دراساتمجتمع

خرائط اللارسمية في مصر كنمط للعيش

نمط العيش

مقدمة

في الجزء اﻷول من هذه الورقة حاولت تقديم بنية نظرية يمكن من خلالها فهم “اللارسمية” على أنها نمط للعيش مشابه لنمط العيش السائد في مجتمعاتنا اليوم والذي افترضت إمكان تسميته بالحداثة.  للوصول إلى هذا الهدف بدأت بطرح تعريف لنمط العيش على أنه “نمط توجيه ممارسات الذات وممارسات اﻵخرين الاجتماعية”، واختبرت صلاحية هذا التعريف من خلال مقاربتين استخدمت في اﻷولى مفاهيم التوج(ي)ه conduct والسلطتين الضبطية disciplinary، والحيوية bio-power، عند ميشيل فوكو؛ واستخدمت في الثانية مفاهيم رأس المال capital، والحقل field، والهابيتوس habitus، عند بيير بورديو. وفي كلتا الحالتين استخدمت تصور الحداثة كما يمكن بناؤه من خلال مفاهيم فوكو وبورديو ﻹعادة التعبير عنه كنمط للعيش.

الغرض من طرح التعريف الاختزالي المذكور لمفهوم نمط العيش كان فقط إيجاد إطار يمكن من خلاله الجمع بين مفاهيم كل من فوكو وبورديو دون الحاجة للمقابلة بينها، أي دون محاولة إيجاد ما يقابل مفاهيم فوكو عند بورديو أو العكس. في الوقت نفسه يتضح من المناقشة في الجزء اﻷول أن عملية الجمع بين مفاهيم كلا المفكرين يمكن فقط أن تتم بشكل غير مباشر، حيث إنها لا تنتمي إلى نفس مستوى التطبيق. باستخدام إطار مثل مفهوم نمط العيش يمكن المقابلة بين الصيغتين اللتين يتم بهما تركيب كلا من مجموعتي المفاهيم داخل هذا اﻹطار لينتجا تصورين متوازيين لذات المفهوم. ومن ثم يمكن تطبيق كل مجموعة من المفاهيم على حدة من خلال هذا اﻹطار، والفائدة المتحققة من ذلك هو أن كلا التطبيقين يكمل اﻵخر بسد النقص، وربما جبر الخلل فيه.

يتم هذا الجزء من الورقة محاولة تقديم تعريف للارسمية كنمط محايث للعيش، ويسعى لتحقيق ذلك من خلال استعراض مقارن تاريخي وموضوعي مختصر وانتقائي  للإسكانين الرسمي واللارسمي (العشوائيات) في مصر.

اﻷوجه المتنوعة للارسمية اﻹسكان في مصر

يدور التعريف (الرسمي) للإسكان اللارسمي حول الملكية أو الحيازة غير المستقرة للسكن. وفي حين يغطي هذا التعريف ظاهريا الغالبية العظمى من مناطق اﻹسكان اللارسمي في مصر إلا أنه لا يعكس الواقع بالنسبة ﻷكثرها بدقة. فأغلب مناطق اﻹسكان اللارسمي حول المدن وبصفة خاصة حول القاهرة الكبرى نمت بالبناء على أراض زراعية لا يوجد نزاع حول ملكية أصحابها اﻷصليين لها، ولكن بمخالفتها للقوانين التي تحظر البناء على اﻷراضي الزراعية لم يمكن استصدار تراخيص بناء لها ومن ثم فهي قانونا غير موجودة، وملكية أصحاب الوحدات السكنية بها وكذلك عقود إيجار مستأجريها غير معترف بها. ومن ثم فـ صفة اللارسمية للوحدات السكنية في هذه المناطق ليست ناتجة تحديدا عن وضع ملكيتها أو حيازتها بل العكس؛ أي أن الملكية والحيازة غير المستقرة أو غير المعترف بها قانونا ناتجة عن لارسمية عمليات البناء التي أنشئت من خلالها هذه الوحدات، وهذا الوضع بدوره ناتج عن التوصيف التنظيمي والتخطيطي لاستعمالات اﻷراضي حسب سياسات الدولة.

