fbpx
دراساتاقتصاد

رجال الأعمال والدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

ملخص الدراسة:

تتكون الدراسة من مقدمة وخاتمة وبينهما خمسة محاور أساسية وذلك على النحو التالي:

مقدمة: وتتناول سؤال الدراسة الأساسي وفرضيتها .

أولا: العسكريون وتصورهم عن ذاتهم وأثره، وتتناول الترجيح بين الاقترابين الفئوي والطبقي في بلورة وعي المؤسسة بذاتها، ما انعكس على تصورها لعلاقتها برجال الأعمال.

ثانيا: العسكريون وصورة رجال الأعمال، وتعكس صورة رجال الأعمال كما تراهم المؤسسة العسكرية، مدعومة بتحليل خطاب .

ثالثا: توجهات رجال الأعمال حيال الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية: ويتناول بقدر من التفصيل مواقف رجال الأعمال تجاه المؤسسة العسكرية عبر نماذج محددة وأسماء ومؤسسات، بالإضافة لتحليل تكوين هذه التوجهات.

رابعا: إطلالة على ما يطرحه رجال الأعمال من انتقادات موضوعية: ويتناول هذا المحور أبرز حجج رجال الأعمال في رفضهم للدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية ومناقشة قيمة هذه الحجج.

خامسا: المواجهات بين الطرفين: وتتضمن أبرز أدوات المواجهة الأمنية وغير الأمنية سواء داخل مصر أو خارجها.

خاتمة: وتتضمن آليات بناء تواصل فعال مع نخبة رجال الأعمال مستمدة من إجمالي ما انتجته الدراسة من ملاحظات رصدية وتحليلية عبر بنائها.

مقدمة:

لم يكن نائب بيان وزير الدفاع للشؤون المالية آنذاك، اللواء أركان حرب محمد نصر، الذي كشف النقاب عن الأرباح السنوية للأنشطة الاقتصادية للجيش (198 مليون دولار)، وعن نسبتها في ميزانية الدولة (4.2%) بالأمر الذي حفز المواجهة بين رجال الأعمال والمؤسسة العسكرية المصرية، برغم رفض الباحثين دعم صدقيته، وبرغم أن وجهة نظر رجال الأعمال صحيحة فيما يتعلق بمضاعف استثمار رقم كهذا في النشاط الاقتصادي المدني، والذي يتوقع أن يكون مردوده على الاقتصاد الوطني أضعاف هذا المبلغ .

كان مقال نيوتن تجسيد لمسيرة المشكلة في بداياتها ومآلها، وبخاصة مع رد الشؤون المعنوية للقوات المسلحة عليه عبر دار الهلال، وهو الرد الذي عكس قضية متشابكة الأبعاد تبدأ بتصور المؤسسة العسكرية لدورها، وتصورها عن رجال الأعمال، وتصور رجال الأعمال عنها، وأسباب اعتراضاتهم على تصور هذه المؤسسة لنفسها ودورها، وآثار هذه التصورات المتبادلة.

كان مقال نيوتن “طلب خاص”، والتي كتبها صلاح دياب في المصري اليوم بتاريخ 17 مايو 2015، من أبرز ما عبر به رجال الأعمال المصريين صراحة عن تصورهم للدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية المصرية، وتصورهم لأنفسهم كمنافسين للقطاع الخاص، مستغلين ما تمنحهم القوة من مزايا وموارد تؤهلهم لتعظيم أدوارهم .

أورد نيوتن/ صلاح دياب في الجزء الثاني من المقال العبارة الآتية: “مر في ذهني خاطر. الجيش الذي أصبح المقاول المدني المحتكر- لكل مشاريع مصر تقريبا بالأمر المباشر- نجاحه الباهر لا يبرر الاحتكار- حتى لو كان احتكاراً إجبارياً لعدم وجود بدائل.

جاءت كلمة دياب في سياق إقدام المؤسسة العسكرية على بناء مستشفيات خاصة به، حيث تساءل لماذا لا تبني القوات المسلحة مستشفى كهذه في كل محافظة. وبرغم براءة السؤال، إلا أن علاقته بالمقدمة التي ساقها تعني أنه يتهكم، وأنه يقصد أن الجيش لا يبني إلا ما يحقق له ربحا. وعكس مقال نيوتن إشارة لمردود تصور المؤسسة العسكرية لنفسها في هذا السياق على الاقتصاد القومي .

هذا المقال ما استدعى أن يرد عليه رئيس تحرير مجلة الهلال في افتتاحية 20 مايو 2015، والتي حملت عنوان “إلى صلاح دياب: “بيادة الجيش المصري أشرف من نيوتن.. القوات المسلحة مؤسسة وطنية تحمى تراب الوطن”. وكان مقال الرد يحفل بما يعكس تصور القوات المسلحة لرجال الأعمال، وما يبرر إطار تفاعلاتهما في المشهد الاقتصادي – السياسي المصري . غير أن ما يسبق الصورة هنا أمر ضروري يتعلق بتصور المؤسسة العسكرية نفسها لدورها الاقتصادي، حيث إن هذا التصور يعكس إطار صياغتها لعلاقتها برجال الأعمال .

الدراسة التالية تحاول أن تضع العلاقة الصراعية بين المؤسسة العسكرية ورجال الأعمال في مكانها التحليلي المنطقي بين تصورات كل من المؤسسة العسكرية ورجال الأعمال عن بعضهما البعض، وتأثير هذين التصورين على الواقع الاقتصادي المصري، وأثره على رجال الأعمال والمواجهات التي وقعت بين الطرفين .

أولا: العسكريون وتصورهم عن ذاتهم وأثره

ليس الخوض في تصور العسكر لاقتصادياتهم ترفا فكريا، بقدر ما هو خوض محدود بمحدودية إطار البحث في دافعهم للتدخل في المجال العام وإعادة صياغته، بما يمكن لفهم أعمق لديناميات التفاعل معهم والاستجابة لها على نحو واع .

وبداية، لم يكن اتجاه يزيد صايغ لاعتبار النخبة العسكرية مجرد مجموعة فئوية (طائفة الضباط) بمفهوم قادر على ضبط اتجاه هذا التكوين الثقافي الاجتماعي في علاقته بالمجال العام(1). إذ بدا من خلال متابعة النقاش الذي دار بين النخبة في مصر أن ثمة عملية اجتماعية أعمق أدت لتبلور تدريجي لتصورات هذا التكوين الاجتماعي على الأصعدة الفكرية والثقافية والسياسية، قاد لتوحدهم وبلور بالتبعية رؤيتهم لنمط مصالحهم، وبنى موقفهم من مجتمعهم .

