زيارة السيسي إلى انقرة.. منظور تركي
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
مقدمة:
تُوّجت مرحلة انتهاء فتور العلاقات بين أنقرة والقاهرة، بزيارة عبد الفتاح السيسي إلى تركيا ولقائه بنظيره التركي رجب طيب أردوغان، في الرابع من سبتمبر/أيلول 2024؛ وهي الزيارة التي حملت طابعاً اتسم بالأهمية كونها الأولى منذ تولي السيسي السلطة في صيف عام 2014.
وكانت العلاقات التركية-المصرية قد شهدت توتراً عقب الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي في انقلاب عسكري قاده وزير الدفاع آنذاك الجنرال عبد الفتاح السيسي في الثالث من يوليو/تموز عام 2013، الأمر الذي تسبب في تدهور العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة والقاهرة، أسفر عن سحب السفراء وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين.
غير أن التغيّر في الديناميكيات الدولية، والمناخ الإقليمي السائد في وقت تشهد في المنطقة تحديات عديدة، أعطى مؤشرات مهمة، مهدت الطريق أمام إعادة تقييم العلاقات والمضي قدماً في مسار التطبيع الدبلوماسي وتعزيز التعاون الاستراتيجي بين حكومتي أردوغان والسيسي.
رحبت تركيا، التي تسعى إلى إعادة فتح بواباتها الدبلوماسية أمام جيرانها، عبر عدة مستويات بالزيارة التي عدها مراقبون أتراك مؤشرا هاماً حول مستقبل العلاقات بين البلدين.
في هذه الورقة سوف نرصد ردود الفعل التركية على زيارة السيسي لتركيا، مع التركيز على وسائل الإعلام المكتوبة باللغة التركية، وسنحاول رصد ما إذا كان هناك مكاسب مهمة من الزيارة، وسنستقرئ الرؤية التركية لمستقبل العلاقات مع القاهرة.
ردود الفعل في الداخل التركي
رحب الإعلام التركي بمختلف توجهاته السياسية، بزيارة السيسي إلى أنقرة، واعتبر محللون سياسيون هذا الزيارة بمثابة فتح آفاق تعاون جديدة وهامة بين البلدين اللذين يجمع بينهما تاريخ وقيم وحضارة مشتركة. فيما عدها آخرون خطوة متأخرة لكنها على الطريق الصحيح.
إلا أن اللافت في تغطية وسائل الإعلام التابعة لأحزاب المعارضة التركية، استخدام زيارة السيسي، كورقة سياسية موجهة إلى الداخل التركي، حيث اتخذت من زيارة الرئيس المصري، فرصة لتذكير الرئيس أردوغان بمواقفه السابقة، ورفضه اللقاء بمن وصفه يوماً بـ “القاتل” و “الانقلابي”، وعد رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام اوغلو موقف أردوغان تأكيداً جديداً على الطريقة التي يغيّر بها قراراته. ([1]) وقال إمام اوغلو: ” كان اسمي (السيسي) في عام 2019، والآن أصبح السيسي ينادى بأخي، وأنا في انتظار أن يتصل بي أيضاً (يقصد أردوغان)” ([2]) ويعود تعليق إمام أوغلو إلى خطاب انتخابي ألقاه أردوغان خلال الحملة الانتخابية للمرشح السابق لرئاسة بلدية إسطنبول بن علي يلدرم في انتخابات البلدية عام 2019، حيث قال للجماهير المحتشدة إنهم إما سيصوتون لـ “السيسي” وقصد هنا إمام اوغلو أو سيصوتون ليلدرم.
وعلى الصعيد الشعبي، تضمنت ردود الفعل الشعبية التي رصدناها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التذكير بأحداث الانقلاب العسكري في 2013 وما تلاها من أحداث هزت الشارع المصري، كنوع من التضامن مع الضحايا، كما تم استثمار الزيارة سياسياً من قبل شخصيات سياسية رفيعة المستوى، لها وزن في الشارع التركي. انظر مثلا هنا و هنا.
وكتب رئيس الوزراء التركي الأسبق ورئيس حزب المستقبل المعارض أحمد داوود أوغلو على صفحته عبر منصة إكس، تعليقا على المؤتمر الصحفي الذي جمع بين السيسي وأردوغان في العاصمة أنقرة، معتبراً أنه كان من المتوقع من زعيمي أكبر دولتين في المنطقة، لهما علاقة مباشرة بفلسطين أن يوجها رسائل قوية تحمل خطوات ملموسة ضد الإبادة الجماعية التي تحدث في قطاع غزة. لكن داوود أوغلو لم يتطرق في معرض حديثه عن الزيارة إلا من خلال الشق الفلسطيني، دون التعريج على ما يتعلق بالعلاقات بين أنقرة والقاهرة، رغم أن الأخير كان من الشخصيات المفصلية في الحكومة التركية في الفترة التي شهدت توتراً دبلوماسياً في العلاقات بين البلدين.
أما أستاذ العلاقات الدولية بجامعة إسطنبول أحمد أويصال، فقد اعتبر أن عودة العلاقات التركية مع مصر، هو ضمان لاستقرار المنطقة، خاصة مع تأزم الأوضاع في غزة وليبيا والسودان ومسألة غاز شرقي المتوسط. وعرّج أويصال إلى الفرق بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي، رداً على المقاربات التي تتوقع سيناريو مشابه لعودة العلاقات بين أنقرة ودمشق. وقال إن الأسد هو ممثل لنظام أقلية قام بتشتيت شعبه، ولا يستطيع السيطرة على نصف أراضيه، ويعيش بدعم خارجي، أما السيسي فهو حاكم دولة مستقلة يصل عدد سكانها إلى 100 مليون نسمة. وأضاف أن الأسد لا يملك ما يقدمه إلى تركيا، بعكس مصر التي تجمعها مع تركيا مصالح مشتركة.
الداعية التركي المعروف أحمد محمود أونلو الشهير بـ”جبيلي أحمد خوجة”، قال إنه سعيد للغاية بلقاء أردوغان والسيسي، مضيفاً أن مصلحة البلد (تركيا) على المحك. ([3])
أما الكاتب الصحفي صالح تونا، فقد خصص مقالاً للرد على توظيف المعارضة التركية لزيارة السيسي إلى أنقرة، من أجل أن تظهر ازدواجية الحكومة التركية فيما يتعلق بموقفها من الانقلاب واستقبال السيسي، حيث كتب في جريدة صباح التركية قائلا إن “السياسة الخارجية لا يمكن أن تكون مجردة من المبادئ، لكنها لا تقبل الجمود أيضاً”، وأضاف مستشهداً بأن مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال اتاتورك أقام علاقات ودية مع بريطانيا رغم انتقاده الشديد لرئيس الوزراء البريطاني آنذاك لويد جورج، كما قال عن فرنسا التي اعتبرها دولة محتلة بعد معاهدة أنقرة إنها مرشدة للإنسانية جمعاء، وتساءل كيف أصبح مصطفى كمال فيما بعد صديقاً لفينيزيلوس رئيس وزراء اليونان في تلك الحقبة الذي كان عدواً لدوداً له. ([4])
أما الباحث محمد أمين يلدرم فقد كتب قائلا: ” القاتل قاتل، ومدبر الانقلاب هو مدبر انقلاب؛ لن يغير أي موقف هذه الحقيقة”.
شفق جوكتورك، السفير السابق بالقاهرة، الذي خدم في وزارة الخارجية لأكثر من 40 عاماً، قال في حوار مع صحيفة “فكر” إن ” تركيا ومصر هما أكبر دولتين في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. كلا البلدين يوحدان قارتين. ومن الطبيعي أن تكون هناك علاقة تنافسية بينهما من وقت لآخر. ومع ذلك، عندما ننظر إلى اتجاهات السياسة الخارجية لتركيا ومصر، وكذلك مصالحهما الاقتصادية والعلاقات بين بلديهما، فمن الصعب القول بأن هناك منافسة استراتيجية بينهما. بل على العكس من ذلك، فإن البلدين يكملان بعضهما البعض ويبدو أنهما يتمتعان بصفات أكثر تكاملاً.”
