الإعلامية مثل صحف زمان بلغاتها المختلفة وموقعها الإلكتروني والصحف الأخرى التابعة له، ناهيك عن مدارس صلاح الدين ومؤسساتها التعليمية والتربوية الأخرى.

وإذا كان هذا الانقلاب الفاشل يعطي أردوغان فرصة ذهبية للتخلص من كل خصومة، حتى لو بلغ عددهم بالآلاف، ولكن يبقي التحدي: ما هي تداعيات ذلك على مستقبل الدولة التركية وتماسكها ووحدتها الداخلية؟

لقد أشارت عدة تقارير إلى تورط الجماعة في عدة ممارسات سابقة، منها التنصت على الرئيس أردوغان نفسه ومحاولة اختراق جهاز الاستخبارات وكذلك تلفيق أدلة ضد أردوغان وعائلته بتهم الفساد من قبل، وقد تحركت الحكومة بالفعل ضد الجماعة من ذلك الحين، ولكن يتبقى السؤال: ما هي حدود خطر الجماعة وما هي إمكانات جولن لينفذ انقلابًا عسكريًا من منفاه الاختياري في بنسلفانيا الأمريكية؟

حتى الآن لم يقدم حزب العدالة والتنمية أية اتهامات متماسكة بشأن ضلوع “جولن” في الانقلاب، وإذا ما أثبتت التحقيقات تورطه أو جماعته بصورة مباشرة فحينئذ فإن المعادلة ستنقلب لصالح الحكومة التركية، ومن ثم تستطيع تسلمه وتظهر للدولة أنها ليست في خصومة ثأرية مع حليف قديم نزع يده من الحلف مع أردوغان، وهذا بدوره سيقلل حدة التوتر المجتمعي وما سيتلوه من استهداف الجماعة من تداعيات على السلم الأهلي، وتحافظ تركيا على سمعتها كدولة ديموقراطية تعلي من سيادة القانون.

البعد الإقليمي والدولي:

إن التخطيط لانقلاب يوليو 2016، يبدو أنه لم يكن بعيدًا عن قوى إقليمية ودولية بمشاركة عناصر استخباراتية فقادة الانقلاب في تركيا من الصعب أن ينفذوا انقلابهم بدون التواصل مع قوى خارجية لاسيما مع الولايات المتحدة، بالوضع في الاعتبار بيان السفارة الأمريكية في أنقرة في البداية أن ما حدث هو (انتفاضة) (الجزيرة) في تصريح غريب لوصف تحرك دبابات للسيطرة على الأوضاع، ومن المعروف أن العناصر الاستخباراتية تنسق مع السفارات المحلية في نطاق عمل هؤلاء العملاء لتوفير المصادر والضمانات والحماية لهم، وليس بالضرورة مع الجهاز التنفيذي الهرمي للدولة حتى سلطة وزير الخارجية على سبيل المثال، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن تلك العناصر ربما أثرت على بيان السفارة قبل أن تدين الخارجية الأمريكية محاولة الانقلاب بعد فشلها ووقف أمريكا مع الحكومة المنتخبة.

ولا نستطيع كذلك أن نقفز إلى استنتاجات بعلاقة قادة قاعدة أنجرليك مع مندوبي الاستخبارات الأمريكية، بالرغم من أن هناك معلومات نُشرت عن تواصل منسوبين إلى الاستخبارات الأمريكية مع بعض قادة الجيش التركي بشأن احتمالية حدوث انقلاب ونفي الجنرالات الأتراك لهم احتمالية وقوع ذلك.

وفي تحليل بصحيفة واشنطن بوست نسبت الكاتبة “كارين دي يونغ” إلى مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية -رفضوا الكشف عن هوياتهم- قولهم، إنهم “كانوا على علم بما يحدث في تركيا، لكنهم لا يزالون يحاولون تحديد آثار ذلك على عمليات الولايات المتحدة” (الجزيرة)، كما نشر ضباط أمريكيون في البنتاجون خبرا مغلوطا عن طلب أردوغان اللجوء إلى ألمانيا، وذلك إلى قناة MSNBC بهدف تسريب هذه المعلومة إلى وسائل الإعلام العالمية، ونقلتها وسائل إعلام عربية (الشروق).

