رحلة دبلوماسي ستون عاما في حب مصر1
إهـــــــــــداء
أهدي هذا الكتاب لروح والدي الشريف الشيخ سيد حسين عبد الرحمن السهيلي الأزهري الحاصل على عالمية الأزهر وتلميذ الشيخ محمد عبده والمشارك في العمل الوطني والانتفاضات الشعبية والذي سجنه الإنجليز في ثورة 1919 والذي بكى أرواح شهداء الشرطة بالإسماعيلية في 25 يناير 1952، وشارك في جنازتهم بالزقازيق والذي بقي ثائراً على الفساد في العهد الملكي والذي شهد قبل وفاته بأسبوع ثورة 1952 واستبشر بها ولكنه تنبأ بفشل العسكر في ممارسة السياسة والحكم، وعارضته وقتها ولكني فهمته فقط بعد وفاة عبد الناصر وعلى الأخص بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 رحمه الله واسكنه فسيح جناته.
أوجه هذا الكتاب لكل ثائر مصري يحب بلاده وكل عربي يؤمن بهويته وثقافته ووحدة الشعب العربي، لعله يقدم نموذجا لمواطن بسيط لا سند له يتصدى لأمواج الفساد العالية ويتحدى نفوذها وقوتها مخاطرا بحريته بل بحياته من أجل بلاده.
ولن أنسي هنا من رواد العمل الوطني الذين شاركوني ودافعوا عني من كبار المحامين الأساتذة، د. محمد سليم العوا، والمرحوم د. صلاح صادق وعصام سلطان وعصام الإسلامبولي، ومحمد الدماطي، وجمال تاج الدين وخالد على ومحمد عبد القدوس ويحيى حسين وفاروق عبد القادر وغيرهم.
تقديم
أود في البداية أن اتفق مع القارئ بأنني إنسان يخطئ ويصيب ولست ملاكا ولا نبيا، وإنني أعرف قدري كمواطن بسيط من آحاد الناس يحب بلده وهذا ميل إنساني تجده في كل شعوب الدنيا ولا أتميز به على أحد.
أكتب هذا لكتاب بعيدا عن المنهج الأكاديمي وبطريق الاسترسال في الحديث مقلا في الرجوع لأوراق أو مستندات أو كتب إلا في أضيق الحدود، حتى يجد القارئ مدخلا سهلا يصل مباشرة من نفسي إلى قلبه، وقد حاولت بصعوبة ألا يصنف الكتاب في عداد المذكرات بالمعني المتعارف عليه autobiography وأرجو أن يكلل مسعاي بالتوفيق.
وليس في هذا ما يخرج عن أفكار مواطن من آحاد الناس على أرض مصر، يعيش حياة نمطية مثل مئات الألوف من أمثالي بلا بطولات كبرى أو مناصب سياسية عليا، وبالتالي فليس في هذا الكتاب مكانا لأفكار وآراء وتحليلات علمية معقدة.
ولكن الذي حفزني لتقديم هذا الكتاب لهذا الجيل هو أنني أدركت أنني قضيت زهاء ستين عاما داخل المشهد السياسي والاجتماعي المصري مررت فيها بمنعطفات التحول والتغيير التي مرت بها مصر من العهد الملكي حتى قيام ثورة 25 يناير المبهرة، واقتنعت كأحد المخضرمين أنني أستطيع أن أكون أحد الرواة لهذه الحقبات المتوالية طالما سمح لي بها عمري الذي يقترب من عامه التسعين والأعمار بيد الله.
ولذلك اندفعت إلى تسجيل رؤيتي وتجربتي لهذه الفترة وهكذا أعطيت أولوية خاصة لهذه الصفحات التي كتبتها بسرعة نسبية دون الرجوع إلى وثائق أو أجندات حتى تصدر أقرب ما يكون إلى حدوته بسيطة لهذه الأعوام الستين على أرض مصر المحروسة.
ومع أن هذا الكتاب لا يصنف بأنه مذكرات شخصية، إلا أنني وجدت من المناسب حتما أن أوجز للقارئ بشكل عابر ظروف نشأتي حتى يتابع معي مصداقية مشاعري ويفسر على أساسها ما تصديت له من تحديات جارفة وسبب الجسارة التي واجهت بها تلك التحديات؛ وهو أمر لم أكتسبه من تقاليد قبلية أو أوضاع عائليــة أو ثراء مادي، بل كانت مصر فعلا في خاطري، هي التي تتحدث بلساني وتصرخ بصوتي.
وكل ما أرجوه أن يجد القارئ في هذا الكتاب رحلة متواصلة وغير مملة خلال ستين عاما في مصر من عهد الملك فاروق حتى انهيار نظام مبارك. أما ثورة 25 يناير فقد تنبأت بها وحذرت منها وتوقعتها قبل قيامها وتعبر مقالاتي التي نشرتها الصحف المصرية والعربية عن رؤيتي لتطورات الأمور بعد الثورة إلى سلبيات وإخفاقات سأوجزها في هذا الكتاب ولا أخفي على القارئ إلى جانب الكتب التي نشـــــــــرتها أنني بصدد إصدار كتاب حول حتمية تغيير أسلوب وأهداف إدارة علاقات مصر الخارجية وما يستلزمه ذلك من تغييرات جوهرية في المفاهيم والأساليب والقواعد والقوانين والأجهزة التي تدير هذه العـــــــلاقات. وفي جعبتي إن طال بي العمر أفكار واقتراحات وتحليلات وروايات وقصص أنوي كتابتها لهذا الجيل الذي تسلم منا الراية لتحرير مصر من الطغيان الشمولي.
تلك هي خطة عملي إن كتب الله لي مزيدا من العمر، أكتب فقط ولا أسعى لمنصب أو مكسب، وأسعد بقرائي من شباب وثوار هذا الجيل الثائر، وأشارك في رسم علامات الطريق نحو بداية الاستقرار والرفاهية لشعب مصر وللأمة العربية والإسلامية، وللسلام والتعاون بين جميع البشر وللحب والخير.
لقد قصدت أن أقدم لقارئ هذا الكتاب خلفية موجزة جدا للمعالم البارزة في مسيرة طويلة تمثل أهم المراحل في التاريخ الحديث لهذا الوطن؛ أكثر مما ترويه عن مشوار العمر وظروف النشأة والتكوين والمعيشة صعبها ومرهـا وحلوها، واكتفي هنا بإيضاح جانبين:
الأول: الحلم الكبير
كانت طفولتي بوجه عام تذخر بالآمال العريضة والخيال الواسع، وربما كان السبب في ذلك التلقين المكثف والمتواصل من والدي على إعلاء الدين والمبادئ ومكارم الأخلاق والقصص الكثيرة التي حكاها لي في طفولتي عن بطولة وتضحيات المؤمنين بها.
وبهذه الخلفية الصافية التي تكرس الحب والورع ومكارم الأخلاق، ألح عليّ حلم غريب ولكنه قوي ومؤثر صاحبني دائما ولم أستطع أن اتخلص منه وهو أن أنصر الوطن والدين وكل مظلوم في العالم، وعرفت أين أنا عندما قرأت في مرحلة الشباب عن المدينة الفاضلة بين الانبهار والنقد، وهكذا شكلت شخصيتي حلمها وسعيت دائما أن أحقق بعضا من جوانبها وفشلت كثيرا ولكن لم يغير الإحباط من توجهاتي. وقد عانيت كثيرا وخسرت كثيرا نتيجة تمسكي بهذا النهج ولكن لم تكن لي القدرة أبدا على أن أفقد إيماني به أو أغير فيه أو أعدله.
وهكذا مضيت حاملا حلمي الكبير وأخذت بالسليقة أمنطق الأحكــام قبل أن أتقبلها واعتنقها، وفي هذا السن الصغير أيام الصبا دفعتني معرفتي بشئون الدين تربية ودراسة إلى التسامح أكثر من التعصب ومن ذلك تجاوبت كثيرا في علاقاتي مع أصدقائي الأقباط ومنهم أعز الأصدقاء مثل الدكتور عوض جرجس الأستاذ بجامعة تورنتو الآن وشوكت حبيب حنا ونصر الله حنا والمهندس دوس.
وهكذا تأصلت في نفسي النزعة الوسطية وضرورة إعمال العقل يصاحبهما النهم الشديد في القراءة.
ثانيا: الانشغال بقضايا الشأن العام:
وجدت نفسي رغم صغر سني متابعا ومهتما بأمور الشأن العــــــام، وكان الوضع السياسي في مصر يعاني من تدهور شديد ووصل فساد حاشية الملك إلى درجة خطيرة، وكان هناك شيء من الحرية في الصحافة والممارسة السياسية، وفي هذا الجو قمت بإصدار جريدة ورقية اسمها الجهاد أوزع أعدادها في داخل مدرسة الزقازيق الثانوية وذلك على نفقتي الخاصة المتواضعة صدر منها ثلاثة أعداد وكان ثمن العدد قرش صاغ واحد، ولكني لم أحصل إلا القليل رغم نفاذ الأعداد فأجبرتني الخسارة على التوقف، كما هاجمت تعيين حافظ عفيفي رئيسا للديوان الملكي وناديت لاعتصام مفتوح استمر يوما بليلة في المدرسة، هذا فضلا عن اشتراكي في المظاهرات الاحتجاجية التي تسير في شوارع المدينة؛ وأذكر منها مظاهرة قامت بعد أن نشرت صحيفة مصر الفتاة على صفحتين بعنوان رعاياك يا مولاي.
واستمرت رحلتي الدبلوماسية نحو أربعين عاما طوفت العالم بأسره؛ بما فيها بلاد لم نسمع عنها مثل منغوليا والكوريتين حيث لم يكن لنا تمثيل دبلوماسي معها وجزر جميلة مثل لاس بالماس وجامايكا وهاواي وفيجي.
وسأحاول في السطور التالية أن أقدم عرضا موجزا لمسيرتي الدبلوماسية والوطنية من يوم التحاقي بالسلك الدبلوماسي بدرجة ملحق سنة 1957 حتى تقاعدي كسفير من الدرجة الممتازة سنة 1995 وهي أعلى الدرجات الدبلوماسية في النظام المصري. وأستعرض بعد هذا اسهاماتي المتواضعة في العمل الوطني بعد التقاعد.
أما مسيرتي الدبلوماسية فهي قليلة المحطات تتمثل في إدارتين فقط بالديوان العام هما الإدارة العامة للأبحاث والإدارة القــــــــانونية والمعاهدات الدوليـــة (وقد عزفت عن الالتحاق بأي مكتب وزاري أو رئاسي)، وخمس سفارات هي بغداد، وبوخارست، ونيودلهي، وتناناريف (مدغشقر) والجزائر في حين خدم زملائي في أضعاف هذا العدد بإدارات الوزارة وسفاراتنا بالخارج.
ديوان الوزارة بالقاهرة ـ العمل والتحديات
كان التحاقي بالسلك الدبلوماسي بدرجة ملحق أهم الأحداث في فترة صباي مضحيا بمهنتي التي تطلعت إليها من أيام الصبا خاصة رغم إخطاري بالتعيين بالنيابة العامة وفقا لدرجاتي في امتحان الليسانس ولكن أضواء الدبلوماسية أغرتني ففضلتها، ولم يكن التعيين بالسلك الدبلوماسي بالأمر السهل ولا الممكن بالنسبة لشاب مصري ريفي لا يعيش بالقاهرة وليس في أسرته وزير ولا سفير ولا لواء وبدون واسطة، وقد تم ذلك في عهد عبد الناصر بعد القضاء على الاقطاع وإلغاء الرتب وتفكيك الارستقراطية، غير أنني اكتشفت أن غالبية زملاء دفعتي كانوا من هذه الطبقات.
اقتصر عملي بالديوان العام على إدارتين فقط كنت أسافر للعمل بسفاراتنا بالخارج ثم أعود إليهما وعلى الأخص الإدارة القانونية والمعاهدات.
