كتب إلكترونية

رحلة دبلوماسي ستون عاما في حب مصر ـ 4

مهماتي الخارجية: من طرابلس ليبيا إلى بوخارست

ترشيحي لمنصب هام في طرابلس ليبيا:

أمضيت عدة سنوات في الديوان ورقيت إلى درجة سكرتير أول، وحل عليّ دور النقل للخارج وكنت مرشحا للنقل إلى إحدى سفاراتنا في غرب أوروبا أو أمريكا طبقا للقواعد النظرية التي تقضي بأن من خدم في مناطق شاقة ينقل إلى ســـــفارات في منطقة أ (ألف)، ولما كنت قد قضيت في بغداد ست سنوات شاقة، وهي ضعف المدة المقررة للمناطق الصعبة وهي 3 سنوات حيث كانت القاهرة ترى في وجودي مع ثلاثة زملاء أهمية خاصة فكانت فترة خدمتنا في بغداد تمتد عاما بعد عام حتى بلغت سنوات ست، وكان المتوقع بعد هذه الخدمة الشاقة لمدة طويلة نقلي إلى سفارة بالمنطقة ألف، ولما كنت أعشق اللغة والحضارة الفرنسية وددت لو أنقل إلى باريس أو بروكسل أو جنيف، ولكني فوجئت باتجاه الوزارة لنقلي إلى مكتبنا في طرابلس بعد قيام الثورة الليبية حيث كان الاتجاه لدعم الصلات الدبلوماسية وجميع أوجه التعاون مع ليبيا في كل المجالات، وعرفت أن مكتب طرابلس كان تابعا مباشرة للسيد أشرف مروان وأن تقاريري سترفع إليه وأتلقى منه التعليمات. ورغم أهمية المركز وما يتيحه من تقرب من الرئاسة، وأن العمل هناك واجب وطني استكمالا لمهمتي في بغداد؛ أصابتني غصة وخوف من الفشل في ليبيا لأن تجربتي في بغداد كشفت لي عن تخبط سياستنا العربية وتعدد وتضارب الجهات التي تشرف عليها، وكنت قد دخلت في مناقشات حول سياستنا في العالم العربي مع شخصية كبيرة تشرف علي مكتب العلاقات العربية برئاسة الجمهورية، وابتأست كثيرا لأن حديثه كان مرسلا ولا يعبر عن فكر متعمق، ولذلك لم يكن غريبا أن أتوقع تدفق الانتهازيين علي طرابلس والتعامل بقرارات عفوية تجامل المسئولين في البلدين، وأن الأمر في النهاية سينعكس سلبا علي علاقاتنا بالثورة الليبية الوليدة، كما حدث في اليمن وسوريا والعراق، وصممت علي الابتعاد عن المنطقة العربية وعن طرابلس بالذات ولم أقبل أن أعمل تحت رئاسة السيد أشرف مروان الذي يقاربني في السن وليس لديه الخبرة الكافية لإدارة سياستنا العربية عامة وعلاقاتنا مع القذافي بوجه خاص حيث كانت الخبرة تنقص القذافي أيضا ومن ثم أضع نفسي بين شقي الرحي وأتحمل مسئولية أي مشاكل متوقعة.

 أبلغني بذلك مدير إدارة السلك الدبلوماسي فأبديت جزعي واعتراضي، ولكنه قال إن القرار جاء من الرئاسة وظن أنني أخفي عنه ذلك وأنني راغب في المنصب، وفي اليوم التالي قصدت إلى مكتب السيد أمين هويدي في ماسبيرو وكان وزيرا للإعلام، وقلت له إنني أعرف أن الترشيح لطرابلس جاء من مكتب السيد سامي شرف أو منه وإنني أعتذر عنه، ولم أشأ أن أذكر له أسباب رفضي، ولكني رجوته أن يتدخل لوقف نقلي، فقابلني بدهشة إذ كيف أرفض مركزا هاما رشحت فيه بثقة من الرئاسة وأعمل فيه مع الرئيس مباشرة، وأن هذا المركز سيرشحني مستقبلا إلى مسئوليات أكبر، وطلب مني مراجعة قراري، ودفعني تصميمي إلى الإصرار على الاعتذار مخفيا أسباب اعتذاري وهي عدم ثقتي في عمليات إدارة علاقاتنا مع الدول العربية التي خبرتها في بغداد.

 والسبب الرئيس في ذلك – رغم إغراء أهمية المركز وثقة الرئيس -أنني لم أكن مستعدا لتحمل مسئولية فشل آخر في ليبيا حيث شهدت هجوما وهرولة من كل طوائف الشعب ومن كبار المسئولين إلى ليبيا وسمعت عن سيطرة أشرف مروان في هذا السن الصغير والتجربة الفقيرة، كما أنني لم أكن متفائلا بفكر رئيس مكتب الشئون العربية برئاسة الجمهورية لسنوات طويلة في أعقاب مناقشات مطولة معه، وكان رحمه الله ملما بتفصيلات كثيرة ومخلصا في توجهاته ولكن فكره في نظري كان قاصر عن مواجهة التقلبات الضخمة التي كان يمر بها الوطن العربي.

أخفيت ذلك وعللت طلبي بأنني تعبت من العمل في البلاد العربية واتطلع لتجديد خبراتي بمنطقة أخرى، فصمت قليلا وأبدى تفهما وسألني إذن قل لي إلى أي بلد ترغب في العمل فيها، ولا أدري لماذا امتنعت عن تحديد بلد معين – ولكني تبينت فيما بعد أنني غير قادر علي طلب أي مجاملة من أي شخص في عملي طوال فترة خدمتي – وبالفعل تم العدول عن نقلـــي إلى مكتبنا في طرابلس.

بوخارست: المحطة الصعبة الثانية بالخارج

رومانيا (بالرومانية: România رومانيا، هي جمهورية تقع في شرق أوروبا عاصمتها بوخارست، ويمر نهر الدانوب في جنوب البلاد، وتعد رومانيا من دول البلقان حيث تقع في شمال البلقان. اشتق اسم رومانيا من كلمة “رومن” (بالرومانية: român) والتي تعني الرومان والتي اشتقت بدورها من الكلمة اللاتينية “رومانوس” (باللاتينية: romanus)، ومعناها “مواطن من روما” ، وتقع دلتا الدانوب على أراضيها حيث يصب في البحر الأسود وجبال الكاربات في الجنوب وفي وسط البلاد يحدها من الشمال أوكرانيا، من الشمال الشرقي مولدافيا، من الشرق البحر الأسود، من الجنوب بلغاريا ومن الغرب صربيا والمجر.

تأسست دولة رومانيا الحديثة بعد اتحاد الدولة الرومانية ومولدوفيا بقيادة اليكساندروا ايوان كوزا، وفي عام 1918م انضمت كل من ترانسيلفانيا، بوكوفينا وبيسارابيا، وسميت آنذاك “رومانيا الكبرى“، وهي التاسعة كُبراً من حيث المساحة (238,391 كم مربع)، والسابعة من حيث عدد السكان (22 مليون نسمة) بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي.

عاصمة البلاد هي بوخارست وهي أكبر مدن رومانيا، وتحتل المرتبة السادسة من حيث عدد السكان (1,9 مليون نسمة) بين مدن الاتحاد الأوروبي.

