كتب إلكترونية

رحلة دبلوماسي ستون عاما في حب مصر 11

العمل السياسي بعد الثورة والانقلاب على الشرعية

غلبت عليّ طبيعتي الإنسانية في التخلص من مشاعر الحقد والكراهية، وما تعلمته في مهنتي، من أن السياسة لا تعرف الحب ولا الكراهية كآليات سياسية – وهو ما وقعت فيه شخصيات مصرية كبيرة وما صعده شباب بلا خبرة سياسية وبتشجيع من هذه الشخصيات من كراهية الإخوان المسلمين.

كما أنه لا توجد في الممارسة السياسية ما يسمي بالمصالحة (والمصارحة) التي استعاروها من مشاعر قبلية سادت بيانات الجامعة العربية وتم حل بعض الخلافات باستضافة المتنازعين وتقبيل الرؤوس والاعتذار.

وما أذكّر به لا يأتي في عداد مفاهيم جديدة في الحقل السياسي بل ترجع لقرنين سابقين عندما قال دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا إن بلاده ليس لها أعداء دائمين ولا أصدقاء دائمين بل تحرك سياستها مصالحها الدائمة، وأعيد فأذكر أيضا بحكمة تاليران وزير خارجية فرنسا pas trop de zel في مواجهاته مع مترنيخ وزير خارجية ألمانيا في فترة احتقان وتوتر العلاقات في أوروبا والتي تحظر تناول المشاكل السياسية بمشاعر متأججة بل بحكمة وتروي.

علي هذه الخلفية طرحت مبادرتين رفضتا من جميع الأطراف لأننا ما زال أمامنا الكثير لتعلم قواعد إدارة الخلافات السياسية، وهي ألا يتمسك أي طرف بمطالبه كاملة وهزيمة الطرف الآخر هزيمة منكرة كاملة.

أعلنت في هذه المبادرة – بعد أن أحبطت جهودي في صدورها باسم الجبهة – أنني لا أعبر عن رأي زملائي بجبهة الضمير، وأصدقائي بالتحالف من أجل الشرعية.

المبادرة الأولى

وأعلنت في مؤتمر صحفي متلفز المبادرة الأولى تحت العنوان التالي:

مقترحات لتسوية متوازنة للأزمة السياسية الحالية

وأوجزها فيما يلي:

  • إلغاء المادة 4 الخاصة بالأزهر الشريف علي أساس أن الأزهر أسمى من أن يحكمه نص دستوري يقزمه ويفتح باب التعديلات على أوضاعه، وإرضاء للعلمانيين والديانات الأخرى.
  • في المادة 132 الخاصة برئيس الجمهورية يوقف مؤقتا النص؛ على أنه رئيس السلطة التنفيذية وأنه يراعي الحدود بين السلطات.
  • في المادة 139 يوقف مؤقتا النص على تفويض رئيس الجمهورية باختيار رئيس الوزراء.
  • يوقف العمل بالمادة 140 التي تنص على مشاركة رئيس الجمهورية في وضع السياسة العامة للدولة.
  • في المادة 141 يوقف اختصاص الرئيس مؤقتا في تناول قضايا الدفاع والأمن القومي.
  • يوقف العمل مؤقتا بالمادة 143 والمادة 144 بسلطة الرئيس علي الحكومة.
  • يوقف العمل بالمواد 145 و146 و147 و148 و150 وتعدل المادة 151 ليكون لرئيس الجمهورية تقديم استقالته لرئيس مجلس الوزراء.
  • يعمل بالفقرة من المادة 153 بحلول رئيس الوزراء محل رئيس الجمهورية عند شغور المنصب.
  • يوقف العمل بالمادة 219 الخاصة بمبادئ الشريعة الإسلامية.
  • يوقف العمل بالمادة 226 التي تحدد مدة ولاية الرئيس الحالي.
  • يوقف العمل بالمادتين 230 الخاصة بتولي مجلس الشورى سلطة التشريع والمادة 236 التي تحدد نسبة العمال والفلاحين.
  • تضاف المادة 237 ونصها كالآتي: تعتبر كافة الإجراءات والقرارات والعمليات التي قامت بها القوات المسلحة اعتبارا من 3 يوليو2013 للحفاظ على الأمن داخل الدولة مبررة ويمتنع تجريمها أو الملاحقة القانونية للآمرين وللقائمين بها بأي حال من الأحوال.