العمل بالإدارة العامة للأبحاث
وكانت هذه أول خطوة لي بالسلك الدبلوماسي وكذلك أولى المحطات الصعبة لخدمتي بوزارة الخارجية ولم أكن أعرف وقتها أن كل خدمتي بالسلك في الداخل والخارج ستكون محطات صعبة ولكني كنت راضيا مقبلا مقتنعا بأنني أخدم الوطن والأمة.
وفي هذه الإدارة كان العمل يستمر يوميا إلى ساعة متأخرة من الليل، وحيث لا تعرف إجازة نهاية الأسبوع ولا الأعياد، وحيث يحاسب العضو حسابا عسيرا عن أي خطا يصدر منه، وحيث شهدنا تقارير أمنية عما يقوله بعض الأعضاء في الأماكن العامة أو ما يأتونه من تصرفات، وكانت السمة البارزة هي إعداد وتجميع وتحليل المعلومات يوميا في سرعة ملحوظة وإرسالها يوميا أو ساعة بساعة عند اللزوم إلى الأجهزة المختصة في الدولة، وكان عملنا منفصل تماما عن عمل باقي إدارات الوزارة.
وقد أقيمت هذه الإدارة بعد ثورة 1952 (وألغيت بعد ذلك) بفكر مخابراتي أسميت إدارة الأبحاث وشكلت بعد الثورة لتكون حلقة وصل بين الرئاسة والمخابرات وبين إدارات الخارجية ووزارات وأجهزة الدولة علاوة على سفاراتنا بالخارج، وكانت تحاط بإجراءات أمنية مشددة تفوق أي إدارة بالوزارة، وكنا نعامل ونتعامل ككيان تابع للمخابرات العامة التي أنشأها زكريا محيي الدين، فلم يكن لأي زميل من الدبلوماسيين بالوزارة من أي درجة دخول مكاتب الإدارة، وكانت المقابلات بين الزملاء الدبلوماسيين بالوزارة تتم في صالون استقبال خاص.
وكان العمل بهذه الإدارة أمرا مشهودا ومحوريا ترك أثرا كبيرا في نفسي ووضعني في قالب يتحمل ويقدر صعوبات ومسئوليات الوظيفة الدبلوماسية، قبل بريقها وميزاتها.
ومضي يوم العمل الأول تعاملت فيه مع مسائل مثيرة تحوي الكثير من الأسرار التي لا تطرح على العامة، وقد أثارني ذلك كثيرا وصنفته في نفسي بأن الدولة تثـــــق في شخصي، وعندما اقتربت الساعة الثانية بعد الظهر بدأت استعد للانصراف غير أنني لم الحظ أي علامات لانتهاء اليوم، وانتهى الأمر إلي أنني غادرت المكتب في الواحدة صباحا وتناولت وجبات خفيفة هذه الأثناء، وعدت لأجد أسرتي في منتهى القلق ولم يصدقوا أبدا أنني قضيت كل هذا الوقت في الشغل لأن كل مكاتب الحكومة تغلق أبوابها في الثانية بعد الظهر، ولكن المفاجآت توالت فلا توجد عطلات أيام الجمعة أو الأعياد، ونسيت مواعيد الانصراف والإجازات طوال مشواري الدبلومـــاسي، بل إنني تقبلت قطع إجازة شهر العسل بعد يوم واحد لحضور مؤتمر للجامعة العربية بفندق فلسطين.