أصبح نيكولاي تشاوشيسكو السكرتير التنفيذي للحزب الشيوعي الروماني عام 1965 ثم رئيساً للبلاد وقد استمر عهد تشاوشيسكو إلى عام 1989، حيث لوحق ثم أُعدم هو وزوجته أمام عدسات التلفزيون. اتسم حكمه بالشدة والدموية وكان ذلك بعد 15 عاما منذ مغادرتي لبوخارست سنة 1974

وبعد الاعتذار عن طرابلس رشحت للعمل بسفارتنا في لندن، في مشروع الحركة، ولكن جاءني زميل بدرجة مستشار وقال إنه عين رئيس بعثة وقائم بالأعمال بسفارتنا في بوخارست، وأنه يرغب في التعيين مكاني في لندن، وأغراني بمنصب رئيس بعثة بكتاب اعتماد من وزير الخارجية وان اتصالاتي ستكون على مستوي الوزراء والسفراء ورئيس الدولة.

وأغراني العرض فوافقت عليه إذ يندر أن تعهد الوزارة بمنصب رئيس بعثة على دبلوماسي بدرجة سكرتير أول بدولة أوروبية، ومما شوقني للعمل برومانيا أن أمامي مهمة صعبة حيث أتسلم عملي في وقت تنحدر فيه علاقاتنا معها إلى أدنى المستويات. وكان السبب هو قرارهم بإنشاء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل على مستوي السفراء، وكانت الدولة الوحيدة المارقة من دول حلف وارسو الذي يتزعمه الاتحاد السوفيتي ويشمل بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر وبلغاريا وغيرها، مما أحدث توترا في علاقات رومانيا مع أعضاء الحزب، أما رد الفعل العربي فكان عنيفا حيث قررت بعض الدول العربية سحب سفرائها في حين قررت دول أخري إغلاق سفاراتها في بوخارست.

أما من الناحية السياسية فقد كانت لرومانيا في جميع العصور سياسة خارجية متميزة عن سياسة جيرانها وحلفائها، ففي عهد سيطرة الاتحاد السوفيتي تمكنت رومانيا من ممارسة سياسة ليست متطابقة مع سياسة الكتلة السوفييتية، وكانت تسمى آنذاك بالجمهورية المارقة republic maverick حيث كانت تشترط موافقة مسبقة لمرور أي قوات سوفيتية أو شيوعية بها، كما كانت تتحفظ على عدد من أنشطة حلف وارسو، وتحتفظ مع أمريكا والغرب بهامش من علاقات التعاون والتبادل.

ووصل التوتر ذروته بين رومانيا والدول العربية، خالفت رومانيا كل دول شرق أوروبا أعضاء حلف وراسو في عدم قطع العلاقات مع إسرائيل، واحتفظت بعلاقات متنامية مع إسرائيل وسمحت بهجرة عشرات الألوف من اليهود الرومانيين الذين يكونون حاليا نسبة لا بأس بها من شعب الدولة العبرية، وسمحت لجولدا مائير وزيرة خارجية إسرائيل أن تزور بوخارست لتسجل أول زيارة لدولة من دول حلف وارسو.

ومرت العلاقات الرومانية العربية بفترة عصيبة نتيجة لهذا الموقف، فصدر قرار بقطع أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي بين رومانيا والدول العربية، وتم سحب سفير مصر وبقيت السفارة على مستوى قائم بالأعمال صغير الدرجة.

وقد بذلت رومانيا جهودا مضنية لتفادي المقاطعة العربية الموجعة، وكان ذلك من الصعوبة بمكان، إلى أن حقق شاوسيسكو ووزير خارجيته مانيسكو بوادر تقدم عندما عرضا على العرب أن يقوما بدور حلقة الوصل ثم دور الوسيط بينهم وبين إسرائيل.

وهكذا كانت بوخارست رومانيا المحطة الثانية لي بالخارج، وكانت الصعوبة هنا تتبدى في أن العلاقات المصرية والعربية كانت مجمدة مع رومانيا كعقاب لها علي تبادل التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل كأول دولة في حلف وارسو، وكنت قد أوفدت كقائم بأعمال أصلي وقدمت أوراق اعتمادي لوزير الخارجية، وصرحت لي الوزارة بشغل دار السكن واستخدام سيارة رئيس البعثة.

 وهنا كان أسلوبي أقرب إلى الدبلوماسية التي تسعي دائما لخدمة مصالح الوطن ومحاولة تسوية الخلافات بتخفيف التوتر ثم بالتفاوض، حيث تحملت مهام رئيس البعثة مما استوجب أن تكون اتصالاتي الوزراء وأعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الروماني بما فيهم رئيس الدولة نيكولاي شاوشيسكو، الذي استقبلني عدة مرات وزارني بالسفارة للتعزية في وفاة الرئيس عبد الناصر.

 كما زارني للتعزية غالبية السفراء ومنهم سفراء غربيون كانت علاقات مصر معهم مجمدة وأحسست رغم الحزن الشديد أن زعيم مصر كان له وزن ملحوظ في المجتمع الدولي.

 ولم يخل الأمر من رقابة مشددة علينا وفقا للنهج الشيوعي، شكا لي زميلي السكرتير الثاني بالسفارة من أنه أثناء غيابه عن منزله لحضور حفل عشاء بقيت زوجته لتوعكها، وسمعت رنين التليفون ولكنها لم تستطع الرد عليه، وفوجئت بفتح باب الشقة ووقع أقدام عــدة رجال فصرخت وانسحب الرجال على الفور، ففهمت أن تلك كانت محاولة لتفتيش المنزل للبحث عن أي أوراق أو أسرار. وأبلغت الخارجية الرومانية باحتجاجنا وعبروا عن الأسف لأن من قاموا بذلك أشخاص غير مسئولين وكان غرضهم السرقة. ولم ينطلي عليّ هذا القول فأخطرت القاهرة وجاءتني على الفور بعثة أمنية للتفتيش على أمن السفارة فرصدوا ميكروفونات مخبأة في غرفة مكتب السفير وفي غرف دار السكن. وذكر رئيس البعثة الأمنية أنه يعرف كيف يتعامل معهم، وتوقفت محاولات اقتحام منازل الأعضاء، ولكني عرفت السبب عندما كنت أزور القاهرة في إجازة حيث علمت أنه في فترة الظهيرة اقتحم عدد من رجال الأمن المصريين منزل المستشار الروماني بالقاهرة وهم يعرفون أن زوجته بالمنزل ثم مروا أمامها وهي مذهولة تحدثهم بالرومانية ولكنهم انصرفوا بعد هذا العرض ولم يعتدوا عليها أو يحادثونها وانسحبوا في هدوء بعد دقائق. وعندما أبلغت السفارة الرومانية بالحادث تم الرد عليهم باستخدام ذات اللغة التي حدثونا بها في بوخارست وهي أنهم اشخاص غير مسئولين، وفهم الرومان الرسالة.

وتكرر التحرش بنا عدة مرات وحدث أنني كنت أشاهد فيلم بإحدى دور العرض، وعندما خرجت وجدت إطارات سيارتي الأربعة مقطوعة وخالية من الهواء، ولم أبلغ الخارجية هذه المرة ولكني أبلغت جهات الأمن بالقاهرة وعلمت أنهم تتبعوا سيارة المستشار الروماني بعدد من السيارات أثناء توجهه لمقصده، وتعاملوا معه بخشونة إلى حد الخطورة المحسوبة وتركوه عندما جنحت سيارته وارتطمت بشجرة على رصيف الشارع الأيمـــن.