العشوائيات في مصر

لا ينطبق التعريف الرسمي بدقة أيضا حتى في حالة المناطق التي لا تخالف المباني فيها الحدود التنظيمية والتخطيطية للبناء على اﻷراضي الزراعية ولكن لا يتوافر ﻷصحاب هذه اﻷراضي فيها سندات ملكية معترف بها. يتعلق هذا بوضوح بمناطق مثل جزيرتي الوراق أقصى شمال القاهرة الكبرى والقرصاية أقصى جنوبها. هذه المناطق تتيح القوانين إمكانية تقنين أوضاع ملكية أو حيازة اﻷراضي بها نظرا لتطاول وتوارث الحيازة والاستخدام وامتدادهما إلى ما قبل تاريخ إقرار القوانين الحديثة المنظمة لهما. ولفترة طويلة كانت ممارسات الدولة تجاه شاغلي هذه المناطق تشير إلى اعتراف ضمني بشرعية حيازتهم ﻷراضيهم، ولم ينشأ الصدام مع الدولة أو مع أي من مؤسساتها حول شرعية حيازة هذه اﻷراضي إلا مؤخرا، عندما أصبحت هذه الحيازة عائقا للخطط التنموية وسياسات الدولة تجاه استعمالات هذه اﻷراضي. ومن المثير للاهتمام هنا أن توجه هذه السياسات هو على العكس من التوجه المنشئ لصفة اللارسمية للأراضي من الفئة اﻷولى المذكورة سابقا، أي أنه لا يتعلق بالحفاظ على الرقعة الزراعية بل على العكس من ذلك يسعى إلى تحويل استعمال أراض زراعية إلى استعمال آخر. وما يعنينا هنا هو أن صفة اللارسمية لهذه المناطق لم تنشأ مباشرة عن الوضع القانوني للملكية والحيازة والذين كان باﻹمكان تقنينهما وإنما ظهرت إلى السطح فقط مع تعديل لسياسات الدولة تجاه هذه المناطق بعينها.

بخلاف الأمثلة المذكورة والتي يمكن للتعريف الرسمي أن ينطبق عليها ظاهريا فثمة غيرها مما تحمل فيه المناطق السكنية صفة (العشوائيات) وفق تصنيف الدولة برغم استقرار الوضع القانوني لملكيتها أو حيازتها. ويتعلق التوصيف في هذه الحالة بظروف السكن التي قد لا تكون آمنة أو ملائمة نتيجة تدهور حالة المباني والمرافق بهذه المناطق، أو لخروجها عن القواعد العمرانية المنظمة لها في اﻷصل. وفي الأقسام التالية نتناول هذه الصور الثلاث للعمران اللارسمي من حيث تعريفها ونشأتها.

عشوائيات البناء على اﻷراضي الزراعية

حتى عام 1966، حظرت قوانين مختلفة البناء على اﻷراضي الزراعية بشكل جزئي ومناطقي ولكن القانون رقم 53 الصادر في ذلك العام ألغى هذه القوانين واستبدلها بنصوصه. ومن ثم يمكن اعتبار هذا القانون المنعطف التاريخي لتعميم حماية اﻷراضي الزراعية وتنظيم البناء عليها في حدود لا تمس إنتاجيتها. ولكن بالرغم من أن هذا القانون وتعديلاته المختلفة التي توالى صدورها حتى العام الماضي (2018)، هو ما يرتب لصفة اللارسمية للمناطق السكنية المنشأة على أراض زراعية، إلا أن نشأة هذه المناطق ونموها الذي تسارع مع مرور الوقت لا يعود بالطبع إلى هذا القانون في ذاته ولا إلى السياسة التي يعبر عنها.

