fbpx
سياسةترجمات

سبرينجبورج: السر وراء سبعة عقود من الحكم العسكري لمصر

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشر موقع ميدل إيست آي في 7 فبراير 2022 مقالاً لروبرت سبرينجبورج، أستاذ الدراسات الدولية المرموق في جامعة سيمون فريزر والباحث في المعهد الإيطالي للشؤون الدولية، بعنوان “مصر: سر سبعة عقود من الحكم العسكري”، تناول فيه دور القوات المسلحة المهيمن على الحياة العامة المصرية، مستهلاً حديثه بالتأكيد على إنه “كلما أصبحت الظروف أكثر بؤساً في البلاد، كلما زادت قدرة الجيش على تبرير الدور الذي يقوم به باعتباره العمود الفقري للأمة المصرية والحافظ لها”.

وقد عمل روبرت سبرينجبورج حتى 2013 أستاذاً لشؤون الأمن القومي في كلية الدراسات العليا البحرية الأمريكية ومديراً لبرنامج الشرق الأوسط بمركز العلاقات المدنية العسكرية. وعمل كذلك مديراً لمركز الأبحاث الأمريكي في مصر، حيث يُعتبر سبرينجبورج أحد اهم الخبراء العالميين البارزين في الشأن المصري وله العديد من المؤلفات عن مصر. وبالإضافة إلى ذلك، فقد عمل سبرينجبورج كمستشار في إدارة وسياسة الشرق الأوسط لصالح الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ووزارة الخارجية الأمريكية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والعديد من الإدارات الحكومية في المملكة المتحدة.

وكعادته، يتحدث سبرينجبورج بلغة قوية ويستخدم عبارات مركزة شديدة الدلالة في وصفه للواقع الذي آلت إليه الأمور في مصر في ظل هيمنة العسكر على زمام الأمور بالبلاد على مدى سبعة عقود تقريباً، حيث يقول في مستهل مقاله: يصادف شهر يوليو القادم مرور سبعين عاماً على الحكم العسكري لمصر. وبخلاف الفترة الاستثنائية التي استمرت لعام واحد في عهد الرئيس محمد مرسي (2012-2013)، حيث كان الجيش يحوم حوله مخطِّطاً للإطاحة به، فقد دأب  العسكر على ممارسة سلطة مطلقة امتدت بلا انقطاع خلال تلك الفترة، محققين بذلك رقماً قياسياً عالمياً في سيطرة الديكتاتورية العسكرية على الحكم.

ويستمر مقال الخبير العالمي البارز في الشأن المصري على النحو التالي:

لم تكن الاستمرارية السياسية للعسكر طوال هذه الفترة تعود إلى إنجازات ما وصفها المحلل يزيد صايغ بـ “جمهورية الضباط”. حيث كانت التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية النسبية لمصر في حالة من التدهور المستمر طوال تلك الفترة الممتدة، وإن كان بنسب متفاوتة، مقارنة بمستوى التنمية إقليمياً أو عالمياً. لقد انحدر وضع مصر من كونها الدولة العربية الأكثر تطوراً في عام 1952، والقادرة على إبراز قوتها الصلبة والناعمة إقليمياً، وقوتها الناعمة على الصعيد العالمي، إلى كونها مجرد دولة خاسرة وفاشلة على المستوى العالمي، وحتى على مستوى منطقة الشرق الأوسط.

وأصبحت الدولة المصرية الآن بالكاد تتصرف بناء على ردود الأفعال تجاه الأحداث التي تقع في الدول المجاورة لها كلبنان وسوريا والسودان وليبيا، بدلاً من أن تقوم هي بتشكيلها، بعد أن كانت يوماً ما صاحبة الأمر والنهي فيها على الإطلاق. وشهدت الموارد البشرية المصرية، التي كانت الأضخم والأكثر تطوراً على مستوى العالم العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، شهدت تدهوراً لا نظير له منذ ذلك الحين، في ضوء تراجع النظام التعليمي وقطاع الصناعات وكذلك الخدمات في البلاد وفشلها في مواكبة الدول المنافسة.