ورغم ذلك صممت في هذه المحطة على محاولة تحريك المياه الراكدة في العلاقات الثنائية، ودخلت في سلسلة طويلة من المساجلات مع وكيل الوزارة بورلاكو ووزير الخارجية كورنيليو مانيسكو لم نصل فيها لاتفاق وجهات النظر، ولكنها ولدت لديهم انطباعا بأن السفارة المصرية راغبة في تحسين العلاقات. ونجحت في اكتساب ثقتهم فأوقفوا عمليات التحرش بأعضاء السفارة وأصبحت ضيفا دائما على بورلاكو نائب وزير الخارجية وأصبح أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الروماني ويشغلون أعلي المناصب في الدولة يقبلون دعواتي لهم في حفلات الاستقبال والعشاء التي كنت أقيمها حسب المناسبات، بل زارني تشوشيسكو وأعضاء المكتب السياسي لتقديم واجب العزاء عندما رحل الرئيس جمال عبد الناصر.

 ولفتح ثغرة في الحاجز السياسي الكثيف بين القاهرة وبوخارست انتهزت فرصة عندما قرأت أن فرقة رضا للرقص الشعبي تجري زيارات لدول وارسو بما فيها موسكو، فطلبت من الوزارة أن تمر الفرقة ببوخارست، وقوبل طلبي بالرفض، فأعدت العرض بإلحاح إلى أن ووفق عليه في آخر دولة (يوغوسلافيا) وبينما كانت الفرقة على وشك العودة للقاهرة بطائرة مصر للطيران، ووصلت التعليمات بسفر الفرقة إلى بوخارست وقدمت بالقطار لصعوبة النقل جوا ولقربها من رومانيا.

 وقبلت ما تفرضه علي هذه المبادرة من تحديات، فنظمت مقابلات تلفزيونية لبعض أعضاء الفرقة، ورفضت أن تؤدي عرضها في مسرح صغير وصممت علي تخصيص أكبر قاعات المدينة، وجندت الطلبة المصريين والعرب لدعوة أكبر عدد ممكن، والفعل حضر عدد كبير من أعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي حيث وزعت مائتي بطاقة دعوة، ولكن ظلت أمامنا مشكلة لأن قلة عدد الحاضرين علي كثرتهم ستظهر المسرح خاليا، فاتصلت بوزير الخارجية ووعدني خيرا، وفي المساء وجدت المسرح كامل العدد وعلمت أن الحاضرين من الجنود الذين يلبسون ملابس مدنية، ونجح الحفل نجاحا ملحوظا أدركته عندما قال سفير فرنسا أن مثل هذا العدد لم يكتمل حتى في عروض الكوميدي فرانسيز.

ولاحظت أن الطلبة المصريين وكلهم من طلبة وطالبات الدكتوراه يقللن من التردد علي السفارة ولا توجد رابطة بينهم، أطلقت فكرة نادي الطلبة في السفارة وأخليت لهم جزءا من بدرون السفارة، واتفقت معهم علي المساهمة في تنظيفه وزودته بعدد كاف من الكراسي والطاولات، ويسرت لهم بوفيه السفارة، وزودتهم براديو كبير من صنع مصر وجراموفون محلي وزينا جدرانه بلوحات من رسم الطلبة وكنا نقيم فيه الندوات والسهرات ونحل فيه الخلافات وسمحنا للطلبة العرب بالتردد عليه وكان له مدخلا مستقلا كما كانت السفارة في مأمن ومستقلة تماما عن النادي، وقد أفادنا النادي في تجميع المصريين والعرب وكنت أحرص علي حضور ندواته ما لم تكن لدي مشاغل أخرى، ونجت المبادرة نجاحا كبيرا وأشادت بها السفارات العربية ونظر لها الرومان بشيء من عدم الارتياح.

وواصلت حياتي الدبلوماسية في بوخارست بلا ضجر، فوسائل الحياة متوفرة للدبلوماسيين الذين خصص لهم متجر خاص لشراء المأكولات والمشروبات التي لا تتواجد في السوق المحلي، كما كان السكن يحجز لنا من جهة رسمية رومانية، وكنا نتردد علي نادي دبلوماسي اسمه نادي بانياسة علي ما أذكر، وفيه تتوفر ملاعب التنس والاسكواش والكرة الطائرة وكرة السلة وبه حديقة للأطفال بها مراجيح وغيرها من ألعابهم، وكنت أتردد علي هذا النادي بضغط من زوجتي وأطفالي، غير أنه كان يوفر لنا اتصالات دبلوماسية دائمة كنا نتبادل فيه الآراء والمعلومات من الدبلوماسيين الأجانب، كما كان أعضاء السفارة يلتقون فيه أسريا.

 وفي هذه الأثناء انضم للسفارة الزميل الجديد فتوح المنتدب من مكتب مقاطعة إسرائيل في بوخارست والذي قدمناه كسكرتير ثاني، وقد توطدت علاقاته مع أعضاء السفارة وكان وطنيا مؤمنا بالعروبة ومتحمسا في عدائه لإسرائيل، وكان يجتذبني في لعبة البنج بونج التي يجيدها.

ولم أقصر في زيارة مناطق أخرى تتمتع بجمال الطبيعة علي قمم الجبال في سينايا وبراديل وبراشوف، والساحلية مثل كونستانزا وسلسلة من القري السياحية علي شاطئ البحر الأسود، وكانت رومانيا تعتني بتشجيع السياحة التي كانت أحد مصادر دخلها الهامة، فكانت تبني فنادق فاخرة وتوفر الراحة للسياح، وأذكر أنني دخلت مصيف نادي الميديترانيه الفرنسي الذي ينتشر في جميع أنحاء العالم بما له من خصائص لا تتوفر لغيره، فهو مجتمع مغلق لأعضائه فقط ومن قواعده أن الغرف بلا مفاتيح ولا يسمح بإغلاقها ولا يتطلب دخولها استئذانا، كما أن الوجبات فيه جماعية ولا يسمح لأي نزيل أن يتناولها وحيدا، وفيما عدا وجبة الإفطار الشهية، كان الغذاء والعشاء يضم كل النزلاء وتتخلله فعاليات فنية مثل الغناء أو المسرحيات أو اللعب، واختصت وجبات العشـــاء بالغناء الجماعي يعقبه مسرحيات طويلة، ثم يخير النزلاء بين النوم في غرفهم أو مواصلة السهر حتى الصباح في الملهي الليلي (نايت كلوب) ومن أغرب القواعد عدم استخدام النقود في التعامل، بل يشتري العضو حبات مسبحة يضعها علي عنقه وفيها فئات العملة الصغيرة والكبيرة يدفع بها ثمن مشروباته أو مأكولاته الإضافية وهداياه من الورود والعطور الفرنسية. أما الاستقبال فكان له طابع خاص إذ تقودك لغرفتك شابة جميلة مبتسمة، وبعد دقائق تدخل عليك الغرفة فتاة بالبيكيني وتقدم لك بوكيه من الورد وسلة فواكه وترشدك حول استخدامات الغرفة وتسالك عن طلباتك الخاصة أو رغباتك. وحدث أنني التقيت على البلاج بشابة فرنسية فلما علمت بأنني اقيم بالميديترانيه صممت وألحت على الدخول حيث لا يتاح لها ذلك في فرنسا، وقد حققت لها هذه الرغبة بإذن خاص من الإدارة فكانت في منتهي السعادة واستمرت تراسلني بعدها لعدة سنوات.