وتسببت هذه المادة في رفض اتحاد دعم الشرعية للمبادرة.

شرح معالم التسوية

  • بقاء الرئيس مرسي شرفيا في منصبه ونقل اختصاصاته لرئيس الوزراء الذي يتم اختياره بتوافق قومي.
  • إلغاء كل آثار إعلان 3 يوليو بما فيها تعيين الرئيس المؤقت والوزارة المؤقتة وما تفرع عنهما من مناصب أو هيئات مع بقاء قراراتهما نافذة لحين تعديلها إذا لزم الأمر.
  • الإفراج عن كل المحبوسين السياسيين قيادات وكوادر وإلغاء قرار حل جمعية الإخوان المسلمين
  • استكمال خارطة الطريق التي أعلنها الجيش بإجراء الانتخابات البرلمانية للمجلسين والانتخابات الرئاسية بذات قانون الانتخاب الساري وعدم تعديله وضمان الرقابة الشعبية والدولية.

مقترح آخر لتسوية الأزمة وشرعنة رئاسة الدولة

طرحت هذه التسوية في حديث نشر لي باليوم السابع ١٠ أبريل ٢٠١٤ وفيما يلي مضمونها:

  1. أتحدث عن المشير باعتباره الرئيس الفعلي للبلاد، لكننا الآن لدينا فريقان يتنازعان، ولابد من حل سياسي، صحيح أن هناك من يتحدث عن الدماء والمبادئ، لكن السياسة شيء آخر، فعندما يكون هناك خلاف فلا بد أن يجلس الطرفان على مائدة المفاوضات، ويقدمان تنازلات متبادلة حتى يصلا إلى حل وسط.
  2. إذا أراد الرئيس أن يجعل رئاسته شرعية فأمامه طريق سهل جدًا، وهو:
  • الإفراج عن المعتقلين ما عدا المتورطين في جرائم جنائية.
  • إيقاف التعذيب والانتهاكات في السجون.
  • محاكمة ضباط الشرطة المتهمين بالتعذيب.
  • تشكيل جمعية تأسيسية جديدة منتخبة مباشرة من الشعب تقوم بوضع دستور جديد للبلاد. لأن دستوري 2012 و2013 بهما ثغرات ولا يليقان، وبالتالي لا بد أن يرد «السيسي» الأمور إلى أصولها، وسيكون هذا من حقه، لأنه سيكون متمتعًا بسلطة التشريع عقب فوزه بالرئاسة. وأؤكد أنه إذا قام بهذه الخطوات فإنه سيحظى بحب أبناء الشعب من جميع التيارات. وقد يكون رئيسًا منتخبًا، وقد ينجح بدون تزوير، لكن سيكون هناك مليون علامة استفهام على انتخابه، لذا لا بد أن يعمل بعقلية السياسي وليس العسكري.
  • أقترح مجلس تفاوض يضم في تشكيله سياسيون وخبراء يجلسون مع الطرفين على مائدة واحدة حتى الوصول إلى حل وسط تقبله جميع الأطراف.
  • التوقيت المناسب للبدء في هذه الإجراءات يأتي بعد الانتخابات الرئاسية.
  • الإخوان بينهم كثيرون يرفضون أي تسوية، ويتحدثون عن انتهاكات تعرضوا لها، لكن «السيسي» يمكن أن يشفى غليل هؤلاء عبر إحالة أفراد الشرطة المتهمين بالتورط في انتهاكات لحقوق الإنسان إلى المحاكمة.

الدعوة لاصطفاف كل القوى المناهضة للانقلاب في بيان القاهرة

 شعرت بغصة وحزن شديدين لمــــا يحدث في مصر، ذلك لإيماني القاطع بأن الديموقراطية هي الطريق إلى التقدم ومحاربة الفساد، والتربح والتعسف في استخدام السلطة على نحو ما شهدته في الدول الغربية التي زرتها، ولكني اقتنعت بذلك على وجه خاص أثناء خدمتي كوزير مفوض بالهند؛ فقد بقيت الهند موحدة بفضل الحرية والديموقراطية رغم اختلاف أعراقها وأديانها في الولايات المختلفة وذلك تحت شعار unity in diversity ونجح النظام الفيدرالي الهندي بعد انفصال باكستان في الحفاظ علي استقلالية كل ولاية وبقاء الهند كدولة واحدة تخضع لحكم المركز.

ولكني شهدت أيضا في التجربة الهندية وحتى في بعض الدول الأفريقية أنه لا مجال لتزوير إرادة الشعب في الانتخابات، وفي الهند حيث تتولى الإشراف عليها لجنة مستقلة لا سلطان للحكام عليها وتتمتع بسلطات واسعة منها توقيع عقوبات وإبعاد المسئولين عن دوائر بعينها إذا حاولوا التأثير على حرية الناخبين.

وفي مواجهة ما طالبت به نخب وطنية وما ساد في المشهد السياسي المصري خلال 60 عاما من الحكم العسكري تعلمت أن الرجل الهندي الأمي الفقير هو الذي يختار حكامه وينتخب نوابه من بينهم دون اشتراط علم ولا جاه، وأن هذا المواطن هو الذي أسقط أنديرا غاندي بكل كاريزميتها وجهودها في تقدم الهند، عندما ارتفعت أسعار العدس والقمح واللبن.

بل طبق القانون على أنديرا بالسجن وهي رئيسة وزراء عندما كانت تركب سيارتها الرسمية في شأن من شئون الدولة إلا أنها توقفت في طريقها في إحدى القري لحضور اجتماع انتخابي لحزبــها.

لذلك أتمنى ألا يكون المسؤولون المصريون أتباعا وعبيدا يأمرهم الحكام فيطيعون حتى لو خالفوا القانون وظلموا الناس سواء بالاعتقال أو التعذيب أو القتل، وأن يفهموا جميعا أن الشعب هو السيد وليس الحاكم، وعليهم أن يرفضوا تنفيذ أوامر مخالفة للقانون بمجرد تلقي حديث تليفوني أو أمر شفوي من الحكام والرؤساء.

أعود للتطرق لمجال العمل الوطني فبعد انهيار جبهة الضمير لم أجد مجالا أتحرك فيه ولا صحافة تنشر مقالاتي. وكنت كما قدمت على صلة طيبة بعدد كبير من النخب.

وأعود لظروف صدور بيان القاهرة فقد كنت أكن شعورا بالتقدير للدكتور سيف عبد الفتاح وخاصة وطنيته واستقلاليته وجرأته، كما ألهبت مشاعري قصائد الشاعر الشاب عبد الرحمن يوسف.

وفي ظل الانسداد السياسي الذي تعيش فيه مصر بعد تدمير شرعيتها، سعدت جدا وقبلت فورا ما عُرض عليّ من أفكار في زيارة لي ضمت الدكتور سيف عبد الفتاح، والدكتورة نادية مصطفي، والأستاذ عبد الرحمن يوسف لدعوة القوى الثورية للاتحاد والتضافر والاصطفاف في العمل الوطني طالما اتحد هدفها في استعادة الشرعية وحكم الشعب، وتقبلت الفكرة بكل الاقتناع والتقدير لأنه ليس من المقبول أن نظل أسرى لحزازات سابقة أو لاختلاف الأيديولوجيات طالما كان الهدف واحدا، وأن علينا أن نستأنف صراعاتنا بعد تحقيق الهدف وليس قبل ذلك.

وأطلعوني على نص بيان أعدوه بهذا المعنى وقرأته ووافقت عليه دون تردد.