وبرغم قصور التعريف المرتبط بالاقتراب الطبقي، إلا أن تعريف باسل رمسيس لمصطلح “العسكر” بدا وكأنه الأقرب لبناء تصور متكامل عنهم. عرفهم رمسيس بأنهم “مجموعة من الأفراد الذين تربطهم علاقة محددة بوسائل الإنتاج، أو برأس المال، أو بالعمليات الاقتصادية. وأضاف أنه “عبر هذه العلاقة تحددت مصالحهم الجماعية، وتشكلت روابط فيما بينهم، وتبلورت تدريجيا تصورات فكرية وثقافية وسياسية توحدهم وتعبر عن مصالحهم، وموقفهم من مجتمعهم”(2 ).

ودلالة الفارق بين النموذجين أن النموذج الخاص بالفئوية لا يعني كون هذه المجموعة طرف ذي رؤية متكاملة أصيلة لموقعه في المنظومة الاجتماعية – السياسية، وأنه فور توفر مطلبه الفئوي؛ فإنه يخضع وينصرف لأداء مهمته “الوظيفية”، وهذا ما لم يكن حاضرا في النموذج المصري الذي لم يكتف بتحصيل مطالبه الفئوية، بل استنكر مشروعا اقتصاديا اجتماعيا برمته، على نحو ما أفادت شانا مارشال.

فقد ذكرت الباحثة أن السفير الأمريكي الأسبق بمصر “فرانك ريتشاردوني” قد أرسل لحكومته بتاريخ مارس 2008 ما مفاده: “يعتقد (المشير حسين) طنطاوي أن خطة مصر للإصلاح الاقتصادي تُعزز عدم الاستقرار الاجتماعي من خلال تقليل رقابة الحكومة على الأسعار والإنتاج”( 3). هذا المقتطف يعني رؤية لإدارة نظام الحكم عكسها موقع المشير في منظومة تاريخية تتجاوز السنوات العشرين التي قضاها وزيرا للدفاع .

وهكذا، بدأ تبلور الوعي الاقتصادي لدى النخبة العسكرية عبر تجاوز حدود الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية التي تحققها الرتبة العسكرية، وفي تجاوز حدود السيطرة على المعونة الأمريكية العسكرية وصناعة وتجارة السلاح، حيث توقفت هذه النخبة عن كونها مجرد شريحة بيروقراطية تدير الجيش، وعندما يحال أحد أفرادها إلى التقاعد، يمنح منصبا إداري أو سياسي في مكان ما إن كان مرض عنه، تحولوا بحيث أصبحت العسكرية بالنسبة إليهم، وبسبب التوسع التدريجي في مجالات نشاطهم الاقتصادي والمالي، هي إدارة هذه الأموال، والعمل على زيادتها، بالإضافة إلى السمسرة، وليس قيادة جيش مقاتل.

بدت ملامح تشكيل الوعي الجمعي مع انقلاب يوليو 1952، مع تحويل عبد الناصر نظام الدولة من ليبرالي إلى اشتراكي يقوم على ملكية الحكومة لكل شئ، ما دفع ضباط الجيش لتنصيب أنفسهم مديرين لممتلكات الدولة من مصانع وشركات القطاع العام(4 ).

وفي عهد السادات، حدث تحوُّل محدود في الأنشطة الإنتاجية للجيش، حيث جرى التركيز على الصناعات الأكثر ارتباطاً بالدفاع(5 ). وتراجعت مكانة العسكر قليلاً في هذه الفترة كنخبة حاكمة محتكرة للسلطة. ومع تحرير الاقتصاد نسبياً، اضطر العسكر عندها للقبول بمشاركة السلطة مع طبقة صاعدة من رجال الأعمال الطفيليين المقربين من السادات وأسرته( 6)، وهو ما بلور وعيا ذاتيا بإمكانية التطفل الاقتصادي على الدولة .

وعبر متغيرات تاريخية متعددة، أدى توقيع معاهدة السلام مع العدو الصهيوني، وتوقفه عن الظهور في الوعي العام المصنوع باعتباره “العدو”، أدى هذا لتغييب “العقيدة القتالية التاريخية للقوات المسلحة” أو النظرية الدفاعية المتعارف عليها في كل جيوش العالم، وظهرت مكانها حالة مبهمة من عقيدة البيزنس وتحقيق الحياة المريحة للمقاتل المحترف(7 ). وهو ما فتح الباب لتشكل وعي طبقي بالمفهوم الكلاسيكي الأكاديمي لمصطلح الطبقة كنظام وعي مجتمعي .

ومع بداية عهد مبارك،  تمكّن العسكريون من الحفاظ على لائحة طويلة من الامتيازات المالية والصناعية، بما في ذلك الوقود المدعوم، والسيطرة على قطاع العقارات المُربِح، وعمل المجندين، واستخدام الأذونات الخاصة، وممارسة إشراف خارج عن القانون في قطاعات تتراوح من البتروكيماويات إلى السياحة(8 ). () كما أنشأ العسكريون “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية” الذي أقام مشروعات المختلفة، ومُنحت مشروعاته امتيازات فوق سلطات الحكومة القانونية والمحاسبية( 9

عمد العسكريون، في سبيل تحصين أنفسهم ضد حملة حكومات مبارك، إلى تنويع محفظة القوات المسلحة الاقتصادية الدولتية عبر الحصول على تمويلٍ وتكنولوجيا من مصادر القطاع الخاص الأجنبي والمحلي، وأيضاً عبر شراكات مشتركة مع طيف واسع من رجال الأعمال غير العسكريين والشركات متعدية الجنسية( 10).

ومع قيام ثورة يناير، حانت الفرصة أمام العسكريين للتغير من أهم الفاعلين السياسيين الذين مثل ظهورهم تحيا أساسيا لثروة الطبقة العسكرية، وهو جمال مبارك ورجاله الذين كانوا ينافسون العسكر على هذه الإمبراطورية المالية والاقتصادية، من باب السعي لخصخصتها واقتسامها. هذه الفترة الصراعية الطويلة، وعملية التهميش الواسعة لطبقة العسكر سياسيا،انتهت بيناير ٢٠١١ عبر فرصة تاريخية استثنائية لحسم الصراع، وتلقفها العسكر(11 ).

غير أن يناير كان لها تأثير آخر، حيث أدّى الفراغ الفوري في السلطة غداة إطاحة مبارك إلى جعل العسكريين الطرف الأقوى في المعادلة السياسية. وقد زادت سيولة المشهد السياسي المصري التي تلت ذلك، القيمة المُتصورَّة للجيش كشريك استثماري إلى حدّ كبير. كما سمحت القيادة للقوات المسلحة بإطلاق العديد من الإشارات إلى مستثمرين محليين وأجانب بالتحالف معها والخضوع لرؤيتها لضمان أمن استثماراتهم ونمائها( 12).

غير أن نمط الوعي الكلي الذي تبلور مع ثنائي طنطاوي – جمال مبارك، بعمليات متعاكسة الاتجاه، ولد رؤية أشمل، تجاوزت الاقتصادي لصالح تقديم تصور كامل للمجال العام. قمة هذا التصور وجود رئيس محسوب على المؤسسة العسكرية يمثل ذراعها السياسي. وهذه الصورة تجعلنا نتفهم العلاقة التعاضدية بين العسكريين ومؤسسة الرئاسة في مصر( 13).