وأعجبني منتجع براديل الجبلي وخاصة مع تساقط الثلوج في الشتاء، وكنت استأجر فيلا بكاملها للأسرة، وكان الأولاد يحبون اللعب في الثلج وبناء بيوت أو رجل الثلج سنومان، وأذكر أن والدتي رحمها الله جاءت لزيارتي في أول رحلة لها لأوروبا، وعندما وصلنا الفيلا على قمة الجبل لم يكن الجليد قد سقط بعد، ولكنه سقط ليلا ونحن نيام، فأيقظتني والدتي رحمها الله وهي تصلي الفجر وهي في دهشة كبيرة، يا ابني الدنيا كلها مغطاة بالقطن الأبيض لأنها ظنت الجليد الأبيض الناصح قطنا ولم تتصور أن الثلج يمكن أن يسقط بهذه الكثافة، وأخذت تكبر باسم الله وراحت تصلي إيمانا بقدرة الخالق ثم استمتعت معنا بالمشي علي الجليد وبالتقاذف بكرات الثلج مع أحفادها.

ومن الطريف أن أذكر أن شاوشيسكو كان من عادته أن يدعو في الشتاء عند تساقط الثلوج رؤساء البعثات في حفل صيد سنوي تقليدي، وجاءتني سيارة ذات دفع رباعي وسلمني ضابط كان برفقتي بندقية صـيد، ووصلنا الغابة وبدأ السفراء في إطلاق النار لصيد الحيوانات والطيور ولكني لم أطلق رصاصة واحدة لعدم تقبلي لقتل الحيوانات والطيور وكنت أذهب بعيدا عند نحر خروف العيد أو عندما تذبح الدواجن في المنزل.

وكان الحفل ينتهي إلى ضرب الصائدين الجدد على مؤخراتهم وفقا لتقليد روماني قديم وكان ذلك يشمل عدد من السفراء بما فيهم سفير أمريكا ميكر وأنا، ولم أكن أعرف ما سيتم في الحفل ولكني فوجئت بأن السفراء يديرون ظهورهم لرئيس الدولة الذي يضربهم بعصا خفيفة على مؤخرتهم ولكن وقعــها مؤلم، وكان السفراء يستعدون بلبس وسائد تحت ملابسهم ليتقوا بها الألم، أما أنا فلم اتحرز من ذلك فوقع عليّ الضرب مؤلما.

وبعد ذلك كانت حصيلة الصيد تشوى في أفران كبيرة بخشب الأشجار ويدعو الرئيس السفراء إلى مائدة عامرة يستغلها في توجيه رسالة لعدد من الدول وليشرح سياسة بلاده.

وتمت في هذا الحفل مساجلة كلامية بيني وبين شاوشيسكو عندما سألني في جو من المزاح لماذا لا تتصالحون مع إسرائيل، وقد استندت إلى جو المزاح فأغلظت له القول في ردي.

كذلك كنت أحرص على حضور ذلك الحفل التقليدي الذي يقيمه رئيس الدولة بمناسبة جني العنب الذي يخمر ليصبح نبيذا، والذي يدعي لحضوره رؤساء البعثات الدبلوماسية في ضيافة تشاوشيسكو رئيس الدولة في إحدى مزارع العنب، وكان يتضمن في الصباح رقصات شعبية رومانية تؤديها فتيات ريفيات جمـيلات بملابس تقليدية، ثم تجذب كل فتاة رجلا من الضيوف ليرقص معها، وفي المساء يقام حفل ساهر تتخلله أغنيات وموسيقى راقصة حتى ساعة متأخرة من الليل.

وأهم ما أذكره في هذا المجال -قبل أن تتبادل رومانيا التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل -هو أنني فوجئت بسماع أغنية هافانجيلا اليهودية فنهضت غاضبا لأقدم احتجاجا لمدير البروتوكول ولكنه نفى أي معنى سياسي لذلك، كذلك والشيء بالشيء يذكر كان انريكو ماسياس المغني اليهودي الفرنسي من أصل جزائري قد جاء لرومانيا لإقامة عدة حفلات وفي إحدى هذه الحفلات إذ به يغني أغنية القدس التي تترجم مشاعر اليهود ومزاعمهم عن القدس وتبرر احتلالها، فقدمت احتجاجا لوزارة الخارجية واعتبرته انحيازا لإسرائيل ضد العرب.

وتأكدت نوايا رومانيا وقادتها بتوثيق التعاون مع إسرائيل وفقا لما توقعته في تقاريري للقاهرة عندما دعاني كورنيليو مانيسكو وزير خارجية رومانيا لمقابلته، حيث فاجأني بأنهم قرروا دعوة جولدا مائير وزيرة خارجية إسرائيل في ذلك الوقت لزيارة رومانيا في أول زيارة على مستوي وزاري بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وطلب مني مانيسكو أن أؤكد للقاهرة أن هذه الدعوة لا تمثل انحيازا لإسرائيل بل هي محاولة لإيجاد قنوات مباشرة للحوار بينهما من أجل تسوية القضية الفلسطينية.

وكنت بمفردي بالسفارة حيث سافر زميلي للعلاج، وكان عليّ أن أبعث الرسالة علي وجه السرعة فوصلت مباشرة للسفارة وحمدت الله على أن سيارة السفارة المرسيدس المتهالكة لم تتعطل في طريق العودة كونها سيارة عتيقة ترفض الوزارة شراء سيارة جديدة لأنه لا يوجد سفير.

فتحت حجرة الرمز (التشفير) والخزنة الضخمة واخرجت آلة التشفير وبعثت بالبرقية ارتجالا دون أن أدونها مسبقا كما هي القواعد السارية، ثم أخذت الشريط المشفر وبعثته بنفسي بالفاكس لعدم وجود سكرتارية، ووصلت البرقية وعرضت في مساء ذات اليوم علي مراد غالب وزير الخارجية وقتها، أما الرومانيون فكان لديهم محطة لاسلكية وسكرتارية تعمل 24 ساعة ولكن برقيتهم وصلت سفيرهم بالقاهرة بعد برقيتي بعدة ساعات، وعندما طلب سفير رومانيا مقابلة وزيرنا لأمر هام وعاجل كان للوزير قصب السبق، وحكي لي بعدها أن المقابلة كانت باردة ولكن يسودها التوتر فعندما بدأ السفير الروماني يقدم للخبر قاطعه الوزير قائلا جئت تخطرنا بأنكم دعوتم جولدا مائير لزيارة بوخارست وهذا شأنكم أما نحن فل ننظر بارتياح لهذه الزيارة التي تقابلون فيها وزيرة خارجية دولة معتدية لأنكم بذلك توافقون ضمنيا علي سياستها العدوانية التوسعية، وإذا جئت لتقول لي إنكم قصدتم بهذه الزيارة صالح العرب فإننا لا نشاطركم هذا الرأي وانتهت المقابلة في عشرين دقيقة وأرسل السفير الروماني محتواها إلى بوخارست.

وفي صباح اليوم التالي دعاني بورلاكو نائب الوزير وكان أول سؤال هو هل لديك محطة لاسلكية بالسفارة فنفيت ذلك ولم يكتم دهشته بأن السفارة بإمكانياتها المتواضعة قد سبقت الخارجية الرومانية، فأردت أن أزيد من حيرته وأبقي على قنوات الاتصال معه فقلت إنني أرجح أن الخبر تسرب لنا بالقاهرة من مصادر أخرى شرقية أو غربية، وبدى مقتنعا بذلك.

ولم يكن من الصعب عليّ أن أكتشف أن الرجل يدجل علينا ولكن ما أسفت عليه بعد ذلك بسنوات أن هذا الدجل قد أثر فينا وسرنا وراءه كما سأشرح فيما بعد، فقد كانت تقاريري توضح أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بل والثقافية مزدهرة بين رومانيا وإسرائيل، وكان أخطر ما تقوم به رومانيا هو السماح للرومانيين اليهود بالهجرة إلى إسرائيل على نطاق واسع إلى أن أصبحت الجالية الرومانية في إسرائيل تحتل المكان الثاني بعد اليهود الروس.

