درس الإخوان من الثورة إلى الانقلاب
في الذكرى التسعينية لنشأة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وبعد مرور سبعة أعوام على ثورة يناير، وبعد وصول الإخوان إلى سدة الحكم، ثم الانتقال إلى السجون والمعتقلات.. فإنه قد يكون من المفيد تقييم التجربة لاعتبارات عدة، فهي أول تجربة لثورة أسفرت عن عملية تحول ديمقراطي حقيقي ” مؤقت”، كما أسفرت أيضا عن وصول أول رئيس ذو خلفية إسلامية” إخوانية” لسدة الحكم. وهي التجربة التي لا تزال مثار تساؤلات ونقاشات لدى كثير من الباحثين كون تداعياتها لا تقتصر فقط على إطارها الداخلي الوطني، وإنما تعدته للإطار الإقليمي الأوسع.
وفي هذا الإطار سوف نحاول تقديم تقييم أولي-اجتهادي- للتجربة الإخوانية منذ الثورة وحتى الانقلاب عبر ثلاث مراحل أساسية مفصلية مرحلة الثورة “25يناير2011-11فبراير 2011، مرورا بمرحلة حكم المجلس العسكري والبرلمان 11 فبراير2011- 30 يونيو 2012، وصولا لمرحلة تبوء الإخوان الحكم 1يوليو 2012-وحتى انقلاب 3 يوليو 2013. وسوف نخصص لكل مرحلة من هذه المراحل محوراً خاصة:
المحور الأول: الإخوان ـ ثورة أم إصلاح
يمكن القول بأن نهج الإخوان الإصلاحي ظل مسيطرا عليهم طيلة فترة طويلة من عمر الجماعة وحتى إرهاصات ثورة 25يناير 2011، وربما هذا ما جعل بعض القوى المعارضة لهم –بما فيها القوى الثورية-يرون أنهم قاموا بركوب الثورة، كما أن هذا النهج الإصلاحي هو الذي جعلهم يبعدون عن القوى الثورية بعد ذلك، وبالتالي صاروا أداة طيعة للثورة العميقة التي أطاحت بهم في انقلاب يوليو.
هذا النهج” الإصلاحي” يرجع إلى أدبيات الإخوان السياسية منذ عهد الأستاذ البنا الذي كتب في رسالة المؤتمر الخامس “أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أُولوا الأمر في إصلاح عاجل، وعلاج سريع لهذه المشاكل، فسيؤدي ذلك حتمًا إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح، وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيرًا من هذه النُّذُر، فليسرع المنقذون بالأعمال) (رسالة المؤتمر الخامس، صـ 134 – 136).
ومن هنا وحتى يوم 23 يناير لم يكن هناك قرار بنزول الإخوان يوم 25. وهذا يرجع إلى عدم وضوح الرؤية بخصوص هذا اليوم ” هل الهدف تطهير الداخلية فقط من ممارساتها القمعية، أم الاطاحة بالنظام ككل”، فضلا عن عدم معرفة على وجه الدقة القوى الداعية لها … وبالتالي كانت هناك خشية من تورط الإخوان حال النزول.. لكن نتيجة لضغط بعض شباب الإخوان، وبعض القيادات الوسيطة كالبلتاجي ود. خالد حنفي أمين حزب الحرية والعدالة قبل الانقلاب، كانت هناك عدم ممانعة للمشاركة بصورة فردية.
لكن بعد ممارسات الداخلية القمعية في 25 يناير، ومقتل بعض الشباب في السويس، ثم الترويج الإعلامي بأن الإخوان وراء هذه المظاهرات، وما تلاه من القبض على عدد من قيادات وأعضاء مكتب الإرشاد صبيحة يوم السابع والعشرين من يناير.. كل هذا جعل الإخوان يتخذون قرارا مساء ذات اليوم بالمشاركة يوم 28 وما تلاها… وكانوا بالفعل من أهم القوى المؤثرة في الميدان.
