حكم العسكر ومآلاته على الحياة السياسية في مصر
الدور الطبيعي لأي مؤسسة عسكرية ناجحة في دولة المؤسسات، أنها تهتم بالدرجة الأولى بمهامها العسكريةالمنوطة بها للحافظ على الدولة، وصيانتها من أي اعتداء خارجي، ولا يخفي ما للجيش من أهمية وطنية لدي الدول والشعوب الحريصة علي سيادتها واستقلالها، وتزداد أهمية الجيوش أثناء الحروب المقدسة التي تدْفع العدوان عن أراضيها.
وطبقًا للدستور الذي وضعته سلطة الانقلاب عام 2014 في المادة (200) أن “القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، والدولة وحدها هى التى تنشئ هذه القوات، ويُحظر على أى فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، ويكون للقوات المسلحة مجلس أعلى، على النحو الذى ينظمه القانون”.
ومن ثمَّ وجب على القوات المسلحة عدم التدخل في الشؤون السياسية الداخلية، المنوطة بالأحزاب والقوى السياسية المدنية، إلا وقت الضرورة القصوى باستدعاء من الشعب، أو نوابه المنتخبين، والعودة فورًا إلى مهمتها الأساسية مرة أخرى، ولنزول الجيوش في الحياة المدنية مستويات وأغراض متنوعة منها: دواع أمنية، حيث ينزل بناء على طلب رسمي من رئيس الدولة المنتخب انتخابًا حرًا مباشرًا، الذي هو بحكم الدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة، بغية الاضطلاع بمهام أمنية محددة المكان والزمان لضبط الأمن على خلفية اضطرابات أو توترات تعجز الأجهزة الأمنية الشرطية عن التعامل معها.
ويرجع التأكيد على عدم تدخل القوات المسلحة في العمل السياسي، لعدة أسباب منها: قلة خبرتها في هذا الشأن من جانب، وعدم الانجرار في الصراع السياسي على حساب حماية الدولة من أعدائها من جانب آخر.
أولاً: طبيعة تدخل القوات المسلحة في العمل السياسي:
تدخُّل العسكر في العمل السياسي قد ينجم في أغلب الأحيان عن عاملين أساسيين:
الأول: عدم قدرة العسكر على تحقيق أهدافهم السياسية بوسائل الإقناع والرغبة، مما يدفعهم إلى القيام بانقلاب عسكري.
والثاني: طبيعة النظام السياسي وتحدياته، والتي قد تدفع أحيانًا العسكر للتدخل بهدف التصويب أو التأليب.
ومن ثمَّ نجد أن العلاقة بين العسكر والسياسة، عملية مُعقّدة أكثر من كونها مؤشرًا لاستيلاء العسكر على السلطة السياسية؛ فالقوات المسلحة لها مميزات خاصة بها، تميزها عن الكثير من الجماعات أو القوى الموجودة في الأنظمة السياسية: فالبناء التركيبي للقوات حيث يأخذ الطابع الهرمي والمركزي، التنظيم والطاعة للأوامر العليا، حيث تعتبر هذه الميزة النادرة للعسكر، وهي بالضرورة تختلف من دولة لأخرى، وهذه الصفات أو المميزات هي من تلعب دورًا كبيرًا في تدخل العسكر في السلطة السياسية.
ونجد أن الأنظمة الثلاثة التي مرت على مصر قبل الانقلاب العسكري الأخير على الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي، تنتمي إلى نظام حكم واحد، هو نظام حكم العسكر القائم على الاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة المملوكة للشعب، واغتصاب ولاية حكم لا يستحقونها، بداية من عبد الناصر الذى انقلب على رئيسه محمد نجيب قائد حركة الجيش فى 23 يوليو 1952، وانتهاءً بانقلاب السيسى فى 3 يوليو 2013، جميعها تنتمى إلى نفس نوع الحكم، إن اختلفت فى بعض التطبيقات أو المظاهر أو الممارسات أو الطبائع الشخصية.
وقد أضر حكم العسكر، بكافة شخوصه وأساليبه وتجلياته، بمصر وشعبها أيّما إضرار، ووقف حائلاً صُلبًا طيلة ستة عقود خلت أمام تقدّم مصر وقوتها وأمنها القومي ونهضتها وتقدمها ورقيها وتحضرها، وكان سببًا فى خسارتها لعدد من معاركها الحربية خلال هذه الفترة.
ثانياً: خطورة تدخل القوات المسلحة في العمل السياسي المدني:
العمل السياسي المدني هو أسلوب من أساليب إدارة شؤون الدولة، يقوم في بعض جوانبه على تكوين الأحزاب السياسية أو المشاركة فيها أو الاشتراك في البرلمانات ومجالس الشورى، وغيرها من المؤسسات السياسية للدولة، وطبيعة العمل السياسي تتطلب في كثير من الأحيان المناورة والتكتل مع بعض الأحزاب ضد أحزاب أخرى، وهذا يتنافى مع طبيعة القوات المسلحة، التي هي ملك للشعب، ولا يجب أن تتدخل في الصراعات الحزبية. ومن ثمَّ إذا تدخلت المؤسسة العسكرية في الصراع السياسي، سيكون له خطورة على الدولة والمجال العام، ومن ذلك:
1ـ انصراف الجيش عن مهمته الأصيلة، والدخول في مناكفات سياسية، وخلافات أيدلوجية، مما يؤدي إلى تقسيم القوات المسلحة، التي يجب أن تكون على قلب رجل واحد في مواجهة التحديات الخارجية، والكوارث الداخلية، ومن العجيب أن هذا ما عبّر عنه قائد الانقلاب العسكري في مصر، عبد الفتاح السيسي نفسه في صحيفة الأهرام الحكومية الرسمية بتاريخ (11-4-2013) أي قبل الانقلاب العسكري، بقوله: “إن الجيش المصري لا يتدخل في الشأن السياسي، وأضاف خلال حضوره إجراءات رفع كفاءة أحد التشكيلات المدرعة بالمنطقة المركزية العسكرية، أن مصر تتسع لكل المصريين بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم، وشدد على أن استدعاء الجيش المصري للحياة السياسية مرة أخرى أمر في غاية الخطورة، وقد يحوّل مصر إلى أفغانستان أو الصومال”.
2ـ أن طبيعة الأيدلوجيات العسكرية هي تغيير المنظومة القيمية والحالة النفسية والجذور الاقتصادية والسياسية للدولة، ثم إعادة تركيبها على أُسس عسكرية تخالف تمامًا مواصفات وقواعد الحياة المدنية، وتكون أشبه بعملية تفكيك شاملة للدولة المدنية، وتزايد مركزية الدولة وبيروقراطيتها بشكل متضاعف، وتغيير مفاهيم الولاء والشرف الوطني والبطولة والقانون والقوة، والتي تتحول من مفاهيم تتعلق بتحقيق العدل والمساواة بين المواطنين، إلى تحقيق سيادة الأمن والاستقرار، وبالتالي تتضاءل قيمة الإنسان مقارنة بقيمة أمن الدولة واستقرارها.
3ـ إضعاف الأحزاب والقوى السياسية التي تعمل في المجال العام، وبمعنى آخر تأميم العمل السياسي، لصالح السلطة العسكرية التي تقوم بالسيطرة على مقاليد الأمور في الدولة، ولا تسمح لأحد بمشاركتها أو معارضتها، وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى شلل العمل السياسي، ومن ثمَّ تفقد الأحزاب السياسية ظهيرها الشعبي، لأن الشعوب في الدول النامية، في الغالب، تتقارب من صاحب القوة والسلطة، ومن جهة أخرى لا تستطيع الجماهير المشاركة بفاعلية في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة، لعلمها المُسبق بأن هذه الانتخابات سوف تزوّر، فلا داعي لتضييع الوقت في غير فائدة.
4ـ معظم التجارب التى حكمت فيها القوات المسلحة بنفسها، وتولت المسئولية السياسية للدولة، انتهت فى أسوأ الظروف بفشل أو كوارث، وانتهت فى أحسن الظروف بتعطيل النمو السياسي، بمعنى إعطاب قدرة الطبقات الوسطى على تشكيل أحزاب وحركات مدنية وبناء الوطن والمواطن.
5ـ لم ينجح، في الغالب، أي حكم عسكري لتحويل بلده إلى مصاف الدول المتقدمة، لأنه يفقد الحيوية التي تتمتع بها الدول التي تمارس حياتها بشكل طبيعي من خلال الحياة المدنية الطبيعية، وتتنافس فيها كل التيارات في إبراز برامجها التي تؤدي إلى تقدّم الدولة وازدهارها في جميع الميادين، كما أن الدول التي يحكمها العسكر تغيب عنها الحريات العامة، ولا يستطيع المواطن، التعبير عن رأيه بشكل طبيعي، فالأصل هو تكميم الأفواه، ومصادرة الحريات.
خلاصة:
إنَّ تدخل المؤسسة العسكرية في العمل السياسي، يُضعف القوات المسلحة من جانب، ويضعف ويُكلس الحياة السياسية من جانب آخر، ويكمم الأفواه، ويُغيّب المعارضين في السجون، ويسحق منظمات المجتمع المدني، ويطارد كل المخالفين له بحجة المحافظة على الأمن القومي.
ومن ثمَّ إذا أرادت الشعوب لنفسها التقدم والتطور، فعليها أن تنافح وتجاهد من أجل استعادة دورها في الحياة السياسية، والسعي بكل الوسائل المشروعة إلى إعادة الجيش لدوره الطبيعي، بعيدًا عن العمل السياسي (1).
———————————-
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.