 وكانت رومانيا تصدر المواد الاستراتيجية كالبترول والغاز والحديد والأسمنت، واستقر في وجداني أن رومانيا على وشك أن تلعب دورا كبيرا في قضايا الشرق الأوسط ليس فقط لمصالحها الخاصة ولكن ربما تقوم بأدوار مدفوعة الثمن لصالح أمريكا والدول الأوروبية كي تخفف من ضغوط موسكو عليها.

 وحرصت على التنبيه إلى ذلك في تقاريري المتوالية للقاهرة وكانت المعلومات تصل إلينا من بعض الطلبة العرب ومن بعض التجار العرب الذين كانوا يقيمون في فندق اتينيه بالاس أقدم وأفخم فنادق بوخارست، وكان هؤلاء العرب يتعاملون مع المسئولين الرومانيين ويقدمون لهم الرشا والهدايا لتمرير صفقاتهم ويحصلون بطرق غير مباشرة على معلومات عن علاقة رومانيا مع إسرائيل.

 وللعجب كان مصدر معلوماتي عن العلاقات الرومانية الإسرائيلية هو جريدة يصدرها الحاخام اليهودي باللغة الفرنسية وكانت قليلة الصفحات محدودة التوزيع وكنت أحصل على أعدادها أولا بأول بترتيب خاص بمعرفة امرأة رومانية.

والخلاصة أنه أسفرت مقابلاتي ومبادراتي عن بدء التبادل الثقافي والتجاري بين البلدين، وبدأت زيارات الوفود الرسمية والتجارية ورجال الأعمال، وحتى أتفادى فوضى الهجوم علي بلد فتح بلد جديد مثلما شهدت في العراق عندما تتعارض مصالح الجهات المصرية، فتوصلت إلى نظام جديد لم أسمع بتطبيقه في أي بعثة دبلوماسية في الخارج، وهو أن أبعث بعضو من السفارة ليراقب القادمين من مصر، ومما سهل ذلك أن طائرة شركة تاروم الرومانية التي تقل المصريين القادمين إلى رومانيا كانت تصل مرتين في كل أسبوع، ليرحبوا بهم ويقدموا التسهيلات الممكنة والحضور للسفارة، وكشف هذا النظام عن سلبيات أمكن معالجتها، وعن إيجابيات تم تعزيزها.

 ومن الأمور الخطيرة التي كشفت جوانب من الفساد في مصر، ذلك أننا فوجئنا بقدوم رجل أعمال وعرفنا أنه جاء لشراء سماد اليوريا الذي كانت مصر تحتاج إيه بشدة، واكتشفنا أنه أبرم اتفاقا مع الرومانيين علي توريد كميات يوريا يتم دفع قيمتها بالإسترليني الحسابي باعتبار أن الشحنات سيتم شحنها إلى مصر، وكانت قيمة الإسترليني الحسابي تقل كثيرا عن قيمة الإسترليني الحر، وسررت جدا لبدء التبادل التجاري فيما يفيد مصر، إلا أنني اكتشفت بعد أيام أن شهادات المنشأ التي وصلتنا للتصديق عليها كانت تكشف عن أن اليوريا صادر لشركة مقرها بيروت ولكن الشحنات كانت صادرة للقاهرة، وتبين من استقصائنا أنه تم تكوين شركة وهمية في لبنان ليتم شحن اليوريا باسمها إلى مصر ولكن بثمن فوجئت بأنه باهظ وبالدولار الأمريكي.

وعلمت أن بعض كبار المسئولين المصريين مشتركين في هذه التوليفة، وكتبت للقاهرة أنبه بذلك الفساد دون جدوى، ولم يكن أمامي إلا أن أصدر تعليماتي بعدم التصديق على شهادات المنشأ لوقف تنفيذ هذه الصفقة، ووصلتني تعليمات بالتصديق على شهادات المنشأ لشدة حاجة البلاد لها، وأبلغت القاهرة أنني أنتظر البت في هذا التربح الفادح على حساب الفلاح المصري البسيط، ولم أصدق على الشهادات.

أما الواقعة الأخرى التي كشفت لي عن تفشي الفساد في مصر قبل حرب 1973 فكانت وصول وفد برلماني مصري برئاسة حافظ بدوي رئيس مجلس الشعب وقتها، وأقمت كالمعتاد حفل عشاء للبعثة المصرية وعدد من الرسميين الرومانيين، وكلفت زملائي بمرافقة الوفد وتقديم التسهيلات بما فيها الترجمة، ووصلتني تقارير مفزعة عن أن نواب الشعب يضغطون علي الوزراء الرومانيين لطلب ثلاجات ومحاريث رومانية لكل منهم علي سبيل الهدية المجانية، وطلبت علي الفور رئيس مجلس الشعب وهو يحتل المكان الثاني في الدولة بينما أنا موظف صغير، ووجهت له كلاما حازما بأن يسيطر علي نوابه ويمنعهم من هذه الفضائح، وعندما حاول التملص والتبرير وجدت نفسي أقول له إنني أمثل رئيس الجمهورية وأستطيع أن اقرر علي مسئوليتي إلغاء البعثة وعودتها للقاهرة فورا واذا به يغير لهجته ويقول حاضر يا باشا ماتزعلش أنا ساحل المشكلة.

والواقعة الثالثة على سبيل المثال أيضا هي صفقة الجرارات والمحاريث الرومانية الضخمة التي عقدت مع رومانيا لتصديرها إلينا، وبناءً على معلومات إلى براشوف حيث يوجد هذا المصنع وموافاتي بتقرير فني عن الجرارات، وجاءني التقرير سلبيا يكشف عن عيب ميكانيكي كبير في هذه الجرارات، فكتبت للقاهرة اقترح تشكيل لجنة لفحصها في مصر، وكان قرار اللجنة أن هذه الجرارات جيدة الصنع وأرخص سعرا من مثيلاتها في اوروبا.

وأفادتني مناوبات المطار في معرفة من أسميناه بالرجل أبو شنطة وكنا نلاحظ سفره للقاهرة قبل عقد أي صفقة تجارية، وعلمت أنه يحصل على عقود كبيرة بتصدير بضائع رومانية رديئة بعد دفع مبالغ بالدولار الأمريكي لبعض الوسطاء، وكنا نرصد سفره عندما يتقدم طالبا تأشيرة دخول لمصر لنسمع بعدها عن هذه الصفقات.

كذلك رأيت من واجبي أن أنفذ قرارات مكتب مقاطعة إسرائيل التابع لجامعة الدول العربية، فامتنعت عن التصديق على شهادات منشأ البضائع الرومانية التي كان يعترض عليها الزميل فتوح ضابط المقاطعة بالسفارة، فوصلتني تعليمات من مكتب الوزير بالتصديق على شهادات منشأ تلك البضائع، وأجبت بنصوص القرارات والقوانين التي تحدد قواعد المقاطعة وقلت إن تنفيذ التعليمات يتطلب تعديلا للقانون ورفضت تنفيذها، وقد أحدث ذلك دويا في ديوان الوزارة بين معجبين ومعترضين.