ويقودنا واقع الأداء المتهافت لـ “جمهورية الضباط” إلى التساؤل عن سبب بقائهم في سدة الحكم حتى الآن، في حين تمت الإطاحة بالعسكر عديمي الكفاءة من الحكم بسبب سوء أدائهم في كل من إسبانيا واليونان والأرجنتين والبرازيل وتشيلي ونيجيريا وكوريا الجنوبية وتايوان، وفي دول أخرى كذلك.

وحتى تلك الهزائم العسكرية الكارثية، على غرار تلك التي كانت وراء الهبّات الشعبية ضد حكم الجنرالات في اليونان والأرجنتين، لم تفلح في التخلص من جمال عبد الناصر أو أنور السادات في مصر – على الرغم من أنها قد علّمت حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي كيف يتجنبان الزج بالقوات المسلحة المصرية المدلّلة التي يتم الإنفاق عليها ببذخ، في أتون أي من المعارك.

المحافظة على السلطة

ومنذ ذلك الوقت، تبددت التبريرات الأيديولوجية للحكم العسكري، والتي كانت تعتمد في الأساس على مكافحة الاستعمار وعلى القومية العربية، حتى إنه سيكون من الصعب تحديد ما يمكن أن يمثله الدور الذي يقوم به الجيش المصري، اللهم إلا السعي للاحتفاظ بالسلطة، بزعم ضمان تماسك الأمة المصرية. لكن السعي وراء تحقيق الهدف الأول (الاحتفاظ بالسلطة) يتناقض في حقيقة الأمر مع الهدف الثاني (ضمان تماسك الأمة). وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فإن التبرير الذي يقدمه حكم العسكر والذي يعتمد على مفهوم “أنا ومن بعدي الطوفان” أصبح هو الآخر يفتقر إلى الجاذبية التي اعتمدت عليها الأيديولوجيات التحفيزية التي طالما روّج لها الجيش في السابق (على غرار القومية العربية ومكافحة الاستعمار).

وفي ظل غياب العوامل الإيجابية التي قد تمنحه الشرعية، يقدم العامل السلبي المتمثل في القمع تفسيراً لاستمرار الحكم العسكري في مصر على مدى سبعين عاماً حتى الآن. وبالتأكيد، سادت ممارسة القمع منذ عهد عبد الناصر الذي كان أول من اعتمد عليه لإرساء حكمه، حيث مزج بين ممارسات الاستعمار البريطاني وممارسات النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية، للوصول في نهاية الأمر إلى ذلك الغول الكاسر المتمثل في الجهاز الأمني المصري.

ومنذ ذلك الحين، لم يتغير النظام العسكري بشكل ملحوظ على المستوى التنظيمي، على الرغم من تسجيله أرقاماً قياسية للقمع – حتى وفق المعايير المصرية التعيسة- من حيث عدد السجناء السياسيين والتعذيب والإعدامات والرقابة على كل شيء وقمع كل أشكال التعبير السياسي المستقل.

ومع ذلك، فعلى الرغم من أهمية القمع بالنسبة للديكتاتوريات العسكرية، فإنه في الحقيقة سبب غير كافٍ لتفسير الامتداد الملحوظ لفترة الحكم العسكري في مصر. فقد كان ضباط العسكر في الدول العربية الأخرى والذين أصبحوا بعد ذلك “رؤساء مدى الحياة”، من أمثال علي عبد الله صالح في اليمن ومعمر القذافي في ليبيا، كانوا يمارسون على الأقل نفس القدر من الوحشية التي مارسها رؤساء مصر الذين جاؤوا بعد عبد الناصر – ولكن الفارق الوحيد بينهم، هو أنهم (صالح والقذافي) لم يرثوا السلطة من أسلافهم، ولم يورثوها لأخلافهم، كما حدث في مصر.

وبالمثل، فإنه على الرغم من تصفية آلاف المعارضين، بما في ذلك عن طريق إلقائهم في المحيط الأطلسي من طائرات الهليكوبتر، إلا أنه قد تمت الإطاحة بحكم الجنرالات في الأرجنتين. وكما توضح هذه الحالات ومثلها أعداد لا تحصى من الحالات الأخرى، فإن القمع هو الأداة الحتمية التي لجأت إليها الحكومات العسكرية في كل مكان بالعالم.

التأقلم مع الزمن

ولكن كما تُبين كثير من حالات الإطاحة بالحكومات العسكرية، فإن القمع لا يكفي لضمان استمرار العسكر في الحكم إلى الأبد. وعلى الرغم من أن الجهاز القمعي في مصر ليس له نظير في العالم، فإن حقيقة أن ملايين المصريين توفرت لهم الشجاعة الكافية للتدفق إلى الشوارع خلال عامي 2011 و2012 يثبت أن القمع ليس حصناً منيعاً يمكن أن يحتمي خلفه الضباط من شعوبهم طوال الوقت.

إن السبب الرئيسي في نجاح العسكر في البقاء في الحكم بمصر يكمن بشكل واضح في قدرته على التكيف، كا ذكرت المحللة السياسية زينب أبو المجد. لم يلجأ الرؤساء من ضباط العسكر في مصر إلى تقليد أسلافهم كالببغاء. بل قام كل منهم بتكييف مبررات أيديولوجية لضمان استمرار حكمه بما يتناسب مع العصر الذي يعيشه، تماماً كما فعل كل منهم من حيث تبني النموذج الاقتصادي الذي يناسبه، بينما يعبثون بالمؤسسات والمنظمات السياسية في محاولة في رتق عوارها وتكييفها لصالحه.

ولطالما عدّل الرؤساء المتعاقبون استراتيجيتهم لتجنب الانقلاب عليهم في ضوء علاقاتهم مع الأجهزة العسكرية والأمنية المختلفة. وعلى نفس القدر من الأهمية، فقد قام كل رئيس بتشكيل العلاقات الخارجية من أجل الحفاظ على حكمه وضمان الحصول على الدعم الخارجي لنظامه.

وتبنى نظام عبد الناصر العسكري الاشتراكية والتصنيع كبديل للاستيراد، إلى جانب الاعتماد بشكل كبير على الاتحاد السوفيتي ورفع راية القومية العربية. وحتى صيف عام 1967، اعتمد ناصر على رفيق السلاح عبد الحكيم عامر في الحيلولة دون قوع انقلابات ضده، في الوقت الذي مثّل الاتحاد الاشتراكي العربي، وهو نسخة من الحزب الشيوعي اليوغوسلافي، قاعدته السياسية الرئيسية التي ارتكز عليها لتثبيت أركان حكمه.

ولكن السادات تخفّف من معظم أعباء العلاقات الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والسياسة الخارجية التي كان يعتمد عليها عبد الناصر، وبدلاً من ذلك تبنى النيوليبرالية، وروّج لشعارات مثل “مصر أولاً”، بالإضافة إلى التحالف مع الولايات المتحدة وبناء نظام سياسي يعتمد على التعددية الحزبية. ومن أجل الحيلولة دون وقوع انقلابات محتملة على حكمه، قام السادات باستمرار بإعادة تموضع القيادات العليا للجيش، وربما صاحب ذلك أيضاً تصفية بعض القيادات التي كانت تنطوي على طموحات سياسية.

ومن جانبه، قام مبارك بالمزج بين نهج عبد الناصر ونهج السادات، حيث كان يسعى بشكل عام إلى إيجاد أرضية مشتركة بين كليهما، خصوصا فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والخارجية وكذلك الترتيبات السياسية الداخلية. لقد نجح مبارك بالفعل في منع الانقلابات ضده على غرار ما فعل عبد الناصر، من خلال منح وزير الدفاع اللواء محمد حسين طنطاوي، الذي لم تكن تبدو عليه أي طموحات سياسية، منحه سيطرة شبه دائمة على الجيش، والتي كانت تتمثل إلى حد كبير في استخدام الحوافز الاقتصادية التي أتاحها الاقتصاد العسكري المتنامي.

السيسي يكسر القاعدة

لكن لا ينبغي المبالغة في قدر التكيف الذي قام به هؤلاء الرؤساء الثلاثة الأوائل (عبد الناصر والسادات ومبارك). فبحلول عام 2011، كان النظام العسكري لا يزال يُرى على أنه النظام الذي تأسس في أعقاب انقلاب عام 1952. حيث استند إلى الثقل المؤسسي وتماسك الأجهزة العسكرية والأمنية، التي كانت تحرص على استبعاد أبناء الرؤساء منها، على عكس نظرائهم في العراق واليمن وليبيا، حيث كان يتم إعداد الأبناء كضباط من أجل خلافة آبائهم في الحكم.

وظل جهاز الخدمة المدنية والقطاع العام المترامي الأطراف هم المسؤولون بشكل رئيسي عن إدارة دولاب العمل في الدولة والاقتصاد والركيزة الأساسية لتوفير الدعم السياسي، لا سيما وقت الانتخابات. وكان التحول الرئيسي الذي حدث في العلاقات الخارجية هو الانتقال من التبعية للاتحاد السوفيتي إلى الاعتماد على الولايات المتحدة، مع الاحتفاظ بجوهر هذه العلاقة القائم على قاعدة (الراعي والعميل) من حيث الاعتماد على قوة أجنبية واحدة لضمان الرعاية والحماية.

أما السيسي فهو الوحيد الذي تمكن من تكييف الواقع بشكل حقيقي. لقد استطاع أن يكسر القالب الذي ورثه – أو بالأحرى الذي استولى عليه، حتى نكون أكثر دقة. فقدوته في أسلوب الحكم ليس أحد أسلافه من حكام العسكر، بل هو أحد مشايخ الخليج، حيث يُعتبر محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للإمارات، هو النموذج الأكثر بروزاً في نهج السيسي في الحكم.

فالأسرة والقبيلة توفر آليات للحكم بالنسبة للسيسي، إذا ما اعتبرنا أن الجيش المصري هو المكافئ الوظيفي لقبيلة آل نهيان التي ينتمي إليها  محمد بن زايد، حيث يشغل أفراد تلك القبيلة والقبائل المرتبطة بها المناصب الهامة في جهاز الحكم وكذلك في المنظومات الاقتصادية الممتدة في أبو ظبي والإمارات، تماماً كما يفعل ضباط الجيش في جمهورية السيسي. ويضطلع أبناء الحاكم في كلتا الحالتين (مصر والإمارات) بأدوار رئيسية في الأجهزة القمعية في البلاد بعد انقضاء فترات خدمتهم داخل الجيش.

وتُعتبر هذه الأدوار التي يقوم بها أبناء الحكام في كلا البلدين حيوية جداً لممارسة السلطة، التي من المفترض أن يرثها أحدهم، خصوصاً فيما يتعلق بالجهود التي يبذلونها لمنع وقوع أي انقلابات على آبائهم، من خلال تعزيز منظومات المراقبة والإشراف عليها، والتي تعتمد بشكل كبير على العلاقات الشخصية التي طوّرها الحكام في كلا البلدين أثناء الخدمة في جيوشهم.

ومن أجل توظيف الكوادر في محيط المؤسسات التي يتم من خلالها إدارة الدولة والاقتصاد -وفي الحالة المصرية النظام السياسي أيضاً- بهدف السيطرة عليها، أنشأ الحكام في كلا البلدين مؤسسات تعليمية نخبوية وقنوات توظيف مرتبطة بها لاستقطاب الكوادر الموالية والمتخصصة تقنياً. ويشبه كلاهما إلى حد كبير الآليات المستخدمة في الصين من أجل تجنيد كوادر الحزب الشيوعي وإعدادها.

 نموذج الفخامة

وعلى نفس المنوال، فإن فلسفة السيسي الاقتصادية تعتمد على نموذج بن زايد الخليجي. حيث يتمثل جوهرها في الفخامة والإبهار، كما يرمز إلى ذلك صرعة الأطول والأضخم في هذا أو ذاك، مع تفضيل بدء الإنشاء من الصفر في الصحراء، كما لو كان المقصد وراء ذلك هو مجرد التأكيد على الإرادة الإبداعية للحاكم.

ومن بين الفوائد الأخرى، فإن المشاريع الضخمة توفر فرصاً كبيرة للإغداق على أفراد القبيلة / الجيش، بالإضافة إلى تمجيد القائد وإضفاء الجلال عليه وعلى رؤيته. ويبدو أنه في خضم ذلك لا يتم التفكير كثيراً في كيفية توفير الموارد اللازمة لتمويل مثل هذه الصروح، فبينما يتم توفير تلك الموارد بسهولة في حالة الدولة الخليجية (الإمارات) عن طريق دخل النفط، فإن الحال في مصر يتركز في المقام الأول على الاقتراض من الخارج. إن هذه النزعة التنموية المشوّهة هي ما تتطور بعد ذلك لتصبح أيديولوجية سياسية من أجل إرهاب الناس وإخضاعهم.

لقد أصبح هذا النموذج المستمد من الخليج لا يترك مجالاً كبيراً للخدمة المدنية التقليدية أو القطاع العام أو الحزب السياسي المهيمن أو البرلمان في مصر. حيث يُظهر السيسي ازدراءه لهم جميعاً. فقد أصبحوا جميعا زائدين عن الحاجة بالنسبة للسيسي بسبب اعتماده في إدارة الحكومة والاقتصاد والنظام السياسي على الأجهزة الأمنية والمخابرات العسكرية، والتي جردت هذه المؤسسات المدنية من الكثير من سلطتها على الموارد.

فصندوق الثروة السيادي في مصر والعديد من الهيئات المالية المستقلة الأخرى، مثل صندوق “تحيا مصر”، كمثيلاتها في الحالة الخليجية، تتبع الحاكم مباشرة – وليس للإدارة أو البرلمان أو أي هيئة عامة أخرى.

لا يشعر السيسي بأنه مضطر إلى تكوين قواعد سياسية يعتمد عليها كما فعل أسلافه. وتُركت الطبقة الوسطى البيروقراطية متشبثة بخدمة مدنية تتقلص باستمرار. وتم التخلي عن العمال بسبب تراجع أدوار النقابات العمالية؛ وتُرك محاسيب الرأسماليين للتنافس من أجل الحصول على النذر اليسير من فتات الكعكة الاقتصادية التي يلتهمها الجيش. أما الفلاحون فلا يجدون من يُحسن خدمتهم أو تدبير أمورهم، اللهم إلا من خلال تعاونيات زراعية متهالكة، حيث تفضل الدولة الاستكثار من الزراعة كثيفة رأس المال التي تسيطر عليها الشركات المرتبطة بالجيش أو المستثمرون الأثرياء.

بدائل للوضع الراهن

وبينما تهيمن سلطة السيسي على شعب مصر، فإنه في الحقيقة لا يعتمد على دعم يتلقاه من ولاءات وتحالفات قبلية، كما هو الحال بالنسبة لمعظم حكام الخليج، بل يعتمد على ما يناظر ذلك في الحالة المصرية، متمثلاً في ولاء الجيش له. ولكن السؤال هو: هل بوسع الجيش أن يحافظ على ولاء المواطنين بينما يقوم بتقويض العقد الاجتماعي الذي كان يرتكز عليه في السابق؟ قد تقود الإجابة على هذا السؤال الهام إلى دلالات حول مستقبل العسكر والسيسي على السواء.

في الحقيقة، هناك بديلان للوضع الراهن:

– البديل الأول هو استبدال السيسي بجيشه؛

– والبديل الثاني هو الإطاحة بالسيسي وجيشه معاً.

فالسيناريو الأول هو ما حدث تماماً لمبارك، حيث دفعت المصلحة المؤسسية للجيش إلى التخلص من الرئيس الذي كان قد أصبح هدفاً لموجة الغضب الشعبي. ففي هذه الحالة، قد يحدث انقلاب استباقي من الأعلى إلى الأسفل تقوم به القيادات العليا، تماماً كما حدث في عام 2011. أما في الحالة الثانية، فقد يقع انشقاق داخلي في الجيش ينتج عنه انقلاب ينفذه فصيل من الجيش ساخط على كل من الرئيس والقيادة العليا على السواء.

أحد أبرز خطوط التصدع المحتملة هو الخط الذي يفصل بين الضباط الملتزمين بالمهنية العسكرية عن أولئك الضباط -الذين يكونون في العادة ذوي رُتب أعلى- الذين يكرسون جهودهم في حصد الغنائم من خلال ارتباطهم بالاقتصاد العسكري. ففي نقطة ما، قد تتفاقم التوترات بين هذين المعسكرين بسبب الفشل في التصدي بشكل مناسب لواحد أو أكثر من التحديات العسكرية، والتي قد تنشب مع دول مجاورة، مثل ليبيا أو السودان أو حتى إثيوبيا النائية عنها من حيث الموقع الجغرافي.

في الحقيقة، يبدو أنه من بين هذين الصنفين من الانقلابات، يبدو البديل الأول أقل احتمالاً، بالنظر إلى تغلغل السيسي في الجيش وسيطرته على سلك الضباط – كنتيجة مباشرة لمدة خدمته في المخابرات العسكرية، واستخدامه لأبنائه وزملائه السابقين كعملاء للمراقبة، واعتماده على نشر المحسوبية بين الضباط – بشكل يتجاوز إلى حد كبير ما وصل إليه مبارك في هذا الصدد. ولذلك، فمن المرجح أن تظل القيادة العليا للجيش موالية للسيسي، على عكس صغار الضباط.

مفارقة الفشل

من الصعب فعلاً تصور إزاحة السيسي والجيش عن السلطة. فما حدث في عام 2011 لن يتكرر إلا إذا كان بشكل مأسوي. وكما تبين مما حدث في عام 2013، فإن نظام السيسي مستعد لإطلاق النار على معارضيه. وقد استطاع تحييد الإسلام السياسي المنظم، على الأقل على المدى المنظور. وهذا في حد ذاته يجعلنا أمام سيناريوهات أكثر راديكالية، مثل الانهيار واسع النطاق للنظام نتيجة للأزمات الاقتصادية أو السياسية، مما سيؤدي إلى تفتيت الأجهزة العسكرية والأمنية جميعاً.

ومن بين التطورات التي قد تطرأ على هذا السيناريو هو دخول جهة خارجية على الخط تكون لها مصلحة في زعزعة استقرار نظام السيسي. وأخيراً، فإن الاحتمال الأكثر بُعدا هو أن يُقرر السيسي التنحي عن الحكم لصالح حكومة مدنية تخلفه، حيث تشير كل تصرفاته وطريقته في الحكم إلى أن هذا السيناريو أشبه بانتظار حدوث المستحيل.

ومجمل القول، أن الرهان الأكثر ذكاءً هو ضمان استمرارية الحكم العسكري في مصر بناءً على استمرار التدهور النسبي الذي يضرب البلاد منذ أمد. فالواقع، للأسف، أنه كلما زاد التراجع وازدادت الظروف بؤساً، كلما زادت قدرة الجيش على تبرير دوره باعتباره العمود الفقري والحافظ للأمة.

ربما تفسر هذه المفارقة بشكل منطقي أسباب استمرارية حكم العسكر في مصر. فلو نجح الجيش في مصر في قيادة التنمية في البلاد، كما فعل الجيش في كوريا الجنوبية إلى حد ما، فربما أدى ذلك إلى بروز قوى مجتمعية راسخة لديها من العزم والإصرار ما يكفي للسعي للتخلص منه وتقديم من يحل محله.

وهكذا، فإن فشل العسكر في إدارة شؤون البلاد بشكل رشيد قد يقدم تفسيراً لاستمراريتهم على نفس النهج الذي يشكل للأسف ضمانة بقائهم في السلطة لفترات أطول.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close