واعتبر السفير السابق أن مذكرات التعاون التي وقعت بين القاهرة وأنقرة خلال زيارة السيسي ليست سوى “بيان حسن نية” ولا تأخذ صفة المعاهدة الملزمة. وأضاف “وبهذا لا يدخل الطرفان في التزام ملموس. بشكل عام، يحتوي المحضر على اتفاقيات التنفيذ والتفاصيل. ويمكن الاطلاع على هذه التفاصيل بين وزارات البلدين. لذلك فهي بمثابة بيان بالرغبة في إيصال العلاقات إلى نقطة أفضل”. ([5])
ومن خلال بحثنا في عدد من الحسابات الناشطة في المجال السياسي في تركيا، لفت نظرنا عزوف العديد من الشخصيات عن التعليق على حدث زيارة السيسي إلى أنقرة، مما يبعث بعدة رسائل أهمها أن هذه الفئات ترى في عودة العلاقات مع مصر نوع من الضرورة الاستراتيجية التي يضطلع بها الساسة في الحكومة التركية، فيما يبرز الصمت وعدم الترحيب كنوع من الرفض المبطن لهذه الزيارة استنادا على موقف شريحة واسعة من الشعب التركي الرافضة لانقلاب 2013، مع الأخذ بعين الاعتبار حساسية المجتمع التركي لكل ما يتعلق بالانقلابات العسكرية.
عامان من المناورات الدبلوماسية
شكلت الصورة التي جمعت كلاً من الزعيمين التركي والمصري في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022 على هامش لقاء رعته الدوحة، ضمن بطولة كأس العالم المقام في قطر، بداية فعليّة لمسار تطبيع العلاقات التركية المصرية. سبق ذلك عدة جولات تشاورية، كان من بينها أكثر من جولة محادثات استكشافية في مايو/أيار وسبتمبر/أيلول عام 2021. كما تم عقد اجتماع نظمته وزارة التجارة التركية في القاهرة بين رجال أعمال من البلدين في أغسطس/آب عام 2022. ([6])
وفي يوليو/تموز عام 2023 أعلنت تركيا ومصر، في بيان مشترك، رفع العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى السفراء. فيما التقى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الرئيس السيسي في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته.
وكانت الخطوة الأكبر هي في زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى القاهرة في الرابع عشر من فبراير/شباط 2024 والتي كانت بمثابة تجاوز عتبة مهمة في العلاقات بين البلدين، بعد قطيعة دامت نحو عشر سنوات، القمة التي وصفتها حينها وسائل إعلام تركية ومصرية ويونانية بــ “القمة التاريخية”([7])
زيارة بتوقيت المتغيرات الإقليمية
تقول آراء تركية إن كل من أنقرة والقاهرة أدركتا من منظور استراتيجي أن تباين النهج السياسي في التعامل مع الملفات الإقليمية، لم يتح لهما فرصة العمل المشترك للتأثير في المناطق الساخنة إقليمياً، في ظل تعدد أزمات الساحة الدولية، الأمر الذي ساهم في إدخال المنطقة عموما في عهد من الفوضى. ([8])
هذا الرأي الذي يؤكده العديد من المحللين الأتراك، في معرض حديثهم عن العلاقات التركية المصرية، التي تتخذ زخماً تاريخياً واستراتيجياً هاماً لكلا الطرفين، خاصة فيما يتعلق باستقرار المنطقة، على اعتبار مصر من أقرب الدول العربية والإسلامية إلى تركيا، استناداً إلى روابط عديدة ممتدة عبر التاريخ.
وتتمتع العلاقات التركية المصرية ببنية متعددة الأبعاد، خاصة فيما يتعلق بالديناميكيات الإقليمية، إذ أن العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية بين البلدين، لديها القدرة على التأثير بعمق في التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط بالإضافة إلى إفريقيا.
كما أصبح هذا التقارب ممكناً بفضل التغيير في السياسة الخارجية مدفوعاً بالديناميكيات الإقليمية المتغيرة والضغوط الداخلية، وخاصة الاقتصاد.
ويشكل التقارب مع مصر بالنسبة لتركيا، جزءاً من استراتيجية شاملة، للتطبيع مع دول الإقليم، بعد صراع محاور استمر لسنوات مع المنافسين الإقليميين، كما جرى مع الرياض وأبو ظبي وأخيرا مصر.