بعد مرور عدة أسابيع عرف رؤسائي عني قدرات أعلت من شأني عندهم، وكون لي ذلك رصيدا داخل الإدارة يساندني بدلا من الواسطة والصلة بكبار الرجال في دوائر صنع القرار، صحيح أنني ظفرت بدخول السلك السياسي بدون واسطة، ولكني كنت أشعر بنوع من الغربة في هذا الوسط الذي يتسيده أولاد الذوات وأبناء العائلات الكبيرة رغم قيام ثورة 23 يوليو 1952، وأحسست أنني عاري الظهر بالنسبة لغالبية الزملاء الذين كانوا يستندون إلى أقارب أو معارف، والذين كانوا يتميزون عني بطريقة الملبس وأناقته وبعضوية النوادي الاجتماعية العريقة مثل الجزيرة وهليوبوليس والمعادي، كانت طريقة ملبسي عادية ولم أكن قد ألممت ببعض طقوس اللبس مثل منديل الجيب الأيسر الأعلى، ولم أعرف أسلوب مواءمة لون وشكل وتفصيلة البدلة ولا العلاقة بين لون الجورب ولون ربطة العنق أو منديل الجيب، أما الحذاء فلم أفطن إلى تغييره لونا وتفصيلا مع ألوان البدل وحسب المناسبات، بينما كنت حريصا على تلميعه بانتظام إلا أنني كنت استعمل الحذاء لأطول فترة ممكنة إلى أن يغلب عليه الوهن والتشقق، وتنبهت إلى هذه الأمور التي كانت تعتبر من النواقص، وأخذت في تفهمها ودراستها ومحاكاتها وصممت أن أتقنها وأبرع فيها واستغرق ذلك مني سنوات من التجربة والخطأ.
وكانت هذه الإدارة الخفية تشرف على كل الاتصالات الخارجية التي يقوم بها الوزراء وكبار المسئولين، وتعمل على نهج مخابراتي، وكنا على اتصال دائم ويومي بالمخابرات العامة المجموعة 52 الخاصة بالأمن والمجموعة عشرة الخاصة بالمعلومات وبعد ذلك تواصلنا مع هيئات جديدة كهيئة الأمن القومي وهيئة الخدمة السرية وكان ذلك حدثا مذهلا لأي مواطن عادي أو أي قانوني مثلي يقدس القانون الذي تباعدت أولويات تطبيقه.
ولعل أكبر الفوائد والميزات التي حصلت عليها من التحاقي بهذه الوزارة هي أنني طوفت العالم كله في مهمات حمل البريد الدبلوماسي السري التي انحصرت في أعضاء الإدارة دون غيرها من الوزارات، وقد استفدت كثيرا من هذه الرحلات في تعاظم المعرفة السياسية وتراكم انطباعاتي عن فكر وعادات شعوب الأرض ومعالم حضارتها.
ومن هنا وفي إدارة الأبحاث بدأت أولى محطات رحلتي الدبلوماسية الصعبة التي اطلعت فيها وأنا في مقتبل العمر بالكثير مما كان يدور في كواليس السلطة وصراعاتها.
و كان التحاقي بالإدارة العامة للأبحاث كما قدمت – بداية قوية مبهرة في طريق مشواري الدبلوماسي الطويل، وكانت الإدارة تضم إدارات أو أقسام فرعية هي المعلومات ومهمتها تلقي المعلومات والتقارير التي تصل الوزارة من سفاراتنا ومصادرنا ومن المصادر الصحفية وتحليلها وإيجازها في تقرير يومي يوزع على الرئاسة وأجهزة المخابرات وكبار شخصيات الدولة، والأمن وتتناول كل شئون الأمن في الخارج وأمن الأفراد ومتابعة عمليات المخابرات وتوفير الغطاء الدبلوماسي لأعضاء المخابرات الذين يلحقون بسفاراتنا وقنصلياتنا ومكاتبنا بالخارج وتأمين وسائل الاتصال بهم وقسم الاتصالات الذي يشرف على اتصالات الوزراء وجميع أجهزة الدولة بجهات أو دول أجنبية، أما القسم الرابع فهو قسم الرمز الذي يرسل ويستقبل ويحل البرقيات الرمزية الصادرة للسفارات والواردة منها ويقوم بتوزيعها على الفور مع توصية بتصرف معين إذا لزم الأمر، وانتهى الأمر بضم إدارة التفتيش الدبلوماسي التي تختص بتعيين ونقل وندب وترقية وتأديب الدبلوماسيين.
وبذلك فرضت هذه الإدارة الوليدة سيطرتها على كل إدارات ومكاتب الوزارة، وحازت على ثقة الرئاسة وكانت بعيدة عن نفوذ وزير الخارجية وخاضعة مباشرة لرئاسة الجمهورية ومتعاونة مع أجهزة المخابرات المصرية. التي كانت تضم أقسام المعلومات والأمن والرمز والاتصالات.
وكانت إدارة لها طبيعة خاصة، فهي تطبق أعلى إجراءات الأمن والسرية، كما كانت تنفذ سياسة المعرفة على قدر الحاجة بحيث لا أعرف شيئا عن مهام زميلي أو ما هو مكلف به. وكان أول يوم عمل غريبا على موظفي الحكومة فقد كنا نعمل في مجمل الأيام الي ساعة متأخرة من الليل.
عملت بهذه الإدارة الهامة أربع سنوات وأكسبني العمل بها خبرات متعمقة في أساليب إدارة العلاقات الدولية والاستخبارية ورسم خطوط السياسة المصرية الخارجية وذلك بالاطلاع دقيقة بدقيقة على حقائق الأحداث والتطورات في العلاقات الدولية، والأحوال الأفريقية والعربية والإسلامية ودول عدم الانحياز وعلى دقائق وحقائق علاقات أجهزة الدولة وأسلوب تفكير وتحرك دوائر صنع القرار وصعود وهبوط كبار رجال الدولة.
وكان ذهني يقابل هذه القرارات والتحركات والمناورات بمحاولة سبر أغوارها واستخلاص أسبابها ونتائجها ولم أكن أوافق أو أتقبل بعضها وكنت لا أخفي ذلك عن رؤسائي فكان بعضهم يخاطر بإبلاغها والآخرون يتجاهلونها تماما بحجة أنها مش شغلنا. وكانت لي على صغر سني إنجازات هامة أذكر منها مقترحاتي لتوثيق الصلة بين عبد الناصر وديجول بعيدا عن التوتر الذي صاحب الموقف المصري المناوئ لسياسة فرنسا بالجزائر حيث حرص رئيسي على إرسال مذكرتي كما هي لمكتب الرئيس دون ذكــــر اسمي بالطبع.
ولم تكن صعوبة العمل بالإدارة راجعة فقط إلى كثرة العمل وحساسيته، ولكن الأمر لم يخل من نوع من الصراعات التي أقحمت فيها مع بعض الأعضاء الارستقراطيين وأيضا ممن كانت قدراتهم محدودة، لم أبدأ أيا منها ولكني قمعتها بكل عزم وكان سندي عند رؤسائي هو نوعية عملي.
وفي حين كنت منهكا بالعمل الذي أحببته مع مواصلة كتابة رسالة الدكتوراه، فوجئت بصدور قرار بنقلي للعمل بسفارتنا في عمان، وقدمت اعتذارا عن السفر مضحيا بالفارق الكبير في المرتب والمزايا وذلك لأني كنت وصيا على إخوتي، ووافق الدكتور مراد غالب وكان آنذاك وكيلا للوزارة وتم إلغاء النقل، ولم تمض عدة شهور حتى صدر قرار جديد بنقلي للعمل في بغداد، وتم ذلك بصورة مباغته كنوع من العقوبة من مدير السلك الذي اعتبر اعتذاري عن عمان عن غير طريقه تحديا لسلطته.
ووجدت الاعتذار مرة أخري محرجا حيث تسبب انفصال سوريا عن مصر أن خلت السفارة من الدبلوماسيين المصريين، وعندها عارض الأستاذ الدكتور حامد سلطان رئيس قسم القانون الدولي بجامعة القاهرة والمشرف على رسالة الدكتوراه التي كنت أعدها عن تطور دور الجمعية العامة للأمم المتحدة وخاصة عندما كان داج همرشولد أمينا عاما لها، عارض في النقل وقال إنه يستطيع إلغاء النقل بالاتصال بنائب الوزير حسين ذو الفقار صبري أو وكيل الوزارة حسين عزيز، ولكني خجلت أن أخذل بلدي وسط المأساة التي كنا نعيشها بعد انهيار الوحدة والإحباط الذي ملأ نفوسنا، فقفلت متوجها إلي بغداد كـــــأول (بوست) لي في الخارج. أما ما اكتسبته من خبرات وما فعلته من إنجازات فسيأتي ذكره لاحقا.