زيارة أول وفد مصري على مستوى عال:

وصلتني برقية بقدوم وفد مصري برئاسة المهندس عزيز صدقي نائب رئيس الوزراء وعضوية وزير التجارة وعدد من وكلاء الوزارات ورجال الأعمال، وكان الوقت مهيئا للبدء في دعم العلاقات بعد أن تمكنت من إزالة الجمود الذي أصابها بعد إعلان رومانيا تبادل التمثيل مع إسرائيل، وقد تلقيت هذا النبأ بارتياح لأنه يكلل جهودي واتصالاتي التي هدفت منها استئناف العلاقات بالقدر الذي يفيد المصلحة المصرية مع الحذر الشديد من مناورات رومانيا معنا لصالح إسرائيل، وكانت لي ملاحظات وتحفظات علي المصنوعات الرومانية مثل الثلاجات والجرارات والسيارات حيث كانت نتاج مصانع قديمة فككها الروس وباعوها لدول وارسو حتى يتاح لهم اللحاق بتطور التكنولوجيا الغربية، وكان العامل المشجع علي استيراد سلع رومانية رديئة هو رخص ثمنها حيث كنا نسددها بالإسترليني الحسابي وسرعة التوريد وإيفاد خبراء رومانيين لتدريب الكوادر المصرية وإصلاح ما يتوقف منها.

 بهذه الخلفية استقبلت الوفد المصري برئاسة عزيز صدقي واستقبله من الجانب الروماني بورتيكا وزير التجارة النشط والمقرب من تشاوشيسكو، كما طلبت من رؤساء البعثات العربية والأفريقية استقبال الوفد المصري بالمطار، وصافحت عزيز صدقي وقدمت له السفراء العرب وكان منهم سفير الجزائر وقت أن كانت تمر فيه علاقاتنا مع الجزائر بفترة جمود ولكن الرجل تقبل ذلك بسعة صدر.

وكنت قد حصلت من الجانب الروماني على برنامج الزيارة ومواعيد المباحثات في عدة وزارات رومانية، وسلمت عزيز صدقي نسخة من البرنامج الروماني المقترح واستأذنته في أن أمر عليه في الصباح لتلقي رغباته والعمل علي نجاح مهمته. وأحسست أن عزيز صدقي كان متأففا في الحديث معي وكان أول ما استفسر عنه هو درجتي وسني، مستكثرا على أن أكون رئيس بعثة بدرجة سكرتير أول، واستشعرت من حديثه أنه قادم بفكرة مسبقة ومشوهة عني نقلها من ضيقت عليهم الخناق من المتربحين وأصحاب العمولات وزبائن رجل الشنطة الذي تحدثت عنه.

تغاضيت عن ذلك وأبلغته بأنني وزعت بطاقات الدعوة لحفل استقبال على شرفه دعوت فيها كبار الرسميين من أعضاء المكتب السياسي للحزب ووزراء الخارجية والداخلية والصناعة والسفراء العرب، فلم يبد تحمسا وقال بكرة نبقى نشوف، ولكني أكدت عليه أن الدعوات قد تم توزيعها فلامني على هذا التصرف بدون إذنه، فألمحت إليه بصعوبة إلغاء أو تأجيل هذا الحفل وقد تكون له آثار سلبية على الزيارة ولم يجب واصطحبته للفندق وكان الوقت يقترب من منتصف الليل.

في الصباح حضرت معه المقابلات الرسمية بدعوة من الرومان، وكان يبدو عليه التأفف وعدم الارتياح لوجودي معه ولكنه استمع إلى تقريظ فيّ من المسئولين الرومانيين فتقبلها دون تعليق، وكنت قد كلفت زميلين بالسفارة لحضور المباحثات التجارية والصناعية، وفوجئ الزميلان بعدم الترحيب بهما، ولاحظت أن الوفد يضم وجوها أعرفها ودائمة التردد على بوخارست عن غير طريق السفارة ولكن نظام نوبتجية المطار كان يضطرهما للحضور دون أن يفصحوا عن غرض الزيارة إلا تلميحا. ولا حظ زملائي أن من أسميناه الراجل أبو شنطة كان يستقبلهم بالمطار، وهو الرجل الذي كان يسافر للقاهرة لتسويق البضائع الرومانية الرديئة مع دفع العمولات وخلافه. تحاشينا الاتصال بالوفد وحضور المباحثات.

 وفي المساء حضر عزيز صدقي حفل الاستقبال الذي أقمته له وكان حضور كبار الرسميين الرومانيين محل اهتمام السفراء الأجانب، كان من الحضور سفير الجزائر، وانتحى بي وكيل الوزارة المقرب لعزيز صدقي جانبا وقال عزيز بك كرباجه حامي وهو يريد أن يتكفل الوفد بنفقات حفل الاستقبال ولكني اعتذرت عن ذلك وقلت له إن هذا من واجبات وظيفتي.

وفي نهاية الحفل التفت لي عزيز صدقي قائلا لماذا دعوت سفير الجزائر ألا تعلم أن العلاقات بيننا متوترة، فقلت له كاظما غضبي وبهدوء شديد سيادة النائب هذه تفصيلات مهنية دبلوماسية لا تشغل نفسك بها وأنا مســئول عنها، وإننا اعتدنا كعرب أن نلتقي ونتزاور مهما كانت حالة العلاقات بيننا وبينهم.

 فانصرف دون أي تعبير على وجهه وقال عموما أنا متشكر بس ما تعملش كدة تاني. وعلى العكس من حدة وغرور عزيز صدقي كانت السيدة زوجته في منتهى الرقة مع زوجتي عندما زارتها وصاحبتها لبعض الأماكن وساعدتها في المشتروات.

وفي اليوم التالي لسفر الوفد تحدثت الصحف الرومانية عن الاتفاقات والمشتروات التي توصل إليها الجانبان مشيدة بتحسن العلاقات بين البلدين. وحصلت على تفاصيل الصفقة وصورة من كل الاتفاقات التي تمت كما تقضي الأعراف الدبلوماسية ولكي تتابع السفارة التنفيذ.

ورأيت في تلك الصفقات إجحافا ظاهرا بمصالحنا وإن الأمر لم يكن يخلو عن الدعاية لإنجازات عزيز صدقي حيث قدرت قيمة الصفقة بعدة ملايين دولار، وكان من بين الصفقة شراء مصانع متهالكة وآلاف الجرارات المعيبة وسلع رديئة، ولم أتردد في إرسال تقرير مفصل بالمستندات باسم الرئيس أنور السادات فلم يراجعني أحد ولم يصلني أي رد فعل من الرئاسة أو الوزارة، ولكن حدث بعد ذلك ما لم أتوقعه وهو تعيين عزيز صدقي رئيسا للوزراء.

 وجاء الرد سريعا وعنيفا بنقلي إلى أثينا وعلمت أن سفيرنا الجديد قد طلب ذلك قبل أن يصل لممارسة أعمال وظيفته، وكان اختيار أثينا لي بارعا حتى لا ينظر إليه كعقوبة، بل كمكافأة ولكني لم أسعد به فنحن نخدم الدولة بالخارج ولا نأخذ مظهر السواح الذين يختارون الدول المريحة والجميلة.

و ذلك رغم أن الخدمة في اليونان تتسم بالسهولة لعدم وجود مسائل شائكة في العلاقات الثنائية باستثناء مشاكل المصريين الذين يقيمون ويعملون دون سند قانوني ودون أن يكون لهم الحق في العمل أو الإقامة، وهذا ما تنشغل به القنصلية، أما السفارة في أثينا فالأجواء هادئة باسمة والشعب اليوناني يحب المصريين، ووسائل التسلية متاحة بكثرة واليونانيون يكادون يرقصون ويغنون كل مساء والمطاعم منتشـــرة وأكلاتهم بها الكثير من المطبخ التركي، ومستوي جمال النساء لا بأس به وهن ودودات حنونات في معظم الأحيان، والرحلات للجزر اليونانية هي أمتع الرحلات لما تنعم به من مناظر طبيعية ولقاء إنساني ريفي حميم وخاصة إذا أقمت مع عائلة يونانية فتتمتع بحسن ضيافتها وحرارة استقبالها بعد دفع مصــاريف الإقامة.