ثانيا: العسكريون وصورة رجال الأعمال:

في فاتحة الدراسة، لفتنا لمقال لرجل الأعمال صلاح دياب، الذي ينتقد فيه دور المؤسسة العسكرية الذي تحدث فيه عن الدور الاقتصادي للمؤسسة كمقاول( 14)، ولفتنا فيه إلى الرد الذي ورد عليه في مجلة الهلال، ويدل الفارق الزمني البسيط والطويل نسبيا في آن (4 أيام) فيه دلالة على دورة استغرقها الرد قبل أن يجد طريقه للنشر في موقع دار الهلال، مما يعزز فكرة صدور هذا الرد عن إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة( 15).

القيمة الأساسية في المقال لا تتمثل في رد خطأ وقع فيه كاتب عمود نيوتن في صحيفة المصري اليوم، بقدر ما إنه يتضمن صورة رجال الأعمال كما تراها إدارة الشؤون المعنوية. ومن خلال هذا المقال يمكن استخلاص ملامح هذه الصورة فيما يلي :

  • نفى المقال بداية أن يكون اعتماد السيسي على المؤسسة العسكرية راجع لكونه ابنها، ولكن لأنها مؤسسة وطنية تتميز بالانضباط والالتزام واحترام التعهدات، وربط ثقته فيها بالتزامها الشديد في تنفيذ المشروعات التنموية ومنها مشروع قناة السويس الجديدة وصولاً إلى إنشاء مستشفيات ومراكز طبية متخصصة على أعلى مستوى من الكفاءة وأحدث التقنيات العالمية .
  • ثنى الرد بالتأكيد على أن المؤسسة العسكرية لا تقوم بدورها بغرض الربح المالي أو المن على الشعب المصري، بل كنوع من رد الجميل للشعب المصري .
  • استمر الرد في تعريضه برجال الأعمال، معتبرا أن المؤسسة العسكرية تبني لمصر لا لغيرها، وتخدم المصريين دون أن تنتظر جزاء ولا شكورا، وأنها “لم تفكر يوماً في احتكار خدمة أو مشروعات بعينها، لتحرم المصريين منها” أو تتكسب بها .
  • قارن المقال بين مشروعات قامت بها القوات المسلحة التي لا يطالها فساد ولا يفسدها إهمال، مقارنة بـ”طرق أخرى أقامتها جهات مدنية ظهر الفساد في تنفيذها حتى قبل أن يتم افتتاحها “.
  • أكد المقال على أن المراقب يقف “أمام مؤسسة تعمل للشعب، لا تحتكر ولا تسيطر ولا تقاول على حساب الناس، وإنما تؤمن المصريين ضد استغلال المحتكرين وفساد أصحاب المصالح “.
  • لفت المقال لعموم مشروعات القوات المسلحة للمصريين ورخصها: “لم نسمع يوماً أن مؤسسة تابعة للقوات المسلحة أغلقت أبوابها في وجه المصريين أو فرضت عليهم سلعاً بعينها أو أشعلت جيوبهم بأسعار خيالية مثلما يفعل آخرون من قليلي الذمة ومعدومي الضمير “.
  • أكد المقال على دور الجيش كمنقذ من فساد رجال الأعمال: “لولا تدخل الجيش فى المشروعات لكنا لا زلنا أسرى حفنة فاسدة من المقاولين والتجار الذين كانوا يتاجرون فى الشعب المصري ولا يجدون من يردعهم أو يجبرهم على احترام المواطن ومراعاة الضمير في مشروعاتهم “.
  • أضاف المقال: “بالتأكيد السيد صلاح دياب وأمثاله كانوا يتمنون لو ظل الجيش بعيداً ولم يشارك في تنفيذ المشروعات ولم يسهم فى بناء مصر بعد أربع سنوات من الانهيار، حتى يظل المحتكرون يمارسون سطوتهم ويفرضون شروطهم على الدولة دون أن تملك حتى مساومتهم، لكن دخل الجيش بضوابطه ومعاييره وعزيمته الوطنية المحترمة فكشف المستور وفضح العورات “.
  • المقال ضم لرجال الأعمال نخبة كبار رجال الدولة في اتهامه لهم بالجشع والفساد “كشف الجيش أن مشروعات كبرى كانت تنفذ بالفساد وأموالاً عامة كانت تضيع تحت أقدام مسؤولين متآمرين مع مقاولين “جشعين لا يهمهم إلا تكوين الثروات على حساب المصريين وحياتهم .
  • أكد مجددا على رخص التكلفة “كشف الجيش أن مشروعات كان يمكن أن تنفذ بأقل من تكلفتها بكثير لكن الفاسدين نسجوا شباكهم على الدولة ونهبوا من خزائنها بمواصفات فاسدة مثلهم ولم يجدوا من يتصدى لهم”. وتابع “كشف الجيش عندما دخل لتنفيذ المشروعات أن مئات ملايين كانت تدفع من تحت “الترابيزة” كرشاوى من أجل أن تسلم مشروعات دون مراجعة مواصفاتها ولا التأكد من كفاءتها “
  • لفت المقال لدور الجيش في مراعاة العدالة الاجتماعية عبر مستشفياته، ومصانعه “هل يعلم الأستاذ صلاح دياب كم طن سلع غذائية يذهب سنوياً من القوات المسلحة للفقراء وسكان العشوائيات ليعينهم على متاعب الحياة، ويعوض تقاعس كثير من أمثاله من رجال الأعمال عن دورهم الاجتماعي “.
  • وأخيرا لفت المقال إلى كفاءة ودقة تنفيذ المشروعات، وأن ذلك يحظى بشهادات دولية “هل تعلم يا أستاذ صلاح أن إحدى الدول اشترطت كى تقدم منحاً لإقامة مشروعات تنموية فى مصر أن يسند “تنفيذها للجيش؛ لأنه الأكثر دقة وكفاءة، ولولا تعهد الجيش بهذا لما وافقت تلك الدولة على المنحة .
  • وأخيرا جاء بند التبرع لصندوق تحيا مصر “هل تعلم يا أستاذ صلاح أن رجال الجيش الذي تصفه بالمحتكر هم أول من تبرعوا لصندوق تحيا مصر من مرتباتهم.
  • اترك الجيش لمن يعرفون قيمته من المصريين وفى مقدمتهم رجال الأعمال الذين لا يبحثون عن الجدوى بقدر ما يهتمون بالقيمة ومصلحة البلد( 16).

