المعهد المصري للدراسات

جولدبرج: أميركا واحتمالات حربٍ أهلية ثانية

نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في 6 يناير 2022 مقال رأي للكاتبة ميشيل جولدبرج، الحائزة على جائزة بوليتزر التي تقدمها سنويا جامعة كولومبيا بنيويورك في مجالات الخدمة العامة والصحافة والآداب والموسيقى، وجاء المقال تحت عنوان، ”هل نحن حقا بصدد مواجهة حرب أهلية ثانية؟”، وذلك على النحو التالي:

أجرت باربرا ف. والتر، أستاذة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو، مقابلات مع العديد من الأشخاص الذين عانوا من الحروب الأهلية، وأخبرتني أنهم جميعاً قالوا إنهم لم يكونوا يتوقعوا حدوث ذلك. وقالت: “لقد فوجئوا جميعاً”. “وحتى عندما يكون الأمر واضحاً قبل ذلك بسنوات، بالنسبة لشخص يقوم على دراستها”.

هذا يستحق أن تضعه في الاعتبار حتى وإن كنت ترفض من داخلك فكرة أن أمريكا يمكن أن تسقط في أتون حرب أهلية مرة أخرى. وحتى الآن، على الرغم من الرعب المستمر الذي ينتابني عندما أتخيل تفكك هذا البلد على حين غفلة منه، أجد أن فكرة الانهيار التام أمراً صعب التخيل، على الأقل بالنسبة لي. لكن بالنسبة لمثل هؤلاء، كـ ”باربرا  والتر”، الذين يدرسون الحرب الأهلية، فإن تصدُّع أمريكا يبدو، إن لم يكن واضحاً تماماً، فإنه على الأقل غير مستبعد البتة، خاصة منذ أحداث السادس من يناير 2021.

وقد حذّر كتابان صدرا هذا الشهر من أن هذه البلاد أقرب إلى الدخول في حرب أهلية عما يمكن أن يدركه معظم الأمريكيين. فقد كتبت باربارا والتر في كتابها، ”كيف تندلع الحروب الأهلية: وكيف يمكن أن نوقفها”، ”لقد رأيت كيف تبدأ الحروب الأهلية، وأعرف العلامات التي لا يدركها كثير من الناس. ويمكنني أن أرى تلك العلامات وهي تظهر هنا بمعدل متسارع بشكل مدهش”. وكان الروائي والناقد الكندي ستيفن ماركي أكثر وضوحاً في كتابه، ”الحرب الأهلية التالية: رسائل من المستقبل الأمريكي”. فقد كتب ماركي يقول: ”الولايات المتحدة تقترب من نهايتها،” مضيفاً، ”والسؤال هو: كيف؟”.

بالطبع، ليس كل من يوصفون بالجدية يرون ذلك. فقد كتب جوش كيرتزر، أستاذ السياسة بجامعة هارفارد، على تويتر قائلاً إنه يعرف العديد من العلماء المتخصصين في الحرب الأهلية، ولكن “قلة قليلة منهم تعتقد أن الولايات المتحدة على شفا حرب أهلية”. ومع ذلك، فحتى بعض الذين يتراجعون عن الحديث عن الحرب الأهلية، يميلون إلى الاعتراف بالمنعطف الخطير الذي تمر به أمريكا. وفي مجلة ”ذي أتلانتك” الأمريكية، يحذر فينتان أوتول، الذي يكتب عرضاً عن كتاب ”ماركي” في المجلة التي تصدر من واشنطن العاصمة، من أن نبوءات الحرب الأهلية يمكن أن تتحقق من تلقاء نفسها؛ فخلال الصراع الطويل الذي كان دائرا في أيرلندا، كما يقول أوتول، كان كل طرف منهما مدفوعاً بالخوف من أن الطرف الآخر كان يحشد ضده. وكتب يقول: ”إن هناك شيئاً واحداً، وهو ”الاعتراف بالاحتمال الحقيقي بأن الولايات المتحدة يمكن أن تتصدع ويمكن أن يتم ذلك بشكل عنيف. ولكنه شيء مختلف تماماً أن يتم تأطير هذا الاحتمال باعتباره أمر حتمي”.

أتفق مع أوتول في أنه من السخف التعامل مع الحرب الأهلية على أنها نتيجة حتمية، ولكن الجزم بإمكانية حدوثها الآن أمر شديد السوء أيضاً. وأما حقيقة أن التكهنات حول الحرب الأهلية قد انتقلت من القِلّة ذات الآراء الغريبة إلى الأكثرية أو التيار الرئيسي من الباحثين، فإن ذلك في حد ذاته علامة على وجود أزمة مدنية، وهي مؤشر على مدى الانقسام الذي تشهده بلادنا.

إن نوع الحرب الأهلية الذي تقلق والتر وكذلك ماركي بشأنها لن تشهد مواجهات بين جيوش حمراء وأخرى زرقاء في بعض ساحات القتال. وإذا حدث ذلك، فستكون (الحرب الأهلية) أقرب إلى تمرد على نسق حرب عصابات. وكما أخبرتني والتر، فهي، مثل ماركي، تعتمد على تعريف أكاديمي لـ ”النزاع المسلح الكبير” باعتباره نزاعاً يتسبب في وفاة ما لا يقل عن 1,000 شخص سنوياً. أما ”النزاع المسلح الصغير” فهو الذي يودي بحياة 25 شخصاً على الأقل سنوياً. وبهذا التعريف، كما يجادل ماركي، فإن ”أمريكا تعيش بالفعل في حالة حرب أهلية. ”فبحسب رابطة مكافحة التشهير، قتل متطرفون، معظمهم من اليمين، 54 شخصاً في عام 2018 و 45 شخصاً في عام 2019 (وقتلوا 17 شخصاً في عام 2020، وهو رقم كان منخفضاً نسبياً بسبب غياب عمليات إطلاق النار الجماعي بشكل متطرف، ربما بسبب انتشار جائحة كورونا).

وتُجادل والتر بأن الحروب الأهلية لها أنماط يمكن التنبؤ بها، واستغرقت أكثر من نصف كتابها في توضيح كيفية ظهور هذه الأنماط في البلدان الأخرى. وهي أكثر شيوعاً فيما تسميه هي وعلماء آخرون ”الأنوقراطيات”، وهي دول ”ليست أنظمة استبدادية كاملة ولا ديمقراطيات كاملة، بل هي شيء وسط بينهما”. وتشمل علامات الإنذار صعود الاستقطاب السياسي بشكل مكثف على أساس الهوية وليس الأيديولوجية، وخاصة الاستقطاب بين فصيلين متساويين في الحجم تقريباً، يخشى كل منهما أن يسحقه الآخر.

وكتبت تقول إن المحرضين على العنف المدني يميلون إلى أن كونهم مجموعات كانت لها هيمنة في السابق ويرون أن وضعهم قد أخذ في التلاشى. وأضافت: ”الجماعات العرقية التي تشن الحروب هي تلك التي تدعي أن البلاد هي ملكهم أو يجب أن تكون لهم”، وهذا هو أحد الأسباب. وعلى الرغم من وجود جهات عنيفة على الطرف الآخر، اليسار، فإن والتر وماركي لا يعتقدان أن اليسار سيبدأ حرباً أهلية. ولكن ماركي كتب يقول، ”التطرف اليساري مهم في أنه غالباً ما يخلق الظروف المواتية للتطرف اليميني.”

وليس سرا أن كثيرين من المنتمين لليمين يتخيلون، بل ويخططون لحرب أهلية. وبعض أولئك الذين احتشدوا في مبنى الكابيتول قبل عام كانوا يرتدون قمصان سوداء مكتوب عليها ”ماجا سيفيل وور” أي [الحرب الأهلية – ماجا (اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى)]، وكذلك شارات لحركة أولاد بوجالو، وهي حركة سريالية، عنيفة، مهووسة بالمشاعر المناهضة للحكومة، استقت اسمها من مزحة حول تكملة الحرب الأهلية. ويتداول الجمهوريون بشكل متزايد فكرة الصراع المسلح. ففي أغسطس الماضي، قال النائب ماديسون كاوثورن من ولاية كارولينا الشمالية: ”إذا استمرت أنظمة الانتخابات لدينا في ممارسة التزوير واستمرت السرقة، فسيؤدي ذلك إلى مكان واحد وهو إراقة الدماء”، وأشار إلى أنه على استعداد لحمل السلاح، رغم عدم رغبته في ذلك.

ونقلاً عن الأشخاص الذين تآمروا لاختطاف جريتشين ويتمير، حاكم ولاية ميشيغان، كتبت والتر تقول إن الحروب الأهلية الحديثة ”تبدأ بأشخاص مثل هؤلاء تماماً – مسلحون ينقلون العنف مباشرة إلى الناس”.

ولكني غير مقتنعة تماماً ببعض تفاصيل الحجج التي تسوقها والتر. لنأخذ، على سبيل المثال، وضع أمريكا كدولة أنوقراطية. أنا لا أجادل في إجراءات العلوم السياسية التي تعتمد عليها والتر لإظهار المدى المقلق لتراجع أمريكا عن الديمقراطية. لكنني أعتقد أنها تقلل من أهمية الفرق بين البلدان التي تنتقل من الاستبداد إلى الديمقراطية، وتلك التي تسير في الاتجاه الآخر. يمكنك أن ترى لماذا تنفجر دولة مثل يوغوسلافيا عندما يختفي النظام الأوتوقراطي الذي كان يجمع شملها. حيث تسمح الحريات الجديدة والمنافسة الديمقراطية بظهور ما تصفه والتر بـ ”رواد الأعمال العرقيين”.

ومع ذلك، فليس من الواضح أن الانتقال من الديمقراطية إلى الاستبداد من شأنه أن يزعزع الاستقرار بنفس الطريقة. وكما تُقر والتر، ”يعد تراجع الديمقراطيات الليبرالية ظاهرة جديدة، ولكن لم يقع أي منها في حرب أهلية شاملة – حتى الآن”. وفي نظري، فإن التهديد المتمثل في تحول أمريكا إلى دولة أوتوقراطية يمينية على غرار النمط المجري يحكمها رئيس ينتمي للحزب الجمهوري يبدو وشيكاً أكثر من اندلاع العنف المدني الجماعي. ولكن نظريتها تعتمد على فصيل يميني متعصب يتمرد على فقدانه للسلطة. لكن الحقيقة أن اليمين عندنا يقوم على نحو متزايد بتزوير نظامنا (الديمقراطي) الراسخ حتى يتمكن من الحفاظ على السلطة سواء أراد الناخبون ذلك أم لا.

وإذا كانت الحرب الأهلية الصريحة لا تزال غير مرجَّحة، فإنها تبدو لي أكثر احتمالية للحدوث من العودة إلى الاستقرار الديمقراطي الأول الذي نشأ في ظله العديد من الأمريكيين.

يقدم كتاب ماركي خمسة سيناريوهات لكيفية تفكك هذا البلد، كل منها مقتبس من الحركات والاتجاهات الحالية. ولكن بعضها لا تبدو لي أنها معقولة تماماً. على سبيل المثال، ففي ظل تاريخ المواجهات الفيدرالية مع اليمين المتطرف في واكو، وروبي ريدج، ومحمية مالهيور الوطنية للحياة البرية، أشك في أن رئيساً أمريكياً مصمماً على تفكيك معسكر لمواطنين ذوي سيادة سيرسل مكتب التحقيقات الفيدرالي، وليس جنرالاً في الجيش يتبنى عقيدة مكافحة التمرد.

ومع ذلك، فإن معظم روايات ماركي تبدو أكثر قابلية للتخيل من أن تتخيل المستقبل الذي يمكن أن تضح فيه أن أحداث السادس من يناير كانت ذروة تمرد اليمين، وينتهي الأمر بأن يظل الوضع في أمريكا على ما يرام. حيث كتب، يقول: ”من السهل جداً التظاهر بأن كل شيء سيكون على ما يرام”. ولكني لا أجد ذلك سهلاً على الإطلاق.

Exit mobile version