تجريف الأراضي الزراعية

يمكن في الواقع العودة بأولى عوامل خلق الظروف المؤدية إلى نشأة الإسكان اللارسمي على اﻷراضي الزراعية إلى قوانين الإصلاح الزراعي الصادرة في أعقاب ثورة 1952. قامت هذه القوانين التي صدرت لتعكس واحدا من اﻷهداف المعلنة للضباط اﻷحرار وهو القضاء على اﻹقطاع بتحجيم الملكيات الضخمة من اﻷراضي الزراعية للأفراد والعائلات، ونتج عن ذلك مصادرة مساحات واسعة من اﻷراضي الزراعية تم توزيعها على المزارعين كملكيات خاصة لهم. هذه الملكيات الصغيرة حينها توارثها أبناء كل أسرة لتتفتت بينهم إلى ملكيات متضائلة مع كل جيل.

اختيار حكام مصر الجدد في ذلك الحين لتوزيع اﻷراضي كملكيات خاصة بدلا من تملك الدولة لها وتشغيل المزارعين كموظفين حكوميين بها أو تحويلها إلى ملكية تعاونية لمزارعيها كان خيارا سياسيا وأيديولوجيا، ترتب عليه تغيير العلاقة بين المزارعين وبين اﻷرض التي يزرعونها، حيث تحولت إلى أصل رأسمالي متوارث. في الوقت نفسه أدت سياسات أخرى للحكام الجدد إلى توسع قاعدة حاملي الشهادات العليا ونمو الجهاز البيروقراطي للدولة لاستيعابهم في وظائف حكومية، مما أدى إلى أن عديدا من أبناء المزارعين الذين تحولوا إلى موظفين ومهنيين ترسخ لديهم أن علاقتهم بالأرض التي ورثوها هي أنها أصل رأسمالي ذو عائد ريعي. ومن ثم مع تضاؤل المساحات المملوكة للفرد وتراجع العائد الريعي لملكيته أصبح إمكان تغيير استعمال هذه اﻷرض إلى نشاط ذو عائد أكبر خيارا مغريا إذا ما سنحت الفرصة لذلك.

من جانب آخر وإضافة إلى أن نمو الجهاز البيروقراطي للدولة أدى إلى نزوح أعداد كبيرة إلى المدن وبخاصة إلى القاهرة الكبرى فإن النمو الكبير للقطاع الصناعي وخاصة بعد عام 1960 أسهم بشكل أكبر في تسارع النمو السكاني للمدن التي لم يتح لها أن تنمو إلا على حساب الأراضي الزراعية المحيطة بها، حيث أن الاتجاه إلى الظهير الصحراوي للمدن يحتاج إلى موارد ضخمة لا يمتلكها اﻷفراد، وإضافة إلى أن اتجاه الدولة إلى الاستثمار في بناء مدن جديدة على الظهير الصحراوي قد تأخر فإن استثماراتها في هذه المدن لم تكن كافية من حيث الكم لاستيعاب الزيادة السكانية للمدن ولا من حيث الكيف بتوفير مقومات الحياة المطلوبة لجذب السكان إلى معظمها.

مع بدء تراجع الدولة المصرية في نهاية السبعينات وما تلاها عن دورها في توظيف الخريجين أضيف إلى ما سبق ظاهرة الحاجة إلى توفير السكن ﻷبناء أسر المزارعين غير القادرين على الحصول عليه داخل المدينة، ومن ثم ففي عدد من متزايد من حالات البناء على اﻷراضي الزراعية أصبح السبب المباشر هو بناء سكن لجيل جديد من أصحاب اﻷرض الزراعية لم تعد مواردهم كافية لتغطية حاجاتهم إلى السكن بطريقة أخرى. في الوقت نفسه مع تراجع عائد العمل بالزراعة لتقلص الملكيات الزراعية وتصاعد حدة الغلاء تزايدت نسبة النازحين من الريف إلى الحضر من بين المهمشين الباحثين عن كسب رزقهم بالعمل في مجالات لارسمية مقارنة بمن ينزحون للعمل بوظائف مستقرة أو كمهنيين. وانضم هؤلاء إلى أجيال من قاطني الأحياء اللارسمية حول المدن تقلصت أمامهم فرص الحصول على شهادات عليا أو العمل بها والحصول على وظائف مستقرة.