ومن خلال فحص نص المقال يمكننا أن نخرج بملاحظات هيكلية تتمثل فيما يلي:

(أ) المقال في بنيته كان يتحدث عن المؤسسة العسكرية وكأنها بديل لرجال الأعمال، حيث كان يقارن بين دوري الكيانين وكأن المؤسسة العسكرية بكياناتها الاقتصادية أو التنفيذية تمثل بديلا لدور رجال الأعمال في تنفيذهم لهذه المشروعات. وهذا الخطاب بشكل خاص يمثل أكثر مصادر الإزعاج لرجال الأعمال الذين عانوا طيلة السنوات الأربع الماضية جراء تراجع الاستثمارات وتدهور كفاءة جهاز الدولة في أدائه لوظائفه الداعمة للأداء الاقتصادي العام في مصر .

(ب) تفرد المقال بإسناد خصيصتين أساسيتين للدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، وهما أولا خصيصة الوطنية، وثانيا خصيصة البعد الاجتماعي المرتبط بعنصر التكلفة. مزج المقال بين هذين البعدين، بما يمكن توصيف في النهاية بخدمة حاجة النظام للاستقرار، وهو ما يعني أن السياسة محدد أساسي لمباشرة المؤسسة العسكرية لهذا الدور، وأنها تمارسه في إطار توفير الدعم للسلطة التنفيذية من باب معالجة عنصر التكلفة الذي يوفر دعما للشرائح الاجتماعية البسيطة .

غير أن هذه المعالجة تصطدم باتهام رجال الأعمال بالعمل لمصالحهم الخاصة التي لا تأخذ بعين الاعتبار حاجة النظام للاستقرار من باب تخفيض تكلفة شراء السلع والخدمات. والأهم في هذا الإطار أن خطاب المقال أنشأ تعارضا صارخا بين مفهوم الوطنية وبين تقدير رجال الأعمال لمصالحهم الخاصة .

هذه الخصيصة المزدوجة لا تأخذ بعين الاعتبار عنصر التكلفة التي يتحملها رجال الأعمال في تشغيلهم للأيدي العاملة، وهي القيمة الاقتصادية الحقيقية التي يقدمها رجال الأعمال، ويتعذر على المؤسسة العسكرية فهمها. فبدون هذا الدور لرجال الأعمال، فإن مصر مقدر لها أن تعاني من معدل بطالة قياسي بين الأمم .

(ج) تكتمل ملامح صورة رجال الأعمال كما تراها المؤسسة العسكرية – في المقال المعبر عنها – عبر الإشارة لخليط من “الاحتكار”، والفساد”، وإيثار المصلحة الخاصة الضيقة، و”عدم اعتبار الدقة معيارا لتنفيذ المقاولات الموكلة إليهم”. وهذا كله يصب في صالح المقارنة ما بين أداء كلا الكيانين لنفس الدور.

(د) احتوى المقال إشارة إلى أحد أهم عناصر تقييم “وطنية” رجال الأعمال، ألا وهو معيار التبرع لـ”صندوق تحيا مصر”. ويشكل هذا الملمح تضمينا لأحد أبعاد صورة رجال الأعمال كما يراها العسكريون في مصر، حيث يرون أنهم خلال الفترة الماضية –حكم مبارك – قد أثروا بصورة “غير مشروعة”، وأنهم “مدينون” لهذا البلد بأكثر مما يحدده القانون من جمارك وضرائب، وعليهم – بالتالي – أن يتولوا تمويل استقرار النظام المصري عبر التبرع لتعويض ما تعجز الدولة عن تمويله من موارد.

(ه) تضمن المقال في بنيته ما يشير إلى أن المؤسسة العسكرية تحملت خلال فترة ما بعد يناير نحو 11 مليار جنيه ضختها في موارد الدولة؛ إما للبنك المركزي أو للخزانة العامة أو في صورة خدمات وبضائع عينية. ساق المقال هذه المعلومة بين يدي تبرير اللجوء لفرض “تبرعات” على رجال الأعمال، قدرها الرئيس المصري بنحو 100 مليار جنيه .

ثالثا: توجهات رجال الأعمال حيال الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية

في مؤتمر صحافي عقده المجلس الأعلى في ربيع عام 2012، وبسبب ضغوط ثورة يناير على المؤسسة العسكرية، كشف نائب وزير الدفاع للشؤون المالية آنذاك، اللواء أركان حرب محمد نصر، النقاب عن العائدات السنوية للأنشطة الاقتصادية للجيش (198 مليون دولار)، وعن نسبتها في ميزانية الدولة (4.2%).  بيد أن نصر امتنع عن تقديم أية أدلة تدعم مثل هذه الأرقام. ومع ذلك، مجرد اتخاذ الجيش قراراً بالردّ رسمياً على الانتقادات العلنية القوية عن مدى انخراطه في النشاط الاقتصادي، كان بمثابة علامة تحوّل فارقة عما كان يجري في الماضي(17 ).

هذه الأرباح التي تعتبرها “شانا مارشال” مقلصة وبدون أدلة تعكس حصة من العوائد الاقتصادية كان يمكنها ان تنتج مضاعف استثمار أعلى بكثير لو كانت هذه العائدات منتجة مدنيا لا عسكريا، وهو ما سنتعامل معه لاحقا ببيان مفصل.

وبشكل عام، يمكن اعتبار الاعتراض بين رجال الأعمال على الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية اتجاه عام بين رجال الأعمال، وما دون ذلك يمكن الاختلاف حوله، بدءا من التصريح بهذا الرفض، وانتهاء بالخصائص الديموجرافية والاقتصادية لهذا الرفض. وفيما يلي نقدم قراءة في خصائص موقف الرفض .

أ – الرفض بين التصريح والإضمار:

علاقة رجال الأعمال بالمؤسسة العسكرية يمكن إيجازها في تيارين رئيسيين يستوعبان كامل أعضاء هذه النخبة الاقتصادية:

التيار الأول: هو تيار رجال الأعمال الذين يرفضون الدور الاقتصادي للقوات المسلحه ويصرحون بموقفهم ورفضهم لهذا الدور، ويتزعمهم كل من نجيب ساويرس وصلاح دياب.

فمن ناحية، عبر نجيب ساويرس عن رفضه توسعات الجيش في الاقتصاد في مقابلة مع قناة “العربية” في فبراير 2014، وأعلن  خلال المقابلة أنه ضد انخراط الجيش في أعمال اقتصادية مدنية، وكرر اعتراضه ذلك خلال حواره مع برنامج “هنا العاصمة” في سبتمبر 2014 قائلًا: “إن الجيش له مهام أخرى غير المشروعات، وهي مهمة حماية البلاد، والالتفات إلى المصائب التي تحدث في ليبيا والعراق”. واعتبر رجل الأعمال القبطي أن الجيش لديه ميزة ليست لدى رجال الأعمال، وهي أنه “لما بينزل مش مهم التصاريح، ولا بيدفع رشوة، وبيقدر يتخطى المشاكل اللي إحنا عايزين نتخطاها كلنا”(18 ).  

ويبدو تصريح ساويرس الأخير وكأنه تذكير للمؤسسة العسكرية بأنها شريك غير نزيه، لأنها لا تتحمل تكلفة إنجاز البيزنس في مصر .