ومن كل تلك المؤشرات نستطيع أن نجمع خيوطًا بالرغم من أنها غير يقينية، عن دور استخباراتي في ذلك الانقلاب وهو ما يعني أن العملية أكبر من مجرد رغبات لقطاعات وسيطة داخل الجيش لتنفيذ ذلك الانقلاب، وبالتالي يمكن كذلك فهم أن إعلان الحكومة أن جماعة جولن بهي المنفذ للانقلاب ربما يكون بمثابة الغطاء لعدم الكشف عن أن هناك اختراقات متعددة داخل الجيش تهدد وحدته وتماسكه، ومن ثم فإن جماعة جولن تعتبر الخصم الأضعف وبالتالي غطاء مثاليًا لعملية التطهير المرتقبة.

الملفات الأهم أمام العدالة والتنمية:

بصرف النظر عن الطريق الذي ستسير فيه الحكومة التركية إزاء التهديد الانقلابي ومؤيديه في الداخل والخارج، تبرز عدة ملفات مهمة يجب أن تحافظ عليها الحكومة التركية:

  1. القضاء على أية بقايا للتهديد الانقلابي برفع درجة التأهب والحيطة على كافة المستويات.
  2. الحفاظ على وحدة وتماسك الجيش والتوقيف المؤقت لكل من يشتبه في صلته بالانقلاب.
  3. الحفاظ على قيمة العملة التركية والتي بدأت في الانخفاض مباشرة في أعقاب الانقلاب، وعدم إدخال البلاد في قلاقل داخلية جديدة تؤثر على نموها الاقتصادي.
  4. الحفاظ على السلم الأهلي وتماسك المجتمع التركي، والحفاظ على صورة البلاد كدولة ديموقراطية تعلي من سيادة القانون.
  5. الحفاظ على وحدة الجيش ومن ثم الوضع الإقليمي لتركيا وقدرتها على مقاومة التمرد الكردي داخل وخارج البلاد.

وكل تلك الملفات بحاجة إلى الحكمة والحذر في الرد على المحاولة الانقلابية وعدم استعداء شرائح أكثر داخل المجتمع التركي، وعدم توسيع دائرة الاستهداف وإعطاء الوقت لتحقيقات موسعة قبل القفز إلى استنتاجات وإجراءات بالتطهير قبل نتائج التحقيقات، بالرغم من أن العزل المؤقت لكل من يشتبه في تورطه في الانقلاب سيكون إجراءً احترازيًا لا يمكن التغاضي عنه.

وربما يكون من الأمثل أن تقوم الحكومة التركية بالتفاوض مع نظيرتها الأمريكية بتسليم فتح الله جولن بشرط ضمان محاكمة نزيهة له، ولكن يظل تشكك العدالة والتنمية في اختراق جولن للقضاء واحتمال تبرئته كما حدث مع ضباط سابقين تورطوا في محاولة أرجينيكون الانقلابية هو الهاجس الرئيس للحكومة، ومن ثم كان مسارعة الحكومة في عزل أكثر من 2700 قاضي ومدعي عام.

وقد يقارن البعض هذا الوضع بما فعلته القاهرة عقب إنقلاب الثالث من يوليو بعمل دوائر خاصة لـ (الإرهاب) لمحاكمة معارضيها ومعارضي الانقلاب، ولكن الدولة التركية يمكن أن تستعيض عن ذلك بأسلوب العزل المؤقت لحين انتهاء التحقيقات، باعتبار الظروف الاستثنائية التي تمر بها الدولة وتهدد وجودها، ولكن كل تلك الإجراءات تشير إلى أيام عصيبة في انتظار الدولة التركية بحاجة إلى الحكمة والحسم في آن واحد للتغلب على مصاعبها (1).

——————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close