وتأتي زيارة السيسي إلى تركيا، ضمن إطار إرادة مشتركة دفعت بالبلدين نحو محاولة جادة لتصفير المشكلات، وإعادة بناء العلاقات فيما بينهما بما يخدم التوازنات الخاصة بكلتا الدولتين، في سياق المنفعة المتبادلة. إلا أن السؤال المطروح حول فرص صمود هذا التقارب بين القاهرة وأنقرة مع الأخذ بالاعتبار وجهات النظر المختلفة من بعض الملفات الإقليمية التي تجمع بين البلدين، إذا ما تعارضت مصلحة كل منهما.
وفي نطاق هذا اللقاء تم التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم بين البلدين في 17 مجالا مختلفا مثل التجارة والدفاع والطاقة، والصحة، والتعليم، والبيئة. كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “إن تركيا تريد توسيع تعاونها مع مصر نحو مجالات جديدة”. وفي هذا السياق، أعطى أردوغان بشكل خاص الغاز الطبيعي والطاقة النووية كأمثلة. ويظهر هذان المجالان الاستراتيجيان في الواقع أن البلدين يمكنهما اتباع استراتيجيات مشتركة في نهجهما تجاه موارد الطاقة في شرقي البحر الأبيض المتوسط.
ومن الأهداف الأخرى للزيارة تعزيز التفاعل والتنسيق بين البلدين في تقديم رؤية مشتركة للسياسة الخارجية في الأزمات الإقليمية والعالمية. ([9])
المكاسب المحققة والمصالح المشتركة
اقتصادياً
شهدت الاستثمارات التركية في مصر نموا كبيرا، منذ بدء تطبيع العلاقات عام 2021. وبحلول أوائل عام 2024، ارتفع عدد الشركات التركية العاملة في السوق المصري إلى 720 شركة. ووصلت الاستثمارات التركية في مصر إلى ما يقرب من 2.5 مليار دولار في فبراير 2024. ومن المتوقع أن يرتفع هذا المعدل إلى 3 مليارات دولار بنهاية العام. كما بدأت المنطقة الصناعية التركية في مصر في التوسع بسرعة مع تطبيع العلاقات. ولهذا السبب، أصبحت مصر أكثر جاذبية للمنتجين الأتراك بسبب انخفاض تكلفة الإنتاج والإعفاء الجمركي للصادرات إلى العديد من البلدان. وتعد رغبة السيسي في أن تصبح مصر مركزاً إنتاجياً للصادرات الإقليمية التركية تفصيلاً مهماً في هذا الصدد. وسينصب تركيز القاهرة على زيادة القدرات الإنتاجية للاستثمارات التركية في مصر ومواصلة توطين الإنتاج في مصر لتوسيع الصادرات ليس فقط إلى السوق المصرية، ولكن أيضاً إلى أفريقيا ومناطق أخرى. وهي رؤية متوافقة مع الرؤية التركية. ([10])
استراتيجياً
استراتيجياً، هناك تفاؤل حذر يلف التقارب التركي المصري، ففي حين أن الوصول إلى انسجام كامل في بعض الملفات أمر ليس بالسهل، كما الحال في الملف الليبي، تتقاطع مصالح كل من أنقرة والقاهرة في شرقي المتوسط (سنتحدث عنه تفصيلياً)، والسودان الذي يعيش أزمة إنسانية كبيرة بسبب الاشتباكات بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع منذ 17 شهرا؛ ويضفي التقارب نوعاً من المساعدة بين البلدين لموازنة التهديدات الاستراتيجية في إفريقيا خاصة في مسألة الصومال وأثيوبيا. جدير بالذكر في هذا الصدد، أن تركيا كانت قد أطلقت في الأول من يوليو/تموز “عملية أنقرة” لتحسين العلاقات بين إثيوبيا والصومال. فيما قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إن هدف تركيا هو القضاء على المخاوف القائمة بين الأطراف وحل المشكلات لصالح المنطقة بأكملها. وذكر في معرض حديثه أن مصر هي أحد أهم الشركاء الإقليميين الذين يتم التشاور معهم في هذا الصدد.
وتأتي “عملية أنقرة” في إطار جهود تركيا لزيادة نفوذها الدبلوماسي في القرن الأفريقي ومنع الصراعات في المنطقة. وتندرج هذه المبادرة التركية أيضاً في إطار الجهود الدولية لضمان الاستقرار في حوض البحر الأحمر. وتضع تركيا نفسها كطرف فاعل لتحقيق التوازن في الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة من خلال المساهمة في حل النزاعات بين إثيوبيا والصومال.
وتستفيد القاهرة في هذا الإطار من التحركات التركية الهادفة إلى رأب الصدع في القرن الإفريقي. وينتظر الصومال وصول عشرة آلاف جندي مصري إلى أراضيه نصفهم سيكون تحت تصرف بعثة الاتحاد الأفريقي المعنية بحفظ الأمن والاستقرار، فيما سيتمركز النصف الآخر قريباً من الحدود الإثيوبية. فيما تتواجد تركيا عسكرياً في الصومال بفضل القاعدة العسكرية التركية، كما وقعت كل من أنقرة ومقديشو اتفاقية تمكن القوات التركية من مدّ مظلة الحماية على الأراضي والمياه الصومالية، ومنح الشركات التركية تراخيص التنقيب عن الثروة المعدنية في المياه الاقتصادية للصومال. ([11])
الأزمة الليبية
تُعد الأزمة الليبية واحدة من أبرز وأهم مجالات التنافس الإقليمي بين أنقرة والقاهرة. حيث تتشكل مواقف البلدين من خلال المصالح الاستراتيجية لكل منهما، وحضور الجهات الفاعلة الأخرى في الملف الليبي كالإمارات العربية المتحدة وروسيا، ضمن أجواء من الانقسامات السياسية تشهدها الساحة الليبية منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في 2011.
من جهة، دعمت أنقرة حكومة الوفاق الليبي المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في ليبيا سياسياً وعسكرياً، وأصبح هذا الدعم أكثر وضوحاً بعد توقيع اتفاقية التعاون الأمني والعسكري بين الجهتين في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019 ([12]) واتفاقية تحديد الحدود البحرية في البحر الأبيض المتوسط. كما تتمركز قوات تركية منذ عام 2020 في قواعد جوية وبحرية غربي ليبيا عقب نجاحها في إخراج قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر من جنوبي طرابلس. إلى جانب ذلك فقد نفذت القوات التركية ونظيرتها الليبية مرات عدة مناورات عسكرية بحرية مشتركة قبالة سواحل غرب ليبيا. ([13]) وتعتبر التحركات التركية جزءاً لا يتجزأ من عقيدة الوطن الأزرق التي تتبناها الدولة التركية، وتعتبر الاتفاقيات الموقعة بين تركيا وحكومة طرابلس والانتشار العسكري التركي جزءاَ من تطبيق هذا المفهوم. ([14])
أما القاهرة، فقد كانت من الدول التي دعمت حفتر انطلاقاً من المصالح التي ترى أنها تخدم أمنها القومي بحسب محللين ([15]) حيث تعزز الدعم بين مصر وحفتر منذ انطلاق ما يسمى بعمليات الكرامة في بنغازي في مايو/أيار عام 2014.
وكانت القاهرة قد قدمت الدعم السياسي والإعلامي لحفتر، كما دعمته بشكل مباشر عسكرياً بالأسلحة والذخيرة وبمدرعات محلية الصنع. ([16]) كما دعمت سيطرة قوات حفتر على الهلال النفطي شرقي ليبيا. وتحتوي منطقة الهلال النفطي -الواقعة بين مدينتيْ سرت وبنغازي– على نسبة 80% من قطاع الطاقة الليبي المقدر حجمه بأكثر من 45 مليار برميل نفط، و52 تريليون قدم مكعب من الغاز. ([17])
وينضم إلى القاهرة في دعم حفتر كل من الإمارات العربية المتحدة وروسيا التي أرسلت مرتزقة “فاغنر” إلى الأراضي الليبية لدعم قوات الجنرال المتقاعد، مما كان يشكل جبهة مقابلة لجبهة تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية، الأمر الذي حول ليبيا إلى ساحة تنافس إقليمية ودولية بين القوى الفاعلة في الملف الليبي وعلى رأسها تركيا ومصر. ولا يمكن إغفال البعد الأيديولوجي في لعبة المحاور التي تقودها دول إقليمية لها وزنها في المنطقة منذ عام 2011، بالإضافة إلى البعد الاقتصادي والأمني والجيواستراتيجي.
وفي إشارة إلى أهمية ليبيا بالنسبة للعلاقات التركية المستقبلية مع مصر، توجه رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن إلى طرابلس مباشرة، بعد انتهاء قمة أردوغان والسيسي.
إن الملف الليبي يمكن أن يكون بمثابة اختبار فعلي لجدية كل من القاهرة وأنقرة للوصول إلى استراتيجية متوافقة مع جميع الفواعل الدولية على الأراضي الليبية، وتحقيق التوازن بين مصالحهما الاستراتيجية من جهة، والوصول إلى حل شامل ينهي الانقسام الليبي مما يعود بالفائدة على أمن واستقرار المنطقة، وهو ما يبدو أنه غامض حالياً وغير قابل للتكهن.
إلا أنه قد تكون هناك فرصة للتقارب التركي المصري في هذا الملف، بعد أن بدا مؤخرا ظهور بعض التقارب التركي مع جناح حفتر، خاصة فيما يتعلق بتنفيذ مشاريع للإعمار في شرق ليبيا بواسطة شركات تركية، حيث يمكن أن تشارك شركات مصرية أيضا في هذا الجهد.
غاز شرق المتوسط
يعد التعاون في مجال الطاقة أحد مجالات الفرص المهمة بين أنقرة والقاهرة، كما ويعتبر الغاز الطبيعي والطاقة النووية من الأولويات الاستراتيجية لكلا البلدين. وفي هذا الصدد لا يمكن إغفال ملف غاز شرق المتوسط عند الحديث عن عودة العلاقات التركية المصرية.
غاز شرق المتوسط الكنز المدفون تحت رماد الخلافات السياسية بين الأطراف المتنازعة عليه، يحتم على كل من تركيا ومصر إعادة ترتيب أوراقهم فيما يخص دبلوماسية الغاز، والاستفادة من المصالح المشتركة التي تجمعهما في هذا الملف، ضد تعنت كل من اليونان وقبرص وإسرائيل.
ويحظى الغاز في شرق منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط بأهمية خاصة نظراً لأهميته الجيوبوليتيكية والجيوسياسية والجيواقتصادية كما الحال بالنسبة لتركيا ومصر.
ولقد حددت تركيا في الرسالة المرسلة إلى الأمم المتحدة بتاريخ 18 مارس/آذار 2019، حدود الجرف القاري في البحر الأبيض المتوسط بالمنطقة بين 32 درجة و16 دقيقة و18 ثانية خط الطول شرقاً و28 درجة غرب خط الطول. وذكرت أن خط الوسط للولاية البحرية لمصر وتركيا هو حدود الجرف القاري لتركيا([18])
وتبرز اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، الموقعة بين تركيا وليبيا في 27 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، ووافقت عليها الأمم المتحدة، باعتبارها اتفاقية تحمي حقوق البلدين في شرق البحر الأبيض المتوسط.
من جهتها أسست مصر في عام 2019 منتدى غاز شرق المتوسط بالتعاون مع قبرص واليونان، وهو ما اعتبرته تركيا استفزازاً لها، وإجهاضا لمحاولاتها لترسيم الحدود البحرية بما يضمن مصالحها الاستراتيجية. تحرك القاهرة اعتبر في حينها نوعا من المناكفة السياسية لأنقرة، إلا أن الحكومة المصرية عادت في وقت لاحق لاحترام حدود الجرف القاري التركي خلال أنشطتها للتنقيب على الغاز، ومن خلال اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقعتها مع اليونان، الأمر الذي اعتبرته أنقرة في حينها رسالة إيجابية من القاهرة.
وكان ملف غاز شرقي المتوسط من أهم الملفات التي طرحت خلال لقاء أردوغان والسيسي، مما يفتح الباب التفاؤل الإيجابي بحدوث تعاون مشترك في هذا الصدد.
الخلاصة
تتجه العلاقات بين أنقرة والقاهرة، نحو تعميق الجهود بهدف الوصول إلى معادلة مشتركة، تجمع بين تصفير الخلافات والتعاون في بعض الملفات لضمان استقرار الإقليم.
كما تنطلق حاجة كل من أنقرة والقاهرة إلى هذه المصالحة، بعد أن تشابكت مصالح البلدين في ملفات متعددة على رأسها الملف الليبي وملف غاز المتوسط، بالإضافة إلى الملف الاقتصادي الذي يترأس هذه الملفات، لرغبة البلدين في الوصول إلى التكامل في ملفات تجارية وصناعية مختلفة، مع ارتفاع حجم العلاقات التجارية وعدم تأثرها بتدهور العلاقات الذي استمر لسنوات. كما أن الزيادة في حجم التجارة والاستثمارات المتبادلة والتعاون مع القطاع الخاص سيساهم في أن تصبح تركيا ومصر شريكان مهمان في الاقتصاد والتجارة على مستوى الإقليم.
وفيما يتعلق بالملفات الاستراتيجية والأمنية، يبرز نوع من التفاؤل الحذر في ملفات مثل الملف الليبي وغاز شرقي المتوسط واللذان قد يكونان القشة التي تستند عليها جدية الطرفين في فتح صفحة جديدة من التعاون البنّاء، في حين يمكن أن تكون فرص التعاون الجاد أكبر في مسائل مثل السودان وحلّ مشكلة الصومال وأثيوبيا.
ولا بد من التأكيد على أن عودة العلاقات بين تركيا ومصر تقع تحت بند “الضرورة الاستراتيجية”. هذه الضرورة التي من الممكن أن تتغير في بيئة دولية نشطة ومنطقة ساخنة بالأزمات.
أما تركياً.. فتؤكد مختلف الشرائح في تركيا على الأهمية الاستراتيجية لعودة العلاقات مع مصر، والتي تخدم مصلحة الدولة في المقام الأول، فيما تبقى وجهة النظر من الانقلاب والموقف السابق للرئيس أردوغان من السيسي، محط جدل بين الأوساط الشعبية إما من خلال التأكيد على التضامن الشعبي مع ضحايا الانقلاب، أو من أجل التوظيف السياسي من خلال استخدام عودة العلاقات التركية المصرية ضمن إطار المناكفة السياسية والتسخير الإعلامي لقلب الرأي العام على الحكومة التركية داخلياً.
أخيرا، ورغم أن الزيارة الأخيرة للسيسي إلى أنقرة أظهرت تقدما كبيرا على مسار تقدم العلاقات بين البلدين، إلا أن ذلك لم يحدث على الأرض بشكل حقيقي بعد، حيث ظلت التفاهمات بين البلدين في إطار مذكرات تفاهم فقط، وليس اتفاقيات قابلة للتنفيذ، وانعكس ذلك على التغطية الإعلامية للزيارة، سواء في مصر أو في تركيا، والتي لم تكن بنفس الدرجة من الزخم الذي يعكس التحول التاريخي في مسار العلاقات بين البلدين.
[1] – İmamoğlu: Bana Sisi diyorlardı, şimdi Sisi’yle kardeş oldular, Artı Gerçek, 08.09. 2024,
https://artigercek.com/politika/imamoglu-bana-sisi-diyorlardi-simdi-sisiyle-kardes-oldular-316882h
[2] – İmamoğlu’ndan Erdoğan’a ‘Sisi’ göndermesi: 2019’u hatırlattı, Cumhuriyet, 8 eylül 2024, https://www.cumhuriyet.com.tr/siyaset/imamoglundan-erdogana-sisi-gondermesi-2019u-hatirlatti-2245438?utm_medium=AramaSonuc&utm_source=AramaSonuc
[3] – Cübbeli Ahmet Hoca, Erdoğan-Sisi görüşmesini değerlendirdi: ‘Kendisi biraz hisli biridir’, Doğan Özkan, Aydınlık, 6 eylül 2024, https://www.aydinlik.com.tr/haber/cubbeli-ahmet-hoca-erdogan-sisi-gorusmesini-degerlendirdi-kendisi-biraz-hissi-biridir-488029
[4] – Sisi ile nasıl görüşürsünüz?, Salih Tuna, Sabah, 7 eylül 2024, https://www.sabah.com.tr/yazarlar/salih-tuna/2024/09/07/sisi-ile-nasil-gorusursunuz?f=sm&utm_source=twitter.com
[5] – Eski Kahire Büyükelçisi Göktürk: Erdoğan’ın Rabia selamına değil Sisi’yi oraya kadar uğurlamasına bakmak gerek, Dora Mengüç, fikir gazetesi, 5 eylul 2024, https://fikirgazetesi.org/2024/09/05/eski-kahire-buyukelcisi-gokturk-erdoganin-rabia-selamina-degil-sisiyi-oraya-kadar-ugurlamasina-bakmak-gerek/
[6] تركيا ومصر.. علاقات تاريخية يعززها تعاون متصاعد, إبراهيم الخازن، وكالة الأناضول، 14.02.2024 https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D9%8A%D8%B9%D8%B2%D8%B2%D9%87%D8%A7-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B9%D8%AF-%D8%A5%D8%B7%D8%A7%D8%B1/3136962
– [7] Kahire’de tarihi zirve… Komşu tedirgin! Erdoğan’ın sözleri İsrail’de böyle yankılandı, hurriyet.com, 13.02.2024 https://www.hurriyet.com.tr/dunya/kahirede-tarihi-zirve-komsu-tedirgin-erdoganin-sozleri-israilde-boyle-yankilandi-42405215
[8] Mısır Cumhurbaşkanı Türkiye’de: Orta Doğu için yeni adımlar, Doç. Dr. İsmail Numan Telci, AA, 05.09.2024 https://www.aa.com.tr/tr/analiz/misir-cumhurbaskani-turkiyede-orta-dogu-icin-yeni-adimlar/3321933
[9]– Mısır Cumhurbaşkanı Türkiye’de: Orta Doğu için yeni adımlar, Doç. Dr. İsmail Numan Telci, AA, 05.09.2024, https://www.aa.com.tr/tr/analiz/misir-cumhurbaskani-turkiyede-orta-dogu-icin-yeni-adimlar/3321933
Türkiye-Mısır: İhtiyatlı iyimser rüzgarlar ilişkileri nereye götürecek?, Nebahat Tanrıverdi Yaşar, fikir turu,06.09.2024 [10] https://fikirturu.com/jeo-politika/turkiye-misir-ihtiyatli-iyimser-rzgarlr/
[11] ما بعد التعاون التركي المصري في الصومال, سمير العركي، الجزيرة نت، 05.09.2024 https://www.aljazeera.net/opinions/2024/9/5/%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A-%D9%81%D9%8A
[12] – بعد الاتفاق البحري.. تركيا تعلن عن خطوة جديدة في التعاون العسكري مع ليبيا الجزيرة نت، 15.12.2019
[13]حكومة الوحدة الليبية توقع مذكرة تفاهم عسكرية مع تركيا، الجزيرة نت، 02.03.2024
[14]Mavi Vatan Kavramı ve Önemi, 13.10.2023 https://mavivatan.net/mavi-vatan-kavrami-ve-onemi/
[15] أعلنت دعم جيشه أكثر من مرة.. لماذا تُراهن مصر على خليفة حفتر؟، منية غانمي، CNN Arabic 27.09.2016
https://arabic.cnn.com/middleeast/2016/09/27/egypt-support-haftar-libya
فتش عن النفط.. لماذا يدعم السيسي حفتر في حربه ضد حكومة الوفاق؟، محمود محمد، الجزيرة نت، 20.12.2019 [16]
[17] الهلال النفطي.. بؤرة الثروة الليبية الملتهبة، الجزيرة نت، 15.09.2016
[18]Türkiye-Libya anlaşması: Doğu Akdeniz’de jeopolitik denklem değişiyor İlhan Sağsen, AA, 02.12.2019 https://www.aa.com.tr/tr/analiz/turkiye-libya-anlasmasi-dogu-akdeniz-de-jeopolitik-denklem-degisiyor/1661248
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.