التيار الثاني: يرفض الدور الاقتصادي للقوات المسلحة، لكنه لا يجرؤ على التصريح بموقفه علانية ويمكن اعتبار رجل الأعمال  شريف الجبلي أحد أبرز ممثلي هذا التيار .

فقد أعلن رجل الأعمال شريف الجبلي، أنه لا يجد أسبابًا كافية تجعله رافضًا لانخراط الجيش في مشاريع اقتصادية، خلال الفترة الحالية على الأقل. وشريف الجبلي أحد أبرز الأسماء في مجال بيزنس الأسمدة في مصر، وتتجاوز ثروته المليار جنيه. وصرح الجبلي في اتصال هاتفي مع موقع “مدى مصر”: “لست ضد مشاركة الجيش في أعمال ومشاريع اقتصادية خلال الفترة الحالية”، مستبعدًا أن يكون لتلك المشاركة تأثير سلبي على القطاع الخاص في الفترة الحالية، ومبررًا ذلك بأن: “الكل مستفيد من وراء المؤسسة العسكرية، من خلال احتياجاتها في المشاريع التي حصلت على حق انتفاع في تنفيذها، ولأن هذا الدور مؤقت ولن يستمر”( 19).

ولا ينفي التأكيد على هذين التيارين وجود تيار ثالث مساند للنظام الذي أنتجته لحظة الثالث من يوليو، حيث إن النظام المصري الراهن يحاول أن يبني نخبة من رجال الأعمال تدين بالولاء له في مقابل شريحة من رجال الأعمال تدين بالولاء لنظام مبارك، وأخرى تدين بالولاء لمرجعية ذاتها، ويمكن اعتبار نماذج مثل محمد المرشدي رئيس اتحاد الصناعات ونادر رياض رئيس مجلس الأعمال المصري الألماني، وهاني برزي عضو اتحاد الصناعات، وخالد أبو المكارم عضو اتحاد الغرف التجارية، من أبرز رجال الأعمال المصريين الذين يعتمد عليهم النظام السياسي المصري في دعم تصوره لاقتصاد مصر خلال ما أسماها خطة (20-30).

ب – أثر العوامل المساندة لموقف الطرفين :

لم يكن حجم الثروة معيارا أساسيا يفصل ما بين تياري الاعتراض على الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، وكذا لم يكن الدعم الذي توفره جنسية أجنبية لرجال الأعمال، ولم يكن الانتماء الجيلي أيضا محددا لإنتاج هذا الانقسام. كيف؟

ويمكن اتخاذ لحظة إلقاء القبض على رجل الأعمال صلاح دياب كلحظة نماذجية تكشف هذا الانقسام بين رجال الأعمال، هو الانقسام الذي لا يقوم على أساس حجم الثروة، ولا حتى على أساس حصول رجال أعمال على جنسية دولة كبرى، ولا يقوم على اعتبار السن أيضا. ففي أعقاب صدور قرار إخلاء سبيل صلاح دياب عبر عدد من رجال الأعمال الشباب ومتوسطي الثروة صراحة عن رفضهم هذا الإجراء، ودعوتهم أجهزة الدولة للتأني قبل اتخاذ قرار من شأنه أن يضر بمصر واقتصادها(20 ).

ومن ناحية أخرى، فإن حجم الثروة لم يكن معيار الفرز بين هذين التيارين، فمقارنة أولية بسيطة بين حجم ثروة صلاح دياب وشريف الجبلي، وكلاهما مليارديرا، تكشف أن الموقف الرافض “صراحة” لدور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد لا يستند بصورة أساسية لحجم الثروة .

كما لا يمكن الاستناد للجنسية الأجنبية كمعيار لتحديد الموقف، فلم تمنع الجنسية الأمريكية صلاح دياب من اتخاذ موقف معارض لتدخل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، كما لم تدفع الجنسية الألمانية نادر رياض من تبني موقف مماثل، بالرغم من حاجة النظام لألمانيا. ونفس الموقف يحكم سلوك رجل الأعمال البارز شريف يونس رئيس الجانب المصري لمجلس الأعمال المصري الفرنسي. وكثرة الأمثلة في هذا السياق تدعم الحكم بإمكانية تعميم عالية .

ولا تقتصر العوامل الأجنبية على حمل الجنسية، بل يمكن إضافة عدة عوامل لها تؤثر على موقف رجال الأعمال من تدخل المؤسسة العسكرية في النشاط الاقتصادي، وأبرزها منظومة الشراكات الأجنبية التي لم تمنع رجال الأعمال من اتخاذ موقف مع أو ضد الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، ونموذجي صلاح دياب وخالد أبو المكارم نموذجين لارتباطات متعددة الجنسية سلكت مواقف متعارضة .

وكذلك الحال بالنسبة للديانة. فمساندة المؤسسة الكنسية للدولة لم تمنع رجل الأعمال القبطي نجيب ساويرس من رفض الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، مقارنة بموقف رجال أعمال أقباط آخرين مثل منير غبور، ومجدي غالي، وهنري برزي، وعدلي أيوب سلكوا الطريق الآخر جمعا للحسنيين الرضا الكنسي والرضا السلطوي .

ويعد موقف الجبلي مؤشر على اتجه من المؤسسة العسكرية لاسترضاء شريحة من رجال الأعمال عبر عقود عمل من الباطن تمكنهم من تجاوز عثرة تراجع أرباحهم جزئيا خلال السنوات الأربع الماضية. غير أن الفرضية المركبة التي تفسر هذا الأمر ويبحثها مجموعة باحثين في هذه الآونة، أن النظام المصري يسعى لتوسيع نطاق التعاون والاستثمارات المتبادلة من خلال نطاق عريض من العلاقات الاقتصادية مع عدة دول نامية، وليس من خلال جذب استثمارات من دول كبرى كالصين والولايات المتحدة. وتدار العلاقات مع هذه الدول النامية المستهدفة بجذب الاستثمارات تدار من خلال “مجالس أعمال مشتركة” تتولى وزارة الصناعة والتجارة تحديد تكوين الجانب المصري فيها، وهذا مفتاح رصد شريحة رجال الأعمال ذوي الصلة الوثيقة بالمؤسسة العسكرية والسلطة التنفيذية المصرية .

ويبقى أن يكون المعيار الجامع لموقف رجال الأعمال رافضي الانقلاب هو الرغبة في بيئة عمل حرة، تتسم بدرجة عالية من العدالة في الفرص الاقتصادية بين المؤسسة العسكرية ورجال الأعمال، حيث تعد بيئة العمل الراهنة خلو من العدالة، حتى مع وضع متناقض ما بين مؤسسة لا تدفع الضرائب، وتكلفها الدولة بأعمال محدودة التكلفة بناء على هذا، ثم توكل هذه المؤسسة أعمالا من الباطن لمؤسسات ملزمة بدفع ضرائب .

رابعا: انتقادات رجال الأعمال لتدخلات الدولة:

يطرح رجال الأعمال عدة اعتراضات موضوعية حيال تدخل الدولة في الاقتصاد، تمثل هذه الاعتراضات جوهر التأزم الراهن في العلاقة بين الطرفين، وما يحمله من إمكانية تأزم العلاقة بصورة أكبر في المستقبل. هذه الاعتبارات هي :

1ـ عمالة السخرة :

أحد أبرز الفوارق الأساسية بين اقتصاد المؤسسة العسكرية واقتصاديات رجال الأعمال أن الأخيرين ينعشون الاقتصاد من خلال ما يوفرونه من فرص عمل مقابل أجر، وهو ما يمثل العمود الفقاري للناتج القومي الإجمالي الذي يحسب بقيمة ما يحصل عليه الناس من رواتب وأجور وريع. وبقدر ما إن هذا البند مفيد للاقتصاد القومي بقدر ما إنه يمثل عنصر تكلفة قوية لرجال الأعمال .

وفي المقابل، تمتلك القوات المسلحة القدرة على استخدام المجنّدين كأيدي عاملة رخيصة( 21). ولا تخضع علاقة المؤسسة العسكرية مع العمال العاملين في مصانعها ومؤسساتها الاقتصادية لأية قيود نقابية أو حكومية في هذا الشأن. وأحد أبرز القصص في هذا السياق ما شهده أحد المصانع في أغسطس 2011، حيث خرج عمال المصنع في موجة احتجاج عنيفة عندما توفي زميل لهم انفجرت في وجهة أنبوبة، وكان اللواء مدير المصنع قد أتى بمجموعة من إسطوانات الغاز من غير الملائمة لنمط النشاط الاقتصادي لهذا المصنع، وعندما انفجر عدد منها قال لهم مدير المصنع: “لا يهم إن مات منكم واحد أو اثنين”. وعندما مات بالفعل أحدهم اقتحموا مكتب اللواء وأشبعوه ضرباً ثم اعتصموا. وتم تحويل قيادات العمال لمحاكمة عسكرية واتهامهم بإفشاء أسرار حربية لأنهم تحدثوا في شؤون أنابيب البوتاجاز( 22).

ولا تختلف أنماط المعاملة فيما يتعلق بمن يخدمون في مزارع الجيش، وهم في الحقيقة مجندين فقراء، تلتف إحدى الباحثات في دراسة لها إلى أنهم “يشتغلون في ظروف أقرب للسخرة”( 23).

2 ـ الإعفاء الضريبي :

البعد الآخر من أبعاد التكلفة التي يتحملها رجال الأعمال عند مباشرتهم للنشاط الاقتصادي تتمثل في الضرائب والجمارك التي يدفعونها مقابل أرباحهم، أو الجمارك التي يدفعونها مقابل استيراد سلع وسيطة تستخدم في العملية الإنتاجية. ولا يخفى ما في هذا الجانب أيضا من منفعة ومصلحة عامة للدولة لأنها تمثل موارد المالية العامة لها، والتي تدعم إنفاق الدولة على الرواتب والخدمات والمشروعات القومية .

وفي المقابل، فإن أرباح مشروعات المؤسسة العسكرية، وهي غير معلومة في المقام الأول، معفاة من الضرائب. كما أنها لا تجتاز دوامة متطلّبات الترخيص التجاري، وذلك وفقاً للمادة 47 من قانون ضريبة الدخل لعام 2005. وبالإضافة لذلك، تنصّ  المادة الأولى من قانون الإعفاءات الجمركية لعام 1986على إعفاء واردات وزارة الدفاع ووزارة الدولة للإنتاج الحربي من أي ضريبة. كل هذه العوامل تعطي مزايا كبيرة للجيش المصري في أنشطته التجارية، ويجعل من الصعب على الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص منافسته(24 ).

3ـ شبكة العلاقات مع الدولة

الاحتكاك بالبيروقراطية جزء من معاناة رجال الأعمال في مصر، ولم تنته منذ أيام السادات وحتى الآن. وفي لقاء رجل الأعمال نجيب ساويرس بقناة “القاهرة اليوم”، اعتبر أن الجيش لديه ميزة ليست لدى رجال الأعمال، وهي أنه “لما بينزل مش مهم التصاريح، ولا بيدفع رشوة، وبيقدر يتخطى المشاكل اللي إحنا عايزين نتخطاها كلنا”( ).

ويلفت ساويرس هنا من طرف خفي إلى نوع آخر من التسهيلات التي تحصل عليها المؤسسة العسكرية بسبب وضعها الأمني، وتتمثل في تجاوز تعقيدات البيروقراطية التي لا يستطيع رجال الأعمال تجاوزها إلا بالرشوة، وهو أمر بلا شك يمثل نقطة تفوق هائلة للأذرع الاقتصادية للمؤسسة العسكرية المصرية .

أما المؤسسة العسكرية، فعلاقتها وطيدة بالاقتصاد المحلي في المحافظات. وتخضع مصر خارج القاهرة لحكم عسكري شبه مكتمل الأركان، حيث أن ٢١ من ٢٩ محافظا المعينين هم لواءات جيش متقاعدين، بالإضافة لعشرات آخرين من رؤساء المدن والمراكز من عقداء وعمداء الجيش المتقاعدين أيضاً.

ويتولى هؤلاء إدارة قطاعات اقتصادية واسعة في المحافظات كل محافظة تبعاً لمواردها. ويضاف إلى ذلك مديري قطاعات اقتصادية جوهرية كقطاع السياحة الجوهري والحيوي في محافظات الأقصر وأسوان، أو قطاع صناعة السكر في قنا، أو صيد الأسماك والشحن والتفريغ بالسويس..الخ(26 ).

4– تداعيات العوامل التي يعترض عليها رجال الأعمال:

أهم القضايا التي يثيرها الدور الكبير الذي يضطلع به الجيش المصري في الشؤون الاقتصادية المحلية، تتعلّق بالنزاهة في مواجهة فعاليات القطاع الخاص المصري. ذلك أن الأصول الصناعية والاقتصادية التابعة للجيش لا مثيل لها في أي كيان مصري آخر. كما أن الجيش هو أكبر قيّم على الأراضي الحكومية في البلاد، حيث منح  قرار رئاسي صدر في عام 1997 الجيش الحق في إدارة جميع الأراضي غير الزراعية وغير المستثمرة، والتي تشير التقديرات إلى أنها تصل إلى 87% من مساحة البلاد(27 ).

ويلفت الباحثون إلى أن موازنة القوات المسلحة المصرية مرتبطة بأنشطة عسكرية كشراء أسلحة أو إنتاجها، ويرون أن المعلومات عن هذه المساحة منشورة أمام العالم على شبكة الإنترنت. ويلفت باحثون إلى أن الأبعاد التي ترغب العسكريون في إخفائها هي تلك المتعلقة بالجوانب التي يعترض عليها رجال الأعمال، بدءا من طبيعة مفردات النشاط الاقتصادي وحتى السخرة، مروا بحجم الإعفاءات التي يحصل عليها النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية.