لكن مع ذلك كانت هناك حالة من عدم وضوح الرؤية للهدف النهائي للجماعة من النظام.. هل الهدف إصلاحي يتمثل في اعتراف النظام بهم كجماعة مشروعة بدلا من كونها محظورة، وإجراء انتخابات حرة نزيهة يحصل فيها الإخوان على نسبة معقولة من المقاعد تجعلهم بمثابة القوى المعارضة الرئيسية، وما قد يترتب على ذلك من إشراكهم بصورة جزئية في الحكومة؟
أم الهدف هو إسقاط النظام من خلال الآليات الثورية والاعتراف بهم من خلالها وليس من خلال مبارك فاقد الشرعية؟
وقد اتضح هذا في العديد من بياناتهم ومنها البيان الصادر من الدكتور محمد بديع يوم 3 فبراير2011 “بعد موقعه الجمل بيوم واحد” والذي جاء فيه أن الإخوان يتبعون منذ 80 عاما منهج الإصلاح السلمي الشعبي المتدرج… لا يمكن أن نرفض حوارا جادا منتجا مخلصا يبتغى المصلحة العليا للوطن شريطة أن يتم فى مناخ طبيعي ولا يحمل لغة التهديد والوعيد” ( 1 )
وربما يفسر هذا أسباب التقائهم بخصهم اللدود نائب الرئيس ورئيس المخابرات في حينها عمر سليمان. واعتبار ذلك إقرارا بوجودهم المشروع.. وهو القرار الذي أثار استياء القوى الشبابية، فضلا عن القوى السياسية الثورية الأخرى. وكان من الواضح أن النظام يرغب في استطلاع المواقف دون تقديم تنازلات سياسية.. وهو ما جعل الإخوان يعودون ثانيا لصفوف القوى الثورية
ولقد كان لتأثير موقعة الجمل أوائل فبراير دورا كبيرا في عودة الجماعة للنهج الثوري بعدما شعرت أنه لا فائدة من هذا النظام، وما ساعدها على ذلك سقوط أعداد كبيرة من أبنائها بين شهيد وجريح وتصدرها المشهد باعتراف خصومها كساويرس وغيره.
ملاحظات على الأداء
وهنا يمكن إجمال بعض الملاحظات على أداء الإخوان خلال تلك الفترة:
1- تأرجح الرؤية بين المسارين الإصلاحي والثوري وهو ما كان له تداعياته على أداء الإخوان بعد ذلك كما سنرى بعد قليل
2- المرونة السياسية للإخوان في التعامل مع القوى الثورية والسياسية الموجودة في الميدان. حيث تم الاتفاق بالرغم من الحشد الكبير للإخوان على عدم رفع شعارات أو لافتات إسلامية أو إخوانية، وكان هذا أبرز سمات الخطاب الإخواني، لأنهم كانوا يدركون كيف أن النظام يرغب في إحداث الوقيعة السياسية بين شركاء الثورة
3- خطاب التطمينات السياسية للداخل والخارج والذي تمثل في بيان الإخوان خلال أيام الثورة، وحديث المرشد عن الرؤية السياسية للإخوان والتي تتضمن ما يمكن تسميته باللاءات الثلاثة ” لا للرئاسة.. لا للحكومة.. لا للأغلبية البرلمانية”. وهو ما أكده اجتماع مجلس الشورى يوم 10 فبراير “قبل تنحي مبارك بيوم “. وهي الرؤية التي أدى التراجع عنها بعد ذلك إلى إحداث شرخ كبير في العلاقة بين الإخوان وبين القوى السياسية الأخرى، فضلا عن فقدان المصداقية الشعبية خاصة في ظل لعب إعلام الفلول والثورة المضادة عليها بعد ذلك.
4- انسحاب الإخوان وغيرهم من الميدان والقبول بتولي المجلس العسكري الحكم “لفترة انتقالية” بعد إعلان تنحي مبارك، أدى إلى عدم اكتمال الثورة، أو بمعنى أخر تمكين العسكر من الحكم بعد الثورة والتباعد ثانية بين الإخوان والقوى الثورية. وهو ما كان له تداعياته السلبية على المشهد السياسي وفي القلب منه الإخوان كما سيتضح في المرحلة التالية
المحور الثاني: مرحلة المجلس العسكري:
لقد كان واضحا منذ ثورة يناير أن المجلس العسكري لا يرغب في الخروج صفر اليدين من المشهد السياسي، فإما أن يظل مسيطرا من وراء ستار من خلال رئيس تابع له على غرار تجربة 60 عاما من الحكم بعد ثورة يونيو 52، أو تحصين امتيازاته بموجب دستور لا يجوز تغييره إلا بشق الأنفس، بحيث تظل ميزانيته بعيدا عن الأعين من ناحية، فضلا عن النص لأول مرة في الدستور بأن القوات المسلحة هي حامية حمى الديمقراطية على غرار التجربة التركية سابقا، وذلك تحسبا لمجئ رئيس مدني ثوري لا يخضع لهيمنة العسكر.