وقام الشاعر عبد الرحمن يوسف بإعلان “بيان القاهرة” في مؤتمر صحفي متلفز في حضور عدد من شباب الثوار رجالا ونساء، وكان يقوم على فكرة اصطفاف القوي المناهضة للانقلاب أيا كانت أيديولوجياتها أو اتجاهاتها، وبالفعل استضفت بمكتبي مؤتمرا صحفيا تلى فيه الشاعر عبد الرحمن يوسف بيان القاهرة الآتي مضمونه:

 بيان القاهرة إلى قوى الثورة والوطن

  1. تُجمع قوى الثورة والوطن في مصر اليوم على أن ما يجري في ربوع الوطن إنما هو استعادة بائسة وقبيحة لمنظومة نظام مبارك ومن بروز الدولة البوليسية القمعية.
  2. ومن هنا ندعو قوى ثورة يناير إلى ضرورة الاصطفاف صفا واحدا لاستعادة ثورة 25 يناير والمسار الديمقراطي، ….، والعمل لتجديد روح وقوة ثورة يناير المباركة.
  3. إن هذا الاصطفاف ضرورة وطنية وواجب وطني، وشرف يجب أن يقوم له وعليه وبه كل مصري وطني مخلص.
  4. ندعو لهذا الاصطفاف في إطار شديد الوضوح من الشفافية الكاملة (والسلمية) لا السرية.
  5. إن الاصطفاف الثوري الوطني أصبح ضرورة لتقوية صف القوى الثورية السياسية والمجتمعية حتى تبلغ أهدافها في التغيير من أجل استرداد مسار الديمقراطية.
  6. نهيب بكافة هذه القوى أن تقوم بكل ما من شأنه أن يحقق هذا الاصطفاف الواجب والتنسيق اللازم، والمقاومة المفروضة.
  7. وبناء عليه نقترح على قوى يناير والقوى الوطنية المخلصة تشييد منصة انطلاق الاصطفاف الوطني عبر الآليات التالية:

أولا- تأسيس أمانة وطنية للحوار والتنسيق؛ تعمل على التواصل بين القوى الوطنية والثورية والمجتمعية.

ثانيا- تأسيس هيئة للقيام بصياغة “مشروع ميثاق شرف وطني وأخلاقي”؛ لضبط العلاقات فيما بين القوى الوطنية وبعضها البعض.

ثالثا- صياغة إعلان مبادئ جامع للقوى السياسية والثورية الوطنية.

رابعا- أن يتم كل ذلك في إطار مبدا أساسي هو ضرورة العمل الجاد بين قوى الثورة وبعضها البعض.

وفور إعلان هذا البيان انهالت علينا الاتصالات من القوي الثورية والأفراد في الداخل والمصريين في الخارج من مؤتمر فيينا وبروكسل والمجلس الوطني الحر، مؤيدة ومنضمة مما استوجب منا الكثير من الجهد والعمل.

ونرجو بكل مشاعرنا وحبنا لوطننا أن ينقشع هذا الظلام ويتم استعادة حكم الشعب بلا تزييف ولا تزوير.

نظرة مستقبلية

ويثور في نفسي وأنا على وشك الانصراف تساؤل ملؤه الأمل في أن تتخلص مصر من الحكم الشمولي وما يصاحبه من تربح وقمع وفساد. لذلك لم أستطع إنهاء كتابي هذا دون التطرق إلى تقويم موضوعي يخلو من التوتر والانحياز ويتوخى المصلحة المصرية ورفعة مصر وتقدمها ورفاهية المصريين.

محاولة لتقييم الثورة

لم يكن في الحسبان كما قدمنا أن تتحول احتجاجات شباب غير مسيس ضد سطوة شرطة قمعية ترعرعت وحشيتها خلال 60 عاما وأصبحت في حماية الحاكم بدلا من أن تكون في خدمة الشعب، ولم يتوقع أحد من النخب أنه في عيد الشرطة الوطني الذي كنا نحتفل به بقلوبنا إلى ثورة تهدف للإطاحة بشرطة ونظام مبارك.

 ولكن عنف الشرطة وترخصها في قتل المتظاهرين الشبان الأبرياء الذين سعوا إلى مطلب إنساني تلتزم به مصر دوليا في مواثيق حقوق الانسان عطل المسيرة الوطنية نحو التقدم والازدهار بل والرفاهية وهوي بمصر العظيمة إلى فصيلة الدول المتخلفة والفاشلة.

 وباستعراض تطورات الأحداث نشير إلى تسلسل التطورات التي أجهضت الثورة وإرادة التغيير:

  1. بعد استكمال مؤسسات الدولة الشرعية وبموجب 5 استحقاقات انتخابية قال فيها الشعب كلمته، تم انتخاب مجلسي الشعب والشورى ورئيس الجمهورية بدأ المصريون يشعرون بالفخر والعزة، وأن الشعب هو الذي يحكم ولن يسمح لأي فصيل أن يستأثر بالسلطة إذا قصر في رعاية مصلحة الوطن.
  2. ولكنا وقعنا في أخطاء جسيمة نتيجة ضعف الممارسة الديموقراطية لعدة عقود، وفي رأي العبد الضعيف أن ذلك الخلل وقع نتيجة للانتقال المفاجئ للسلطة الذي أسفر عن ثلاثة عوامل أساسية في ضعف سلطات الحكم:

الأول: هو افتقار السلطة الجديدة لكوادر مهيأة بالخبرة اللازمة لممارسة أساليب ومهارات إدارة وشئون الحكم. فقد كان الرئيس مرسي يتحلى بمبادئ القديسين فيعفو ويغفر من يوجه له النقد والسباب، وكان الوزراء والنواب ينهجون منهجا إصلاحيا وليس ثوريا بالقضاء على كل فساد الدولة العميقة بقوة الثورة، بل تركوها تختبئ لتعود للانقضاض على الثورة.

الثاني: هو تغلب فكر التنظيم على الفكر السياسي في تحليل المواقف السياسية، واتخاذ قرارات حاسمة.

الثالث: ترك مؤسسات هامة مثل القضاء والشرطة والجيش دون تطويع للحقائق السياسية الجديدة التزاما بتحقيق أهداف الثورة التي حددها ونطق بها شهداء وثوار برزوا بين الزحام وقاموا بالثورة وسلموها بكثير من الأمل والثقة بالسلطة الجديدة.

الرابع: هو وقوع الحكام الجدد في حبائل خداع الجيش للثوار واستغلال ثورة 25 يناير للتخلص من توريث جمال مبارك للحكم وليس رضوخا لإرادة الشعب.

 وهكذا وكما قدمت فإن العسكر لم يتركوا السلطة يوما واحدا منذ 25 يناير 2011 وحتى وقت كتابة هذه السطور في سبتمبر 2014، فقد برعوا خلال 60 عاما في وسائل خداع الأحزاب والقوى الوطنية ليرضوا بغلالة رقيقة من الديموقراطية، في حين يتولون السلطة الحقيقية.

وهكذا قاموا باحتواء الإخوان المسلمين ومن ذلك بدء الاستفتاء على 18 مادة فقط من الدستور (إن اسعفتني الذاكرة) واستشعرت انحراف المسار فذهبت لأصوت ضد هذه التعديلات المبتسرة ومن يومها بدأت الحقيقة تتكشف أمامنا فلم ينسحب الحكم العسكري في ست شهور بل بقي في السلطة في خفاء إلى أن تسلمها من جديد في 3 يوليو.

فكر الإخوان المسلمين:

لم أنضم يوما لتنظيم الإخوان كما رددت بعض الدوائر نتيجة لموقف مبدئي بعدم الانطواء خلف أنشطة أي حزب لفقرهم جميعا لأصول الممارسة السياسية نتيجة بعدهم عن قواعدهم في الشارع من جهة، وللقمع الذي تمارسه السلطة ضد كل الأحزاب تاركة حزبها المصطنع ينعم وحده بالعمل الحزبي المظهري. ولكني كنت وما زلت أكن احتراما وتقديرا للإخوان، واعتبرتهم دائما قوة خيرة تعمل لصالح الوطن بكل طبقاته، ولكن فكرها بقي حبيسا في شكل تنظيم إسلامي خيّر، بعيد عن الممارسة السياسية.

ومن المهم أن أتحدث عن اتصالاتي مع قيادات الإخوان المسلمين قبل وبعد الثورة، فقبل الثورة كانت علاقاتي جيدة بقيادات كبيرة مع علمهم أنني لا أخصهم بالاتصال وكنا ندير حوارات نتفق فيها أو نختلف ولكنها كانت مفيدة في تكشف حقائق الوضع السياسي.

وعندما أتيح لهم العودة إلى مقراتهم والعمل بها حظيت بعلاقة جيدة مع أعلي قياداتهم التي كانت ودودة ومجاملة ومتواضعة، فكانوا يرحبون بمقابلاتي وتبادل الآراء معهم، ودخلت في حيرة أعاقت تبادل الآراء في كثير من المواقف، ذلك أنني كلما تطرقت إلى موضوع سياسي كانوا يجدون المرجعية في آية قرآنية أو حديث نبوي. ولم يخل الأمر من مجاملات ودية، فقد قبلوا استضافة قياداتهم عندي في لقاءات كانت تضم غالبية زعماء الفصائل السياسية.

ولكني بعد الثورة لم انظر بارتياح إلى علاقة الاخوان بالعسكر فعبرت لهم بصراحة عن مخاوفي من فكر وتحركات المؤسسات العسكرية في دول العالم، ولكن يبدو لي أن التنظيم كان واثقا من سيطرته على السلطة.

 وفي مقابلة هامة مع قيادة كبيرة للإخوان قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية، قصدت أن أشرح ما خرجت به من تجربتي بالجزائر التي تحكمها المؤسسة العسكرية من وراء غلالة من الحكم المـــــــــــــــــدني الديمـوقراطي، وحرص العسكر دائما في بلاد العالم الثالث علي الاحتفاظ بالسلطة من وراء ستار، (وقصصت لقيادة كبيرة منهم حديثي مع عباسي مدني زعيم الجبهة الاسلامية للإنقاذ ونصيحتي له بالتدرج في ممارسة السلطة وتفادي الاصطدام مع العسكر، واقترحت عليهم أن يبدأوا في الانتخابات البرلمانية بترشيح أعضاء الجبهة لربع المقاعد فقط حتى لا يزعجوا العسكر وأن يعملوا علي تكوين كوادر صالحة لممارسة العمل السياسي مع احتفاظهم بالخلفية الدينية، لأنني أري أن فلسفة الإسلام لم تفرق بين التدين والسياسة – علي عكس مما يتردد في بعض دوائر النظم السياسية والجماعات الحزبية الجزائرية. على أن يزيدوا عدد ممثليهم في البرلمان على مدى ثلاث أو أربع دورات انتخابية، حتى تتكون لديهم الخبرة والكوادر والقوة على الانفراد بالحكم ووضع المؤسسة العسكرية في مكانها الصحيح حامية للجزائر، ولم يقتنع الرجل ودخل الانتخابات وفاز بالأغلبية إلا أن هذا استوجب صراعا مع العسكر أدي إلى الانقلاب علي الرئيس الشاذلي بن جديد وإلغاء الانتخابات وفشل التجربة الديموقراطية في الجزائر).

 وشعرت أن هذا الفكر قد انتشر بين بعض القيادات العاقلة في الإخوان المسلمين، فزدت باقتراح ألا يرشحوا رئيسا للجمهورية من بينهم فشعرت باهتمامهم بدراسة اقتراحي، وتبينت بعد ذلك أن فكر التنظيم قد تغلب على حكمة السياسة فرشحوا قيادتين للرئاسة.

وفعلا حدث في مصر ما توقعته في حديثي مع قيادات الإخوان. ومضى مسلسل العسكر في احتواء القوي السياسية وتمييع المواقف، بل سمحوا بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة أسفرت عن فوز الإخوان، دون أدني قلق، وذلك حتى يخرج الإخوان خلاياهم وتنظيمهم من تحت الأرض إلى العلن، وهو ما استدرجوا إليه بالفعل فاتخذوا قصرا كبيرا بالمقطم كمـقر عام، وأعلنوا أسماء قياداتهم وأعضاء مكتب الإرشاد بل ونتيجة التصويت والقرارات التي تتخذ، ولكن دون أن يمسكوا بيدهم سلطات حقيقية، وأخير استكمل مشروعهم بإلغاء كل مظاهر الديموقراطي في شكل حكم عسكري مباشر في 3 يوليو 2013

المستقبل المنظور

يخطئ من يراهن على استمرار الحكم الشمولي في مصر وقدرات أي حاكم فرد في حل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإنهاء خضوعه للقوى المعادية للعرب والإسلام والمستغلة لثروات المنطقة والقضاء على الفساد المتجذر في البيئة المصرية، وأفصل ذلك في عدة معطيات أشير منها إلى ما يلي:

  • أن ذلك لا يتماشى مع عبقرية مكانها وأصالة تاريخها وثراء حضارتها. وعلى من يقول إنها تحكم منذ بداية التاريخ بالفراعنة وإن شعبها عرف باستكانته وولائه للحكام، أن يدركوا أن الفرعون كان ينظر إليه كإله وليس كحاكم فقط، وأن بناة الأهرامات الضخمة من ألوف المصريين لعشرت السنين كانت بوازع ديني أكثر منها كخنوع للحاكم وقبول الذل، فقد كان الفلاح يعيش على بساطته بعيدا عن العوز والفقر والجوع. وتسمع رغباته مثلما قرأنا عن شخصية الفلاح الفصيح في مصر الفرعونية.
  • أن شعب مصر الآن وفي مقدمته الأميون البسطاء؛ بدأوا يوقنون أن فقرهم ليس ناتجا عن فقر بلادهم، بل عن تربح كبرائهم من الحكام ومن يحيط بهم من الفاسدين، وعليه فلن تفيد معهم محاولات خداع شيوخ السلطة لهم بعبارات دينية مثبطة في غير سياقها مثل؛ حسبي الله ونعم الوكيل، وإنهم فقراء في الحياة الدنيا وأن القرآن حث على الصبر وأنهم سيكونون منعمون وأغنياء في الآخرة، وأن الحكام الظالمين سيرقدون في عذاب جهنم.
  • وإذا أردنا التحدث بلغة الدين فليعرف المصريون معنى الآية بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله قد أباح الدفاع عن الدين والروح والعرض والرزق. يجب أن يدرك الحكام الشموليون أن عهدهم قد ولى ولن يعود وإن استمر لعدة سنوات فلن يلبث أن ينهار، أما إرادة الشعب فهي المنتصرة.
  • أن قوة مصر ورفاهيتها ضرورة حتمية للحفاظ على توازن القوى واستقرار المنطقة، وهذا هو التقدير الاستراتيجي لكل معاهد البحث ولن يقبل العالم العربي ولا الدولي ولا دول الجوار ضعف مصر وسقوطها.

5 – إن محاولات تقزيم مصر وحرمانها من مصادر ثرواتها من الماء والطاقة وإحلال دولة أفريقية مثل إثيوبيا أو جنوب أفريقيا أو نيجيريا محكوم عليها بالفشل لأنها تخلوا من مقومات البقاء ولا يعلوا على مكانة وقوة وقدرات مصر وتعاظم إمكانياتها.

إقرأ ايضاٌ

الوسوم

السفير إبراهيم يسري

دبلوماسي مصري، سفير مصر في مدغشقر (1983 – 1987)، مدير الإدارة القانونية والمعاهدات بوزارة الخارجية المصرية (1987 إلي 1990)، سفير مصر في الجزائر (1990 – 1994)

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button