ظلّت منطقة المغرب الكبير (شمال أفريقيا) لحوالي قرن ونصف من الزمن منطقة نفوذٍ فرنسيٍ محض، الأمر الذّي جعل سياسات دولها المستقلة واقتصاداتها مرتبطةً ارتباطا وثيقاً بالمصالح الفرنسية الكبرى، إلاّ أنّه ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين عرف النفوذ الفرنسي تراجعاً ملحوظاً.
فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر صارت منطقة شمال أفريقيا محطّ اهتمام كبيرٍ من طرف الولايات المتحدة لاسيما من الناحية الأمنية مع حربها على ما يُسمى بالإرهاب، إلى جانب الولايات المتحدة، صارت ملامح الوجود الصيني في شمال أفريقيا ملامحاً واضحةً للعيان لاسيما في مشاريع الإنشاء والبنى التحتية على وجه التحديد، وقد ساعدت الثورة الاقتصادية التّي تعيشها الصين منذ مطلع القرن الجديد على أراضيها على تصديرها لمشاريعها وسلعها إلى الآفاق البعيدة من العالم، لقد كانت الصين حاضرةً في المغرب الكبير منذ أيّام الاحتلال الفرنسي لاسيما في الجزائر حينما دعمّت الثورة التحريرية الجزائرية ثمّ وفقت إلى جانب الجزائر المستقلة الفتية أيّام الحرب الباردة، خاصةً وأنّ الجزائر تبنّت النهج الاشتراكي بعد استقلالها مباشرة، الأمر الذّي صنع ذاكرة طيّبة في المخيّلة السياسية لصنّاع القرار في البلدين إلى الآن، والحال مُشابهٌ إلى حدٍّ ما في كلٍّ من تونس والمغرب الأقصى.
لكن، وخلال العقد الأخير، أخذ الوجود الصيني في شمال أفريقيا عموماً شكلاً أكثر ثباتاً وتنامياً، فمع حلول سنة 2014، تفوّقت الصين لأوّل مرّة على فرنسا من حيث حجم الاستثمار في الجزائر، كما صارت المورّد الأول لها، وللعلم فإنّ الصين هي المتعامل الاقتصادي الأول مع القارة الأفريقية بقيمة تُقدّر ب 128 مليار دولار سنة 2016، بعد أن كانت هذه التعاملات تُقدّر بقيمة 215 مليار دولار سنة 2014، وهي قيمة تفوق بقية استثمارات الدول الكبرى الأخرى كالولايات المتحدة وفرنسا.1
منذ إعلان الرئيس الصيني شي جي بينغ عن مبادرة الحزام والطريق سنة 2013، التحقت دول المغرب الكبير تباعاً بهذه المبادرة ووقعت مذّكرات تفاهم واتفاقيات شراكة مع الصين في هذا الصدد بشكلٍ أوحى بأنّ خارطة العلاقات الاقتصادية بين الصين وهذه الدول من شأنها أنّ تغيّر كثيراً في طبيعة علاقات القوة بالمنطقة، هذا ما يجعلنا نتساءل في هذا المقال عن الأبعاد الجيوبوليتيكية والاستراتيجية لتنامي الوجود الصيني بمنطقة المغرب الكبير، وكيف سيؤثّر هذا الوجود المتنامي على طبيعة علاقات القوة بالمنطقة؟
1. مبادرة الحزام والطريق
يعود مصطلح “طريق الحرير” إلى القرن الثاني قبل الميلاد، حينما أرسل الإمبراطور الصيني سنة 139 قبل الميلاد الجنيرال زانغ كيان باتجاه الغرب في بعثةٍ دبلوماسيةٍ لأجل عقد تحالفاتٍ مع شعوبٍ معادةٍ للصين بآسيا الوسطى، إلاّ أنّ الجنيرال كيان تمّ اعتقاله لمدّة 13 سنة تمكّن بعدها من الفرار والعودة للصين مُقدّماً تفاصيلاً جذّابةً للإمبراطور الصيني عن رحلته تلك، الأمر الذّي دفعه لإرساله من جديد لاستكشاف الشعوب المجاورة للصين، فشقّ طريقه باتجاه آسيا الوسطى، كان طريق الحرير يتألّف من مسلكٍ برّيٍ وطريقٍ بحريٍ، وقد عمل كلاهما على تسهيل نقل سلعِ وأفكارِ جنوب وشرق آسيا إلى أوروبا، من الشاي الصيني إلى اختراعاتٍ مثل الورق والبارود والبوصلة، إلى الحرير، فضلاً عن المنتجات الثقافية مثل النصوص البوذية والموسيقى الهندية،2 ليتطوّر الطريق بعدها وفقاً لتحولات التاريخ والجغرافيا.
مع حلول القرن الحادي والعشرين، عرفت القارة الآسيوية انتعاشا جديداً تقوده الصين صاحبةُ أضخمِ الاقتصاديات الكونية على الإطلاق، لقد عملت الصين على الخروج من إقليمها باتجاه العالم، وكانت الآليات التجارية والاقتصادية وسيلتها في ذلك، وفي سنة 2013، أطلق الرئيس الصيني، في خطاب له بكازاخستان، فكرة إعادة إحياء طريق الحرير القديم في نمطٍ جديدٍ يربطُ اقتصاد الصين وثقافتها بالعالم أجمع، تمّ تسمية المبادرة آنذاك بمبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، ليتّم تغيير اسمها لاحقا إلى “مبادرة الحزام والطريق”.
يتمثّل مبدأ هذه المبادرة في إنشاء الصين لطرقٍ بريّةٍ وبحريةٍ تمتّدُ من مدنها الصناعية والتجارية الكبرى غرب البلاد وصولا إلى عواصم أوروبا الغربية مروراً بأراضي آسيا الوسطى، تركيا والقوقاز ثمّ موانئ البحر المتوسط، فضلا عن خطوطٍ بحريةٍ أخرى تمرُّ عبر بحر الصين الجنوبي، مضيق ملقا، شبه القارة الهندية، مضيق باب المندب، الخليج العربي، الشام، فالبحر المتوسط، كما توجد خطوطٌ أخرى تتّجه نحو غرب القارة الأفريقية إلى نيروبي، جيبوتي وغيرها، ومع إعلان كلٍّ من دول شمال أفريقيا رغبتها في الانضمام إلى هذه المبادرة الكونية تكون الصين بذلك شقتّ طريقا تجارياً ضخماً يمتّد إلى آلاف الكيلومترات ستنشئُ الصين عبره مشاريع بنى تحتيةٍ ضخمةٍ واستثمارات هائلةٍ في هذه الدول.
تشير الإحصاءات بأنّ الصين تُنفق حوالي 150 مليار دولار سنويا3 في الدول الـ 71 التّي وافقت على الانضمام إلى هذه المبادرة، ويُتوقّع أن تُنفق الصين على هذه المبادرة أكثر من 1 تريليون دولار، وقد أنفقت إلى غاية سنة 2018 حوالي 21 مليار دولار كاستثمارات، أغلبها كان في آسيا، كما ضمنت الشركات الصينية إلى غاية 2018 ما قيمته 34 مليار دولار عقد إنشاء على طول خطّ الحرير الجديد.4
2. نبذة مختصرة عن طبيعة العلاقات الصينية-المغاربية:
تُشير الأرقام إلى تميّز العلاقات التجارية والاقتصادية بين الصين ودول شمال أفريقيا، إذ بلغت هذه العلاقات أوجها خلال العقد الأخير، فهذه المنطقة التّي يقطنها حوالي 170 مليون نسمة (إلى جانب مصر) تُمثّل سوقاً استهلاكية خصبةً بالنسبة للصين، يُعتبر قطاع البناء والإنشاءات أهمّ القطاعات التّي تُهمين عليها الصين في المنطقة، في سنة 2016، بلغت قيمة سوق الإنشاء والبنية التحية في المنطقة حوالي 9 مليار دولار. 5
كانت العلاقات التجارية بين الصين وشمال أفريقيا سنة 2000 تُقارب قيمتها 1.6 مليار دولار، بحلول سنة 2012 نمت هذه العلاقات بحوالي 20 ضعفا لتصل قيمتها إلى حوالي 31 مليار دولار، في الفترة ما بين 2000 -2012 نمت قيمة تصدير الصين لشمال أفريقيا من مجرّد 1.4 مليار دولار إلى 20.5 مليار دولار، في حين نمت واردات الصين من المنطقة من 213 مليون دولار إلى 10.7 مليار دولار أثناء نفس الفترة، في الوقت الحاضر، تُعتبر الصين واحدة من بين أهم 10 مصادر لواردات اقتصاد المنطقة، وهذا ما يؤكّد أهميّة منطقة شمال أفريقيا كسوق حيوية بالنسبة للصين.6
تُعتبر الجزائر أهمّ شركاء الصين في المغرب الكبير، ففي العقدين الأخيرين تنامت قيمةُ التجارة الصينية-الجزائرية بشكلٍ دراماتيكيٍ، صارت الجزائر بمثابة السوق الأكبر للصين في المغرب الكبير، في نفس الوقت، تجاوزت الصين فرنسا باعتبارها المصدر الأكبر للواردات. يتّمُ الآن تسويةُ المُعاملات –المالية- بين الجزائر والصين باليوان الصيني بدلاً من الدولار الأمريكي.
تُباشر الصين الآن مشاريعاً عملاقةً بالجزائر على غرار دار الأوبرا الضخمة في العاصمة، مسجد الجزائر الأعظم، بناء مطار جديد بالعاصمة، ملاعب أولمبية، مبنى وزارة الخارجية والمحكمة الدستورية، فنادق خمسة نجوم ضخمة، معامل تركيب السيارات، توسعة شبكة السكك الحديدية، طريق سيّار سريع يربط شرق البلاد بغربها على مسافات طويلة جدّا، كما تستثمر الصين في حقول النفط والغاز جنوب البلاد، كما صارت الجزائر المشتري الأول للسلاح الصيني في القارة الأفريقية، ومع حلول سنة 2009، بلغ عدد العمّال الصينيين في الجزائر حوالي 50 ألف عاملٍ، جاعلين من الجزائر البلد الأوّل المُستقبل لأكبرِ جاليةٍ صينيةٍ في شمال أفريقيا وأحد أكبر البلدان المُستقبلة لها في كامل القارة الأفريقية.7
وفي إطار مشروع طريق الحرير الجديد شرعت الصين منذ سنة 2016 بمبادرة مشاريعٍ لموانئ حيوية على طول منطقة شمال أفريقيا، أهمّها ميناء الحمدانية بمنطقة شرشال بالجزائر، وهو الميناء الذّي يراه الصينيون حيويا جدّا لتصدير سلعهم نحو الضفة الشمالية للبحر المتوسط، (إلى جانب ميناء طنجة بالمغرب، وميناء أنفيدا بتونس (Cherchell, Tanger Med, Enfidha)، ومثلما يؤكد السيد Abigaël Vassalier: “يهدف هذا المشروع (شرشال) الذّي يُكلّف 3.3 مليار دولار إلى بناء مركز توزيع أساسي للبحر المتوسط بقدرة 6.5 مليون حاوية و30 مليون طن من البضائع الضخمة سنويا.”8
أمّا بالنسبة للمغرب، فالصين هي الشريك التجاري الثالث للمغرب بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بلغ حجم المبادلات التجارية بين البلدين حوالي 3.23 مليار دولار9، في شهر ماي 2016، زار الملك محمد السادس الصين، تمّ التوقيع آنذاك على 15 اتفاقية تعاون تستفيد بموجبها المغرب من الاستثمارات الصينية في حين تستفيد الصين من موقع المغرب القريب من أوروبا في تصدير سلعها.10
بالنسبة للاستثمارات الصينية في المغرب، فقد ارتفعت بنسبة 143% خلال 2017، وبلغت 855 مليون درهم (نحو 90 مليون دولار أميركي)، مقابل 351 مليون درهم في 2017، يأتي هذا الارتفاع في سياق بناء “مدينة محمد السادس طنجة تك”، والتي ستخصّص لاستقبال الاستثمارات الصينية في المغرب،11 ويُعتبر المشروع من أضخم المشاريع الصينية والأجنبية عموماً في المغرب، سيُبنى على مدار 10 سنوات، ويُتوقّع أن يصل حجم الاستثمار الصيني فيها إلى 10 مليار دولار، مع توفير الشغل لحوالي 100 ألف عامل12، من الممكن أيضاً أن تسفيد المغرب من مشروع طريق حرير ينطلق من شبه الجزيرة الإيبيرية نحو المغرب ليمرّ عبر الصحراء الغربية التّي يسيطر عليها المغرب ثمّ موريتانيا فخليج غينيا13، تستفيد المغرب أيضاً من مداخيل السياحة الصينية إليها، إذ قُدّر عدد السياح الصينين إلى المغرب سنة 2017 بحوالي 120 ألف مقارنة مع 10 آلاف سنة 2015 وهذا بعد بإلغاء المغرب للتأشيرة على المواطنين الصينين.14
بالنسبة لتونس، فقد تأخّر الاستثمار الصيني بها مقارنة بجيرانها إلى غاية سنة 2017 حينما انتبه الصينيون إلى أهميّتها، فرغم صغر مساحتها إلاّ أنّ الصين رأت فيها منطلقاً بحريّاً مهمّاً باتجاه أوروبا، إذ تلعب تونس دور الوسيط المثالي للصين المهتمّة بالسيطرة على الممرات المائية بين شمال أفريقيا وأوروبا كجزء من مبادرة “طريق الحرير الجديد”، ويبدو أنّ الصين مهتمّة بميناء بنزرت في تونس الذي يسهّل الوصول إلى أوروبا ويقع في مركز هامّ لكابلات شبكات الألياف البصرية البحريّة.
وفي زيارة رسمية إلى الصين في تموز/يوليو 2017، قال وزير الخارجية خميس الجهيناوي إنّ تونس “تدعم بشكلٍ كاملٍ” مبادرة “الحزام والطريق” وإنّها مستعدةٌ للمشاركة في المشاريع، وقبل شهر، وقّع البلدان على ثلاث اتفاقيات من شأنها زيادة التعاون التجاري وشملت الاتفاقيّات إنشاء مركزٍ تجاريٍ مساحته 200 ألف مترٍ مربع بقيمة 65 مليون دولار في تونس العاصمة.15
يستفيد قطاع السياحة التونسي (الذي يُعتبر من الركائز الاقتصادية للبلاد) من الصين بدوره، قالت ليلى تكيا، مديرة العلاقات العامة والاتصالات في المكتب الوطني التونسي للسياحة، لوكالة الأنباء الصينية (شينخوا) في شهر أيلول/سبتمبر: “إنّ مستقبل السياحة التونسية في يَد السوق الصينية”، وفي سنة 2016 أطلقت تونس برنامج سفر بدون تأشيرة للمواطنين الصينيين، وفي عام 2017 أيضاً زار عشرة آلاف مواطن صيني تونس، ممّا يدلّ على زيادة التبادل الثقافي بين البلدين16، رغم ذلك؛ يبقى حجم المبادلات التجارية بين البلدين متواضعاً، فقد قُدّر سنة 2017 بحوالي 1.5 مليار دولار، ويُتوقع أن يزيد انضمام تونس إلى “مبادرة الحزام والطريق” حجم العلاقات التجارية بين البدلين بشكلٍ أكبر وأوسع ممّا هي عليه اليوم.17
أمّا بخصوص ليبيا الدولة النفطية وصاحبة الإطلالة الجيوستراتيجية على البحر المتوسط والقريبة من إيطاليا التّي تجعلها محلّ اهتمام أيّ فاعلٍ خارجيٍ، فقد كانت مكاناً لمشاريعٍ صينيةٍ واعدةٍ قبل الحرب، في سنة 2009، قدَّرت وزارة التجارة الصينية حجم الاستثمار الصيني في ليبيا بحوالي 426.9 مليار دولار، ومع اندلاع الحرب سنة 2011، كانت هناك حوالي 75 شركة صينية تستثمر في ليبيا مُشاركةً في 50 عقد مشروع عملٍ قُدّرت قيمتها بحوالي 18.8 مليار دولار، كما كان هناك حوالي 36 ألف عامل صيني تمّ إجلاءهم بسبب الحرب18، لقد خسرت الصين مشاريعها تلك بعد تدخّل الناتو.
وبعد حوالي ستة سنوات من الحرب التّي اقتربت من نهايتها، تشكّل المجلس الانتقالي الوطني بليبيا والذّي رأى بأنّ البلد بحاجة إلى حوالي 100 مليار دولار استثمارات في البنية التحية التّي هدّمتها الحرب، وهذا ما رأت فيه الصين فرصةً جديدةً لاستعادة السوق الليبية19، في منتصف شهر يوليو 2018، وقّعت ليبيا مذكرة تفاهم مع الصين تقضي بانضمامها إلى “مبادرة الحزام والطريق” قريباً الأمر الذّي سيجعل الصين تنال حصّةً ضخمةً من الاستثمارات ومشاريع البنية التحتية لاسيما وأنّ ليبيا في صدد الخروج من حربٍ دمرّت بها كلّ شيء.
كلّ هذا التواجد الصيني المتنامي في المغرب الكبير يجعلنا نتساءل عن الأهمية الجيوستراتيجية لهذه المنطقة في الاستراتيجية الصينية العالمية وما الذّي يُمكن أن تُقدّمه للصين في هذا الصدد، أو بعبارة أخرى: ماذا تريد الصين بالضبط في المغرب الكبير؟
3. المغرب الكبير والتنافس الصيني على الريادة العالمية:
هناك جدلٌ سائدٌ بين الباحثين بخصوص مسألة الصعود الصيني، هل سيكون صعوداً سلمياً أم لا؟ وهل تُعتبرُ الصين قوّةً تعديليةً في النظام الدولي أم قوّةً تهدف إلى المحافظة على الوضع القائم؟ نميلُ هنا إلى الطرح الذّي يُقدّمه الواقعيون الجدد في هذا الصدد على غرار جون ميرشايمر، روبرت كابلان وستيفن والت، يُحاجج هؤلاء بأنّه من المستحيل أن يكون صعود الصين صعوداً سلمياً، ولهم العديد من الحجج في ذلك، فالصين لا تريد أن تكون الطرف الأضعف في محيطٍ مليء بالمتنافسين الأقوياء، فحينما كانت الصين ضعيفة من قبل تعرّضت للاحتلال، لذا، وفي نظامٍ دوليٍ فوضويٍ فإنّ هدف أيّ قوّة هو أن تكون الطرّف المهيمن على بقية الوحدات، ونظراً لاستحالة تحقيق الهيمنة العالمية بسبب وجود البحار والمحيطات كقوة عائقة للهيمنة، فإنّ طموح أيّ قوةٍ هو الهيمنة على محيطها الإقليمي في مقابل طرد أيّ قوّةٍ خارجيةٍ تحاول اختراق هذا المحيط أو الهيمنة عليه.
وإذا تمكنت دولةٌ ما من إحكام سيطرتها على مُحيط إقليمها فهذا يعني أنّها جاهزة لتوسيع دائرة نفوذها خارجياً مدفوعةً ببحثها عن القوة إلى أن تصل إلى حدود دولةٍ أخرى أو نفوذ منطقةٍ ما تابعٍ لمحيطٍ إقليميٍ لدولةٍ أخرى قويّة، وهذا ما تفعله الصين اليوم بالضبط. يُعتبر بحر الصين الجنوبي بمثابة المحيط الإقليمي الأهمّ الذّي تسعى الصين إلى الهيمنة عليه وطرد الوجود الأمريكي منه عبر وسائل عديدة كتشكيل شبكة تحالفات في المنطقة، ربط اقتصاديات دول المنطقة باقتصادها عبر إنشاء مؤسسات اقتصادية إقليمية، زيادة وتيرة التسلّح والحضور البحري هناك، بل وحتّى إنشاء جزر صناعية في هذا البحر المتوتر تُستخدم لأغراض عسكرية في أغلب الأحوال، وأخيراً، يُحاجج الواقعيون الجدد بأنّ الصين سوف تستغل في المستقبل المنظور المكاسب الاقتصادية والمداخيل المالية التّي حقّقتها عبر عقودٍ لتستخدمها في الجانب العسكري لها، لذا لن يكون بهذا المعنى صعود الصين صعوداً سلمياً على الإطلاق.
تمرُّ إحدى خطوط طريق الحرير الجديد عبر بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقا الحيوي، وهي منطقة نزاعاتٍ وتوترٍ شديدٍ بين الصين وجيرانها من جهة وبين الصين والولايات المتحدة من جهة أخرى، إصرارُ الصين على مرور طريق الحرير الجديد من هناك –كما كان قبل قرون من الزمن- هو تعبيرٌ منها وإصرارٌ على الهيمنة على منطقة بحر الصين الجنوبي، جوارها الإقليمي الأهمّ، ولتفادي أيّ مشكلاتٍ قد تتعرّض لها السلع والموارد المارة من هناك، أنشأت الصين طريقاً بريّاً يتفادى هذه المناطق المتوترة، يمرّ عبر كازاخستان إلى أوروبا، تقضي فيه السلع والموارد الذاهبة إلى هناك وقتاً أقل كثير ممّا تقضيه عبر البحر.
تمرّ كلّ الخطوط البريّة والبحريّة عبر مضائق وممرات حيوية جدّا، هي اليوم عبارة عن ممرّاتٍ تجاريةٍ وغداً قد تتحوّل إلى ممراتٍ عسكريةٍ ومناطق تستضيف قواعداً عسكريةً للصين، وهذا ما يتخوّف منه شركاء الصين فضلاً عن منافسيها الغربيين، في هذا الصدد، أرست الصين العام الماضي أولى قواعدها العسكرية ما وراء البحار في جيبوتي، يقول محلّلون إنّ أغلب الموانئ والبنى التحتية التّي أنشأتها الصين قد يصير لديها استخدام ثنائي، أيْ لأغراضٍ تجاريةٍ وعسكريةٍ في نفس الوقت، “إذا كان بإمكانها حمل السلع، فبإمكانها أيضاً حمل الجنود”، كما يقول الأستاذ جوناثان هيلمان Jonathan Hillman)) مدير مشروع إعادة ربط آسيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن دي سي.20
وصول خط طريق الحرير الجديد إلى سواحل المغرب الكبير يعني وصول النفوذ الصيني إلى بوابة القارة الأفريقية الثريّة، كما يعني أيضاً أنّ الصين صارت متواجدة على الحدود الجنوبية لأوروبا، لقد صارت الصين كما فصلّنا سابقا المستثمر الأول في هذه الدول، وصاحبة أضخم مشاريع البنى التحية هناك بشكل أوحى بانتهاء الهيمنة الاقتصادية الغربية على هذه المنطقة، سوف ترتبط هذه الدول في المستقبل المنظور بالاقتصاد الصيني وسيكون عليها ديونٌ ضخمة ينبغي أن تُسدَّد، من الممكن أن تُستخدم من طرف الصين كوسيلة ضغطٍ للحصول على امتيازات عسكرية ما، كبناء قواعد عسكرية أو ما شابه.
قد تستفيد الصين أيضاً في هذا الصدد من علاقاتها التاريخية الحسنة مع دول المنطقة على غرار الجزائر في جذب هذه الدول لتكون محاوراً جيوبوليتيكيةً في استراتيجيتها الكبرى، ومن نافلة القول أنّ الصين صارت مورِّداً أساسياً للسلاح في دول المنطقة وفي القارة الأفريقية كاملةً، فالجزائر مثلاً هي المستورد الأول للسلاح الصيني في القارة الأفريقية، وقد تمكّنت الصين من اختراق السوق الجزائرية بالعديد من أصناف الأسلحة، وقد ذكرت دراسة بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن دي سي أنّه وفي شهر مايو 2017، أظهرَ الجيش الجزائري علنًا صورًا لمدافع هاوتز ذاتية الدفع (LZ45 155 MM) وهي صينية الصنع (تسلمها سنة 2014) وقد تمّ استخدامها في تدريباتٍ تكتيكيةٍ، ووفقًا لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI)، طلبت الجزائر خلال السنوات الخمس الأخيرة من الصين أيضاً 50 صاروخاً مضاداً للسفن من نوع (C-802/CSS-N-8)، تضّم صواريخ أرض جو من نوع (FM90) أيضاً، وفي شهر يوليو/تموز 2017، تسلّمت البحريّة الجزائرية ثالث وآخر دفعةٍ من سفينة (C28A Corvette) والتّي تمّ طلبها من الصين شهر مارس 2012. 21
تهدف الصين إلى جانب قوى أخرى صاعدة كروسيا، الهند والبرازيل إلى المساهمة في إرساء نظامٍ دوليٍ أكثر تعدّداً لا يحتكر فيه الغرب والولايات المتحدة مناطق النفوذ، المسؤوليات العالمية والقرارات الكبرى، تُقدِّم الصين نفسها لدول المغرب الكبير على أنّها الداعم التاريخي لها في ثوراتها ضدّ الإمبريالية الغربية التّي عمرّت هناك لأكثر من قرن من الزمن، وبالتالي فهي القوة العالمية اليوم المواجهة لمشاريع الإمبريالية العالمية ولضحاياها، الأمر الذّي من شأنه أن يجد مساحاتٍ سياسيةٍ مشتركةٍ بين الصين والبلدان المغاربية.
لقد وقفت الصين سنة 2011 ضدّ تدخّل القوى الأطلسية في ليبيا، والذّي تسبّب لاحقاً في مشكلاتٍ أمنيةٍ كثيرةٍ بالمنطقة، وهذا الموقف متوافقٌ جدّا مع سياسات بعض الدول المهمّة في المغرب الكبير على غرار الجزائر التّي تقوم سياستها الخارجية على مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى من الأساس، فضلاً عن مساندة تدخّلات عسكرية كهذه من قوى أجنبية كبرى، ومن شأن توافقاتٍ كهذه أن تساهم في تشكيل أرضيةٍ أمنيةٍ مشتركةٍ بين الصين ودول المنطقة تكون منطلقاً لهندسة تصوراتٍ أمنيةٍ مشتركة تُحدّد فيها الصديق والعدو، وسوف تساعد سياسة الصين غير المهتمة بالخلافات البينية بين الدول التّي تتعاون معها في تكريس هذا المنحى، فالصين مثلاً لا تتحدّث إطلاقاً عن خلاف الصحراء الغربية بين المغرب والبوليساريو والجزائر، بل تركّز على مشاريعها الاقتصادية هناك بعيداً عن أيّة خلافات سياسية من شأنها أن تعرقل مشروع طريق الحرير الممتد إلى تلك المنطقة.
تهدف الصين أيضاً من وراء تعميق العلاقات الاقتصادية مع دول المنطقة إلى تحقيق بعض الأهداف الدبلوماسية على غرار توسعت مؤيّديها فيما يخصّ مسألة تايوان22والتبت مثلاً، فالاستثمارات الضخمة في المنطقة هي طريقة لشراء أصوات دولها في المحافل الدولية بخصوص المسائل السياسية التّي تعتبرها الصين قضايا سيادية.
ولأجل حماية استثماراتها التجارية على طول خط الحرير الجديد عموماً وبمنطقة المغرب الكبير على وجه الخصوص، سوف تبذل الصين جهوداً دبلوماسيةً كبيرة لدى المنظمات الدولية ولدى دول المنطقة تُقنعها فيها بضرورة توفير الحماية الأمنية لهذه الاستثمارات والمنشئات، لقد نجحت الصين من قبل في تحقيق شيء كهذا سنة 2008، حينما نالت موافقة مجلس الأمن بالأمم المتحدة (القرارات 1816، 1838، 1846 و 1851) بخصوص إمكانية توفيرها للحماية الأمنية لسفنها التجارية والسفن الأجنبية في خليج عدن، خاصة مع سوء الأوضاع الأمنية في الصومال وارتفاع معدّل القرصنة في الخليج، منذ ذلك الوقت نشرت الصين 16 سفينة حماية لتحمي حوالي 5300 سفينة صينية وأجنبية ولاتزال المهمّة قيد التنفيذ إلى الآن. 23
لن يكون من المستبعد أن تحاول الصين ممارسة نفس السلوك في غرب المتوسط بدعوى حماية خطوط التجارة ومناطق الاستثمار في شمال أفريقيا، خاصة في حالات الفوضى الأمنية التّي تُهدد مصالحها هناك على غرار ما حدث في ليبيا قبل سنوات، لن يكون الأمر صعباً بالنسبة للصين نظراً لبعد المسافة الجغرافية بينها وبين منطقة المغرب الكبير، فقد ضرب السوفييت مثالاً جيّداً عن قدرة القوى الكبرى الطامحة على مدّ نفوذها إلى حدود بعيدة بل وعلى مقربةٍ من حدود خصومها كما حدث في كوبا سنة 1962.
لكن، لن يكون هذا الأمر ممكناً في الوقت الراهن في المقابل أيضاً مادامت الصين “قوة غير مكتملة” على حدّ تعبير البروفيسور دافيد شامبو، ومادامت الولايات المتحدة وأوروبا خصوصاً تعتبر ما يجري في غرب منطقة المتوسط يدخل في إطار أمنها القومي المباشر.
خاتمة واستنتاجات:
كما يتضّح ممّا سبق، فإنّ “مبادرة الحزام والطريق” تُعتبر أضخم مبادرةٍ اقتصادية-تجاريةٍ قامت بها دولة لوحدها عبر التاريخ، لا يزال هذا المشروع في بدايته لذا فمن المبكّر جدّاً الحكم بنجاحه أو فشله من الآن، لكن ما يُمكن قوله عن المشروع إنّه مشروعٌ طموحٌ وواعدٌ لكنّه لن يكون ذا أهدافٍ تجاريةٍ “بريئة” كما يُروّج له، فوفقا للتحليل الواقعي قد يبدأ المشروع بأهدافٍ اقتصادية- تجاريةٍ محضة وينتهي إلى أهدافٍ جيوبوليتيكيةٍ وعسكريةٍ طموحة، لن يتفاجأ التحليل الواقعي بذلك طالما ينطلقُ أساساً من فهمه العميق لمنطق الدولة الكبرى، لذا من المرجّح ألاّ تختلف أهداف الصين في المستقبل عن أهداف الغرب الإمبريالي في السابق إلاّ من ناحية الوسائل والأساليب، هذا ما يفرضه منطق الدولة الكبرى، وهذا ما تدفع إليه فوضوية النظام الدولي القائم على المنافسة، الهيمنة وشحّ الأمن بين الدول.
بالنسبة لمنطقة المغرب الكبير، فما هي إلاّ جبهة من جبهات التنافس الشديد بين الشرق الصاعد والغرب المهيمن، وقد يجعل قربها من أوروبا الغربية جبهةً ساخنةً بين الطرفين في المستقبل المنظور، لن يقبل الناتو بوجودٍ صينيٍ على مقربةٍ من أراضيه كما حدث أيّام الحرب الباردة حينما وجد نفسه على حافة هاويةٍ من حربٍ نوويةٍ في مصر سنة 1956 وكوبا سنة 1962.
لذا سوف يجتهد للحفاظ على نفوذٍ سياسي له في شمال أفريقيا عبر دعم نظمها السياسية القائمة، ومحاولة احتواء النفوذ الصيني هناك، أمّا دول المغرب الكبير فعليها أن تُحسن استغلال التنافس الدولي هناك لاسيما بين الصين والولايات المتحدة لتحقيق مكاسب متنوعة وأن تتجنّب التورّط فيه كما يحدث لدول عديدة بالشرق الأوسط التّي أنهكها صراع المحاور وصدام الاستراتيجيات.
باختصار، على دول المغرب الكبير أن تبني رؤيةً سليمةً واستراتيجية واضحةً تتعامل بها مع هذا التنافس العالمي الشديد وإلاّ صارت جزءًا من استراتيجيات محاوره الكبرى 24.
الهامش
1 – Data : China-Africa Trade, China Africa Research Initiative at Johns Hopkins University’s School of Advanced International Studies, 2016, USA. link
2– ماذا تعرف عن طريق الحرير؟ موقع الجزيرة، 24/01/2017. الرابط
3– مشروع طريق الحرير الصيني، موقع بي بي سي للأخبار، 15/05/2017. الرابط
4 – Lily Kuo and Niko Kommenda, What is China’s Belt and Road Initiative ? The Guardian, 2018. Link
5 – Mehdi Taje, Les Nouvelles routes de la soie se L’Afrique du Nord : Quelles synergies ? Konrad-Adenauer Stiftung, 2017, Tunis, p : 65. Link
6 – Mohamed A. Elshehawy and Others, China’s Relations With North Africa : Trade and Investment, International Journal of Social Science and Humanities Research, Vol. 2, Issue 3, pp : (187-192), Month : July 2014 – Septembre 2014, p : 188. Link
7 – John Calabrese, Sino-Algérien Relations : On a Path to Realizing Their Full Potential ? Middle East Institute, American University, Oct 31, 2017, USA. Link
8 – Mehdi Taje, Op Cit, p : 65.
9 – جسر اقتصادي مغربي بين الصين وكل من أوروبا وأفريقيا، صحيفة العرب، 11/05/2016. الرابط
10 – Mehdi Taje, Op Cit, p: 69.
11 – لحسن مقنّع، العثماني يطّلع في بكين على مشاريع الاستثمار الصيني بالمغرب، صحيفة الشرق الأوسط، 04/09/2018. الرابط
12 – Mehdi Taje, Op Cit, p : 70.
13 – Ibid.
14 – مشاركة المغرب في الاجتماع الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني-العربي، ميدا 1، 09 يوليو 2018. الرابط
15 – Sarah Souli, Tunisia hopes boost in Chinese investment can ease economic woes, al-monitor, March 19, 2018. Link
16 – Ibid.
17 – Xinhua, Tunisia to enhance partnership with China in expanding markets : official, China Daily, 17/05/2018. Link
18 – Jian Junbo and Álvaro Méndez, Change and Continuity in Chinese Foreign Policy :
China’s Engagement in the Libyan Civil War as a Case Study, LSE GLOBAL SOUTH UNIT, Working Paper No. 5. 2015, p : 04. Link
19 – China’s Investment in Libya, The African Business Jornal, August 2014. Link
20 – Lily Kuo and Niko Kommenda, Op Cit.
21 – John Calabrese, Op Cit.
22 – Yun Sun, Africa in China’s Foreign Policy, John L. Thornton China Center and Africa Growth Initiative, Brookings Center, April 2014, P : 05. Link
23 – Yun Sun, Africa in China’s Foreign Policy, Op Cit, p : 11.
For more informations see :
Jérôme Henry, China’s Military Deployments in the Gulf of Aden : Anti-Piracy and Beyond, Asie.Visions, IFRI, No 89, November 2016. Link
24 الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.