عشوائيات التخوم

يرتبط تحول مناطق مثل جزيرتي الوراق والقرصاية إلى عشوائيات بالمفهوم الرسمي للدولة بتاريخ تطور تعامل الدولة الحديثة في مصر مع اﻷراضي الزراعية أيضا. وفي كثير من ملامح نمو العمران السكني في هذه المناطق ما يتطابق مع مثيلاتها التي تعرضنا لها في القسم السابق. ما يختلف عمليا في حالتها هو أنها بحكم موقعها وبحكم نمط نمو المدينة تحولت من كونها تقع على تخوم وهامش المدينة لتصبح في قلبها، وهو ما يجعلها أقرب إلى مناطق لم تكن في تاريخها القريب أراض زراعية ولكن نمو المدينة من حولها أكسبها صفة اللارسمية، مثل رملة بولاق ومثلث ماسبيرو. تسليط الضوء على هذه المناطق في السنوات اﻷخيرة ومن ثم دخول سكانها في صراعات في مواجهة مؤسسات الدولة اﻷمنية ومؤسستها العسكرية وصلت أحيانا إلى حد أن تكون دموية، يعود بصفة أساسية إلى تبني الدولة للسياسات النيوليبرالية الذي أنتج في الحالة المصرية نموا غير متوازن لصالح الاستثمار العقاري وهو ما شكل دفعا كبيرا لأسعار اﻷراضي داخل المدن للارتقاع بمعدلات غير مسبوقة.

جزيرة الوراق

شكل نمو قطاع الاستثمار العقاري منذ تسعينات القرن الماضي ضغطا متزايدا على أسعار اﻷراضي وعلى نمط عمران المدن وبصفة خاصة القاهرة الكبرى. على طرفي النقيض بين مناطق التخوم المهمشة وبين اﻷحياء السكنية الراقية تقليديا سارت عملية رفع الكثافة السكنية بضخ مزيد من الاستثمارات في بناء المساكن بشكل سلس في معظمه وبدون صراعات تسترعي الانتباه. السبب في ذلك هو تقارب قدرات طرفي المعادلة في الحالتين والمقصود بهم السكان الحاليين والمستثمرين العقاريين. في كلا الحالتين يصل الطرفين إلى تبادل منفعة مناسب يتمثل في إعادة البناء على اﻷرض بشكل مشترك يسهم فيه أصحاب اﻷرض باﻷرض نفسها في حين يقدم المستثمر العقاري (صغير الحجم في حالة التخوم ومتوسط الحجم في حالة الأحياء الراقية) تكلفة البناء ثم يتقاسم الطرفين ملكية الوحدات السكنية المنشأة. في الحالتين لا يجذب عائد الاستثمار المتوقع المستثمرين الكبار في الحقل ولا يجعل التفاوت غير الكبير في القدرات المالية للطرفين من أيهما عرضة لضغط غير متناسب من اﻵخر. كما أنه في الحالتين لا يوجد تفاوت كبير في الطبقة الاجتماعية أو الاستعمال السكني والاقتصادي للوحدات بين السكان اﻷصليين وبين من سينتقلون إلى الوحدات اﻹضافية المنشأة مما يجعل ثمة مكان للسكان اﻷصليين في هذه الوحدات دون أي تعارض مع المستهدف من بنائها.

تغيب هذه العوامل جميعا في الحالات الحدية لمناطق التخوم التي تحولت إلى أن تكون في قلب العمران المديني بشكل يكاد يكون مفاجئا، فالعائد الاستثماري المتوقع مرتفع إلى حدود فلكية مما يجتذب كبار المستثمرين المحليين والأجانب، والتفاوت في القدرة المالية (ومن ثم النفوذ السياسي) هائل مما يجعل تبادل المنفعة بشكل متوازن أمرا مستحيلا، كذلك تتعارض أغراض الاستثمار والطبقة المستهدفة منه بشكل واضح مع استيعاب السكان اﻷصليين بأي صيغة في المشروعات المزمع إنشاؤها على اﻷرض. يجعل ذلك من إزاحة السكان اﻷصليين الحل اﻷمثل اقتصاديا، وهو ما يدفع المستثمرين إلى استخدام نفوذهم السياسي لإشراك الدولة في عملية اﻹزاحة هذه وهو ما تنخرط فيه الدولة من خلال إطار رسمي يتمثل في طرح سياسات تنمية طويلة الأمد تدرج مشروعات الاستثمار العقاري عالي العائد في هذه المناطق كجزء منها. في المقابل استبعاد السكان كطرف يعتد به ووقوعهم تحت ضغوط كبيرة للقبول بالخروج بدون منفعة تذكر يدفع بهم إلى تصعيد مقاومتهم إلى حد الدخول في مواجهة مباشرة مع مؤسسات الدولة التي تسعى إلى طردهم من مساكنهم بالقوة. وبرغم أن هذه المقاومة يمكن أن تشتري بعضا من الوقت اﻹضافي للسكان وتعرقل الجدول الزمني لمشروعات المستثمرين وشركائهم من مؤسسات الدولة إلا أنه في المدى البعيد يرغم التفاوت الهائل في موازين القوى السكان على الرضوخ في إطار تسويات لا يلتزم المستثمرون أو الدولة دائما بشروطها كما تشير حالة مثلث ماسبيرو إلى ذلك بوضوح.

عشوائيات تدهور البيئة العمرانية

لا تندرج المناطق المتدهورة عمرانيا تحت التعريف العالمي المعتمد لمناطق اﻹسكان اللارسمي ما دام نمط الملكية والحيازة بها مستقرين. ولكن وفق التصنيف الرسمي للحكومات المصرية فإن هذه المناطق يتم إدراجها ضمن المسمى الواسع للعشوائيات. تضم هذه الفئة بصفة أساسية مناطق العمران التقليدي القديمة داخل المدن التي تسبق نشأة النسيج العمراني لها نشأة الدولة الحديثة المصرية، ومن ثم فهي مناطق لم تُخطط وفق النمط الحديث للتخطيط العمراني وتبدلت التركيبة السكانية لها مع الوقت فضمت نسبا أعلى من اﻷقل دخلا في المجتمع. إضافة إلى تلك المناطق ثمة أيضا مناطق مشروعات اﻹسكان التي أنشأتها الدولة بنفسها في مراحل مختلفة وتدهورت بيئتها العمرانية مع الوقت بسبب انهيار مستويات دخول سكانها ولجوئهم إلى تعديل الاستخدام لبعض الوحدات من السكن إلى أنشطة اقتصادية مختلفة وكذلك إلى إدخال تعديلات معمارية وعمرانية لاستيعاب زيادة الكثافة السكانية لتعذر انتقال اﻷبناء إلى مساكن أخرى لعدم توافر الموارد المالية اللازمة وكذلك لاستيعاب أنشطة اقتصادية مختلفة توفر عائدا أعلى.

مناطق عشوائية في مصر
مناطق عشوائية في مصر

الواقع المعقد والمختلط سكانيا وعمرانيا لأغلب هذه المناطق يجعلها تخوما داخلية للمدينة يصعب اختراقها بالنسبة للاستثمار العقاري حيث يحول ارتفاع تكلفة إحلال نمطها العمراني بآخر مختلف دون أن يحقق العائد المنتظر هامش ربح تنافسي. ولكن هذا وضع قد يتغير مع الوقت ومع استنفاذ فرص الاستثمار الأكثر ربحية التي لا زالت متاحة في مناطق أخرى. في نفس الوقت إذا تحقق لخطط إعادة تأهيل قلب المدينة النجاح فإن قيمة اﻷراضي في المناطق من هذه الفئة اﻷقرب إلى هذا القلب سترتفع إلى الحد الذي يجعل عائد الاستثمار في إحلالها كافيا لتحقيق الربحية المطلوبة. ويمكن حينها توقع أن تمر واحدة بعد اﻷخرى بالمسار الذي سلكته منطقة مثلث ماسبيرو القريبة الشبه بها.