تقول الباحثة زينب أبو المجد إن ما تخفيه القوات المسلحة هو ما يتعلق بمدخولها الهائل المجهول من أنشطة غير حربية، كالمكرونة والمياه المعدنية، مبيعات المشتقات البترولية، حصيلة خدمات شركات النظافة مثل كوين سيرفس وعقود شركات الأمن مثل فالكون، ومبيعات اللحوم والدواجن والخضروات من مزارع القوات المسلحة، وحصيلة تأجير الوحدات الفندقية ضمن الإمبراطورية الهائلة للمؤسسة العسكرية من فنادق وقرى سياحية.. إلخ(28 ).

وبرغم صحة فرض نطاق قاس من السرية على هذا النشاط، إلا أن “الأذرع الإعلامية” – على حد تعبير الرئيس المصري نفسه – تولت تقديم تبرير مسبق لاحتواء تسرب المعلومات في هذا الصدد عبر ربط نشاط الجيش في هذه المساحة بمفهوم العدالة الاجتماعية(29 ).

فكل الاعتبارات السابقة تدفع رجال الأعمال للتحفظ على تدخل العسكريين في الاقتصاد المصري، لأنه يمثل من جهة عنصرا لتوفير بيئة اقتصادية غير عادلة تؤدي لتدهور المراكز الاقتصادية لرجال الأعمال، وتجعلهم يؤثرون العمل في دول أخرى لا تشكل عليهم مثل هذه الضغوط، وهو ما ينعكس بالسلب على أداء الاقتصاد المصري .

ومن ناحية ثانية، فإن تدخل المؤسسة العسكرية يضر الاقتصاد من حرمانه من تدفقات الدخل (رواتب وأجور) التي تدفعها المؤسسات الاقتصادية الخاصة للعاملين بها. كما أنها تؤثر على حجم الضرائب والرسوم الجمركية التي تستخدم في تمويل النفقات العامة للدولة. وهذا أمر يضر القطاع الخاص من جهة أخرى، لأن تيار الإنفاق العام يمثل في أحد أبعاده موردا من موارد الإنفاق لشراء منتجات القطاع الخاص المتاحة بالسوق المحلي. وهذا الضرر – بصورة خاصة – يؤدي لانكماش الاقتصاد .

ويوجز أحد الباحثين في مقال له حصاد تدخل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد بأعين رجال الأعمال بقوله “أن هناك حالة من عدم الرضا داخل قطاعات من طبقة رجال الأعمال تجاه هذه الاستحواذ العسكري الاقتصادي، وكيف تستخدم طبقة العسكر السلطة السياسية المباشرة في كسر ظهورهم وتقفيل مساحات العمل والمنافسة أمامهم، ليس فقط بسبب حالة الاحتكار العسكري، فحتى في المجالات المفتوحة للمنافسة “النظرية”، إن طرحت الدولة مناقصة ما، وتتنافس فيها شركات خاصة مع شركات للمؤسسة العسكرية، أو “المؤسسة العسكرية” هكذا بصفتها، فإن الخاسر هو الطرف الأول غالبا.. ليس لأننا – إعلاميا- في حالة “حرب ضد الأرهاب”، و”الوطن في خطر”، و”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”..

إلى آخر هذه التهويمات الدعائية.، لكن بالأساس لأن حزمة التكاليف التي تتحملها الإمبراطورية الاقتصادية للعسكر أقل من حزمة التكاليف التي تتحملها أي شركة خاصة، فالعسكر، وبحكم وضع اليد على “الوطن”، يستفيدون من أصول ضخمة هي ملك الدولة المصرية التي سيطروا عليها، ويستفيدون من الأيدي العاملة المجانية تقريبا، وشكرا للجنود الذين يعملون بالسخرة”(30).

خامسا: المواجهات بين الطرفين:

المواجهات بين الطرفين – بطبيعة الحال والاتفاق – تمت عبر أجهزة الدولة، والأهم أنها تمت وما زالت عبر أجهزة أمنية وغير أمنية، بل إن المواجهات غير الأمنية كانت أعمق تأثيرا ونكاية من المواجهات التي تمت عبر أجهزة أمنية. وتفاوتت كيفيات المواجهة تبعا للجهاز الذي تولى إدارة هذه المواجهة. وفيما يلي ملامح هذه المواجهات .

أ – أمنية وغير أمنية

من أهم المواجهات المواجهات التي تمت على صعيد المواجهات الأمنية عملية إلقاء القبض على رجل الأعمال صلاح دياب بتهمة الفساد في قضية أراضي الدولة (القرية الذكية – نيو جيزة – مصر إسكندرية)، ثم اتهامه وابنه بتهمة حيازة سلاح، واتهام رجل الأعمال محمد نصار، المتخصص في المعادن النفيسة، بالإتجار بالعملة، واتهام رجل الأعمال منصور عامر بالنصب في قضايا “بورتو” ثم اتهامه بالفساد في قضية “وزارة الزراعة” التي أقيل بسببها وزير الزراعة، واتهام رجل الأعمال سليمان عامر بالنصب في مشروع “السليمانية”.. والقائمة في هذه المساحة تطول.

والقائمة في مضمار المواجهات الأمنية تطول لتستوعب المواجهات مع رجال الأعمال الإخوان، عبد الرحمن سعودي وخيرت الشاطر وحسن مالك. ولا يمكن تجاوز هذه المساحة من دون الإشارة لمصادرة ممتلكات رجل الأعمال صفوان ثابت .

وعلى صعيد المواجهات غير الأمنية فإن الأمور كانت أشد قسوة، حيث تعرض رجل الأعمال محمد فريد خميس لنهب مصنع البتروكيماويات المملوك له في محافظة بورسعيد، وهو المصنع الذي تبلغ قيمة أصوله نحو 5 مليار جنيه، وهو ما يرفض الحديث عنه للإعلام بصورة مطلقة تشي بما يقع تحت وطأته من ضغوط.

وفي نفس السياق يمكننا الحديث أيضا عن مواجهة نفس الرجل لاتهامه بالاحتكار من خلال المجلس القومي لمكافحة الاحتكار، وذلك بسبب عقد وقعه مع إحدى شركات التوزيع التي طالبها بالتفرغ لتسويق منتجاته مقابل استغلال علامته التجارية كمدخل تسويقي. وتطول القائمة في هذا المجال أيضا .

ب – داخل مصر وخارجها

إذا كانت كل المواجهات السابقة قد تمت داخل الحدود المصرية، فإن مواجهات المؤسسة العسكرية وذراعها السياسي وبين رجال الأعمال دارت رحاها على مستوى عبر قومي، وكان آخر ضحاياها رجل الأعمال نجيب ساويرس. وهي المواجهة التي تمت بأيدي أجهزة غير أمنية، ومست مصالحه  في كوريا الشمالية .

وقبل أيام من تفجر الأزمة بين ساويرس والأجهزة الحكومية في كوريا الشمالية، زار وفد من هذه الدولة مصر، وتشكلت لجنة وزارية لمقابلته ضمت وزيرا الاقتصاد والاتصالات، وجمعت لقاءات الوفد في مصر خبراء في قطاع الاتصالات، كما تضمنت زيارة لمواقع مثل القرية الذكية وغيرها من تجليات الثورة الاتصالية في مصر، وهو ما اعتبره مراقبون بمثابة إبداء الدولة استعدادها لتوفير قاعدة فنية لتوسع كوريا الشمالية في مجال القرى الذكية وتكنولوجيا الاتصالات. ولم تلبث بعدها كوريا أن أعلنت أنها لن تسمح لساويرس بشراء دولارات لتحويل أرباحه خارج كوريا، وأنها فقط تسمح له بتحويل هذه الأرباح بالعملة المحلية، وهو ما كبد ساويرس خسارة تبلغ 400 مليون دولار في حال استفحلت الأزمة(31 ).

تحتاج العلاقة مع شريحة رجال الأعمال لمساحة من المحددات التي لابد منها لإقامة جسور تواصل ناجحة مع هذه الشريحة الاجتماعية. وعلى رأس هذه المحددات ما يلي :

أ – لابد من بناء تصور وخطاب وطني لدور رجال الأعمال في الاقتصاد، والدور السلبي للمؤسسات التي تنافسها، قائم على الملامح التي تضمنتها الدراسة من قيمة مضافة أو فارق بين اقتصاديات رجال الأعمال واقتصاديات المؤسسة العسكرية.

ب – لابد وأن يتجه هذا الخطاب الوطني لتجاوز خطاب الطائفية، بالنظر إلى أن قطاعا عريضا من رجال الأعمال تربطه روابط وثيقة برجال أعمال أقباط جاهروا برفض الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية .

ج – لابد وأن يتضمن الجانب الاقتصادي من هذا الخطاب الوطني تصورا لعلاقة أجهزة الدولة قاطبة بالمجال الاقتصادي العام على نحو إن لم يغرِ بالتعامل معه، فعلى الأقل يغري بالتفاوض معه.

——————————————-

الهامش:

(1) يزيد صايغ، فوق الدولة.. جمهورية الضباط في مصر، مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، أوراق كارنيجي، أغسطس 2013، ص: 4)

(2) باسل رمسيس، طبقة عسكر البيزنيس والسياسة، موقع +18، 11 يونيو 2015.

(3) شانا مارشال، جنرالات مصر ورأس المال العابر للحدود، موقع جدلية، 17-4-2012.

(4) زينب أبو المجد، الجيش والاقتصاد في بر مصر، موقع جدلية، 21-12-2011.

(5) شانا مارشال، جنرالات مصر ورأس المال العابر للحدود، موقع جدلية، 17-4-2012.

(6) زينب أبو المجد، الجيش والاقتصاد في بر مصر، موقع جدلية، 21-12-2011.

(7) باسل رمسيس، طبقة عسكر البيزنيس والسياسة، موقع +18، 11 يونيو 2015.

(8) شانا مارشال، القوات المسلحة المصرية وتجديد الامبراطورية الاقتصادية، كارنيجي الشرق الأوسط، 15 أبريل 2015

(9) زينب أبو المجد، الجيش والاقتصاد في بر مصر، موقع جدلية، 21-12-2011.

(10) شانا مارشال، جنرالات مصر ورأس المال العابر للحدود، موقع جدلية، 17 أبريل 2012

(11) باسل رمسيس، طبقة عسكر البيزنيس والسياسة، موقع +18، 11 يونيو 2015.

(12) شانا مارشال، جنرالات مصر ورأس المال العابر للحدود، موقع جدلية، 17 أبريل 2012

(13) سامر عطالله، المصالح الاقتصادية للجيش المصري تدفعه نحو السعي إلى تعزيز سيطرته السياسية، صدى كارنيجي، 18 نوفمبر 2014

(14) نيوتن، طلب خاص، صحيفة المصري اليوم، 17 مايو 2015

(15) الافتتاحية، إلى صلاح دياب: بيادة الجيش المصري أشرف من نيوتن القوات المسلحة مؤسسة وطنية تحمى تراب الوطن، موقع مجلة الهلال، 20 مايو 2015

(16) الافتتاحية، إلى صلاح دياب: بيادة الجيش المصري أشرف من نيوتن القوات المسلحة مؤسسة وطنية تحمى تراب الوطن، موقع مجلة الهلال، 20 مايو 2015

(17) شانا مارشال، القوات المسلحة المصرية وتجديد الامبراطورية الاقتصادية، كارنيجي الشرق الأوسط، 15 أبريل 2015

(18) فريق مدى مصر، إمبراطورية الجيش الاقتصادية: دعم السلطة الحاكمة يهدد نفوذ القطاع الخاص، مدى مصر، 24 ديسمبر 2014

(19) فريق مدى مصر، المصدر السابق.

(20) وسام فؤاد، بعد الحكم بوقف التحفظ على أموال صلاح دياب.. رجال الأعمال يتحفظون (ملف) ، موقع مصر العربية، 11 نوفمبر 2015.

(21) أحمد مرسي، الجيش يزاحم المؤسّسات الاقتصادية المدنية في مصر، كارنيجي الشرق الأوسط، 24 يونيو 2014.

(22) زينب أبو المجد، الجيش والاقتصاد في بر مصر، موقع جدلية، 21-12-2011.

(23) زينب أبو المجد، الجيش والاقتصاد في بر مصر، موقع جدلية، 21-12-2011.

(24) أحمد مرسي، الجيش يزاحم المؤسّسات الاقتصادية المدنية في مصر، كارنيجي الشرق الأوسط، 24 يونيو 2014.

(25) فريق مدى مصر، إمبراطورية الجيش الاقتصادية: دعم السلطة الحاكمة يهدد نفوذ القطاع الخاص، مدى مصر، 24 ديسمبر 2014

(26) زينب أبو المجد، الجيش والاقتصاد في بر مصر، موقع جدلية، 21-12-2011.

(27) أحمد مرسي، الجيش يزاحم المؤسّسات الاقتصادية المدنية في مصر، كارنيجي الشرق الأوسط، 24 يونيو 2014.

(28) زينب أبو المجد، الجيش والاقتصاد في بر مصر، موقع جدلية، 21-12-2011.

(29) منى عبد الباري، كيف تساعد القوات المسلحة في حل الأزمات الاقتصادية؟، صحيفة التحرير، 5 نوفمبر 2015

(30) باسل رمسيس، طبقة عسكر البيزنيس والسياسة، موقع +18، 11 يونيو 2015.

(31) سمير فهمي، الاقتصادي المصري نجيب ساويرس “محاصر” في كوريا الشمالية، بوابة مصر العربية، 24 نوفمبر 2015

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close