fbpx
تقديرات

ثورة السودان بين مشروع الخوف وسياسات الاستقطاب

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

ليس ما يعانيه السودان استقطابا تقليديا. وما يجري تصويره كاستقطاب لا يعدو أن يكون محاولة سلطوية سودانية لإعادة إنتاج “مشروع الخوف” المباركي في السودان، وهو مشروع له جذور سودانية بطبيعة الحال ما تمثل في فترة الصراع الأهلي الذي دار لموازنة الوجود الشيوعي بالجامعات السودانية، وهي المواجهة التي طورها د. حسن الترابي لاحقا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. لكن هذه الخبرة انتهت بتحالف الإسلاميين بقيادة الترابي مع الحزب الشيوعي السوداني نفسه في إطار ما عرفه السودان باسم تحالف “قوى الإجماع الوطني” الذي أطلق في العام 2010.

مبادرات حسن النية من جانب قوى الحرية والتغيير تعددت خلال فترة ما بعد 19 ديسمبر 2018، وفاقتها في دلالات حسن النية مبادرات حسن النية التي قدمها الإسلاميون، بما في ذلك “مليونية الشريعة” التي شهدتها السودان في 19 مايو، والتي حملت عتبا لا كراهية، وتأكيد على الشراكة وليس إقرار للاستقطاب، كما حملت نفس شعار الثورة السودانية “حرية.. عدالة.. سلام”، وللمفارقة تضمنت هجوما محدودا على حزب إسلامي (المؤتمر الشعبي).

لكن هذا لا يعني عدم وجود خلاف. ولا يعني أن قطاعا من الإسلاميين يخيف، ليس فقط شركاء الثورة في السودان، ولكن يخيف المجتمعات العربية والغربية، وليس فقط تلك القوى التي تدعم “الثورة المضادة”.

تفاصيل الجانب الإيجابي غير المعلن في التفاعل بالمشهد السوداني تكشفه هذه الورقة، بقدر ما تكشف ملامح “مشروع الخوف” الذي يحاول العسكريون بعثه في السودان، وتكشف أوجه الخلاف الحقيقية وأحجامها.

هل نحن أمام استقطاب إسلامي علماني؟

يحلو للبعض أن يصور الوضع في السودان باعتباره صراع ديني علماني. ويستند لكلمة عابرة ذكرت بصورة عابرة في خطاب اتحاد المهنيين السودانيين. ويلجأ هذا النفر من الباحثين لتاريخ العلاقة بين الحركة الإسلامية والقوى اليسارية الراديكالية عبر تاريخ السودان المعاصر لتبرير هذه الصورة. وجماع الآراء التي يستند إليها الأصحاب هذه الوجهة سبق للدكتور محمد المختار الشنقيطي أن جمعها في دراسته الرصينة حول “الحركة الإسلامية في السودان”، والتي يسرد فيها جل مظاهر الخلاف التاريخي التي يستند إليها القائلين بمركزية “صراع الهوية” في احتجاجات السودان.

ويحيلنا باحثون إلى أن أصل الخلاف بين الطرفين تمثل في مجهود طلابي بحت، سبق وجود جماعة الإخوان في السودان أو ربما تزامن معه، حيث عمد مجموعة من طلاب جامعة الخرطوم ومن أبرزهم القياديان بابكر عبد الله كرار وميرغني النصري بتشكيل حركة “إسلامية اشتراكية” نزاعة للتوفيق بين الإسلام والاشتراكية، وكانت النزعة التوفيقية صرعة آنذاك، وكان واضحا في خطابهم أن هذه الحركة نشأت متأثرة بموجة الشيوعية والإلحاد التي انتشرت في جامعة الخرطوم بصورة خاصة. ويميل المؤرخين للفصل بين هذه الحركة وجماعة الإخوان التي كانت بحلول 1949 قد بدأت تظهر بوادرها في السودان بصورة غير رسمية، لكن هذا لا ينفي أن ثمة درجة من التأثر بالجماعة المصرية من خلال تواصل معهم إن بصورة شخصية أو عن طريق الكتيبات والمجلات الصادرة عنهم من مصر. وكان لهذه الحركة دور في أول حالة مواجهة بين اتجاه الهوية والحركة الطلابية الشيوعية[1].

وفي دراسته حول “الحركة الإسلامية في السودان”، ينقل “الشنقيطي” عن الدكتور حسن مكي ما يشير لتطور المواجهة التاريخية بين الطرفين، حيث يلفت إلى أن من أهم نتائج الحراك الإسلامي في السودان وعلاقته بالأحزاب المختلفة أنه مكن الإسلاميين من استصدار قرار من الجمعية التأسيسية السودانية في 11 نوفمبر 1965 بحل الحزب الشيوعي السوداني، وإسقاط عضوية النواب الشيوعيين الثمانية في البرلمان في 29 ديسمبر 1965، ونجاحها كذلك في استبعاد نفس التيار السياسي النقابات المهنية السودانية في السبعينات[2]. وفي موضع آخر، يفسر مكي – بكتاب الشنقيطي – أسباب هذه المواجهة، لافتا إلى أن الرؤية الماركسية “الجلدة” (التي لا تتضمن اجتهادا وتوطينا للفكرة؛ يربطها بخصوصية مجتمعية)، بالإضافة إلى العلاقة القوية لقياداتها بالاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية ومصر، فضلا عن التنظيم الصارم المغلق، فضلا عن استهدافه نفس الشريحة المتعلمة التي استهدفتها الحركة الإسلامية في تلك الفترة (الشريحة المتعلمة) التي ساءها الفشل المتكرر للأحزاب التقليدية المتمثلة في الحزبين: “الأمة” و”الاتحادي”، كل هذه الاعتبارات جعلت من الحزب الشيوعي السوداني خطرا إستراتيجيا من وجهة نظر الحركة الإسلامية السودانية، ودفعتها لمواجهته بدون هوادة[3].

ويرى البعض أن من أهم أسباب المرارة التي يشعر بها القطاع الراديكالي من اليسار السوداني أن الحركة الإسلامية نجحت في اختراق القوات المسلحة السودانية، وكان انقلاب جبهة الإنقاذ في عام 1989 حصاد تلك الجهود، بخاصة بعدما خبرت محاولة تفكيك القوات المسلحة عبر المواجهة العسكرية مع نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري، وهو ما أدى إلى مأساة “جزيرة أبا” التي راح ضحيتها 3000 من الأنصار (أتباع الهادي المهدي) [4]. وبعيدا عن السرديات الموغلة في القدم، يعيد د. علي حيدر إبراهيم تقديم سردية أكثر معاصرة، حيث يرى أن الانقلاب نفسه من هندسة أعضاء “المؤتمر الشعبي” الحاليين، ويرى أنهم اللذين رسخوا النظام طوال السنوات العشر الأولى من عمره[5].