عمران المدينة الحديثة

ربما لا شيء يميز الدولة الحديثة عن الكيانات المشاركة لها في اسم الدولة والسابقة عليها أكثر من ذلك الشعور الذي تخلقه لدى مواطنيها بأن لها سيطرة كاملة على كافة جوانب حياتهم اليومية وكل ما يمارسونها من أنشطة خلالها. عبورك إلى الحياة توثقه شهادة ميلاد رسمية تصدرها الدولة، ومغادرتك لها توثقها شهادة وفاة رسمية تصدرها الدولة، ما بين الوثيقتين تكون تفاصيل حياتك كلها في حاجة إلى مزيد من الوثائق الصادرة عن الدولة أو المعتمدة منها. في أحيان كثيرة تبدو هذه الوثائق تحصيل حاصل، مجرد شغف بيروقراطي بمراكمة أوراق لا حاجة إليها، ولكن هذا يتبدل تماما عندما يتعذر عليك الحصول على أي من هذه الوثائق لسبب أو ﻵخر، فتكتشف أن كثيرا من ضروريات حياتك تتوقف على وجودها إلى حد أنه دون هذه الوثائق وجودك ذاته ومن تكون يبدوان بلا قيمة. هذا التمدد البيروقراطي للدولة بحيث لا يمكن ﻷي نشاط اجتماعي (مشروع) أن يتم دون المرور بها، هو على وجه التحديد ما يجعل الدولة الحديثة ما هي عليه اليوم.

المباني الحديثة في سنغافورة

رسميات الدولة وأوراقها ليست عبثا أو تحصيل حاصل، إنها أطراف أصابعها التي تمتد بعيدا وعميقا مشكلة ما نعتبره اعتياديا وطبيعيا ومسلما به، وعمران المدينة الحديثة هو بالتأكيد واحد من أهم ما أنتجته الدولة الحديثة. مقارنة بمدينة العصور الوسطى التي تبدو أقرب إلى الكيان العضوي الذي نما واكتسب ملامحه مع الوقت، تبدو المدينة الحديثة أقرب إلى آلة صُنعت تنفيذا لمخطط مسبق. مثل أي كيان عضوي ثمة في الحقيقة منطق لنمو مدينة العصور الوسطى، ولكنه أيضا مثل الكيانات العضوية مدفون في حمض نووي يصعب الوصول إليه وفك شفرته، وحتى حينها لا تبدو مدينة العصور الوسطى شبيهة بمنطق تكوينها أو انعكاس مباشر له، فهو مجرد منطق يوجه نموها وليس مخططا يعكسه هذا النمو، في المقابل تعكس المدينة الحديثة مخططها بشكل دقيق، ويمكنك توقع ملامحها إذا ما تبينت اﻷساس البسيط لهذا المخطط.

تستجيب المدينة الحديثة لمتطلبات تسيير الدولة لشؤون مواطنيها كما تستجيب لمتطلبات إبقاء كل ما يدور بها مكشوفا وقابلا للمتابعة، وكذا سماحية الوصول بسهولة إلى كل نقطة بها عند الحاجة. إنها كيان منفتح على خارجه مكشوف له، كأنها واجهة أحد المحال، في مقابل مدينة العصور الوسطى المنطوية على ذاتها والتي تخفي أكثر مما تظهر من تفاصيلها. ولكن المدينة الحديثة مع انكشافها للمراقب تبقي سكانها منعزلين عن بعضهم البعض، متراصين في وحدات مفتوحة على خارجها ولكنها غير متصلة ببعضها البعض. وهي في الواقع أقرب إلى تكرار لا نهائي لغرف الاحتجاز في مخطط بنثام للبانوبتيكون.

هذه المقارنة المختصرة لعمران المدينة الحديثة بعمران مدينة العصور الوسطى قد يستدعي إلى الذهن مشابهة الأخيرة لعمران ما يسمى بالعشوائيات. وثمة بالتأكيد بعض عناصر الشبه فيما بين العمرانين، إلا أن عمران العشوائيات هو وليد ظروف خلقتها الدولة الحديثة في مصر حتى وإن كان بخروجه عن محددات التخطيط العمراني (الرسمي) يختلف عن النمط العمراني الاعتيادي الذي تنتجه هذه المحددات. بصفة خاصة يفتقد عمران العشوائيات إلى هذا الانكشاف للمراقب الخارجي، وﻹمكانية توقع ملامحه من خلال منطق بسيط في مخطط معروف، وأخيرا لسماحية الوصول بسهولة إلى كل نقطة فيه.

تقنيات السلطتين الضبطية والحيوية

ما تعكسه الملامح المميزة لعمران المدينة الحديثة هو التقنيات الضبطية والحيوية لممارسة السلطة التي تعمل على البشر من خلال تشكيل ظروف معيشتهم. فتعمل السلطة الضبطية من خلال تقسيم الفراغ العمراني وظيفيا ومن ثم ضبط حركة البشر خلاله بحيث يمكن دائما توقع من يمكن أن يوجد أين ومتى. وفي المقابل يصبح وجود الشخص في المكان أو الزمان غير المتوقعين له سهل الملاحظة والمتابعة. وتعمل ذات السلطة من خلال خلق التراتبية التي تنعكس في تدرج عمق قطع اﻷراضي المختلفة ومن ثم مساحاتها من منطقة ﻷخرى مما يؤدي إلى الفصل الطبقي بين السكان حسب القدرة المالية. من جانب آخر تعمل السلطة الحيوية على تشكيل عمران المدينة من خلال تنميط نصيب السكان من الخدمات المختلفة وتخصيص وتوزيع اﻷراضي على هذه الخدمات وفق تراتبية منتظمة.

تقنيات السلطة المذكورة في الفقرة السابقة لا تنتج عمران المدينة الحديثة بشكل مباشر بالطبع بل تعمل من خلال مفاهيم حاكمة للعمليات المنتجة لهذا العمران والتي تبدأ بتقدير الحاجة إلى التوسع العمراني، ثم اختيار نمط هذا التوسع من بين خيارات عدة تشمل إحلال وتجديد عمران قائم لرفع كثافته، وإضافة أحياء جديدة إلى المدينة القائمة، وبناء مدن جديدة ملحقة بالمدينة القائمة أو مستقلة عنها. يلي ذلك اختيار مستوى التدخل المباشر للدولة في عمليات إنتاج التوسع العمراني والتي تتدرج ما بين الاقتصار على تخطيط المحددات العامة للمناطق العمرانية الجديدة أو المعاد تخطيطها، إلى وضع المخططات التفصيلية، أو إلى تنفيذ شبكات المرافق ومباني الخدمات العامة، أو إلى بناء المساكن ذاتها. وقد شهدت مصر في تاريخها الحديث نماذج لكافة أنماط التوسع العمراني وجميع درجات التدخل المباشر للدولة في تنفيذها. وتشمل هذه النماذج إنشاء أحياء مثل حي شبرا في عهد محمد علي والعباسية والحلمية في عهد عباس ثم قلب القاهرة الحالية أو القاهرة الخديوية في عهد إسماعيل. قام إسماعيل أيضا بتطوير ضاحية حلوان ومد خط سكك حديد إليها مما حفز نشأة حي المعادي. ومع حفر قناة السويس نشأت مدن بورسعيد وبورفؤاد والإسماعيلية وتوسعت مدينة السويس. وفي بداية القرن العشرين نشأ حي مصر الجديدة بمبادرة مستقلة لشركة أنشأها مستثمر بلجيكي هو البارون إمبان. في هذه الفترة أيضا مع بدايات المشروعات الصناعية للأجانب وتاليا من قبل الرأسماليين المصريين، أنشأ بعض أصحاب هذه المشروعات مناطق سكنية ملحقة بمصانعهم أو قريبة منها للعمال والموظفين، وهو نمط استمر مع النمو الصناعي اللاحق بعد عام 1952 مرافقا لتوسعات عمرانية في شكل مشروعات إسكان وأحياء وضواحي جديدة للمدن أبرزها مدينة نصر في القاهرة. الفترة التالية شهدت سلسلة من المدن الجديدة حول القاهرة وعلى الظهير الصحراوي لعديد من المدن المصرية (العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر، 15 مايو، السادات، بدر، دمياط الجديدة، إلخ). مع هذه المدن الجديدة عادت مبادرات القطاع الخاص المستقلة نسبيا عن التدخل المباشر للدولة للظهور من خلال إنشاء المناطق السكنية المسورة، التي انتشرت بصفة خاصة على الطرق الواصلة بين القاهرة ومدن قديمة أخرى وبين المدن الجديدة القريبة منها.