فالقيادة السياسية” العسكرية” قبل ثورة يناير، ونظرا لحالة التفاهم والتماهي بينها وبين الجيش، كانت هي التي تحدد دوره وتوظفه سياسيا لخدمة أغراضها دون النص على ذلك في أي دستور.
وبحسب الباحث بشير عبد الفتاح” الجزيرة نت 28/5/2012 ( 2 )، فإن السادات اعتبر في خطاب له أمام مجلس الشعب عام 1976 أن “الجيش حامي الدستور والشرعية الدستورية”، في حين اعتبره مبارك بأنه ” حامي الديمقراطية”، كما تم استعانة القيادة السياسية بالجيش في مواجهة ليس المعارضة السياسية فحسب، وإنما المعارضة الشعبية أيضا مثلما حدث في أحداث مايو 1971، التي عرفت بانقلاب مراكز القوى فيما اعتبرها السادات “ثورة التصحيح”، ثم في أحداث يناير1977، التي عرفت “بانتفاضة الخبز” في حين أسماها السادات “انتفاضة الحرامية”، وكذا في فبراير 1986 إبان أحداث الأمن المركزي
الجيش والثورة
أما بعد ثورة يناير2011، فإن الجيش كان فاعلا سياسيا رئيسيا مستغلا عدم اتفاق الثوار على قيادة موحدة تتولى زمام أمور البلاد. وهو ما أعطاه الفرصة الذهبية للقيام بدور سياسي متمثلا في مهام السلطتين التنفيذية والتشريعية خلال الفترة الانتقالية “من خلال الإعلان الدستوري الذي أصدره نهاية مارس 2011، وكذلك الإعلان المكمل “المكبل” الذي أصدره يوم 17 شهر يونيو 2012 عشية الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، والذي أعطى لنفسه حق التشريع حتى في ظل وجود رئيس منتخب، بسبب حكم المحكمة الدستورية بحل البرلمان يوم 14 يونيو 2012 قبيل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ثم كان ثالثة الأثافي بتدخله في الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي يوم 3 يوليو، ثم بترشح شخصية عسكرية هي المشير عبد الفتاح السيسي في منصب رئيس البلاد لنصبح أمام انقلاب عسكري ديمقراطي ناعم مكتمل الأركان.
سياسة المجلس العسكري بعد تنحي مبارك
ومن هنا يمكن التركيز بالأساس على علاقة الإخوان بالمجلس العسكري باعتباره الجهة الحاكمة، مع عدم إهمال القوى الأخرى
فبالنسبة للمجلس العسكري كما سبق القول، كان يرغب في إطالة أمد الفترة الانتقالية، والاستئثار بالسلطة خلالها بهدف إخماد الحالة الثورية شيئا فشيئا، وبث الفرقة بين الثوار لاسيما بين الإخوان وباقي الثورة من ناحية ثانية، والحيلولة دون سيطرة الإخوان على مؤسسات الدولة. ويتضح ذلك من خلال عدة أمور أبرزها ما يلي: 3
1- رفض المجلس صيغة إقامة مجلس مدني عسكري لإدارة شئون البلاد خلال المرحلة الانتقالية تلافيا لفكرة الازدواجية المدنية العسكرية، كما أنه سيدير البلاد لفترة انتقالية ولا يحكمها
2- تأخر المجلس العسكري في إصدار قانون الغدر أو العزل السياسي بشأن أعضاء الحزب الوطني المنحل “الفلول”، والذي يفترض ألا يقتصر على معاقبتهم جنائيا فقط، وإنما حرمانهم من الترشح في الانتخابات
3- عدم حديث المجلس العسكري في إعلانه الدستوري الصادر في نهاية مارس 2011 عن الجهة المنوط بها تشكيل الحكومة بعد الانتخابات، وقد أوضح أحد أعضاء المجلس العسكري هذا الأمر بعد ذلك حيث اعتبر أن حق تشكيل الحكومة من اختصاص المجلس. ويبدو أن المجلس كان يستشعر ثقل الإسلاميين، وأنهم قادمون للبرلمان، فأراد أن يفوت الفرصة عليهم، وربما وجهة النظر هذه تجد ما يدعمها بالنظر إلى تشكيل الحكومات المتعاقبة منذ الثورة، حيث خلت حكومة شرف الأولى والثانية من أي ممثل للتيار الإسلامي
4- وثيقة السلمي في نوفمبر 2011-قبل الانتخابات بفترة وجيزة- والتي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وكشفت النوايا الحقيقية للمجلس العسكري الذي يرغب في عدم مناقشة أحد لميزانيته، فضلا عن الاحتفاظ بحقه في الاعتراض على أية نص في مشروع الدستور.. وهو ما يعني أنه سيكون وصيا على الحكم المدني. وربما هذا ما دفع القوى الإسلامية تحديدا وفي القلب منها الإخوان إلى النزول في مليونية التحرير في الثامن عشر من نوفمبر الماضي” جمعة اليوم الواحد” للمطالبة ليس فقط بإسقاط الوثيقة، وإنما تحديد موعد محدد لانتخابات الرئاسة وتسليم الحكم”. والتي أجبرت المجلس العسكري ليس فقط على سحب الوثيقة، بل وإجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها المقرر بعد عشرة أيام، وكذلك تحديد موعد لتسليم السلطة بنهاية يونيو 2012.