 تبينت من كل ذلك قوة الفساد في مصرو انتشاره، وتأكد لي ذلك عندما فوجئت بتعيين زميل بدرجة مستشار ليكون رئيسي بحكم الأقدمية، ولم يكد يتسلم عمله حتى أمر بالتصديق على شهادات المنشأ التي امتنعت عن التصديق عليها، وضاع جهدي في كشف الفساد وأبلغت بطريقة غير مباشرة بأن آخذ حذري وألا أقف في وجه قوى جبارة لا فكاك منها إذا قررت النيل مني.

 ولم يستطع زميلي الجديد أن يقدم نفسه كقائم بالأعمال لأن التمثيل لم يكن علي مستوي السفراء، ولذلك كان عليه لكي يمارس عمله كرئيس بعثة وقائم بالأعمال أن يقدم لوزير الخارجية كتاب اعتماد من وزير خارجيتنا مثلما فعلت، وهو الأمر الذي لم يتوفر له، ولذلك كانت الجهات الرسمية تستدعيني دون زميلي، وتوالت عليّ دعوات السلك الدبلوماسي في مناسبات الأعياد القومية وحفلات العشاء وحفلات توديع السفراء.

وهكذا عرفت الأغراض الحقيقية لنقلي من بوخارست وهي إبعادي حتى يخلو الجو لإدارة الصفقات التي تضر ببلادنا وتصب مئات الألوف من الدولارات في جيوب الفاسدين.

واتصلت هاتفيا بمسئول كبير بوزارة الخارجية بالقاهرة وشرحت له الموقف بكل أبعاده، وقلت إن هذا النقل لو جاء قبيل تعيين سفير فإن ذلك يتفق مع التقاليد الدبلوماسية لأنني توليت رئاسة السفارة أكثر من سنتين، ولأن ذلك يتيح لي أن أغادر كرئيس بعثة تقام لي حفلات التوديع من سلطات الدولة ومن رؤساء البعثات الأجانب الـذين كنت أقيم على شرفهم حفلات عشاء وأشارك في الهدية التي تقدم لهم.

أما وقد ترخصت الوزارة بارتكاب خطأ دبلوماسي جسيم، فسارعت بتعيين زميل لي أقدم مني في الدرجة كان كبير السن وتنقصه الخبرة الدبلوماسية ويضعف إلمامه باللغات الأجنبــية حيث عين من وظيفة إدارية إلى درجة مستشار بفضل واسطة قوية، دون إتاحة الفرصة لي للمغادرة كرئيس بعثة، ثم أنقل بعد وصول السفير الجديد مما يضعني في موقف محرج في مواجهة السفراء وكبار المسئولين.

وجاء الرد واضحا وقويا أمام أعين سفيرنا الجديد وبحضوره، فقد تأخر قبول أوراق اعتماده، فلم يكن من حقه الاتصال بالمسئولين في الدولة ولا يدعى للحفلات أو غيرها من الفعاليات ويظل في بيته إلى أن يقدم أوراق اعتماده لرئيس الدولة.

وفي هذه الفترة التي لم تطل أكثر من شهر، استمر اتصالي برؤساء البعثات ودعواتهم لي ودعواتي لهم في شقة كبيرة تطل على الشارع الرئيسي في مدينة بوخارست بعد أن أخليت له دار السكن وملأت الثلاجات باللحوم والأسماك وأنواع الأطعمة وعينت له طاهية رومانية لأنه كان أرملا. رأيت أن يكون ضيفا دائما عندي في حفلاتي التي أدعو لها السفراء، وكان يحضر بالفعل ويرسم ابتسامة صفراء فاترة علي شفتيه وهو يشكرني، ولم يكن متحفزا للتحدث مع السفراء، وفي إحدى حفلاتي التي دعوت إليها سفيري تركيا أوكروك وسفير اليونان كامبيوتس وكان رجلا مسنا وله خبرة طويلة بالعمل الدبلوماسي فهمس لي قائلا أنت شاب تبدأ مهنة الدبلوماسية وقد أعجبنا بك جميعا واعتبرنا أنك جدير برئاسة سفارة، وكنا ولا نزال سعداء بك، غير أن صــداقتي معك وخبرتي تدفعني إلى أن القي اليك بملاحظة شخصية، سفيرك هذا لا يحبك ولا يحترمك ومن الخطأ أن تدعوه في حفلاتك فخذ حذرك منه.

وكان حديثي بوضوح وقوة للمسئول الكبير بوزارة الخارجية وما فهمه مني من أنني لن أقبل أثينا وسأعود للقاهرة وأبين صفقات الفساد والفاسدين وكان منهم أحد الوزراء، كان لذلك أثر سريع فقد وصلت برقية للسفير بإلغاء نقلي وبقائي في بوخارست. ولم يتقبل السفير ذلك بسهولة إذ كان يبني حساباته على اختفائي من السفارة بمعلوماتي وخبرتي والاعتماد علي المستشار الجديد، وكان موظفا مطيعا ينفذ الأوامر دون نقاش.

 وأبعدني السفير عن عبء ثقيل هو تولي الشئون الإدارية والمالية، وكان أول ما فوجئت به من سفير هو أن يطلب المصاريف السرية المخصصة لرئيس البعثة، وقد احتفظت بها عامين كاملين دون أن أصرف منها شيئا، وإذا به يأمر بخصم مبالغ منها لتغطية حفلاته القليلة ثم أجبر الزميل المطيع أن يعين له موظفا محليا على الورق ليستخدم راتبه لتغطية جانب من مصروفاته.

ولم أشأ أن أتدخل في هذه التجاوزات الصغيرة، بل حاولت إقامة علاقات طيبة معه، وبالفعل دعوته هو وابنته إلى إحدى المنتجعات حيث أمضى وقتا طيبا وراقصت ابنته وأوليتها الاهتمام باحترام وانضباط، وكانت تتصل بي تليفونيا لأداء حاجات لها.

غير أن كل هذا لم يفلح في تطهير نفسه من مشاعر اختلطت فيها الغيرة مع الحقد، وكانت إدارته للسفارة تقليدية تعود بنا لدبلوماسية العهد الملكي بلا مبادرات ولا منجزات. وأخيرا أسفر عن مأربه الحقيقي الذي جاء من أجله ساعيا أن يدخل التاريخ من موقعه في بوخارست، فكان في أحاديثه معنا يقلل كثيرا من حماسنا في تخطي نكسة 1967 ومن عدائنا الشديد للعدو الصهيوني ويقول كلمة مأثورة لتاليران وزير خارجية فرنسا المحنك Pas trops de zel أي لا داعي لان تتحمس كثيرا لفكرة أو رأي، وكان يتحدث عن مصر أمامنا كدولة فقيرة ضعيفة تنحدر إلى الهاوية.

وفي إحدى المرات أطلعنا على تصريح لوزير التموين المصري بأنه لا يوجد بمصر إلا احتياطي قليل من الدقيق والزيت، وانتهى إلى التمهيد لرأيه الذي أفصح عنه فيما بعد وهو أننا لن نتحمل أعباء الحرب مع إسرائيل وأن الحل الوحيد هو إقامة حالة من السلام معها كي نتفرغ لبناء البلاد بدلا من الإنفاق الحربي الباهظ.