غير أن الأمر لا يمكن وضعه في هذا المربع الاستقطابي إلا قسرا. ولا يمكن التعويل على أطروحات الراديكاليين الذين إن أبقى بعضهم خيط العلائق مشدودا؛ فإن بعضهم يدفع باتجاه قطع الخيوط. وفي دراسته القيمة حول خريطة قوى الاحتجاج في السودان، يلفت د. مجدي الجزولي إلى تحالف “قوى الإجماع الوطني” الذي أطلق في العام 2010، وضم في عضويته كل من “الحزب الشيوعي السوداني” و”حزب المؤتمر الشعبي” بزعامة د. حسن الترابي، وذلك جنبا إلى جنب مع عدة أحزاب أخرى، منها حزب الأمة، وظل الحزبان الشيوعي والإسلامي طرفا في هذا التحالف حتى عام 2014، حين قرر “الترابي” الحركي بطبعه، واليائس من فاعلية التحالف، أن يجرب طريقا آخر، فانضمّ إلى عملية “الحوار الوطني” التي أعلن عنها الرئيس البشير في عام 2014 ليصبح شريكًا في الحكومة في نهاية المطاف[6]، وهو ما حال دون انخراط “حزب المؤتمر الشعبي” في تحالف نداء السودان[7].

والحقيقة أن وجود “حزب المؤتمر الشعبي” بالحكومة كان صمام أمان نسبي للاحتجاج والاعتصام السودانيين، كان من أهم تجلياته تحجيم استخدام عنف الدولة في مواجهة المتظاهرين ما تمثل في تهديدات من قواعد “حزب المؤتمر الشعبي” (مشروع الدكتور حسن الترابي) الممثل لقطاع من الإسلاميين بالاستقالة من الحكومة؛ وإلا فسيقيلون الأمين العام للحزب[8]، وهو ما دفع الحزب للمطالبة بإجراء تحقيق عاجل في مقتل بعض المحتجين، ومعاقبة الجناة، إضافة إلى المطالبة بالإفراج عن المعتقلين على خلفية الاحتجاجات[9]. كان عدد ضحايا الاحتجاجات بلغ 19 قتيلاً و187 جريحاً من القوات الحكومية، إضافة إلى جرح 219 مدنياً[10]. وكانت إدارة البشير تخشى الانكشاف حال قرر “المؤتمر الشعبي” الاستقالة. ومثل “المؤتمر الشعبي” كذلك عامل كبح لجماح مغامرات تعميق الاستقطاب حول السلطة في الشارع السوداني، ما تمثل في رفض تسيير “البشير” لمسيرات تأييد له، ما كان من شأنه التعجيل بالمواجهات الدموية، لما تقود إليه تلك المسيرات من استفزاز ومواجهات[11].

غير أن مشاركة الإسلاميين في الحكومة لم تقف عند حد كبح جماح تهور اللحظات الأخيرة للمستبد الجريح، فمع اتجاه 23 حزبا منخرطين في دعوة الرئيس المعزول عمر البشير للحوار[12]، للتأكيد على أن آلية التغيير في السودان لن تكون سوى انتخابات 2020، أقدمت حركة “الإصلاح الآن” السودانية (إسلامية – مدنية برئاسة غازي صلاح الدين المستشار الأسبق للرئيس السوداني) على الانسحاب من الحكومة في الأول من يناير 2019[13]، مسببا مزيدا من الانكشاف في الموقف الحكومي، وطالبت القوات المسلحة بحماية المتظاهرين، وقامت قيادة حركة “الإصلاح الآن” بتشكيل كيان توافقي حمل اسم “الجبهة الوطنية للتغيير”.

لم تكن المبادرات الرافضة للاستقطاب مقتصرة على يد الإسلاميين الحاضنة للمعتصمين، والمنافحة عنهم، بل شارك الطرف الآخر بمؤشرات إيجابية كذلك، غير أن أهمها على الإطلاق أن “بيان الحرية والتغيير” الذي وقعت عليه 22 قوة مجتمعية، هذا البيان نفسه أكد على أن الحركة تسعى لتلبية مطالب “كافة الأطياف”[14] وخلا بيانها الأول من أية نزعة استقطابية. ورد عليها “الجبهة الوطنية للتغيير” التي يتزعمها كل غازي صلاح الدين (زعيم حركة الإصلاح الآن) في مطالبها التي وقعها 22 حزبا سياسيا، ومن بينهم “حزب الأمة”، حيث رفضت المحاصصة، ودعت لتمثيل كل السودانيين[15].

ومن جهة أخرى، ومع ما شهده اجتماع “حزب المؤتمر الشعبي” في نهاية أبريل من هجوم لمتظاهرين، أدى لإصابة نحو خمسين من أعضاء الحزب، وذلك خلال اجتماع هيئة شورى الحزب في الخرطوم. وحطم المتظاهرون عشرات السيارات الخاصة بالمشاركين في الاجتماع. وبعد تحطيم المقر وسيارات الأعضاء، تدخلت “قوات الدعم السريع” لحماية أعضاء المؤتمر المجتمعين، بعد مناشدتهم لفك الحصار الذي فرضه المتظاهرون عليهم داخل القاعة. واللافت في هذا الحدث، أن “قوات الدعم” قامت بعد فك الحصار باعتقال 145 من أعضاء المؤتمر، ونقلتهم إلى السجن المركزي في “كوبر”[16]. أصدرت “قوى الحرية والتغيير” بيانا فور إذاعة الخبر، أدانت فيه الاعتداء الذي تعرض له “المؤتمر الشعبي”، داعية كل “صاحب مظلمة” ضد النظام القديم وحلفائه إلى اللجوء للقانون لا العنف. ولفت بيان “الحرية والتغيير” إلى “أننا في قوى الحرية والتغيير ندين هذا الاعتداء والتخريب، وندين أي اعتداء مهما كانت أسبابه”. وبرغم تأكيدها أن “رموز المؤتمر الشعبي يتحملون وزرً كبيراً في ما حدث خلال 30 عاماً (فترة حكم الرئيس المخلوع عمر البشير)”، إلا أن البيان استدرك “لكن أي شكل من أشكال الاعتداء البدني واللفظي أو التخريب لن يؤسس لوطن يسع الجميع”.

وسط هذه الأجواء، لا يمكن فهم التطورات الاستقطابية إلا في إطار لعبة سياسية. فهل يعني هذا أنه ليس ثمة خلاف؟ الإجابة بالقطع بالنفي. فالخلاف قائم، لكن أبعاده تحتاج استيعابا من منظور آخر.

الخلاف واتساعه

إذا لم يكن الخلاف استقطابا في بداياته، فما الذي أدى بالأمور إلى ما آلت إليه؟ الامر في هذا الإطار يطول توضيحه بعض الشئ، ويتراوح ما بين الاختلاف الذي يبلغ حد الانقسام في الرؤية التشغيلية السياسية والاجتماعية، فضلا عن دور القوى صاحبة المصالح في تعويق الانتقال الديمقراطي عبر إشاعة مظاهر الاستقطاب، ولا يمكننا تجاوز غواية الحشود، لكن الأمر الأهم والأخطر يتمثل في اختلاف لابد من تقديره حق قدره بين الطرح الإسلامي والطروحات المختلفة التي تأتي في السياق المعولم، ففي النهاية تحمل المرجعية الإسلامية رؤية تختلف عن الرؤية التي تبلورت معها الأطروحات الوضعية، سواء منها ما مثل تراكما يتواصل مع الأصول المسيحية للحضارة الغربية، أو تلك الأصول ذات النزعة الإنسانية التي يسمى قطاع واسع منها بالفكر الملحد. وفيما يلي نفصل ما سبق إجماله.

أ. الاختلاف في الرؤى:

لا شك في أن ثمة تعددية في الرؤى، وتلك سنة الله في خلقه. ويشير مجدي الجزولي لوجود تيارين متنافسين داخل المسرح الاحتجاجي السوداني، وهما “نداء السودان” و”قوى الإجماع الوطني”[17]. وتحسب حركة “تجمع المهنيين السودانيين على “قوى الإجماع الوطني”، بعد انسحابها من “إعلان نداء السودان” الذي يقوده الصادق المهدي؛ وذلك بعدما اتهمت شركاءها فيه بالخضوع لأجندة مهادنة مدعومة دوليا تعنى بالمصالحة مع نظام السودان، وإنتاج تحول تدريجي باتجاه الديمقراطية، وهو الأمر الذي يعني من – وجهة نظرها – إطالة عمر النظام، ومن ثم انسحبت، وتبنت مطلب تغيير النظام كليا[18]، وواتتها في ذلك الفرصة مع قرار 18 ديسمبر بـ”تحرير سعر الخبز”.

بعد انسلاخ ثاني الكتل الإسلامية من الحكومة في الأول من يناير من هذا العام، وهي حركة “الإصلاح الآن”، وبرغم أن الحركة أعلنت عند تأسيسها أنها تمثل “مظلة” لتوافق مدني هدفه العدل والإصلاح، فإنها دعت لتشكيل “الجبهة الوطنية للتغيير” بتوقيع 22 من القوى السياسية على ميثاق الجبهة، مع ارتباط بـ”حزب الامة” وممثلين لنحو 14 كيانا سياسيا آخرين. وفي الأول من يناير، أصدرت هذه الكتلة وثيقة اتهمتها معها حكومة البشير بالدعوة لانقلاب عسكري[19]، حيث تضمنت الوثيقة الدعوة لتشكيل مجلس سيادة انتقالي يقوم بتولي أعمال السيادة، وتشكيل حكومة انتقالية تجمع ما بين الكفاءات والتمثيل السياسي دون محاصصة لا تستثني أحدا تضطلع بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني وفق برنامج وأوليات يوقف الانهيار الاقتصادي وينهي عزلة السودان الخارجية السياسية والاقتصادية، ويحقق السلام، ويشرف على قيام انتخابات عامة حرة ونزيهة، على أن يقود الحكومة رئيس وزراء متفق عليه تجتمع فيه الكفاءة والخبرة والقبول الوطني. وحددت “الجبهة الوطنية للتغيير” برنامج عمل للحكومة يقوم على نقاط، أولها حل المجلس الوطني ومجلس الولايات، وحل الحكومات الولائية ومجالسها التشريعية وإعادة هيكلة الحكم والولائي والمحلي وفق مكونات الحوار الوطني[20]. وضمت “الجبهة الوطنية للتغيير” الحركات التالية: حركة “الإصلاح الآن”، الحزب الاتحادي الديمقراطي، كتلة قوى التغيير، حزب الشرق للعدالة والتنمية، منبر المجتمع الدارفوري، الحركة الاتحادية، الحزب الاشتراكي المايوي، المؤتمر الديمقراطي لشرق السودان، حزب الأمة الموحد، حزب الوطن، تيار الأمة الواحدة، منبر النيل الأزرق، حزب الإصلاح القومي، اتحاد قوى الأمة، حزب مستقبل السودان، حزب وحدة وادي النيل، جبهة الشرق، حركة الخلاص، حزب التغيير الديمقراطي، حزب السودان الجديد، حزب الشورى الفيدرالي، الجبهة الثورية لشرق السودان[21].

وفي نفس توقيت صدور بيان “الجبهة الوطنية للتغيير”، عرض “اتحاد المهنيين السودانيين” – كذلك – خطته للمستقبل، والتي يمكن القول بأنها كانت أكثر عمومية من المطالب التي وردت لاحقا في وثيقة “الجبهة الوطنية للتغيير”، لكنها كانت أكثر عناية بمطلب العدالة الاجتماعية، حيث تضمنته في بندين، هما: البند الثاني الذي طالبت فيه بـ”وقف التدهور الاقتصادي وتحسين حياة المواطنين في كل المجالات المعيشية”، والبند الثامن الذي أكدت فيه على “التزام الدولة بدورها في الدعم الاجتماعي وتحقيق التنمية الاجتماعية من خلال سياسات دعم الصحة والتعليم والاسكان مع ضمان حماية البيئة ومستقبل الأجيال”[22]. ووقع على البيان 22 كيانا مدنيا، هي: “تجمع المهنيين السودانيين”، و”تحالف قوى الإجماع الوطني”، و”قوى نداء السودان”، و”التجمع الاتحادي” (الجناح المعارض)، و”الحزب الجمهوري”، و”الحزب الليبرالي”، و”تيار الوسط للتغيير”، و”مبادرة لا لقهر النساء”، وحركة “قرفنا”، وحركة “التغيير الآن”، و”تجمع القوي المدنية”، ولجان المقاومة السودانية”، و”مؤتمر خريجي جامعة الخرطوم”، و”كونفدرالية منظمات المجتمع المدني”، و”تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل”، و”منبر المغردين السودانيين”، و”الكيان النوبي الجامع”، و”مجلس الصحوة الثوري”، و”المجموعات النسوية المدنية والسياسية (منسم)”، و”الجبهة الوطنية العريضة”، و”حزب بناء السودان”، و”تجمع أسر شهداء رمضان”. ورأى بعض القوى المنضوية تحت لواء “تجمع المهنيين السودانيين” أن “الجبهة الوطنية للتغيير” إن هي إلا محاولة لإعادة إنتاج النظام؛ برغم الدعوة لإقالة “البشير، ووصفوا خروج بعض الأحزاب من دائرة “الحوار الوطني” التي كان البشير قد دعا إليها من قبل باعتبار الخروج “انتهازية سياسية”[23]، والغريب أن قوى “حوار البشير” اتهمت من خرجوا من عملية الحوار بـ”الانتهازية واللا أخلاقية”[24].

وبالنظر للبرنامجين المطروحين بين أطروحات نداء السودان الذي تطور إلى الجبهة الوطنية للتغيير، واطروحات قوى الإجماع الوطني، نجد أنها تتمثل في حالة عداء واضحة للرؤية النيوليبرالية التي يرى مفكروها أنها المسؤولة عما آلي إليه حال السودان، وهو ما انعكس في اهتمام نوعي أكثر برؤية العدالة الاجتماعية لدى قوى الإجماع الوطني، على نحو ما أشرنا قبلا، وإن لم تغب هذه القضية عن طرح “الجبهة الوطنية للتغيير” التي تحدثت في رؤيتها لبرنامج الحكومة عن “اتخاذ إجراءات وتدابير اقتصادية عاجلة تخفف من معاناة المواطنين وتوفر احتياجاتهم الأساسية”[25].

ب. غواية الحشد:

لا شك في أن الحشد يغري. وقد لعب الحشد دورا قويا في إغواء “قوى الحرية والتغيير” بالمضي قدما في وجهتهم المتعلقة بتعميق العدالة الاجتماعية، والتركيز على التغيير الكامل للنظام واتخاذ موقف متشدد من القوى التي توظف الدين لمد أجل النظام العسكري الذي حل محل نظام البشير.

عندما اندلعت الموجة الأولى للربيع العربي في عام 2011، كان السودان يُستهلك في عملية انفصال جنوب السودان. وفي تقدير الباحث، كان التفاف الشارع السوداني حول قوى والتغيير تعبير عن حالة الاحتقان العميقة التي كان يعانيها أهلنا في السودان أكثر منها صكا على بياض لتيار بعينه. بتعبير آخر، كان السودانيون يريدون تغيير نظام جاثم على صدره مدة 30 عاما من دون ان يقود السودان إلى تحسن، بل اختتم عقده الثالث بأزمة صارخة على الصعيد الاقتصادي. ولهذا تحلق المحتجون حول القوة التي كان لديها استعداد لقيادة الحراك من أجل التغيير الكامل للنظام، غير راغبة في إدارة العلاقة مع هذا النظام من خلال تدافع رفيق أو نهج تفاوضي.

الدلالة على الاحتقان تتمثل في اتساع نطاق الاحتجاجات في زمن وجيز. بدأت هذه الاحتجاجات في كل من مدينتي “عطبرة” (شمالا) و”بور سودان” (شرقا)، ولم تمنع رمزية المساندة العسكرية السودانيين من تصعيد الاحتجاجات في بور سودان؛ حيث كان “البشير” متواجدا في المدينة لحضور “مران عسكري” بحري في مرفأ “بور سودان” في 19 ديسمبر 2018. اتساع نطاق الاحتجاجات – كتعبير عن الاحتقان – يشير إله تجاوز الغضب مدينتي “عطبرة” و”بور سودان”. فلم يكد أهل “عطبرة” يرفعون عقيرتهم بالاحتجاج؛ حتى اشتعلت التظاهرات في اليوم التالي (20 ديسمبر) لتشمل مدن “دنقلا” و”كريمة” و”الدامر” و”بربر” (شمال). وشمل الاحتجاجات بلدات “الباوقة” و”الزيداب” و”المتمة” و”القضارف” و”سنار” (شرقا)، وخرج طلاب جامعات الخرطوم والسودان والنيلين في احتجاجات في نفس اليوم، وبذلت الشرطة السودانية مجهودا كبيرا لمنعهم من الوصول إلى القصر الرئاسي وسط الخرطوم. وفي 22 ديسمبر، اندلعت الاحتجاجات بمدن “الفاشر” (غربا) و”كسلا” (شرقا) و”الجزيرة” و”آبا” و”الرهد” و”بابنوسة” بولاية غرب كردفان (جنوبا)، كما انضم طلاب “جامعة الجزيرة” في ولاية الجزيرة (وسط) للاحتجاجات[26].

ومع القمع الهائل، خفتت حدة تظاهرات الخرطوم؛ لكنها ظلت مشتعلة في بقية المدن، حتى عاودت الخرطوم الاشتعال مجددا، بعد تهديدات من قواعد “حزب المؤتمر الشعبي” (مشروع الدكتور حسن الترابي) الممثل لقطاع من الإسلاميين بالاستقالة من الحكومة؛ وإلا فسيقيلون الأمين العام للحزب[27]، وهو ما مثلا غطاء للحزب للمطالبة بإجراء تحقيق عاجل في مقتل بعض المحتجين، والإصرار على معاقبة الجناة، إضافة إلى المطالبة بالإفراج عن المعتقلين على خلفية الاحتجاجات[28]. مثلت ضغوط “المؤتمر الشعبي” والضجة الإعلامية حولها كشفا للغطاء عن قمع حكومة البشير، ورفضا لاستمرار التغطية بعد استخدام القمع، وطعنا في شرعيته السياسية. ولم يكد “حزب المؤتمر الشعبي” يعلن هذا الموقف الحكومة في 26 ديسمبر، حتى عاودت مدينة الخرطوم الاحتجاج مجددا في 27 ديسمبر، وتبعها في نفس اليوم مدنا مثل “خشم القربة” و”حلفا الجديدة” (شرقا) و”الدامر” (شمالا)، كما تجددت احتجاجات “عطبرة” (شمالا) و”سنار” (جنوب شرق) مجددا، إضافة إلى “الدندر” (جنوب شرق) و”الأبيض” (جنوبا) [29]. ومثل انسحاب حركة “الإصلاح الآن” دفعة جديدة للاحتجاجات، وبخاصة مع ما صاحبها من بيان انضوت بموجبه عدة قوى، وعلى رأسها “حزب الأمة” في الحراك الرافض لوجود نظام البشير والداعي لاستقالته. ومع وجود هذين الغطائين السياسيين، صعدت جماعة الإخوان حضورها من مستوى الأعضاء لمستوى القيادة، مع تمركز المعتصمين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، حيث بادر المراقب العام لجماعة “الإخوان المسلمون” في السودان نفسه، عوض الله حسن، إلى زيارة المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، وظهر في صور، وهو يخط بيديه لافتات تطالب بإطلاق سراح المعتلقين[30]؛ ما مثل إفصاحا سافرا لنظام البشير عن مشاركة هذا التيار الإسلامي في الثورة على نظام البشير، والمشاركة في تحمل المسؤولية عن الاحتجاجات.

ومما يشير لغواية الحشد، ما لفت إليه أحد أعضاء “الجبهة الوطنية للتغيير” موجها حديثه لقوى “الحرية والتغيير” من أنها لم تنفرد بتحشيد الجماهير، وأشار لأدوار متعددة لقوى، بعضها متكتل مثل “الجبهة الوطنية” وبعضها لم ينضو تحت تكتلات، ومنها “حزب الأمة”[31]. غير أن بعض نماذج المسالك التي شهدتها الساحة السودانية كانت بمثابة المحفز لتعزيز أثر الحشد في الغواية، ومنها تنفيذ شباب “حزب المؤتمر الشعبي” استقالاتهم من الحزب[32].

ج. تدخلات القوى المعوقة:

الحديث عن تعويق ثورة السودان ينصرف لعاملين لا ثالث لهما، أولهما عسكر السودان (النخبة العسكرية المستفيدة من الوجود في السلطة وليس القوات المسلحة السودانية)، وثانيهما المحور الإقليمي المسمى “محور الثورة المضادة”. أما بقية مكونات المجتمع السياسي السوداني فجميعها – في تقدير الباحث – تطمح للتغيير، وإن كانت ترفض عدم النضج الذي تبديه بعض الأطراف. وغني عن البيان بعد خبرات الربيع العربي؛ أنه عندما تتخوف القواعد الشعبية من عدم نضج النخبة؛ فإنها تلجأ للمؤسسة العسكرية أملا في تجنب انفلات أمني أو حرب أهلية. وبرغم كراهية النخبة السياسية لعبار “أفضل من سوريا”؛ فإن محور الثورة المضادة اجتهد – فعلا – في جعل سوريا عبرة، تماما كما يتخوف المغرب من “عشرية الجزائر السوداء”. وبينما يساند العامة المتخوفون المجلس العسكري السوداني من باب الأحوط، تدعم المجلس العسكري داخليا عدة فئات مستفيدة يلخصها الأكاديميون السودانيون في العسكريون والبيروقراطيون ورجال الأمن، والميليشيات التي خصصها نظام “البشير”، علاوة على الشركات الكبرى والمصرفيون والممولون وكبار الملاك ومستوردو الأغذية، وهم المستفيدون من النظام الحالي[33]، ويهدفون لدعم بقائه، وإن تغيرت شخوص القيادات.

= التفاوض: كان التفاوض الذي بدأت جولته الأولى في 19 مايو 2019[34] وسيلة ل؟؟، أولهم أن يثير المجلس العسكري حفيظة التيار الإسلامي في السودان بتوفير دفق إعلامي مكثف عن تفاوض جاد، وناجح في قطع عدة أشواط، وهو الأمر الذي نجح فعلا في تحقيقه، ما تمثل في حدوث نتيجتين: أولاهما تمثلت في محاولة لكسر حدة التصلب في موقف “قوى الإجماع الوطني”، التقى غازي صلاح الدين، في 21 أبريل الماضي، برئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري الانتقالي الفريق أول ركن عمر زين العابدين، وأبلغه أن المرحلة الراهنة تستدعي محاربة فكرة الإقصاء بين القوى السياسية[35]. وتمثلت الثانية في تسيير مليونية نصرة الشريعة في 19 مايو، والتي اكنت من التعقل بمكان بحيث رفعت نفس شعارات الثورة، ورفضت الاستقطاب، وهاجم قطاع منها “المؤتمر الشعبي” وأكدت على “الشراكة في الثورة”، وأشفعت تأكيدها بتأكيد آخر على ضرورة عدم تجاهلها[36].

أما الهدف الثاني من التفاوض فكان محاولة لدفع صورة “قوى الحرية والتغيير” لتبدو بمظهر المتعنت، ما يبرر وقف التفاوض معها، ومحاولة الوصول إلى “تسوية” ما مع ما تتصوره كخصوم لقروى “الحرية والتغيير”[37].

أما الهدف الثالث فكان كسب الوقت لحين الإعداد لزيارة قادة المجلس العسكري لدول “محور الثورة المضادة”، وبعد خمسة أيام من بداية الجولة الثانية في 18 مايو، عمد قادة المجلس العسكري إلى القيام بزيارات خارجية شملت السعودية والإمارات ومصر وهو ما عكس بصورة مباشرة المحاور الإقليمية الداعمة لهذا المجلس. كانت هذه الزيارات سعيًا صريحًا لطلب الدعم من محور القوى الإقليمي الذي تترأسه السعودية والإمارات، وتأكيدًا لولاء المجلس لهذا المحور، وهي في نفس الوقت تهدف لإرسال رسالة واضحة لقوى إعلان الحرية والتغيير بخصوص الدعم الإقليمي، وتصعيدًا ضد أي رفض داخلي لسيطرة المجلس العسكري[38].

= العنف: كان العنف القح أحد الأدوات التي لجأت إليها النخبة العسكرية التي اضطلعت بتجميع مصالح المستفيدين، وجيشتهم في مواجهة المحورين الثوريين، وقامت بعدة خطوات عنيفة في هذا الإطار، بدء باستخدام العنف عبر وكلاء؛ ما تمثل في الهجوم على اجتماع هيئة شورى “المؤتمر الشعبي” لتعزيز إمكانية استقطابه ومنعه من كشف ظهر نظام البشير سياسيا، ولافت في هذا الصدد أنه لم تعلن جهة سودانية مسؤوليتها عن الهجوم، ولافت كذلك أن الهجوم الذي أعقبه حصار لمقر الحزب استمر حتى وصول قوات الدعم السريع لم يتبعه كشف ماهية الجهة المحاصرة. ناهيك عن اعتقال لأعضاء “المؤتمر الشعبي” إثر فض الحصار، وكان ثمة نساء من بين المعتقلين[39].

وإلى جانب مثل هذه الحوادث، استمر العنف مرورا بالتحرش بالاعتصام، وحتى فضه في 3 يونيو 2019[40]، ثم تقدم المجلس العسكري بكبش فداء لعملية الفض بعد فشله في تحقيق هدفه بتوفير “شماتة” إسلامية تنتهي لبث فرقة باتة بين الطرفين[41].

= التخويف: تخويف الأطراف من بعضها كان أحد أبرز ملامح تعاطي المجلس العسكري السوداني مع الحراك الثوري في البلاد. ورأينا قبلا كيف أن المجلس العسكري استغل المفاوضات لتعميق مخاوف “قوى نداء السودان” من “قوى الإجماع الوطني”، كما استخدم أيضا الإسلاميين الراديكاليين لتخويف “قوى الإجماع الوطني”. ومن بين خطوات المجلس العسكري في هذا الإطار تصريح نائب رئيس المجلس العسكري السوداني محمد حمدان دقلو حميدتي بأن الرئيس المعزول عمر البشير كان مستعدا لإبادة ثلث الشعب السوداني بناء على فتوى دينية للبقاء في السلطة، وأنه طلب من قواته بالفعل هذا الطلب؛ ردا على الاحتجاجات التي استمرت 4 أشهر[42]، والتصقت هذه الفتوى بالدكتور عبد الحي يوسف، الذي نسبت له فيما بعد الدعوة إلى “مليونية الشريعة”[43]، برغم نفي “يوسف” لهذا الأمر برمته[44].

وفي نفس سياق التخويف، أعلن المجلس العسكري السوداني قد كشف في منتصف مارس عن اعتقال خلية عسكرية مشكلة من 68 ضابطا سودانيا كانت تخطط لانقلاب عسكري على الرئيس المخلوع عمر البشير، وأن الاعتقال تم قبل أن يدخل الانقلاب موضع التنفيذ. وذكرت مصادر لوكالات الأنباء العالمية أن الضباط المتحفظ عليهم بخصوص محاولة الانقلاب من الإسلاميين[45]، وهو بيت القصيد من التخويف.

د. الإسلاميون وإرباك المشهد:

تعبير المشهد المربك لا يعني وصمة سلبية بحال، بل توصيف موضوعي لإدراك الآخر الداخلي للمشهد السوداني في سياقاته الإقليمية والدولية، وإدراك الأطراف الإقليمية والدولية نفسها للمشهد.

ومما يزيد الأمر تعقيدا أن قطاع واسع من القوى التي تقود الاحتجاجات في السودان قوى جديدة في شكلها، تعكس – بتعبير مجدي الجزولي – تجنّب الجيل الجديد من المتظاهرين – ومعظمهم من الطلاب والمهنيين الشباب – البنى الهرمية للأحزاب السياسية القائمة، وقاموا بتكوين شبكات أفقية معتمدة على شبكة الإنترنت. وبدلاً من القادة المعروفين، أضفت مجموعاتٌ مثل “قرفنا” و”شرارة” و”التغيير الآن” على احتجاجات سبتمبر 2013، التي لم يكن لها رأسٌ مدبّر، أصواتًا عالية وصورًا مؤثّرة انتشرت عالميًا عبر الإنترنت[46]. وكانت هذه القوى من بين الموقعين على “بيان الحرية والتغيير”، مضافا إليها قوى “مهنية” و”نسوية” و”جهوية” ما خلق تناقضا في طبيعة تكوين القوتين المتنافستين “قوى الإجماع الوطني” و”الجبهة الوطنية للتغيير”، وهو تناقض قابل للاستغلال بقدر ما هو قابل لسوء الفهم.

ويمكننا بداية أن ننحي التيار الأساسي للإسلاميين من هذه الدائرة المربكة، بما يتضمنه من حركة “الإصلاح الآن” و”حزب المؤتمر الشعبي” و”جماعة الإخوان المسلمون”، باعتبارها من الحركات التي تتقبل الإطار المشترك للعيش، لنتحدث عن إمكانية احتواء التركيبة المدنية اليسارية في السودان لنتوءات التيار الإسلامي التي برزت في العقدين الأخيرين مثل “حزب التحرير” أو “جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة” أو “الأمة الواحدة” أو “مجموعات مساعد السديرة” ذات الرؤى السلفية الجهادية ذات الطرح التكفيري المتوسع، وغيرهم، ناهيك عن “الحركة المدخلية” وأدوارها في التفكيك الداخلي والوكالة عن السياقات الإقليمية[47]، هذه التعددية المفرطة والمربكة، لا تضفي على المشهد الداخلي تعقيدا وحسب، بل تضفي على المشهد الثوري قدرا من الإرباك هو في تقدير الباحث يخصم من قدرتها على مواجهة التحديات، وبخاصة التحديات العالمية، تلك التي تحمل قدرا عميقا من القلق من الخطابات الجهادية، ناهيك عن القوى الإقليمية التي ينطلق بعضها من ثابت في السياسة الخارجية يتمثل في استئصال مكونات التيار الإسلامي على تعدديتها، مع الإبقاء على التيار السلفي الجامي بتلويناته.

ومن ناحية ثانية، فإن إرباك المشهد الثوري السوداني على الساحتين الإقليمية والدولية أحد الأبعاد، والبعد المكافئ في الأهمية يتمثل في إرباك المشهد السياسي داخل السودان نفسها. وأحد أمثلة القضايا التي يمكن الوقوف أمامها تلك التي تتمثل في احتواء “الجبهة الوطنية للتغيير” لنموذج مثل الدكتور أحمد الجزولي الذي – بصرف النظر عن تموضعه الراهن – كان حتى وقت قريب يرى أن الديمقراطية هي الكفر البواح[48]، وقد يكون الفيديو عائدا إلى 2014 كشأن الحوار الذي اجرته مع صحيفة “الوطن” الكويتية حول نفس الموضوع، ثم رفضت نشره، فأعاد هو أو بعض متابعيه نشره بعد شهر في مدونة خاصة في أكتوبر 2014[49]. فبراير 2017 يؤكد تأييده لتمدد تنظيم “داعش” الإرهابي، حتى وإن زحف نحو الخرطوم[50]. وبقدر ما إنه لا يمكن لوم “الجزولي” وعموم الإسلاميين على الدعوة لما سمي “مليونية الشريعة” والمشاركة فيها، وذلك لأنها دعوة تتعلق بمخاوف وجودية/ حقوقية أساسية وليس فقط سياسية، وهي المخاوف التي تكابد موقفا إقليميا استئصاليا، إلا أن خطابه المربك، ومثيلاته من الظواهر المربكة؛ وإن كان سابقا، يستحق وقفة تأمل وتفسير، وبخاصة من جانب حركة “الإصلاح الآن”، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بمستقبل السودان ونجاح ثورته.

في هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن القيادات الفكرية للمكونات الوسطية من الإسلاميين كانت تسعى، عبر عدة مداخل، لخلق أوجه تلاقي، ومعايير موحدة للحضور في المجال العام، وهي أوجه ومعايير كانت تستوعب الطرح المتمايز للإسلاميين، وتستوعب المشتركات الوطنية بين الإسلاميين وغيرهم، بما يمثل أرضية مشتركة وأساسا لتفاهمات متبادلة لا غنى عنها لبناء حركة وطنية مستقرة، وقادرة على الصمود في وجه المتغيرات والتحديات الداخلية والخارجية وهي كثيرة، من بين هذه المعايير قيم مثل التوافق وتعظيم المشتركات، والعلاقة بين الحرية والشريعة، ورؤية الاطراف المختلفة للآخر، والفصل بين الدعوي والسياسي، وكلها اعتبارات بناء مشترك. وبعيدا عن التيار الإساسي للإسلاميين في السودان، فإن اتساع حضور غيرهم يخترق محاولات بناء المشتركات الوطنية التأسيسية. طبيعي أن يستوعب “الوطن السوداني” كل أبنائه، لكن من دون إقرار وإرساء لبنات أساسية تمثل تعريف لماهية “الوطن المتسع للجميع” لن يعرف السودان الاستقرار في إطار خلو من الاستبداد الذي دمر حاضر السودان؛ والقى بظل من يحموم على مستقبله.

خاتمة

التواصل مفتاح التعارف. وهو أيضا مفتاح مواجهة “الفتنة” التي تحاول قوى سودانية بثها بين شركاء المشروع الثوري السوداني. صحيح أن التواصل من جانب الإسلاميين أكثر دفئا وأكثر كفاءة غائيا، لكنه يظل في النهاية محدود الفاعلية وظيفيا طالما أنه لم يؤد لنتيجة ملموسة. وتتعاظم قيمة التواصل عندما تباشر السلطات تنفيذ “مشروعات الخوف” التي تقوم على إثارة الرعب في قلوب الشركاء من بعضهم البعض، فتنقلب الشراكة لخصومة وربما عداوة. ويتعاظم تأثيرها مع انقطاع الاتصال، بما يسمح للخصم الحقيقي بلعب دور الوساطة من جهة، أو حارس البوابة من جهة أخرى، وكلا الوظيفتين تؤديان لإشاعة سوء الظن والصور السلبية ببين الاطراف التي لا تتقابل وجها لوجه للتعارف الفعال النافي لإمكانية بناء وجهات نظر وآراء وأحكام خاطئة حيال الشركاء والحلفاء الفعليين والمحتملين.

غير أن النقد الذاتي مهم بالنسبة للإسلاميين، خاصة وأن تركيبة الإسلاميين تنطوي على تعددية في الفكر والرؤى، وسيولة في التعبير الحركي عن الوجود، وهو ما يحاول مفكرون وباحثون إسلاميون إنجازه لخلق أو تعظيم مساحة المشتركات اللغوية والممارساتية بين الشركاء والحلفاء الفعليين أو المحتملين، هذا فضلا عن تقييم الاجتهادات السابقة من جهة ما حققته من نجاحات أو إخفاقات. فالاجتهادات – في النهاية – ما لم تؤد إلى تحديد كف للوجهة ولنجاحات في تحقيق الأهداف، ولتقليل الفاقد في الموارد المالية والبشرية والزمنية، فإنها تكون بحاجة لمراجعات على مستويات المفاهيم أو الأهداف والسياسات.

وفي خاتمة المطاف، تبدو الحالة السودانية أقرب للنجاح من الحالة المصرية. ويقع على مشروعات التواصل عبء مواجهة زرع مشروع الخوف بين شركاء المستقبل السوداني ([51]).


الهامش

[1] قراءة في: حيدر إبراهيم علي علي، أزمة الإسلام السياسي: الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجا، القاهرة، مركز الدراسات السودانية، ط4، 1999، ص ص: 53 – 54..

[2] محمد المختار الشنقيطي، الحركة الإسلامية في السودان، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 2011، ط: 1، ص: ص: 213.

[3] المرجع السابق، ص ص: 216 – 217.

[4] يوسف الشريف، السودان واهل السودان، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة مكتبة الأسرة، ص ص: 135 – 136..

[5] المحرر، د. حيدر إبراهيم علي يكتب: احذروا المبادرات والمؤتمر الشعبي، موقع “التغيير”، 16 فبراير 2019. الرابط

[6] مجدي الجزولي، سقوط البشير: رسم خريطة قوى الاحتجاجات في السودان، القاهرة، مبادرة الإصلاح العربي، 12 أبريل 2019، ص: 7.

[7] المرجع السابق، ص ص: 6 – 7..

[8] المحرر، كوادر( الشعبي) تلوح بعزل الأمين العام حال الاستمرار في الحكومة، صحيفة “سودان تريبيون”، 26 ديسمبر 2018. الرابط

[9] وكالات – الجزيرة، السودان.. مطالب بإجراء تحقيق في مقتل محتجين بالسودان، شبكة الجزيرة، 26 ديسمبر 2018. الرابط

[10] وكالات – الجزيرة، السودان.. مطالب بإجراء تحقيق في مقتل محتجين بالسودان، شبكة الجزيرة، 26 ديسمبر 2018. الرابط

[11] المحرر، “المؤتمر الشعبي” الشريك بالحكومة: نرفض مسيرة تأييد البشير الخميس، وكالة الأناضول للأنباء، 10 أبريل 2019. الرابط

[12] المحرر، البشير يدعو المعارضة إلى المشاركة في انتخابات حرة ونزيهة، موقع “بي بي سي” العربي، 31 ديسمبر 2018. الرابط

[13] وكالات، الإصلاح تنسحب من الحكومة السودانية، صحيفة “النبأ” الكويتية، 1 يناير 2019. الرابط

[14] تجمع المهنيين السودانيين، إعلان الحرية والتغيير، موقع “اتحاد المهنيين السودانيين”، 1 يناير 2019. الرابط

[15] المحرر، 23 حزبا سودانيا يطالبون البشير بتشكيل “مجلس سيادة انتقالي”، موقع “روسيا اليوم” العربي، 1 يناير 2019. الرابط ، وفيما يخص التوقيت؛ انظر: المحرر، أحزاب سودانية تطرح خطة “تغيير النظام”.. وتدعو الجيش لحماية المتظاهرين، موقع “سي إن إن” العربي، 1 يناير 2019. الرابط

[16] وكالات، عشرات الجرحى في هجوم على المؤتمر الشعبي بالخرطوم، شبكة “الجزيرة”، 27 أبريل 2019. الرابط

[17] مجدي الجزولي، مرجع سابق، ص: 6.

[18] مجدي الجزولي، مرجع سابق، ص: 6.

[19] المحرر، مسؤول بالحزب الحاكم بالسودان: وثيقة “جبهة التغيير” دعت إلى انقلاب عسكري، وكالة الأناضول للانباء، 2 يناير 2019. الرابط

[20] المحرر، 23 حزبا سودانيا يطالبون البشير بتشكيل “مجلس سيادة انتقالي”، موقع “روسيا اليوم” العربي، 1 يناير 2019. الرابط ، وفيما يخص التوقيت؛ انظر: المحرر، أحزاب سودانية تطرح خطة “تغيير النظام”.. وتدعو الجيش لحماية المتظاهرين، موقع “سي إن إن” العربي، 1 يناير 2019. الرابط

[21] فاطمة مبارك، الجبهة الوطنية للتغيير .. بين القبول والرفض، موقع “المجهر السياسي”، 3 يناير 2019. الرابط

[22] تجمع المهنيين السودانيين، إعلان الحرية والتغيير، موقع “اتحاد المهنيين السودانيين”، 1 يناير 2019. الرابط

[23] فاطمة مبارك، الجبهة الوطنية للتغيير .. بين القبول والرفض، موقع “المجهر السياسي”، 3 يناير 2019. الرابط

[24] المحرر، اتفاق بين (نداء السودان) و(الجبهة الوطنية للتغيير) على إقرار ميثاق شرف، موقع “سودان تريبيون”، 3 يناير 2019. الرابط

[25] المحرر، 23 حزبا سودانيا يطالبون البشير بتشكيل “مجلس سيادة انتقالي”، موقع “روسيا اليوم” العربي، 1 يناير 2019. الرابط ، وفيما يخص التوقيت؛ انظر: المحرر، أحزاب سودانية تطرح خطة “تغيير النظام”.. وتدعو الجيش لحماية المتظاهرين، موقع “سي إن إن” العربي، 1 يناير 2019. الرابط

[26] أليف عبد الله أوغلو، من الخبز إلى تنحي البشير.. 33 محطة قلبت مشهد السودان السياسي، موقع “الخليج أونلاين”، 11 أبريل 2019. الرابط

[27] المحرر، كوادر( الشعبي) تلوح بعزل الأمين العام حال الاستمرار في الحكومة، صحيفة “سودان تريبيون”، 26 ديسمبر 2018. الرابط

[28] وكالات – الجزيرة، السودان.. مطالب بإجراء تحقيق في مقتل محتجين بالسودان، شبكة الجزيرة، 26 ديسمبر 2018. الرابط

[29] أليف عبدالله أوغلو، من الخبز إلى تنحي البشير.. 33 محطة قلبت مشهد السودان السياسي، موقع “الخليج أونلاين”، 11 أبريل 2019. الرابط

[30] المحرر، أين الإسلاميون من الثورة السودانية؟، وكالة الأناضول للأنباء، 22 أبريل 2019. الرابط

[31] المحرر، قيادي ﺑﺎﻟﺠﺒﻬﺔ ﺍﻟﻮﻁﻨﻴﺔ للتغيير : ﺍﻋﺘﻘﻠﺖ ﺍﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻗﻴﺮ وﺗﺠﻤﻊ ﺍﻟﻤﻬﻨﻴﻴﻦ ﻻ ﻳﻌﺪﻭ ﻋﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﻭﻛﻴﻞ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ، صحيفة “الجريدة” السودانية، 24 أبريل 2019. الرابط

[32] المحرر، استقالة (36) من كوادر شباب حزب المؤتمر الشعبي والانحياز للحراك الشعبي، موقع “دبنجا” السوداني، 15 يناير 2019. الرابط

[33] مجدي الجزولي، مرجع سابق، ص ص: 9 – 10.

[34] المترجم، سبعة أم ثلاثة.. لماذا تعثرت المفاوضات بين العسكري السوداني والحراك؟، موقع “عربي بوست”، 30 أبريل 2019. الرابط

[35] المحرر، أين الإسلاميون من الثورة السودانية؟، وكالة الأناضول للأنباء، 22 أبريل 2019. الرابطي

[36] المحرر، مسيرة نصرة الشريعة بالسودان: الدين للرحمن ما دين كيزان، الجزيرة نت، 19 مايو 2019. الرابط

[37] المحرر، الفريق ياسر العطا: مجموعة صغيرة من قوى الحرية والتغيير كانت تتعنت في مطالبها، موقعه قناة “الغد”، 15 يونيو 2019. الرابط

[38] خالد عثمان الفيل، ماذا بعد فض الاعتصام؟ هل يتكرر النموذج المصري في السودان؟، موقع “إضاءات”، 18 يونيو 2019. الرابط

[39] المحرر، أحداث مؤتمر شورى الشعبي، صفحة امانة الخرطوم بـ”المؤتمر الوطني الشعبي”، 27 أبريل 2019. الرابط

[40] المحرر، سقوط ضحايا بعد محاولة عسكر السودان “فض الاعتصام بالقوة”، موقع “دويتشه فيله”، 3 يونيو 2019. الرابط

[41] المحرر، حميدتي يعلن القبض على مدبر فض اعتصام الخرطوم، موقع “سكاي نيوز أريبيا”، 20 يونيو 2019. الرابط

[42] المحرر، حول ما نسب إلى الإمام مالك – رحمه الله – من القول بجواز قتل ثلث الخلق لاستصلاح الثلثين، موقع “الإسلام سؤال وجواب”، الفتوى 220449. الرابط

[43] وكالات، عبد الحي يوسف ينفي إصداره فتوى للبشير بجواز قتل ثلث الشعب، موقع “روسيا اليوم” العربي، 27 أبريل 2019. الرابط

[44] وكالات، عبد الحي يوسف ينفي إصداره فتوى للبشير بجواز قتل ثلث الشعب، موقع “روسيا اليوم” العربي، 27 أبريل 2019. الرابط

[45] أحمد عاصم، الجيش السوداني يكشف رسميا إحباط مخطط انقلاب “في مهده”، وكالة الأناضول للأنباء، 13 يونيو 2019. الرابط

[46] مجدي الجزولي، مرجع سابق، ص: 3.

[47] محمد برعوز، الجامية المدخلية.. استخبارات سعودية في قالب سلفي، ، 10 سبتمبر، 2018. الرابط

[48] سيد اللبن، بالصوت والصورة: الأمين العام لتيار نصرة الشريعة محمد علي الجزولي: الديمقراطية هي الكفر البواح، حساب سيد اللبن على شبكة التواصل “فيسبوك”، د. ت. الرابط

[49] انظر الرابط التالي: الرابط

[50] ايوسف حسين، محمد الجزولي: أؤيد تمدّد (داعش) حتى وان زحفت نحو الخرطوم، موقع “هذا الصباح” السوداني، 27 فبراير 2017. الرابط

[51] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. أخيرا نشر المعهد المصرى بحثا جادا عن الثوره السودانيه بعد طول إهمال –أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى على الإطلاق

  2. وسام فؤاد باحث جاد وغالبا ما يتناول كل قضيه من جوانبها المختلفه بحيث يقدم رؤيه شامله فى النهايه تفضى الى إستنتاجات محدده نابعه من مسار الدراسه –تحياتى وإحترامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close