5- إضعاف سلطة مجلس الشعب الذي يهيمن عليه الإسلاميين، من خلال عدم قيام الحكومة بالانصياع له، مستغلة عدم قدرة البرلمان بموجب الإعلان الدستوري على سحب الثقة منها، بل وصل الأمر إلى تهديد رئيس الحكومة كمال الجنزوري لرئيس البرلمان سعد الكتاتني الذي ينتمي للإخوان بحل البرلمان من خلال المحكمة الدستورية.
أما فيما يتعلق بموقف الإخوان من المجلس العسكري، فقد كان هدفهم الأساسي التسريع بتسليم السلطة إلى القوى المدنية، وهو نفس موقفهم إبان عبد الناصر …كما أعلنوا عن القاعدة الحاكمة لهم في التعامل مع المجلس العسكري. والتي عبر عنها مرشد الجماعة الدكتور محمد بديع خلال افتتاحه مقر الإخوان بدمياط ” مايو 2011″، حيث نفى أن تكون الجماعة عقدت صفقةً مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهو نفس ما أكد عليه الدكتور محمود غزلان المتحدث الرسمي باسم الجماعة الذي ساق أدلة وبراهين في مقاله بالأهرام القاهرية “أغسطس 2011”, على عدم وجود هذه الصفقة مشيرا للبيان الذي أصدرته الجماعة ودعت فيه لإلغاء المحاكمات العسكرية للمدنيين، ومن قبلها المطالبة باحترام ارادة الشعب في الاستفتاء الدستوري الأخير ورفض أية مواد حاكمة للدستور4 في إشارة لوثيقة السلمي.
وهنا ينبغي الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات
1- عودة الإخوان إلى النهج الإصلاحي ” أو بمعنى أدق الثوري الإصلاحي”، وعدم الرغبة في الدخول في مواجهات مع الجيش.. صحيح أن الإخوان لم يكونوا مؤيدين له على طول الخط … لكن كان من الواضح أنهم يسعون لكسب وده من خلال إجباره على تسليم السلطة.. وهي نقطة أدت إلى تباعد القوى الثورية عنهم لظنهم-من خلال غلاة العلمانيين- إلى وجود صفقة بين الإخوان والجيش.. وهو الأمر الذي لم ينجح الإخوان في إثبات عكسه، خاصة فيما يتعلق بأحداث محمد محمود “19 نوفمبر 2011″التي وقعت قبل الانتخابات البرلمانية بفترة وجيزة.. صحيح أن الإخوان أدركوا أن الجيش ربما سيعمل على توريطهم من أجل تأجيل الانتخابات، او حتى اتمامها مع تشويه صورة الإسلاميين بسبب العنف المتوقع حال المشاركة في هذه الأحداث. لكن في المقابل لم ينجح الإخوان في تبرير موقفهم” عدم المشاركة” لهؤلاء الشباب. بل اتهموهم بالبلطجة وإثارة الشغب.. وهو ما أحدث شرخا كبيرا كانت له تداعياته على عدم انضمام هذه الحركات الثورية للإخوان بعد الانقلاب
2- أن العسكر عمل على الوقيعة بين الإخوان وغيرهم من القوى الشبابية الثورية، والقوى الوطنية الحقيقية.. من خلال إيهام هؤلاء بأن الإخوان يسعون للانتخابات للوصول للسلطة.. ولا يهتمون بتحقيق أهداف ثورة يناير. والبقاء في الميدان.. وبالرغم من أن هذا الأمر ليس مطلقا. حيث نزل الإخوان للميدان مرات عديدة، إلا انهم في المرات التي لم ينزلوا فيها ربما لم ينجحوا في إقناع هذه الأطراف بمبرراتهم..