ولم نكن نأبه لهذا الكلام ولم نقتنع به فيما عدا مستشاره وعضو حديث في أولى درجات السلم، ولكن حديثه كان يدمي قلوبنا ويولد الأسى في أعماقنا وأصبحنا في حيرة من التعارض الشديد بين يأس السفير وخطب الرئيس السادات الحماسية التي كانت أكثر قوة وإيمانا بقدرة مصر علي رد العدوان.

وجاءنا الرد سريعا، فقد أذاع راديو بوخارست بعد ظهر 6 أكتوبر 1973 أن الجيش المصري شن هجوما مفاجئا علي الجيش الإسرائيلي في سيناء، وتنادينا للاجتماع في النادي ومعنا أجهزة الراديو نحركه على كل المحطات فتأكدنا من الضربة الجوية المصرية ومن هجوم مصري بري وشيك علي الجيش الإسرائيلي.

 واستبشرنا خيرا واتفقنا على الفور أن نزف الخبر للسفير اليائس الذي أشبعنا حزنا وكمدا، وتوجهنا لدار سكن السفير فأخبرتنا خادمته التي اكتسبت نفوذا وسطوة وكانت تتحدث باسم السفير، وطلبنا منها إيقاظ السفير الذي كان ينام فترة القيلولة فرفضت فهددتها بالفصل، فتراجعت وسارعت بإيقاظ السفير الذي نزل إلينا بالروب مكفهر الوجه غاضبا ولم يكن يعرف ما حدث، وبعد أن تركته أنا والزميل فتوح يهيج ويميد ويرمينا بأقسى الألفاظ، متسائلا عن أسباب هذا الجنون في نظره، وتركناه يفرغ ما في جوفـــه ويرغي ويزبد.

 وعندما توقف منتظرا تبريرا لهذا التصرف، قلت له سعادة السفير لقد جئنا لنبادلك الفرحة والتهاني قال ماذا تقصد، قلت إن البلد التي ليس لديها احتياطي من الدقيق والزيت قد شنت حربا وجيشها في طريقه إلى عبور القناة ونصحناه أن يفتح راديو القاهرة حتى يكون مستعدا للرد على التساؤلات التي ستصله. ولا أخفي أننا كنا نتشفى فيه ونرد جرعة اليأس الكبيرة التي حاول أن يسقيها لنا. واستمتعنا بقسمات وجهه التي اعترتها الدهشة والغضب في آن واحد، وامضينا الأيام التالية نستمع إلى البيانات العسكرية المصرية وندرجها في نشرات مطبوعة ونوزعها على الطلبة العرب الذين أحاطوا بالسفارة في غمرة فرحهم.

وبعد وقف إطلاق النار وحدوث الثغرة عاد متشفيا ليقول لنا ألم أقل لكم إننا لا نتحمل الحرب بخسائرها وتكاليفها، وكشر عن أنيابه وقال الآن جاء وقت العقل والحكمة ولابد أن نبني بلدنا بالسلام والمحبة بدلا من الحرب والضغينة، وأصدر أمره بإغلاق نادي الطلبة بحجة اعتبارات أمن السفارة، ثم قام بمقابلة مع مانيسكو وزير الخارجية قبل سفره إلى مصر ناقلا دعوة رومانيا للعب دور الوسيط في تسوية سلمية مع إسرائيل ومحبذا الفكرة.

 ومن حسن الصدف أن المستشار كان أيضا في إجازة فتوليت من جديد مهمة القائم بالأعمال، ولم أكد أن أودعه بالمطار حتى ذهبت للسفارة لأبعث ببرقية حادة أعارض فيها رأي السفير وأطالب بالحذر من الرومانيين الذين كنت على علم يقيني بوجود نوع من التحالف والاتفاق بينهم وبين إسرائيل للإيقاع بنا ربما طمعا في دعم واشنطن لهم في التخلص من النفوذ السوفييتي.

وأحدثت البرقية دويا شديدا في الوزارة فاستدعى الدكتور مراد غالب سفيرنا مستفسرا عن حقائق الأمور ورد السفير بأنني شاب متحمس قصير النظر، وأكد أن رأيه هو الأصــح، وعرض الأمر علي الرئيس السادات مصحوبا بطلب السفير بتوجيه لفت نظر إلى لمخالفة التقاليد إذ أن القائم بالأعمال ليس من حقه تغيير أو نقد آراء السفير ولكن السادات لم يبد رأيا في ذلك، وعلمت أن مراد غالب كان في حيرة إذ سأل أقراني ورؤسائي عن طبيعتي وسلوكياتي وهل أنا متهور وعدواني كما قال السفير ولكنه لم يجد من يؤيد ذلك.

ورفضت مصر هذه الفكرة في البداية، ولكن الرئيس السادات نحى رفضنا لها عندما بدأ في رسم سياسته التي انتهت بالسفر إلى إسرائيل وتوقيع اتفاقية سلام، وكان قد أجرى تبادلا في الآراء مع شاوسيسكو في منتجع سينايا الجبلى حول هذا الموضوع في وجود إسماعيل فهمي وزير الخارجية، وعلم بعد ذلك أن فكرة الاتصال بإسرائيل قد تولدت في ذهنية الرئيس السادات أثناء هذه الرحلة إلى رومانيا، ودهش إسماعيل فهمي وزير الخارجية وأسامة الباز وكيل وزارة الخارجية ومدير مكتب الوزير اللذان كانا يصاحبانه في رحلته.

وعاد السفير ليعلن علي الملأ حالة عداء وخصام بيني وبينه وبدأ يمنع تقاريري ويحد من اتصالاتي، وامتنع حتى عن المجاملات الإنسانية عندما غادرت إلى لندن لعلاج ابنتي فلم يكلف نفسه بالسؤال عن زوجتي وابني اللذين تركتهما وحيدين في بوخارست طوال فترة العلاج، ولكنه استمر يعزف لحن السلام مع إسرائيل مصمما علي تحقيق مجد دبلوماسي لم يشهده في حياته منذ جاء من كوناكري إلى بوخارست في ثاني وآخر مهمة سفير بالخارج وعند حلول موعد نقلي غادرت للقاهرة فلم يشارك في توديعي وحل بعد ذلك موعد إحالته للمعاش بعد استكمال مدته في بوخارست دون أن يصنع مجدا.

وكان أهم ما أحرزته في هذه المحطة هو مباشرة كل حرفيات المهنة على أعلى مستوى وهو مستوى رئيس الدولة وكبار المسئولين ومع السفراء والوزراء. كما أنني توليت في بوخارست وبعد عودتي منها إلى نهاية خدمتي مناصب قيادية، ولكن تبين لي بكل أسى ما صدمني وهو أن حكم السادات قد غض الطرف عن وجود جيوب للفساد في مصر وهو ما لم يحدث في عهد عبد الناصر وانتهي الأمر بما اعتبرته نجاحا لمهمتي وهو تطبيع العلاقات ورفع مستوي التمثيل لدرجة سفير، وفي جعبتي الكثير من المواقف الهامة ولكني أقلع عن التطرق لها مراعاة للإيجاز.

الوسوم

السفير إبراهيم يسري

دبلوماسي مصري، سفير مصر في مدغشقر (1983 – 1987)، مدير الإدارة القانونية والمعاهدات بوزارة الخارجية المصرية (1987 إلي 1990)، سفير مصر في الجزائر (1990 – 1994)

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى