تركيا بين حماية الديمقراطية واحترام القانون
اعتقد البعض أن انقلاب تركيا يفشل لأن جزءا فقط من الجيش التركي انقلب على أردوغان بينما كل الجيش المصري انقلب على الرئيس مرسي. لا يدرك أن الخطاب السياسي الذكي الذي تبناه أردوغان ورئيس وزرائه ورئيس برلمانه بالحديث عن انقلاب محدود من بعض القيادات الصغيرة والوسطى خارج التسلسل القيادي إنما هو مناورة سياسية بارعة لخلق حالة عدم يقين لدى المنقلبين.
في مواجهة الانقلاب: ثلاث كلمات وثلاث رسائل
لا يوجد جيش في العالم يقوم بعمل اتفاق بين جميع قطاعاته وضباطه وعساكره لإنجاز انقلاب، وإنما تتحرك القوة طليعة الانقلاب من فئة قليلة لكنها تتحكم في مكامن القوة والسيطرة في المؤسسة العسكرية، ثم تستدعي بقية القطاعات التي تستجيب بصورة نظامية وآلية، وأحيانا فإنها تستجيب دون دراية بما يجري.
وتظهر الحقائق تباعا أن أي سلاح في الجيش لم يكن بمنأى عن الانقلاب ودعمه وأن آلاف الرتب العليا شاركت فيه، بل وقد تكشف الأيام المقبلة بحقائق أخرى من العيار الثقيل فيمن خطط وقاد ثم قبل التسوية عندما لاحت الهزيمة.
تمكن رئيس الوزراء الذكي والشجاع من أن يرسل رسالة قاتلة في وقت قاتل بين صفوف الانقلابين، فمن كان يتحرك منقادا دون علم بأنه يشارك في انقلاب أدرك ما يجري، ومن يعتقد أنه يشارك في انقلاب تقوده قيادة الجيش ساوره القلق أن يكون منقادا لرتب صغيرة من القيادات العسكرية المتوسطة أو الصغيرة.
هؤلاء وهؤلاء بالتأكيد بعد رسالة تويتر من رئيس الوزراء، توقفوا وطالبوا قيادة الانقلاب بإثبات أن قيادة الجيش هي من يقود العمل في الميدان، ولذا جاءت رسالة قيادة الأركان الأولى بأن التحرك العسكري لتصحيح الوضع وحماية العلمانية واستعادة الديموقراطية، فكان الرد عليها رسالة نصية أخرى من رئيس الوزراء بأن رئيس الأركان مختطف وأنه جرت القرصنة على صفحة رئاسة الأركان الإلكترونية. وتكملة من وزير العدل الذي أعلن تكليف النواب العموميين بفتح تحقيق بشأن جريمة الانقلاب، وكأنه انتصر، رغم إن رسالته أيضا على وسائل التواصل الاجتماعية.
وضعت الحكومة الشرعية الانقلابين في ورطة برسائل الكترونية، فكان لزاما الإسراع بالحركة والوصول إلى بيان إعلان الانقلاب رغم أن الإجراءات لم تكتمل، فسعى الانقلابيون للاستيلاء على التلفزيون وإعلان البيان رقم (1) كان إجراءً دفعتهم إليه حكومة ذكية مدافعة عن الشرعية وتمتلك روح المبادأة والتحدي.
وبالتالي فإن أردوغان والذي لم يكن قد قرر الظهور إعلاميا في هذه اللحظة وكان ينتظر أن يظهر في إسطنبول عند وصوله إليها بمظهر يليق به كرئيس، وجد أنه من الضروري كسر أثر بيان الانقلاب في التلفزيون الرسمي، فقبل رجل التحدي أن يظهر على شاشة موبايل ليخاطب شعبه بثلاث كلمات: “سنعاقبهم. احتلوا الشوارع. المطارات”.
الثقة والتحدي هما الرسالة الأولى. وإطلاق الشارع وترك المبادرة له دون تقييد حركته هو الرسالة الثانية، واحتلال المطارات هو الرسالة الثالثة المذهلة. فكل انقلاب لديه خطة دعم وخطة هروب، وكلاهما تعتمدان على النقل بالطائرات، ومن ثم فإن احتلال المطارات يكون مزعجا لدرجة الموت لأي انقلاب، فالدعم مشكوك فيه، والهروب عند الهزيمة قد يكون مستحيلاً، سينفرط كثيرون للبحث عن تأمين أنفسهم وتأمين عوائلهم.
ومع إشارات ارتباك الانقلاب يبدأ دور الجمهور، ارتبك الانقلاب من هذا الأداء الذي قادته نخبة حاكمة تملك الخيال الكافي لخلق الحلول والشجاعة الكافية لتحدي الأهوال، وبعد أن كانت بعض القوى الداخلية والإقليمية والدولية قد أبدت تأييدا أوليا للانقلاب أو للانتفاضة وفقا لتعبير البعض أو الثورة وفقا لتعبير أحمد موسى، فإن الصورة تغيرت نفسيا أولا وواقعيا ثانيا، فبدأ كثيرون في التزام الصمت والانتظار لعلمه أن العملية لم تُحسم بعد، بينما قليلون هم من بدأوا في التبرؤ من الانقلاب، لكن أولئك القلة كانوا بالقدر الكافي لخلق زخم جديد يسمح للشرعية بأن تبدأ هجومها المضاد.
لا قانون إذا سقطت الديموقراطية
أظهرت الفيديوهات كيف تعامل الانقلابيون بكل عنف في مواجهة المتظاهرين في الساعات الأولى للانقلاب، بما لا يقل عما رأيناه في أيام التحرير (حوالي 800 شهيد) وأيام محمد محمود والعباسية وماسبيرو وغيرها، لكنها بالطبع لم تصل لما لحقنا في رابعتنا وما بعدها (آلاف الشهداء)، ففي الحالتين (بداية الانقلاب في تركيا وقبل الانقلاب في مصر) كانت المعركة مازالت في الميدان ولم تكن قوات الانقلاب قد تمكنت بعد، وفي كل الأحوال عندما تتمكن بعد مقاومة الشعب فإنها لا تفعل سوى نحر المقاومين كما حدث في مصر وكما كان سيحدث في تركيا صباح السبت لو انتهت الليلة بسيطرة للانقلابين.
الانقلابات تُدرك أن استقرارها يحتاج لإنهاء كل مقاومة وكل أمل في المقاومة، وهي حاسمة في ذلك لا تلعب ولا تساوم، لكن الأمر مختلف بالنسبة لكتلة الديموقراطية، فهي أكثر رومانسية، عندما تواجه الانقلابات فإنها تتسلح بمطالب الحرية والعدل، وتُدرك أنها تناضل لأجل قيم لا يجوز التنازل عنها، لكنها عندما تسيطر على الأرض فإنها تهرع إلى حلمها لتنثره على الأرض دون أن تسعى لزراعته وتثبيته في الواقع.
الفارق بين أن تنثر بذور الحرية فتذروها الرياح، وأن تزرعها فتسعى لتثبيتها في التربة، هو الفارق بين موقف النخبة السياسية في تركيا والطليعة الثورية في مصر التي لا نشك في إيمانها بالديموقراطية وسعيها إليها، لكنها تتبنى طريقة نثر القيم الديموقراطية في الهواء لا تثبيتها في الأرض.
النخبة السياسية التركية، سلطة ومعارضة أدركت ذلك، وربما استفادت من التجربة المصرية التي تُعطي نموذجا لما يجب أن لا تكون عليه النخبة السياسية المناصرة للديموقراطية، فارق بين إعمال القانون والتهاون في حماية الديموقراطية، فكان يُمكن للنخبة المصرية أن تعترض على النائب العام الذي عينه مرسي، لكن لم يكن جائزا لها أن تطالب باستعادة نائب عام مبارك، كان يجب أن يكون منطقها مستندا إذا ما كان النائب العام الجديد قادرا على حماية الثورة وقيم الديموقراطية أم لا، وليس مطالبة مرسي بأن يتقيد بقواعد اللعبة التي وضعها النظام الذي ثار الشعب عليه.
كان يُمكن انتقاد الإعلان الدستوري المؤرخ 22 نوفمبر 2012 لأنه غير كافٍ لحماية الثورة ولأنه ضعيف في بنائه القانوني، وأنه اهتم بحماية القرارات أكثر من مسعاه لحماية القيم، لكن لم يكن مقبولا ولا معقولا انتقاده لأنه خروج على الإعلان الدستوري الذي وضعه المجلس العسكري في 30 مارس 2011.
اجتمعت النخبة التركية على ضرورة التصدي للانقلاب وهزيمته، وصل التوافق لدرجة القبول بإعادة عقوبة الإعدام التي سعى أغلبيتها لإلغائها بغرض الوصول لحلم قومي للأتراك وهو الانضمام للاتحاد الأوربي، لكنهم الآن لا يُمانعون من دعمها لحماية الديموقراطية، عشرات أو مئات من القضاة جرى توقيفهم، ومن بينهم ربما من كان سيجري تنصيبه رئيسا مؤقتا ليصدر قوانين انتهاك الديموقراطية، كحظر التظاهر والكيانات الإرهابية وتبرير قتل المقاومين للانقلاب.
قبلت النخبة السياسية التركية ذلك رغم ما ينطوي عليه من مساس لهيبة القضاء، لأنهم أدركوا أنه لا قيمة للقضاء إن ضاعت الديموقراطية، فلو انتصر الانقلاب سيتحول القضاء إلى سيف تُقطع به كل رقاب أنصار الديموقراطية، بينما لدينا فإن قانونا لإصلاح محدود لمؤسسة القضاء واستبعاد من عينهم مبارك لقيادته لم يستطع أن يمر، بين تردد السلطة وهجمات معارضيها من النخب الثورية، ولم يستفد غير الانقلاب الذي أكل الطرفين بنفس الجهاز القضائي.
صور بعض جنود الجيش وهم يُهانون في الشوارع جرى انتقادها، لكنها لم تتحول إلى نقطة نزاع وإنما إلى محاولة الدفع نحو مزيد للتوافق، ظهر رئيس حزب الأغلبية رئيس الوزراء ورئيس الحزبين المعارضين الأكبر في البرلمان مصطفين معا، ليعلنوا أن تركيا دولة قانون وأن وظيفة القانون الأولى هو حماية الديموقراطية والحرية لا تيسير سقوطهما، وأن التجاوزات سيجري علاجها، لكن قبل ذلك وبعده أكدوا أن التطهير سيستمر بأدوات قانونية، فهم لا يحتفلون بإلقاء بذور الديموقراطية في الهواء، إنما يزرعونها ويسقونها ويدافعون عنها حتى تترسخ.
لست قلقا على هذه الديموقراطية الواعدة والتي لا تحتاج نصائح غيرها، لكني قلق من أن لدينا من يمتلئ قلبه بحلم الديموقراطية، لكنه يتمسك بنفس التصورات التي أدت لوأدها لدينا (1).
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.