3- عمل العسكر كذلك على الوقيعة بين الإخوان والمعارضة التقليدية ” المستأنسة” من خلال السماح لهؤلاء ولغيرهم ” الفلول” باستغلال القنوات الفضائية والإعلام لتشوية صورة الإخوان، بحيث بلغ الاستقطاب السياسي مداه … صحيح أن هذه المعارضة ” العلمانية” لم يكن من السهل احتواؤها.. لكن كان من الممكن استمالة بعضها، أو بعض الرموز الوطنية الحقيقية المعارضة من الليبراليين واليساريين وغيرهم من خلال تقديم قدر من المناصب السياسية لهم في البرلمان.. صحيح أن الإخوان سعوا لشيء من هذا من خلال حوار من أجل مصر-5 في 16 مارس 2011، أي قبل الاستفتاء بثلاثة أيام فقط.. وكذلك من خلال التحالف الوطني الذي بدأ أيضا في ذات الشهر.. لكن يبدو أن المغريات والتنازلات التي قدموها لم تكن كافية.. بدليل تراجع القوى المشاركة في التحالف من 34 حزبا من مختلف الاتجاهات بما في ذلك الأحزاب التقليدية كالوفد والناصري وغيره.. لتصبح عشرة أحزاب فقط. وبعبارة مختصرة.. لم تكن هناك برجماتية كبيرة في التعامل مع هذه الأحزاب
4- عدم التزام الإخوان بالنسبة التي حددوها أثناء الثورة في المشاركة في البرلمان ” الثلث” أصاب مصداقيتهم بصورة كبيرة والتي تكرست بعد ذلك من خلال البرلمان وسعيهم للهيمنة على مناصب وعضوية اللجان من ناحية، ثم في القضايا المطروحة من ناحية ثانية، وأخيرا وليس آخرا سعيهم لإسقاط الحكومة من ناحية ثالثة
5- بالنسبة لعملية اختيار المرشحين للبرلمان.. كانت هناك اشكالية حقيقية فيما يتعلق بالجهة التي تختار” الجماعة أو الحزب” ولكل معاييره الخاصة.. فالحزب قد ينظر إلى المعايير السياسية لاختيار المرشح، حتي وإن كان من أصحاب الرأي داخل الجماعة والذي قد تكون له وجهة نظر-ربما مغايرة-في بعض الأحيان- لقيادات الجماعة التي في المقابل لها معايير أخرى لعل من أبرزها مدى السمع والطاعة للمرشح” الأخ” . وبالتالي انعكس ذلك على الأداء البرلماني بصفة عامة من خلال ترشيح أشخاص ذات خلفيات دعوية أكثر منها سياسية.. شخصيات تعتمد السمع والطاعة بصورة كبيرة مبالغ فيها آحيانا.
6- بالنسبة لأداء مجلس الشعب ذو الأكثرية الإخوانية، دخل المجلس في مواجهات مبكرة ساهمت في زيادة أزمة عدم الثقة من ناحية، والتكاتف والتآمر عليه من ناحية ثانية. فقد أراد المجلس تغيير المحكمة الدستورية.. وهو مطلب هام لأن قضاتها تم تعيينهم من قبل مبارك.. ولكن كان يمكن أن يتم ذلك من خلال الزخم الثوري، أو بعد تولي مرسي الحكم والزخم الشعبي الذي كان يحظى به أوائل حكمه.. ومن هنا كان توقيت المواجهة –وليس المبدأ- خاطئا- لاسيما كونه جاء في وقت تنظر فيه المحكمة قضية دستورية الثلث الفردي في قانون الانتخابات
7- يرتبط بذلك أيضا أزمة عدم الثقة التي نشأت بسبب تشكيل الجمعية التأسيسية الأولى “مارس2012” والثانية “يونيو 2012” حيث كانت هناك رغبة من التيار الإسلامي “الاخوان والنور في حينها” في الهيمنة على الجمعية”65 مقعدا من 100 في الجمعية الأولى” مما كان يحمل دائما اشارات سلبية للطرف الأخر، وبالرغم من السعي لاحتواء هذه الأزمة والاستجابة لهذا الطرف، إلا أنها جاءت بعد تجذر عدم الثقة خاصة في ظل معرفة نوايا الطرف الأخر وعلاقاته بالمجلس العسكري الذي كان دائما ما يسعى لإفشال جهود تشكيل التأسيسية حتى يقوم هو بعملية الاختيار وبالتالي صياغة نصوص تحقق أهدافه
8- أن الإخوان لم ينجحوا في كسب أي طرف من الأطراف السياسية لصالحهم.. فلا هم كسبوا ود الجيش من خلال موافقتهم على إعطائه وضع مميز.. كما لم يقوموا بكسب ود القوى الشبابية الثورية من خلال اعتبار الشرعية للميدان وبضرورة محاكمة العسكر ورحيله الفوري، بل ومحاكمته.. كما لم ينجحوا في استمالة القوى المعارضة الوطنية أو المستأنسة على حد سواء. وبالتالي صاروا في الساحة بمفردهم –باستثناء انضمام بعض الإسلاميين إليهم-.. وبالتالي تعمق الاستقطاب السياسي بل والديني أيضا.
9- فيما يتعلق بالترشح للانتخابات الرئاسية فقد كانت هذه أحد الشروخ الأخرى التي تضاف إلى سوابقها والتي ساهمت في الترويج لفكرة سعي الجماعة للسلطة وأعطت لإعلام الفلول النيل من مصداقية الجماعة وتشويه صورتها إلى حد كبير.. صحيح أن الجماعة ساقت أسبابا لذلك منها رفض وتعويق تشكيل حكومة ذات صلاحيات حقيقية معبرة عن إرادة الشعب برغم الفشل الذريع للحكومة الحالية، التلويح والتهديد بحل مجلسي الشعب والشورى المنتخبين، الدفع بمرشح رئاسي أو أكثر من بقايا النظام السابق ودعمهم من فلول الحزب المنحل وأعداء الثورة لمحاولة إنتاج النظام السابق مرة أخرى، محاولات إعاقة عمل الجمعية التأسيسية وإثارة الجدل حولها بهدف تعويق إعداد الدستور في المدى الزمن المحدد له…5
وبالرغم من الوجاهة المنطقية لهذه المبررات لكن كان يمكن توسيع دائرة البحث عن شخصية وطنية تحظى بدعم الجماعة وقوى أخرى بدلا من قصر البحث على ثلاث شخصيات فحسب “البشري، الغرياني، مكي” وهو ما جعلها في مرمى النقد من ناحية، وحدوث اصطفاف من المجلس العسكري وقوى المعارضة التقليدية والفلول لمواجهتها من ناحية ثانية.. وربما هذا ما دفع المجلس العسكري إلى اصدار الاعلان الدستوري المكمل “المكبل” عشية جولة الإعادة والذي حصل بموجبه على حق التشريع في مواجهة الرئيس الإخواني المحتمل.
المحور الثالث: تجربة الإخوان ـ مرحلة الحكم
كانت هذه المرحلة بمثابة مرحلة الصدام بالأساس بين مرسي والإخوان من ناحية، والمجلس العسكري من ناحية ثانية.. فبعدما فشل المجلس العسكري في وأد الثورة في يونيو 2012 بسبب إعلان الإخوان تقديم مرشح رئاسي لهم في مواجهة شفيق ابن المؤسسة العسكرية، ثم نزولهم إلى ميدان التحرير بعد انتهاء الفرز مباشرة وإعلان فوز مرسي، والتفويت على لجنة الانتخابات-المحصنة دستوريا بموجب استفتاء 2011 – إعلان فوز شفيق ..كان على المجلس أن يتعامل مع الإخوان ليسوا بوصفهم شركاء في الثورة على غرار ما حدث في 1952، وإنما بوصفهم السلطة الحاكمة… وهنا حدث تباين للمرة الأولى بين الرئاسة من ناحية، والمؤسسة العسكرية من ناحية ثانية بالرغم من أن الرئيس بموجب الدستور هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.. فإذا كان العسكر رفضوا مشاركة الإخوان في الحكم في عهد عبد الناصر، فكيف يسمح لهم بالانفراد به في عهد مرسي.
بين مرسي وطنطاوي وعنان
وفي المقابل يلاحظ أن مرسي كان يهدف لإخضاع المؤسسة العسكرية له أسوة بما كان يحدث في الماضي.. ولقد بدأ المواجهة مبكرا من خلال الإطاحة بوزير الدفاع المشير حسين طنطاوي، وكذلك رئيس الأركان سامي عنان بعد توليه الحكم ب40 يوما مستغلا حادث مقتل 16 جنديا في شمال سيناء، لكنه أخطأ من وجهة نظر معارضيه بما فيهم قوى الثورة بتعيينه رئيس المخابرات الحربية عبد الفتاح السيسي المسئول عن وقوع هذه الجريمة في منصب وزير الدفاع، والذي انقلب عليه بعد ذلك، في حين يرى آخرون أن مرسي لم يختر السيسي، وإنما طنطاوي هو الذي فرضه عليه مقابل الموافقة على الاستقالة. وبالتالي فإن الأمر لا يخرج عن مجرد تحليلات وتقديرات تحتاج إلى توثيق وتبيان في ظل تضارب الأرجاء لاسيما أن صاحب الشهادة الأصلية” الدكتور مرسي” لم تسمع شهادته حتى الآن..
وبحسب معارضي مرسي فإنه أخطأ ثانيا، في عدم استغلال الشعبية الكبيرة التي حصل عليها بعد عزل طنطاوي وعنان.. باتخاذ خطوات ثورية تالية طال انتظارها مثل اقالة النائب العام، تعطيل عمل المحكمة الدستورية وتطهير الإعلام والداخلية.. لكن عدم اتخاذه مثل هذه الخطوات مكّن الطرف الأخر من استعادة صفوفه من ناحية، والتربص للإطاحة به من ناحية ثانية..
-ويلاحظ كذلك أن الجماعة ومرسي ارتكبت بعض الأخطاء خلال هذه المرحلة دفعت ثمنها لاحقا.. وذلك فيما يتعلق باختيار شخصيات غير مناسبة لمواقع المسئولية، أو اختيار الفريق الرئاسي القريب منه والذي يتضمن مجموعة من معاونيه ليست لهم الدراية الكافية بأصول الحكم، كما ان اختيار مرسي لشخصية مغمورة مثل هشام قنديل رئيسا للحكومة–والذي كانت كل طموحاته أن يستمر وزيرا للري- أثار حفيظة الإخوان وغيرهم.
كما كان واضحا في هذه الفترة مدى تأثير هيمنة الجماعة إلى حد ما، على الرئيس. أو انفراد الرئيس باتخاذ قرارات مصيرية دون اطلاع المقربين من فريقه الرئاسي عليها.. ومن ذلك إصداره الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012، والذي أعلن معظم مستشاريه-بما في ذلك نائبه محمود مكي- عدم درايتهم به، كما أن نزول الإخوان قبل الإعلان لمحاصرة دار القضاء العالي أشار-سواء بقصد أو دون قصد-إلى وجود ترتيب مسبق بينه وبين الجماعة وبالتالي تشويه صورته لدى الرأي العام باعتبار أن مصر يحكمها المرشد
مرسي والمؤسسة العسكرية.. صدام أم وئام؟
وفي المقابل كان واضحا أن الجيش يرفض الانصياع لمرسي وتنفيذ أوامره، بما قد يؤدي ليس فقط على إضعاف حكمه وكسر هيبته، بل إمكانية الإطاحة به، بل والقضاء عليه إن أمكن. واتضح ذلك من عدة أمور:
1- عدم قيام قوات الحرس الجمهوري بحماية الرئيس داخل قصر الرئاسة خلال أحداث الاتحادية بعد صدور الإعلان الدستوري في 22 نوفمبر 2012، مما جعل بعض المتظاهرين يصلون إلى موكب الرئيس، وكادوا يفتكون به في مؤامرة مشتركة بين الحرس الجمهوري والداخلية برئاسة أحمد جمال الدين
2- قيام قيادة الجيش بتوجيه دعوة –دون علم الرئاسة- للقوى السياسية لبحث الأزمة السياسية الناجمة عن الإعلان الدستوري الصادر عن مرسي
3- عدم قيام قوات الجيش بتنفيذ حظر التجول في مدن القناة بسبب تداعيات الأحكام الصادرة في مذبحة بور سعيد
4- تحريض فئات الشعب والقوى السياسية- بالخروج على مرسي يوم 30 يونيو، والمطالبة بتدخل الجيش كما أفصحت عن ذلك منى مكرم عبيد.
5- رفض أية مقترحات تقدم بها مرسي لحل الأزمة مثل إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، يعقبها إجراء استفتاء حتى لا تكون البلاد بدون مؤسسات لو تم إجراء الاستفتاء أولا.. وتصوير السيسي بأن المعارضة ترفض ذلك
6- التدخل للإطاحة بمرسي بالرغم من أن مطلب المعارضة ليس الإطاحة به، ولكن إجراء استفتاء على بقائه.. ولعل ترشح السيسي يفسر لماذا تمت الإطاحة بمرسي، ولماذا لم يدع السيسي للاستفتاء على بقائه.
7- استمرار الجيش في أعمال القمع ضد الإخوان تحديدا.. فضلا عن تقديمهم للمحاكمة ليس من خلال المحاكم العسكرية على غرار التجربة الناصرية. ولكن من خلال المحاكم المدنية المسيسة
8- استمرار الجيش في المعادلة الإقصائية والتصعيدية ضد الإخوان ” رفض التفاوض، إعلانهم جماعة إرهابية، حرب إعلامية شرسة”، لكن في المقابل فإن الإخوان رفضوا الانصياع باعتبارهم أصحاب الشرعية.. وبالتالي أعلنوا رفضهم خارطة الطريق واستمرارهم في التظاهر.
وهنا يلاحظ أن مرحلة رئاسة مرسي كشفت عن عدة أمور:
1- عدم وجود برنامج واضح “رؤية استراتيجية فعلية ” للجماعة، كما أن مشروع النهضة هو عبارة عن مجموعة أفكار تفتقد في كثير منها إلى الآليات
2- ضعف الجانب الإعلامي لدى الجماعة والرئاسة، وهو ما ساهم ليس فقط في تشويه مرسي كرئيس، وإنما رسم صورة ذهنية سلبية للجماعة ربما تحتاج وقت طويل لتحسينها.. ولعل الجيش فطن لأهمية الإعلام مبكرا”، كما يتضح من أول تسريب للسيسي من خلال لقائه ببعض القادة العسكريين في ديسمبر 2012 وحديثه عن الحاجة لمد أذرع تعاون الجيش مع الإعلام”.
3- عدم قيام الرئيس بكشف الحقائق للرأي العام، أو إفشال مخطط الانقلاب في الساعات الأخيرة بدعوته للاستفتاء على شرعيته، لا سيما بعدما ضاق الخناق عليه
4- عدم اكتراث الرئاسة والجماعة-إلى حد ما- للنصح المقدم لها داخليا وخارجيا، وربما يرجع ذلك في أحد أبعاده إلى المعلومات المغلوطة التي كانت تصلها عن طريق المخابرات. وبالتالي كانت تأتي القرارات أو الاستجابات لمطالب المعارضة متأخرة، وبالتالي ارتفاع سقفها من المطالبة بإقالة حكومة قنديل، إلى الاستفتاء على بقاء الرئيس، وصولا إلى المطالبة برحيله دون استفتاء
5- يرتبط بالنقطة السابقة سوء تقدير للموقف الداخلي والخارجي. والنظر إلى مظاهرات 30 يونيو بأنها ستكون مثل سوابقها” مظاهرات محدودة ستنفض بسرعة”
6- ربما تكرر هذا الأمر –سوء تقدير الموقف-فيما يتعلق بفض اعتصامي رابعة والنهضة “14 أغسطس 2013.. فبالرغم من التحذيرات الشديدة، بل والممارسات القمعية التي قام بها الجيش في أحداث الحرس الجمهوري 8 يوليو2013، وكذلك مجزرة المنصة 26 يوليو 2013، إلا أن الجماعة وقيادات التحالف كانت تراهن على الصمود والقدرة على كسر الداخلية والجيش كما حدث إبان ثورة 25 يناير.. ومن الواضح أن المشهد لم يكن مقروءا بصورة صحيحة.
7- كما يلاحظ أن الجماعة لم تضع رؤية تتضمن كل الاحتمالات، وبالتالي عندما تم فض رابعة، لم تكن هناك بدائل، وكانت من الأخطاء الكبرى نزول رمسيس بعدها بيومين، مما جعل أفرادها وأنصارها صيدا سهلا للقناصة.
————-
الهامش
1 بيان من الإخوان المسلمين حول أحداث يوم الخميس الثالث من فبراير 2011م، موقع اخوان ويكي
2 بشير عبد الفتاح، الجيش في الجدل الدستوري المصري، الجزيرة نت 28/5/2012
3 حول هذه النقاط أنظر د. بدر حسن شافعي، تساؤلات ومواقف حائرة بشأن العسكر في مصر، القدس العربي اللندنية، 23 ديسمبر 2011
4 صحيفة الأهرام القاهرية ،29-8-2011
5 نص بيان جماعة الإخوان المسلمين للترشح للرئاسة 1 إبريل 2012.