خلاصة

برغم امتداد الفترة الزمنية التي نشأت خلالها هذه التوسعات العمرانية إلى أكثر من قرنين، واتساع الرقعة التي غطتها لتشمل أغلب مدن مصر، وبرغم أن الملامح العمرانية والمعمارية التفصيلية لها متباينة إلى حد كبير، إلا أن الملامح الرئيسية لنسيجها العمراني واحدة وهي ناتجة عن عامل رئيسي هو الملائمة الوظيفية، التي يتقاطع فيها عمل كل من تقنيات السلطة الضبطية والحيوية. ولكن عامل الملائمة الوظيفية وتقنيات السلطة المنتجة له تعمل في مستوى بالغ التجريد بحيث لا يسمح إلا بتفسير هذه الملامح الرئيسية العامة للعمران الذي تنتجه، ومن ثم إذا أردنا تفسير تباين الملامح التفصيلية في عمران المدينة المصرية الحديثة ينبغي علينا استخدام مقاربة نظرية تعمل على مستوى مختلف.

مصادر الدراسة

Kipper, R. (2009). Cairo: a broader view. In R. Kipper, & M. Fischer (Eds.), in Cairo’s Informal Areas: Between Urban Challenges and Hidden Potentials. Nonprint SA Portugal.

Mitchell, T. (1988). Colonizing Egypt. Berkeley: University of California Press.

Delanty, G. (2019). Formations of European modernity: Springer International Publishing.

Pierson, C. (2004). The modern state. London New York: Routledge.

Charles, J. (2019). Dimensions of resilience in developing countries. Springer International Publishing.

Misztal, B. (2000). Informality: social theory and contemporary practice. London New York: Routledge.

UN-Habitat, (2016). Country Profile Egypt.

UN-SRH, S. R. o. a. h. (2018). Questionnaire: informal settlements and human rights – Egypt.

Malterre-Barthes, C. (2016). Housing Cairo. from small-scale informal housing construction to semi-professional speculative urban schemes.

Saitta, P. (2017). Practices of subjectivity: the informal economies and the subaltern rebellion. International Journal of Sociology and Social Policy, 37(7/8), 400–416. URL

Roy, A. (2004). Urban informality transnational perspectives from the Middle East, Latin America, and South Asia. Lanham, Md. Berkeley, Calif: Lexington. Books Center for Middle Eastern Studies, University of California at Berkeley.

O’Donnell, S. (2010). Informal housing in Cairo: are ashwa’iyyat really the problem?

Horwood, C. (2011). Cairo: a city in transition. Nairobi: UN-Habitat.

Sims, D. (2010). Understanding Cairo: the logic of a city out of control. Cairo, New York: The American University in Cairo Press.

إقرأ أيضاً: تقييم مبادرة البنك المركزي للتمويل العقاري

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى