دراسات

سورية الجديدة: من الثورة إلى الدولة… بين تحديات المصير ومفاتيح النجاح


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


مقدمة

في لحظات التحول الكبرى، التي تترك أثرها على جدران التاريخ، عندما تتهاوى أعمدة السلطة المستبدة، ويتناثر الجبروت الحاكم مع الريح، تندفع الأمم نحو مفترق طرق، بعد أن تكسر الصور النمطية للآلهة السياسية التقليدية، تكتب بحبر الألم مع الأمل لحظات فارقة تخلدها الذاكرة، تتجاوز فيها الشعوب إرث الماضي المثقل، باحثة عن هوية جديدة، ومواطنة فريدة وأصيلة تمثّلها وتتناغم مع تطلعاتها، ومكانة تستحقها على الخارطة. لكن هل يكون الطريق معبّداً بالفوضى أم الأمل؟ هل تنجح عملية التغيير، أم تتغلب على الثورة قوى مناهضة كما تغلبت على شقيقاتها من الثورات العربية من قبل؟ يُطرح على طاولة النقاش هذا السؤال المصيري الحاسم.

في سوريا وعلى الساحة السياسية، يبدو المشهد وكأنه لوحة متشابكة من الطموحات المتضاربة، حيث يتصارع البناء مع الهدم، وتتنازع القوى بين احتضان التغيير ، وإجهاضه مع الحفاظ على القديم.

تحت هذه السماء الملبدة بالاحتمالات والغيوم، تصطف الأحلام جنباً إلى جنب مع المخاوف، ويقف القادة والجمهور أمام مسؤولية ثقيلة، تتطلب منهم حكمة تتجاوز الشعارات وقرارات تعبر بالمجتمع نحو بر الأمان.

يعيش السوريون لحظة ولادة جديدة، بعد أن مروا بأول ثورة من ثورات الربيع العربي تصبح متكاملة الأركان، تستطيع إحداث تغييرات جذرية في بنية النظام، ما يتيح فرصة حقيقية لحالة صعود نهضوي كبير إذا أُحسن قيادتها. لكنها ككل ولادة، محفوفة بالآلام والمعاناة، مليئة بالتحديات، ممهورة برغبة جامحة في صياغة مستقبل أكثر إشراقاً، لا تسكنه أشباح الماضي. إن لحظات السعادة والاحتفال المصاحبة للتحرر من عقود الظلم والطغيان هي بالفعل مستحقة، ولكنها، اضطراراً، يجب أن تفسح المجال لوضع التصورات والعمل الجاد لمواجهة التحديات الجمة التي تنتظر الشعب السوري، فالنصر الذي تم إنجازه هو نصر عظيم، وعلى قدره ستتوالى التحديات والعقبات تترى، وبناء الدول ومستقبلها أصعب كثيراً من إسقاط الأنظمة، مهما بلغت قوتها وجبروتها.

في هذه الدراسة، نحاول البحث في التحديات الرئيسية التي تواجه سورية في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة، بعد السقوط الدراماتيكي لبشار الأسد، عقب نحو 14 عاماً من اندلاع الثورة السورية في 2011، ونستكشف بعض السبل لمواجهة أهم هذه التحديات. سنحاول استقراء المستقبل الوليد الذي لا يزال مبهماً، تحت وطأة إرث ثقيل من الانقسامات الاجتماعية والسياسية، والدمار المادي والمعنوي. ورغم أن الإطاحة بالنظام شكلت ذروة تحولات كبرى في المشهد السوري، إلا أن المسار المقبل والطريقة التي ستدار بها الدولة، ستكون المبتدأ لتحديد ملامح “سوريا الجديدة”.

سننطلق من المشهد العام وقت كتابة هذه الدراسة (وهو شديد السيولة)، ثم سنتطرق للجزء الرئيس المتعلق بتوصيف أهم التحديات، ومن ثَمّ نقدم أفكارنا الأولية حول أولويات التعامل والإستراتيجيات الأساسية التي نوصي بها لمواجهة هذه التحديات.

مدخل:

مع فجر يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، أعلنت قوى المعارضة السورية العسكرية، سقوط نظام حكم الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، بعد نجاحها في دخول مدينة حمص وسط سوريا، ثم الوصول منها إلى العاصمة السورية دمشق.

انهيار دراماتيكي لقوات الأسد والمليشيات الإيرانية المساندة له، بدأ في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تحت مظلة عملية “ردع العدوان”، التي كان من أبرز نتائجها في أيامها الأولى استعادة السيطرة على مدينة حلب، وإعادة التموضع والسيطرة على الطريق الدولي M5 بالإضافة إلى الحدود الإدارية لمحافظة إدلب بالكامل.

توالت بعد ذلك انتصارات قوات المعارضة تحت قيادة غرفة العمليات العسكرية متمثلة بهيئة تحرير الشام، التي يتزعمها أحمد حسين الشرع، الملقب بـ “أبو محمد الجولاني”، لتنجح بدخول مدينة حماة في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2024، وتبسط سيطرتها على كامل المحافظة.

هذا التقدم الكبير الذي أحرزته قوات المعارضة، أتاح لها الدخول إلى كافة المعتقلات والسجون والأفرع الأمنية والعسكرية وتحرير أعداد كبيرة من المعتقلين والمخفين قسرياً منذ عام 2011.

فيما كانت الضربة الحاسمة التي تم توجهيها إلى نظام بشار الأسد بدخول مدينة حمص في مساء السابع من كانون الأول/ديسمبر 2024، لتبدأ بعدها إشارات هروب رأس النظام وعائلته، بعد 12 يوماً من بدء معركة “ردع العدوان”، تاركاً العاصمة دمشق مفتوحة الأبواب، على اللحظة الكبرى التي انتظرها السوريون منذ الخامس عشر من آذار/مارس عام 2011، ليسدل بعدها الستار تماماً على حقبة نظام البعث في سوريا، الممتدة منذ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 (54 عاماً)، والتي تخللها ثلاثون عاماً من حكم حافظ الأسد، وأربع وعشرون عاماً من حكم ابنه الأوسط بشار الأسد.

هذا المشهد كان تاريخياً على كل المستويات، وسط فرحة عارمة كتبها السوريون الذين خرجوا إلى الشوارع محتفلين في المدن المحررة، ممزوجة بدموع الحزن على ما مرّ من مآسٍ ودماء سالت لتحقيق هذه اللحظة. في الوقت نفسه، كانت أعين العالم تتجه نحو دمشق، حيث انقسمت ردود الفعل بين من وصف الحدث بـ”نهاية حقبة مظلمة”، وبين من حذّر من تحديات هائلة تنتظر سوريا في مرحلة تثبيت الثورة وإعادة البناء السياسي والاجتماعي.

وفي غمرة احتفال السوريين بزوال نظام بشار الأسد، رصدنا ردود فعل متنوعة، عربياً على الأقل، انقسمت  بين من يشكك بـ “وطنية الثورة”، أو يعتبر انتصارها  “جزءاً من مؤامرة أمريكية صهيونية”، وبين من اعتبر أن  الجسم المسلح الأكبر  الذي ساهم بعملية ردع العدوان (هيئة تحرير الشام)  يتكون من مجموعة من “المتطرفين ضيقي الأفق” بحسب تعبيرهم، يقودهم حاكم فردي مرشح ليكون دكتاتوراً آخر في تاريخ سوريا، وهؤلاء سيعيدون البلاد قروناً إلى الوراء، فيما اعتبر آخرون أن هؤلاء صقلتهم تجربة السنين ومروا بمراحل من النضج عكستها تصريحات قائدهم المعلنة، وكذلك أفعالهم على الأرض حتى الآن، والتي عبّرت عن حنكة سياسية وميل نحو خطاب وطني جامع.

بالطبع لسنا في معرض إصدار الأحكام حول هذه التصورات أو بحثها من خلال هذه الدراسة، فالوقت لازال مبكراً جداً على ذلك. لكن الأهم، والمحك الفعلي، سيكون في دراسة كيفية مواجهة النظام السوري الجديد للتحديات الجمة التي تواجه سوريا بشكل عام، وحسن التعامل معها، بافتراض استقلالية النظام الجديد وتمتعه بالنضج الكافي، لكي يمكن بحق كتابة حقبة جديدة في تاريخ سوريا الحديثة بعد عقود من الألم والمعاناة. ما سيتم على الأرض في الفترة المقبلة سيساهم في الإجابة عن بعض الأسئلة المطروحة، بعد الحكم على الأفعال، وليس على التصورات أو الأقوال.

التحديات أمام سورية الجديدة في هذه المرحلة الانتقالية كبيرة؛ فهي تتراوح بين استحقاقات التمثيل والنظام السياسي، ووحدة الصف الثوري، والوحدة الوطنية للشعب السوري بشكل عام، والعدالة الانتقالية، والمصالحة الوطنية، وأولوية إعادة الإعمار وعودة النازحين واللاجئين، والقيام على معاش الناس والوفاء باحتياجاتهم الحياتية والتعامل مع التحديات الاقتصادية، إلى التعامل مع الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة، ومع التواجد الأجنبي على الأراضي السورية. في خضم كل هذه التحديات يبدو الطريق إلى سورية المستقبل محفوفاً بالصعوبات والمخاطر، بما في ذلك بعض المخاطر الإستراتيجية التي تهدد وحدة البلاد واستقلاليتها، لكن آمال السوريين بصناعة وطن حر ومستقر تبقى المحرك الأساسي لهذه المرحلة الحاسمة.

ونحن نتطرق لهذا الملف، نستصحب حصيلة تجارب مررنا بها، ومر بها أخرون (رغم ما في النموذج السوري من تفرد)، خاصة منذ انطلاق الثورات العربية قبل أكثر من عقد من الزمان، ونحاول أن نقدم إسهاماً ورؤية قد تفيد أهل سورية وقياداتها الجديدة، في الوقت الذي ينغمسون فيه في التعامل اليومي مع أطنان من المشاكل، ويحتاجون لمن يقدم مثل هذه الرؤية من خارج إطار الانشغال بالهم اليومي.

لقد مرت الثورات العربية، ومحاولات الاستقلال والخلاص من التبعية بعرض العالم الإسلامي، بالعديد من التجارب، شهد بعضها نجاحات قليلة، ووقع أغلبها في العديد من فخاخ ومكائد الأعداء من ناحية، والأخطاء الذاتية من ناحية أخرى، وليس من الحكمة تجاهل هذا الزخم من التجارب وعدم الاستفادة منها عند السعي لبناء سوريا الجديدة.

ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أنه مع أهمية خروج سورية إلى بر الأمان وانطلاقها إلى أفاق رحبة جديدة بالنسبة لسوريا ذاتها، فإن أهميتها الأكبر تكمن في أنها تشغل حيزاً محورياً في المنطقة والعالم، ويشكل مدى نجاح تجربتها الوليدة محفزاً لتغيرات إيجابية أخرى طال انتظارها على مستوى المنطقة ككل، ما يشكل سبباً إضافياً لأهمية التطرق للمواضيع التي حاولنا علاجها في هذه الدراسة.

سوريا الجديدة: تحديات إدارة المرحلة الانتقالية

تنطلق تحديات المرحلة الجديدة في سوريا، من خصوصية المشهد السوري منذ 54 عاماً، بمفاصله السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، فضلا عن التركيبة المجتمعية، وما تخلل سنوات الثورة السورية من حشد وتعبئة على أساس طائفي (علوي-شيعي) ضد المكون السّني الغالب، وتصاعد هذا الخطاب بتأجيج من نظام الأسد للتعبئة ضد مكونات الشعب من السنة، والحث على استهدافهم، ما أدى إلى انهيار مفهوم المواطنة السورية الجامعة، لو فرضنا جدلاً وجودها.

تتميز المرحلة الانتقالية بأنها أخطر وأصعب المراحل عقب سقوط النظام القديم، وذلك حتى الوصول إلى نظام جديد أكثر استقراراً وشرعية. وتعتبر حالة الانتقال من وضع سياسي معيّن إلى آخر مليئة بالتحديات، خاصة عندما يتعلق الأمر بإعادة بناء مؤسسات الدولة، وفرض الأمن، ومواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، وتحقيق العدالة الانتقالية، وترسيخ أسس الحكم الرشيد، فضلاً عن إصلاح الاقتصاد، وتوفير الاحتياجات الأساسية، وإعادة الإعمار، وتمهيد البنية التحتية لإعادة احتضان اللاجئين والنازحين الراغبين بالعودة إلى وطنهم.

 وتقع على عاتق الحكومة المؤقتة التي تم تكليفها من قبل قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع بإدارة المرحلة الراهنة، ملفات عديدة سياسية وأمنية واجتماعية، من المطلوب منها أن تنجزها خلال ثلاثة أشهر، وهو عمر الحكومة المؤقتة كما تم تحديده، برئاسة رئيس حكومة الإنقاذ سابقاً في إدلب محمد البشير (تابعة لهيئة تحرير الشام).

ويأتي الإسراع في إعلان تشكيل الحكومة المؤقتة ونقل صلاحيات الحكومة السابقة برئاسة رئيس الوزراء السابق محمد الجلالي، للحيلولة دون دخول البلاد في نفق الفراغ السياسي، التي تنشأ عندما تغيب سلطة مركزية فعالة وقادرة على توجيه الدولة وضمان استقرارها بعد انهيار النظام القديم. في مثل هذه الحالات، تصبح الدولة عرضة للفوضى، إذ قد تنشأ صراعات على السلطة بين القوى المختلفة، ويضعف أداء المؤسسات، ما قد يؤدي إلى انهيار الدولة وتحولها إلى دولة فاشلة.

الدولة الفاشلة، من منظور فلسفي، هي كيان فقد قدرته على الوفاء بمفهوم الدولة ذاته. فالدولة ليست مجرد مجموعة من المؤسسات أو حدود جغرافية، بل هي فكرة؛ فكرة تقوم على النظام، العدالة، والقدرة على تحقيق الخير العام. عندما تفقد الدولة هذه الفكرة، تصبح أداة للقهر أو مساحة للصراع، مما يؤدي إلى فشلها.

فقدان النظام السياسي لشرعيته وعدم قدرته على تلبية احتياجات المواطنين الأساسية، يكون من نتيجته ظهور الصراع على السلطة بين المكونات المختلفة، خاصة وأن الحالة السورية مليئة بالأيديولوجيات السياسية و التنوعات الدينية والعرقية المختلفة. كما أن من أسوأ احتمالاته تفكك مؤسسات الدولة، وهو ما حرصت المعارضة على تلافيه، بالإبقاء خلال اليومين الذين تليا سقوط نظام الأسد على حكومة الجلالي في منصبها لتسيير الإعمال.

كما قد يؤدي الفراغ السياسي إلى فقدان ثقة المواطنين في الدولة الجديدة، ما يعزز الانقسامات الاجتماعية والطائفية. ويفتح المجال أمام القوى الإقليمية والدولية لفرض أجنداتها الخاصة، مما يعقد عملية بناء الدولة.

تواجه الدولة أيضاً في مرحلتها الجديدة تحديات استراتيجية تتعلق بوحدة الدولة وسلامة أراضيها، تحتاج تعاملاً حاسماً.

ويمكن أن نجمل التحديات التي تواجه سوريا الجديدة بناء على الماضي والحاضر ورؤى المستقبل بالنقاط التالية، على أن نقدم تصوراتنا عن كيفية مواجهتها في الجزء الأخير من الدراسة.

أولاً- تحديات الفترة الزمنية وطبيعة المرحلة الانتقالية:

إن تحدي المرحلة الزمنية يكمن في أن التعامل مع الكثير من المهام الصعبة والحساسة يحتاج بطبيعته وقتاً كافياً لكي تكون الحلول المقدمة ناجعة ومفيدة، إلا أنه في نفس الوقت فإنه إذا لم يتم التعامل مع هذه المهام بسرعة وحسم، فقد يعرقل ذلك التعامل معها، ومع غيرها من المهام، بمرور الوقت.

قد يرى البعض، عن حق، أن فترة الأشهر الثلاثة، التي وضعتها الحكومة الانتقالية الحالية لعملها، تعتبر قليلة للنجاح بنقل سوريا إلى بر الأمان بعد 54 عاماً من حكم البعث وآل الأسد، و14 عاماً من الثورة، التي انهارت خلالها مؤسسات الدولة، وتغيّرت خصوصية عملها، مع إحكام القبضة الأمنية والعسكرية على جميع مفاصل الحياة اليومية.

إلا أنه على الجانب الأخر، فإن عامل السرعة لبناء الشرعية الكاملة غير المنقوصة، ومعالجة الأولويات القصوى هام جداً، حيث أن طول أمد المرحلة الانتقالية، وعدم حسم الأمور الرئيسية، قد يفتح الباب أمام تنافس القوى السياسية والعسكرية، وتعميق الانقسامات، والانفلات الأمني، كما يزيد من ضيق الناس من قلة الإنجازات وعدم تحقق تطلعاتهم الاقتصادية والاجتماعية، ويفتح المجال لاختراقات من فلول النظام القديم وداعميه الرئيسيين، وكذلك لتكثيف التدخلات الخارجية للتأثير على المسارات المقبلة، بما يعرقل العمل التغييري البنائي المطلوب (يمكن أن نأخذ التجربة المصرية كمثال على  هذه التحديات التي أدت في النهاية لإجهاض مكتسبات الثورة المصرية وتحوُّل مسارها). لذلك فإن بناء نظام سياسي شامل، غايته الإسراع ببناء الشرعية والثقة، وتحقيق حالة من التوافق الوطني، والسيطرة الكاملة على أجهزة الدولة، وتجنب الفوضى وحماية السيادة، يعتبر من أهم الأولويات.

إلا أن التحدي المصاحب لذلك يكمن في أنه لا يمكن أن ينشأ مثل هذا النظام دون وضع أسس ومقاربات لنظام سياسي جديد ومتين، يستند على تعريف واضح لقيم ومرجعية الدولة الجديدة، وتكريس العدالة والحرية، ما يحيلنا إلى ضرورة كتابة دستور يحدد صلاحيات السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى تحديد شكل الدولة ونظام حكمها وحدود صلاحياتها، وهو ما يحيلنا بالتالي إلى بعض الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها عندما نفكر في شكل الدولة المستقبلي في سوريا؛ هل سيتم بناء الدولة وفقاً للنموذج التقليدي المتعارف عليه، أم يمكن استحداث أشكالٍ سياسية وإدارية جديدة تتناسب مع خصوصية الواقع السوري وتحدياته المعاصرة؟ وهل ستستمر هيمنة الدولة المطلقة وتغوّلها على كافة مناحي الحياة كما كان الحال في السابق، أم سيتم العمل على إعادة صياغة دور الدولة بما يحقق توازناً أكثر صحية وعدالة في علاقتها مع المجتمع؟ وهل سيتم التركيز على بناء مؤسسات دولة تُعبر عن إرادة الشعب وطموحاته، أم سيُعاد إنتاج الهياكل القديمة تحت مسميات جديدة؟ وكيف يمكن ضمان عدم تحول الدولة إلى أداة للقمع والاستبداد مرة أخرى، بل تكون حاضنة لمشاركة مجتمعية حقيقية وفعالة؟ فهل سيسمح الوقت القصير المتاح بالإجابة عن جميع هذه الأسئلة بالشكل المطلوب؟

في هذه المرحلة قد يثار أيضا سؤال رئيس: هل سيتم الاستناد إلى الشرعية الدستورية أم الشرعية الثورية في البداية؟ (وهو مما اتضح أهمية الانتباه إليه في تجربة الثورة المصرية على سبيل المثال). هل تمت مرحلة التحرير وينبغي التوجه مباشرة والتركيز على البناء، أم أن جزءاً كبيرا من الوطن لازال غير محرر، والنظام الجديد غير واضح المعالم، وبالتالي ينبغي استكمال مرحلة التحرير وتثبيت النظام الجديد واستكمال تحقيق أهداف الثورة وتمكينها؟ وهل السلطة الموجودة الآن، والمطلوب منها استكمال مرحلة تمكين الثورة هي نفسها التي ستتولى استمرار قيادة المرحلة الانتقالية في مساراتها الأخرى، أم أن هناك تشكيلاً أخر ينبغي أن يتولى هذه المهمة؟

ما يصعب من المهمة، أن الإجابة عن الكثير من هذه الأسئلة في ذهن القيادات الجديدة لازالت، إما غير واضحة لديهم، أو هي واضحة لهم ولكنها غير معلومة للأطراف الأخرى. إن طبيعة المرحلة الانتقالية والخطوات التي ستتخذ أثناءها، تعتمد بالأساس على ما سيأتي بعدها، فهل ستخدم هذه المرحلة لاحقاً على نظام ديمقراطي طبقاً للمعايير الغربية، أم نظام ملكي دستوري، أم نظام ذو طبيعة جديدة؟ لذلك فمن المهم الإجابة عن أهم هذه الأسئلة بسرعة حتى تكون إجراءات المرحلة الانتقالية متوافقة معها. الأهم هو أن يكون ذلك في ظل توافق وتفاهم بين مكونات الشعب السوري بأطيافه المختلفة، أياً كان النظام الذي سيتم تبنيه، بما يضمن تحقق أكبر قدر ممكن من الوحدة الوطنية اللازمة لمواجهة كافة التحديات الكبيرة الأخرى.

سنحاول في الجزء الأخير من هذه الدراسة تقديم بعض التصورات حول كيفية الإجابة عن هذه الأسئلة، والتعامل مع تلك التناقضات، من وجهة نظرنا، وكيف يمكن الجمع بين السرعة والحسم من ناحية، والتأني المطلوب في بناء النظام السياسي الجديد على أسس متينة من ناحية أخرى. بالطبع ما سنقدمه لاحقاً في الجزء الأخير من الدراسة حول التوصيات هو مجرد اقتراحات، يمكن تقديم غيرها بما يخدم نفس الأغراض ويحقق نفس الأهداف.

ثانيا – التوافقات السياسية وسؤال القيادة:

إن الإشكالية التي تظهر الآن في السماء السياسية السورية، هو تعدد التشكيلات والهيئات التي تُصدِّر نفسها على أنها مسؤولة عن قيادة الشعب السوري.

هناك الائتلاف الوطني برئاسة هادي البحرة، والحكومة المؤقتة (جهاز من أجهزة الائتلاف) برئاسة عبد الرحمن مصطفى، وحكومة الإنقاذ في إدلب برئاسة محمد البشير، والتي تحولت إلى الحكومة السورية المؤقتة بعد أن تزعمت هيئة تحرير الشام عملية إسقاط نظام الأسد.

وبالتزامن مع إعلان أحمد الشرع تكليف البشير  برئاسة الحكومة المؤقتة، إلى حين الفراغ من المرحلة الانتقالية، لم يصدر حول ذلك أي تعليق رسمي من قبل الائتلاف المعارض. في حين صرح البحرة (رئيس الائتلاف) بأن قوى المعارضة تخطط لتشكيل حكومة مدنية انتقالية، لن تضم أعضاء من هيئة تحرير الشام ([1]).  وأضاف البحرة  إن الحكومة الانتقالية ستقود البلاد حتى إجراء انتخابات حرة، مع تحديد جدول زمني مؤقت لمدة 18 شهراً.

كما وأعلن البحرة، في مقابلة تلفزيونية، أن المعارضة ستجتمع مع دول عربية وأوروبية والأمم المتحدة للاتفاق على المرحلة التالية. في السياق ذاته، نفى نائب الائتلاف السوري المعارض عبد المجيد بركات أن يكون قد تم التنسيق بين الهيئة والائتلاف في تسمية محمد البشير كرئيس للحكومة السورية المؤقتة. واصفا السلطة في دمشق حالياً بسلطة الأمر الواقع، ومؤكداً على أن الائتلاف وأجهزته هي المعارضة الشرعية لنظام الأسد. (انظر)

ولم يذكر الائتلاف، ولا البحرة، مصدر الشرعية الذي يتيح لهم الحديث عن هذا الأمر، واتخاذ قرارات بشأنه، سواء كانت شرعية سياسية أو قانونية، أو شرعية الأمر الواقع بفعل امتلاك القوة العسكرية والقيام بالدور الفعلي في خلع نظام الأسد.

الائتلاف لم يكتف فقط بالتصريحات الإعلامية، بل حاول التحرك ضمن المضمار السياسي، بشكل معاكس لمسار الإدارة الجديدة في دمشق، في محاولة اعتبرها البعض محاولة من الائتلاف للالتفاف على هيئة تحرير الشام والاستئثار بالشرعية أمام المجتمع الدولي. وجاء هذا التحرك، الذي أثار معارضة شعبية واسعة، في دعم مخرجات اجتماع لجنة الاتصال الوزارية التابعة لجامعة الدول العربية المعروف باسم “قمة العقبة”.  وأصدر الائتلاف الوطني بياناً أكد فيه دعمه للبيان الختامي لاجتماع العقبة الذي انعقد في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر في مدينة العقبة الأردنية([2]) . وكان بيان العقبة قد نص في بنده الثاني والثالث على دعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية-سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية السورية، وبما فيها المرأة والشباب والمجتمع المدني بعدالة، وترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، ووفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤ وأهدافه وآلياته. كما أكد البيان على دعم دور المبعوث الأممي إلى سورية، والطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تزويده كل الإمكانات اللازمة وبدء العمل على إنشاء بعثة أممية بهدف العملية الانتقالية ورعايتها وفق القرار المذكور سابقاً.

إن نقطة الخلاف الجوهرية الأولى التي تضع إشارات استفهام كبيرة على المسار الذي يقوده الائتلاف، هو في القرار 2245 نفسه الصادر عام 2015، والذي لا ينطبق على الحالة السورية الآنية، حيث يقوم القرار في أصله على معالجة الأمور بين النظام السوري “المخلوع” وبين المعارضة السورية، والتي كان يشكل الائتلاف السوري جزءاً منها قبل سقوط النظام. إلا أن البعض يرى في إحياء القرار مرة أخرى دون تحديثه بما يتوافق مع مجريات الأرض التفافاً على حقيقة أن النظام السوري السابق سقط بقوة السلاح وليس بالحوار، وإغفال ذلك يفتح المجال لانخراط فلول النظام السابق في عملية الانتقال السياسي، الأمر الذي يرفضه السوريون، ويرون أن هذه مسألة يجب تجاوزها بعد سقوط النظام وتشكيل الحكومة الانتقالية.

أما النقطة الخلافية الثانية، فتتعلق بالبند الثالث من مخرجات اجتماع العقبة، والذي ينص على دور المبعوث الأممي إلى سوريا، والبعثة الأممية التي سيكون من مهامها الإشراف على عملية الانتقال السياسي، وهو ما يخرج العملية الانتقالية من كونها سورية-سورية ويضعها تحت الوصاية الأممية. هذا الأمر أكد عليه السياسي السوري برهان غليون في تصريحات صحفية قال فيها: “العديد من الدول لها مصلحة بأن يكون القرار (2245) هو المرجعية، ولن تعطي شرعية للنظام الجديد إلا على أساس هذا القرار” وأضاف: “بعد مؤتمر العقبة وتصريحات الدول الغربية، لا يمكن تجاوز القرار، وإنما هو الوسيلة الوحيدة لمشاركة الدول المعنية في بناء النظام الجديد”، والتخلي عنه يعني أنه “لن يكون لهم دور في مستقبل سوريا”.

أما عن سر تمسك الائتلاف بالانتقال السياسي تحت مظلة القرار 2245، لفت غليون إلى أن “الكثير من الأطراف السياسية السورية “لها مصلحة بأن يكون هو مرجعية أي انتقال سياسي، بما في ذلك الائتلاف، لأن من دون هذا القرار يعني أن [هذا الكيان] لن يكون موجوداً في المستقبل” ([3]).

ردود الفعل المتباينة من موقف الائتلاف، والغضب الشعبي من دعمه لبيان العقبة، دفع بالائتلاف إلى إصدار بيان جديد، أكد فيه على دعم حكومة البشير، ليس اعترافاً بشرعيتها، وإنما ذلك لضرورة وجود سلطة تنفيذية مؤقتة تشغّل مؤسسات الدولة وتقدم الخدمات للشعب حتى بداية آذار المقبل (كما ورد في بيان تشكيلها)، بحسب بيان الائتلاف في السادس عشر من كانون الأول/ديسمبر 2024 (البيان) . وهذا يعني أن الائتلاف لا يرى حكومة البشير أكثر من “مسيّر” للأعمال، لن يكون لها وجود في المرحلة الانتقالية بعد آذار/مارس، كما أكد البحرة في تصريحات سابقة.

من جهته لفت الشرع، خلال زيارة المبعوث الأممي إلى سوريا جير بيدرسون في السادس عشر من ديسمبر/كانون الأول، إلى ضرورة إعادة النظر بالقرار الأممي 2245 وذلك للتغيّرات التي طرأت على المشهد السوري، وهو ما يعني ضمنيا رفض الإدارة الجديدة في دمشق لمخرجات العقبة.

إن السعي المبكر للائتلاف إلى إثارة الانقسام السياسي، مستغلاً التخوفات الإقليمية والدولية من هيئة تحرير الشام، وتعدد الجهات السياسية السورية، والإيديولوجيات المختلفة التي تمثل كل منها، واتهام الهيئة بالاستئثار بالمشهد السياسي تحت سلطة الأمر الواقع، يفتح الباب على تكهنات حول صعوبة الوصول إلى توافقات سياسية بين الجهات الفاعلة في المشهد السوري، وإمكانية خروج هذه الخلافات على شكل نزاع حول السلطة، يضيّع على السوريين فرصة تشكيل حكومة قوية ومتينة تصل إلى سقف توقعاتهم.

كما أن الوجوه التي تمثل الائتلاف، لم تكن وجوهاً مُرضية للشعب السوري خلال السنوات الـ 14 الماضية. وهذا تحدي يتعلق بالشخصية القادرة على توحيد صفوف السوريين خلفها لتتسلم قيادة المشهد السوري.

ورغم أن الانتصارات التي حققتها إدارة العمليات العسكرية بقيادة أحمد الشرع، والطريقة التي أدار بها الشرع مخاوف الفئات السورية المختلفة منذ السيطرة على دمشق، والتطمينات التي أعطاها للأطراف الدولية والإقليمية، وللأقليات، وللمجندين الإلزاميين في الجيش السوري، وتأكيده على أن تحرير سوريا من الأسد هو فتح لا انتقام فيه، صدّرته إلى الواجهة كشخصية عسكرية وسياسية قادرة على قيادة البلاد، إلا أن الخلفية الماضية للشرع (الجولاني) وانتمائه سابقاً إلى جبهة النصرة، وتصنيفه على قوائم الإرهاب، والإيديولوجية الإسلامية التي يستخدمها بعض المخالفين للتخويف من سيطرة الإسلاميين على مقاليد الحكم في سوريا، وتكهنات البعض بوجود مشروع شخصي للشرع، وبميول للسلطة قد تجعله حاكماً دكتاتورياً في المستقبل، كل تلك الاعتبارات ساهمت في جعله شخصية جدلية، وإن كانت بدرجة أخف بكثير عما قبل عملية ردع العدوان.

بالإضافة إلى ذلك، فإنه بالنسبة لقيادة الشرع بالذات، فإن هناك تحدٍ أخر يتعلق بقيادات الجماعات المسلحة الأخرى التي تحالفت مع هيئة تحرير الشام والتقت معها على هدف واحد يتمثل في إسقاط نظام الأسد، على الرغم مما كان بينها من تناقضات فكرية وصراعات وصلت لأن تكون مسلحة في بعض المراحل. قد ترى بعض هذه القيادات أحقيتها في التواجد في المشهد السياسي، بل وتصدره، فضلاً عن التواجد في المشهد العسكري، في المستقبل، ما يفرض أهمية خاصة للتعامل مع هذا الأمر، والتأكد من أن جميع من شاركوا في إسقاط الأسد متفقون، في هذه المرحلة على الأقل، على التسليم بقيادة الشرع، حتى لا يتحول ذلك إلى ملف مفخخ في المستقبل، قد يجهض أي محاولات لفرض الاستقرار والانطلاق نحو البناء.

إن تحدي فرض السلطة السياسية القادرة على القيادة، والمتوافق عليها، هو تحدٍ كبير ، وينبغي التعامل معه كأولوية قصوى في أقصر وقت ممكن. حسم هذا الملف سيمكن معه مواجهة العديد من التحديات المذكورة في هذه الدراسة بشكل أكثر كفاءة، ويقطع الطريق على الكثير من المحاولات لحرف مسار الثورة السورية، وبالتالي يمكن اعتباره أولوية أولى.

ثالثاً – سورية الجديدة – التحديات الاستراتيجية والمجتمع الدولي

عندما يتم الحديث عن سورية، لا يمكن أن نغفل دور موقعها الاستراتيجي المؤثر على واقع التشابكات الإقليمية والدولية، والتي ساهمت في تعقيد مشهد الحل خلال السنوات الثلاثة عشر الماضية.

 حالة التعقيد التي وصلت لها الأزمة السورية لتكون الأزمة الأكثر تعقيداً في العالم، كانت نظير تعدد أطرافها المحلية والإقليمية والدولية، وتباين مصالح كل طرف إلى حد التشابك أحيانا والتعارض أحيانا أخرى.  والسؤال الذي يمكن طرحه خلال هذه الفترة: ما مصير المصالح الاستراتيجية للدول الإقليمية والعالمية على الأرض السورية؟ وكيف سيتم إدارتها من قبل الأطراف الدولية المؤثرة على الساحة السورية؟ وما هي مسؤولية الحكومة الحالية لضمان مصالح سورية السياسية والاقتصادية والاستراتيجية وتوظيفها في البناء الداخلي، بدل الانخراط في نزاعات خارجية منهكة للدولة الوليدة؟

إن إعادة رسم الاستراتيجية الوطنية، تعني تحقيق التوازن بين حماية المصالح الوطنية، وفتح الأبواب لعلاقات إقليمية ودولية متوازنة بين سوريا الجديدة ومحيطها الإقليمي والعالمي. لذلك فإن من أهم التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة هو وضع حجر أساس لسياسة خارجية متينة، وهذا لا يقل أهمية عن السياسة الداخلية، خاصة وعندما تتعاظم التهديدات الخارجية تتطلب هذه التهديدات حكومة قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة وبناء استراتيجية شاملة لاستعادة مكانة سوريا على الساحة الدولية.

وبرغم صعوبة التحديات الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن التحديات الإستراتيجية يمكن أن يكون لها تداعيات خطيرة تتضاءل بجوارها التحديات الداخلية، وذلك للأهمية الإستراتيجية التي يوليها العالم أجمع لسوريا، ولأطماع جميع القوى الكبرى الدولية والإقليمية ليكون لها موطئ قدم في سوريا، ما يثير الكثير من النزاعات والتدخلات بشكل دائم.

إذا ما نظرنا حاليا إلى أكبر ما يهدد الحدود السورية، نجد أن إسرائيل تأتي في المرتبة الأولى. إسرائيل تدرك خطورة نشوء نظام وطني مستقل في سوريا  عليها، بله أن يكون إسلامياً، لذلك، فبعد سقوط حكم بشار الأسد في سوريا، تكثفت الغارات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية، مستهدفة منشآت عسكرية ومخازن أسلحة.

بعد ساعات فقط من سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، بدأ الجيش الإسرائيلي سريعا في توجيه ضربات ضد ما وصفها بأهداف استراتيجية في سوريا، شملت مقاتلات وقطع بحرية ومطارات ومنصات دفاع جوي، فيما اعتبرها محللون عسكريون خطوة لإضعاف أي سلطة مقبلة في سوريا، ربما تفكر في معاداة إسرائيل.

ووجهت إسرائيل نحو 480 ضربة خلال 48 ساعة ضد أهداف سورية شملت مخزونات الأسلحة الاستراتيجية، بينها “مواقع ترسو فيها قطع بحرية ومطارات سلاح الجو السوري والعشرات من أهداف مواقع الإنتاج”، وفق بيان للجيش ([4]).

وبررت إسرائيل هذه الهجمات بأنها تهدف إلى تعزيز أمنها ومنع وقوع الأسلحة المتقدمة، مثل الأسلحة الكيميائية، في أيدي من وصفتهم بـ “جماعات إرهابية”.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تصف تحركاتها بأنها “دفاعية وقائية”، يرى البعض أن هذه الغارات كان الهدف منها تقليص قدرات الدولة السورية العسكرية وإضعافها في مرحلة “ما بعد الأسد”.

وسارع الجيش الإسرائيلي بعد سقوط الأسد إلى إعلان نشر قواته العسكرية في المنطقة العازلة على الحدود السورية، التي تفصل هضبة الجولان المحتلة عن الأراضي السورية، فيما أعلن رئيس الوزراء إلغاء اتفاق فك الارتباط بين البلدين الموقع عام 1974، والذي وقعه الطرفان لوقف إطلاق النار، ومنذ ذلك الحين تتم مراقبة الخط الفاصل من قبل قوات أممية.

ويعتبر هذا أول دخول عسكري للمنطقة العازلة منذ توقيع الاتفاق الذي أنشأ هذه المنطقة بين إسرائيل وسوريا ([5]).

تتوسع إسرائيل تدريجيا داخل الحدود السورية، واحتلت الان باقي هضبة الجولان بالكامل ابتداءً من جبل الشيخ شمالاً وصولاً إلى قرية المعرية في درعا باتجاه الحدود الأردنية السورية جنوبا.

هناك خطط إسرائيلية أعلنتها بعض المصادر الرسمية لفتح ما أطلقت عليه ممر داود، وهو ممر بكامل طول الحدود السورية الجنوبية مع الأردن، وصولاً إلى الحدود مع العراق، ما يشكل أخطاراً استراتيجية على سوريا (وعلى تركيا بالطبع) إذا تم التواصل الإسرائيلي مع قوات سوريا الديمقراطية، قسد، في منطقة شرق الفرات. وهناك خطورة في أن تكون التوغلات الإسرائيلية الأخيرة مقدمة لفتح هذا الممر، فضلا عن تهديد العاصمة السورية ذاتها، سواء بالتحكم في جبل الشيخ، أو بالاقتراب منها بكيلومترات قليلة.

إن الأطماع الإسرائيلية ليست فقط أطماعاً ذاتية، وإنما جزء منها هو بالوكالة عن أمريكا والغرب. وتدرك الدوائر الغربية الأهمية الاستراتيجية لسوريا، كواحد من أهم مفاصل النظام الدولي في العالم، وكمفتاح لأية تغيرات جوهرية يمكن أن تتداعى في سائر المنطقة. وفضلاً عن المصالح الجيوستراتيجية لهذه الدول في سوريا، فإن هناك مخططات غربية معلنة ومنشورة لتقسيم سوريا، وقد توجد الظروف الحالية مسوغات، مثل حماية الأقليات وحقوق المرأة وغير ذلك، للتدخل المباشر أو غير المباشر لدعم أطراف داخلية أو ميليشيات مسلحة للدفع بسيناريو التقسيم.

التحدي الاستراتيجي المهم الآخر يأتي من منطقة شرق الفرات، سواء من قوات قسد المدعومة أمريكياً، أم من داعش التي يمكنها أن تعاود التمدد وتشكيل تهديد حقيقي لاستقرار البلاد. هذا التحدي تحديداً من الممكن أن يتعاظم أثره إذا ما أُطلق سراح الالاف من معتقلي داعش الموجودين في سجون قسد، إذا ما تراخت قبضة قوات سوريا الديمقراطية عن السيطرة على هذه المعتقلات. تمدد داعش أيضاً قد يشكل مسوغاً للمزيد من التدخل من القوات الأمريكية بحجة محاربة داعش، وهو ما سيشكل في حد ذاته تهديداً استراتيجياً للنظام الجديد، قد يدفع باتجاه فصل هذا الإقليم عن سوريا إذا لم يتم التعامل معه بحنكة واقتدار.

من ضمن التحديات أيضاً، التواجد الإيراني، والتراجع الاستراتيجي لإيران في المنطقة نتيجة ما حدث مؤخراً في سوريا. النظام في طهران يعتبر ما حدث جزءاً من مؤامرة أمريكية صهيونية ضد محور المقاومة، وهاجم المسئولون الإيرانيون الوضع الجديد صراحة، وصرح المرشد الإيراني علي خامنئي في تغريدة على موقع “إكس” محرضاً فيها بقوله: “ليس لدى الشاب السوري ما يخسره. جامعته، مدرسته، منزله وحياته كلها غير آمنة، فماذا يفعل؟ يجب عليه أن يقف بإرادة قوية أمام أولئك الذين خططوا ونفّذوا لهذه الحالة من انعدام الأمن، وسيتغلب عليهم إن شاء الله” ([6]). كما صرح وزير الخارجية الإيراني مؤخراً أن “من يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا، عليهم التمهل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة! وقد رد عليه وزير الخارجية السوري الجديد “على إيران احترام إرادة شعبنا وسيادة البلاد، ونحذرها من بث الفوضى”. أخر التصريحات جاءت من محسن رضائي، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية، نقلاً عن وكالة أنباء إيسنا شبه الرسمية، الذي قال: “إن الشباب والشعب السوري المقاوم لن يسكت بوجه الاحتلال والعدوان الخارجي والاستحواذ الداخلي، إذ في أقل من سنة سيعاد تشكيل المقاومة بثوبها الجديد لمواجهة المشروع الصهيوأمريكي الخبيث المضلل في المنطقة ومن انخدع به” ([7]) .

إن التغير الاستراتيجي نتيجة الوضع السوري الجديد، سلباً فيما يتعلق بإيران، يظهر في اختلال التوازن الإيراني مع إسرائيل بشكل كبير من عدة أوجه. أولاً، تدمير الدفاعات الجوية السورية بشكل شبه كامل بما سيسمح لطائرات F35 الإسرائيلية الشبحية أن تسلك مساراً أقصر مما كان متاحاً من قبل للوصال إلى إيران وشن هجمات جوية على مواقعها الإستراتيجية ثم العودة، دون الحاجة للتزود بالوقود جواً (عمليات التزويد بالوقود كانت غير ممكنة في ظل إمكانات الدفاع الجوي السوري في ضرب طائرات الوقود وإجهاض عمليات التزويد). هذا سيجعل إسرائيل تستطيع شن ضربات جوية مؤثرة على إيران بمفردها، دون الحاجة لمشاركة أمريكية كانت ضرورية في السابق.

الوجه الثاني هو تدمير قدرات حزب الله مؤخراً، والذي كان يشكل ردعاً إيرانياً لإسرائيل عن توجيه ضربات لإيران، وعدم قدرة إيران على إعادة بناء قدراته مرة أخرى بعد التموضعات الإسرائيلية الأخيرة، خاصة على جبل حرمون، بما يمكن أن يكشف أي تحركات إيرانية لإعادة إمداد الحزب، أو قيام الحزب باستخدام المسيرات التي كانت تبدأ في الطيران من خلف الجبل دون أن تستطيع إسرائيل كشفها، كما كان يحدث من قبل.

بالتالي، وفي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة الجديدة ترسيخ سلطتها، ستواجه تحديات استراتيجية ناتجة عن التحركات الإيرانية الحثيثة المتوقعة لاستعادة تموضعها الإستراتيجي، واستخدام نفوذها المتبقي في سوريا بحيث يتم توظيفه في محاولات لتقويض الوضع الجديد سعياً لاستعادة نفوذها الضائع الذي أثر كثيراً على وضعها الإستراتيجي في المنطقة.

التواجد الروسي في القاعدتين في اللاذقية وطرطوس لايزال مستمراً، لكن لا يبدو أن هذا التواجد سيترتب عليه تهديدات ضد النظام الجديد في الوقت الراهن، بل قد يمكن الوصول لتفاهمات ما بين الطرفين لتقنين هذا التواجد للحد اللازم فقط.

كان هناك تخوف أخر من أن تلجأ بعض الدول الإقليمية التي كانت قد بدأت في تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، مثل الإمارات والسعودية، إلى دعم بعض الأطراف في داخل سوريا للانقلاب على المنظومة الجديدة، على غرار ما حدث في مصر على سبيل المثال، غير أنه سريعاً، بعد ما ظهر من تمكن النظام الجديد، وإطلاقه لعدد من رسائل الطمأنة، بدأت تظهر إشارات مهمة، خاصة من السعودية، بالاستعداد لدعم النظام الجديد في هذه المرحلة.

الحكومة الجديدة تحتاج إلى كسب ثقة المجتمع الدولي وإعادة بناء العلاقات مع القوى الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا. ومع ذلك، قد تعيق هذه العملية المصالح المتضاربة لهذه القوى في سوريا  .في هذا السياق لا بد من إعادة الإشارة إلى اجتماع العقبة حيث سارعت الدول العربية إلى إصدار بيان توثق فيه نظرتها إلى مستقبل الدولة السورية. ورهن العملية الانتقالية للمظلة الأممية، ليتاح لهذه القوى أن ترسم ملامح هذه الدولة الاستراتيجية بما يتوافق والمصالح الاستراتيجية لهذه الدول أيضاً، وهو ما يشكل تهديدا كبيرا لسيادة سوريا المستقبل على كامل أراضيها.

إن هذه التحديات الاستراتيجية ستفرض ضغوطاً هائلة على النظام الجديد. العمل على مواجهة هذه الضغوط وعدم الاندفاع في الاستسلام للأجندات التي وراءها يعتبر تحدياً استراتيجياً في حد ذاته. فبقاء النظام مستقلاً وصامداً أمام هذه التحديات هو مفتاح النجاح الأهم في بناء سورية المستقبل، حرة ومستقلة وموحدة.

رابعاً – الثورة إلى الوراء.. احتمالية الثورة المضادة

رغم انتصار ثورة 2011 بسقوط نظام بشار الأسد، إلا أن ذلك لا ينفي تحديات المرحلة القادمة والتخوفات من اندلاع ما يعرف بـ”الثورة المضادة” على غرار بلدان عربية أخرى مثل مصر وليبيا. تتزايد المخاوف من احتمالية نشوب ثورة مضادة تقودها قوى داخلية أو خارجية تسعى لإعادة تشكيل الوضع السياسي بما يخدم مصالحها، لمنع تحقيق أهداف الثورة الأصلية وسرقة مكتسباتها.

الأطراف المذكورة هنا، ستكون من ضمن القوى المحتمل أن تنشط في إطار مثل هذه الثورة المضادة:

  1. بقايا عناصر النظام السابق الأمنية والعسكرية، والمسؤولون البارزون في النظام كشقيق بشار، ماهر الأسد. اختفائهم عن المشهد حاليا يعتبر مثيراً للريبة، بالإضافة إلى تلاشي وجود المليشيات الإيرانية التي كانت تنتشر على طول وعرض الأراضي السورية، مما يطرح تساؤلات حول انكفائهم ليصبحوا خلايا نائمة، أو تنظيمات متمردة تسعى لإعادة فرض نفوذها.
  2. شبكات المصالح الاقتصادية من رجال أعمال مرتبطين بالنظام، قد يستخدمون مواردهم لإثارة الفوضى أو دعم عمليات مضادة للثورة، خاصة إذا ما تلاقت مصالحهم مع مصالح بعض الدول التي كانت تدعم نظام بشار الأسد في العلن أو تحت الطاولة.
  3. رغبة بعض الأطراف الإقليمية في إعادة خلط الأوراق، كإيران مثلا، التي قد تحاول حماية نفوذها في سوريا عبر تمويل وتسليح جماعات موالية، أو تلك الخلايا النائمة مجدداً، لتقويض عمل الحكومة الانتقالية غير المتوافقة مع مصالحها.
  4. الانقسامات الداخلية والاجتماعية والتي قد تتخذ بدورها أشكالاً متعددة:
  5. انقسامات الفصائل المسلحة، خاصة إذا ما فشلت سياسية احتوائها.
  6. الانقسامات السياسية، ورغبة كل جهة سياسية بتصدير نفسها على حساب الجهات الأخرى، ما قد يؤدي إلى الحشد والتعبئة الشعبية ضد الحكومة الانتقالية.
  7. الانقسامات الطائفية والعرقية التي قد تستغلها قوى معادية للثورة لإثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار (وقد بدأت ارهاصات ذلك بالفعل في عدة مدن سورية كما سيأتي لاحقاً).
  8. بعض القوى الدولية التي قد تعمل على دعم أطراف موالية للنظام، أو تحريض الانقسامات الطائفية أو العرقية، لتعطيل الانتقال السياسي.
  9. الحنق الشعبي قد يكون من ضمن العوامل التي قد تنذر بثورة مضادة إذا لم تستطع الحكومة الحالية الوفاء بالتزاماتها بشكل سريع، حيث أن التركة الثقيلة التي تركها نظام الأسد، قد يجعل من إمكانية النهوض مجدداً للوصول إلى التطلعات الشعبية بسرعة أمراً بالغ الصعوبة، خاصة مع ضعف مؤسسات الدولة، خاصة الاقتصادية.

وخلال مراحل كتابة هذه الدراسة، بدأت فعلا أصابع خفية بمحاولة العبث بمكتسبات الثورة وإثارة الفتن سعياً للانقلاب على الإدارة المؤقتة، من خلال إثارة النعرات الطائفية والتحريض عليها بين المكونات السورية، مستغلة مخاوف بعض الفئات أو الأقليات الطائفية “المسيحيون والعلويون”.

ففي الفترة الممتدة بين 24 و25 ديسمبر/كانون الأول 2024، قام مجهولون باغتيال 3 قضاة كانوا يشرفون على إصدار أحكام إعدام تعسفية بحق المعتقلين خلال فترة الثورة السورية في مدينة مصياف  ذات الغالبية “العلوية – الإسماعيلية”.

كما قام عنصر أجنبي من عناصر هيئة تحرير الشام بإحراق شجرة “الميلاد” في مدينة السقيلبية ذات الغالبية المسيحية.

حادثة إحراق شجرة الميلاد دفعت بالمسيحيين في الأحياء ذات الغالبية المسيحية في مدينة دمشق (باب توما – القصاع) بالخروج بمظاهرات حملوا فيها الصليب مرددين شعارات طائفية مثل: (عندك حلّين صليبك والبارودة).

في اليوم التالي في 25 ديسمبر/كانون الأول 2024، تم إعادة نشر فيديو لإحراق مسلحين مقام شيخ الطائفة العلوية ومؤسس ما يسمى بـ”المذهب العلوي” الحسين بن حمدان الخصيبي في حلب. المقام ملاصق لثكنة هنانو العسكرية في حي العرقوب، حيث تحصن فيها جنود من النظام وقتلوا في معركة مع الثوار، ولم يكن المقام مستهدفا على الإطلاق.

ورغم أن الفيديو يعود إلى الأيام الأولى لتحرير حلب ، إلا أن انتشاره، وادعاء أنه حدث يوم نشره، في هذا التوقيت أثار ريبة الكثيرين، خاصة بعد أن تلى انتشاره خروج مظاهرات في الأحياء ذات الغالبية العلوية في دمشق وحمص، بالإضافة إلى المدن العلوية في الساحل السوري، رافعين العلم السوري “الأحمر” القديم، ومرددين شعارات طائفية.

كما صدر بيان عما يسمى بالمجلس الإسلامي العلوي في لبنان، يستدعي تدخلات من المجتمع الدولي، مشيراً إلى عدد من الحوادث التي أشرنا إليها.

وتعرضت قوات من الأمن التابعة للنظام الجديد لكمين من فلول النظام السابق يوم 25 ديسمبر  بريف طرطوس قتل فيه 14 من عناصر الأمن.

من جهتنا نقرأ هذه الأحداث المتزايدة، والمرصودة كعينات خلال يومين فقط، كمحاولات حثيثة من قبل فلول النظام السابق وجهات خارجية إقليمية كإيران، التي أطلق مرشدها الأعلى ووزير خارجيتها تصريحات نارية مضادة للتطورات الجديدة في سوريا مباشرة قبل اندلاع الأحداث التي أشرنا إليها، لعرقلة جهود الإدارة الجديدة في المرحلة الانتقالية الساعية إلى احتواء أي أزمات طائفية، خاصة وأن إدارة الشرع حاولت منذ اليوم الأول خلق تطمينات والتعامل مع جميع المكونات بسياسة قائمة على الصفح وتجاوز إرث الماضي، وإبعاد شبح الثأر والانتقام عن الأجواء السورية؛ بالإضافة إلى تصوير أن ما يحصل بعد سيطرة هيئة تحرير الشام “الإسلامية – السنية” على مشهد الحكم في البلاد، بإنه حكم إقصائي قائم على استهداف الطوائف والأقليات داخل سورية.

إلا أننا مع كل ذلك لا نرى أن تهديد فلول النظام السابق يرقى إلى ما كان قائماً في مصر على سبيل المثال، فهؤلاء لا يتحركون من خلال تنظيم سياسي متماسك كما كان الحال في مصر (الحزب الوطني الديمقراطي). العامل الأهم هو عدم وجود مؤسسة الجيش التي يمكن أن تتآمر ضد النظام الجديد وتقف وراء هؤلاء الفلول كما حدث في مصر. لذلك تبقى التحديات الداخلية الأمنية والاقتصادية أعمق أثراً من تحديات فلول النظام القديم.

خامساً – التحديات الأمنية وفرض الاستقرار

لقد كان مشهد انسحاب قوات الجيش والشرطة من المدن السورية في ليلة سقوط نظام بشار الأسد، مريباً ومثيراً للشكوك أيضاً. خلع هؤلاء ملابسهم العسكرية في ثكناتهم، وارتدوا ملابس مدنية، ثم انخرطوا بين عامة الشعب. فتُركت العاصمة دمشق والمدن المحررة دون أي جهات أمنية فاعلة على الأرض تضبط الأمن وتفرض الاستقرار، حتى قيام الإدارة الجديدة ببسط سيطرتها مجدداً وإدارة العملية الأمنية بسلاسة ونجاح. لكن ورغم النجاح المبدئي بذلك، لا يزال سؤال التحديات الأمنية يفرض نفسه خلال المرحلة الانتقالية، خاصة إذا ما تحدثنا عن خلايا نائمة لا زالت تضمر الولاء لنظام بشار الأسد، ودولة عميقة قد تعمل على إثارة البلبلة أو التحريض المجتمعي والطائفي. نضيف إلى ذلك انتشار السلاح بيد الفصائل المختلفة، وحتى بعض المدنيين، وإمكانية ظهور مليشيات غير منظمة، تابعة لجهات مختلفة، قد تحاول خلق القلاقل ضمن المجتمع.

كما أن فرصة نشوء مشاعر غضب ورغبة في الانتقام بين المجتمعات المتضررة، قد يشكل تهديداً للاستقرار خلال المرحلة الانتقالية. وقد يكون ذلك مدفوعاً ومنظماً ضمن مخطط ساعي لضرب الاستقرار الناشئ في سورية، ضمن دور للخلايا النائمة والدولة العميقة كما ذكرنا سابقاً.

لذلك فإن من التحديات الجلية، القدرة على تأسيس قوة أمنية انتقالية محايدة لضبط الأمن، وعناصر مؤهلة من مختلف المكونات، إضافة إلى تقنين امتلاك السلاح ومعالجة مخاوف وجود خلايا نائمة من خلال تعزيز أجهزة الاستخبارات لمراقبة وتفكيك هذه الخلايا، واعتقال ومحاسبة العناصر المتورطة في أعمال تحريض أو تخريب، مع تعزيز الشفافية في تعيين القيادات لضمان عدم تسلل الولاءات القديمة.

سادساً – الجيش والمؤسسة العسكرية: كيف سيُعاد بناء الجيش؟

إعادة بناء الجيش السوري بعد سنوات من الصراع والانهيار تمثل واحدة من أصعب المهام التي تواجه الدولة السورية في مرحلتها الانتقالية. الجيش، الذي كان يُعتبر المؤسسة الأقوى في سورية قبل الثورة، تعرض لتفكك كبير نتيجة الانشقاقات، والانهيار الهيكلي، وتورطه في الصراع الطائفي والسياسي، فضلاً عن تعرضه مؤخرا للتدمير الشامل للأسلحة والمعدات والمنشآت التابعة له تحت تأثير الضربات الإسرائيلية الكاسحة في أعقاب سقوط نظام الأسد، مما يجعل إعادة تأسيسه مهمة بالغة التعقيد. من أهم التحديات التي تواجه إعادة بناء الجيش:

  1.  التحدي الطائفي:

التركيبة الطائفية الحالية: على مدار حكم النظام البعثي، تم بناء الجيش السوري على أسس طائفية، حيث سيطرت الأقليات الطائفية، خاصة العلوية، على المناصب العليا والقيادية، ما أدى إلى ضعف الانتماء الوطني داخل الجيش وتصاعد التوترات الطائفية.

  • الانهيار الهيكلي والمؤسسي:
  • تفكك الوحدات العسكرية: سنوات الحرب أدت إلى انهيار البنية التنظيمية للجيش، حيث تفتتت الكثير من الوحدات بسبب الانشقاقات أو الهزائم الميدانية.
  • فقدان الثقة: تورط الجيش في قمع الثورة والانتهاكات ضد المدنيين أدى إلى انعدام الثقة بين المؤسسة العسكرية والشعب السوري، مما يصعب إعادة تأهيل الجيش ليكون جيشاً وطنياً.
  •  المليشيات البديلة وسيطرتها:
  • دور المليشيات الأجنبية والمحلية: المليشيات الموالية للنظام، بالإضافة إلى تلك التي تمولها أطراف خارجية، أصبحت بديلاً فعلياً للجيش في العديد من المناطق. إعادة دمج هذه المليشيات أو حلها يمثل تحدياً كبيراً.
  • النفوذ الإيراني والروسي: الحضور العسكري والسياسي لإيران وروسيا أثر على استقلالية الجيش، مما يثير المخاوف حول ولاءاته المستقبلية.
  • ضعف التدريب والكفاءة:
  • التدهور المهني: سنوات من النزاع أضعفت الكفاءة القتالية للجيش. معظم المجندين كانوا مجبرين على الخدمة، مع انعدام التدريب الاحترافي، ما يجعل الجيش الحالي غير مؤهل لأداء دوره المستقبلي.
  • نزيف الخبرات: الانشقاقات الجماعية، خاصة في بداية الثورة، أدت إلى فقدان الجيش للعديد من الضباط والكوادر المؤهلة.
  • الاعتماد على الدعم الخارجي:
  • تسليح الجيش: تعتمد القوات المسلحة السورية بشكل شبه كامل على دعم خارجي (إيراني وروسي). إعادة بناء الجيش على أسس وطنية يتطلب التخلص من هذا الاعتماد الكبير.
  • إملاءات الدول الداعمة: التدخل الأجنبي يجعل إعادة بناء الجيش مسألة سياسية معقدة، حيث قد تفرض الدول الداعمة أجنداتها الخاصة.
  • التدمير الكامل لسلاح الجيش:

خسر الجيش السوري تقريبا كافة أسلحته الرئيسية من طائرات وصواريخ ودبابات وأنظمة دفاع جوي وأسطول بحري تحت وطأة القصف الإسرائيلي العنيف مؤخراً، والذي لم يلق أي اعتراض على المستوى الدولي. التحدي الكبير سيكون حول بناء منظومة تسليح جديدة، مع حمايتها من تكرار الاعتداءات الإسرائيلية التي لم تجد رادعاً أمامها في المرة الأولى.

  • إعادة بناء العقيدة العسكرية:
  • عقيدة الولاء للنظام: خلال سنوات النظام السابق، تم بناء عقيدة الجيش على الولاء للنظام الحاكم، وليس للدولة أو الشعب. تغيير هذه العقيدة يحتاج إلى جهود شاملة لتأطير الجيش كضامن للوطن لا أداة لحماية السلطة.
  • ترسيخ المهنية: تدريب أفراد الجيش على احترام حقوق الإنسان والقوانين الدولية سيشكل عنصراً أساسياً في بناء عقيدة جديدة.
  •  التحديات الاقتصادية:
  • تكاليف إعادة البناء: تمويل إعادة تأهيل الجيش، من حيث التسليح والتدريب وإعادة هيكلة المؤسسات، سيكون عبئاً ثقيلاً على دولة خارجة من صراع مدمر.
  • الأجور والمزايا: توفير رواتب عادلة ومزايا للعسكريين الجدد سيكون ضرورياً لجذب الكفاءات وتحفيز الولاء الوطني.
  • دمج القوى المنشقة والفصائل المسلحة:
  • العسكريون المنشقون: الجيش السوري الحر والفصائل الأخرى التي تشكلت أثناء الصراع تضم آلاف العسكريين السابقين. دمج هؤلاء في جيش وطني جديد يمثل تحدياً تقنياً وسياسياً.
  • الفصائل المسلحة: العديد من الفصائل المعارضة تتمتع بقدرات عسكرية كبيرة، لكن دمجها أو تسريحها يتطلب توافقاً وطنياً، نتحدث هنا بالأخص عن الفصائل التي خاضت حرب التحرير الأخيرة، بما فيها هيئة تحرير الشام وحلفائها. نتحدث أيضاً عن وحدات حماية الشعب الكردية، التي تسيطر على مناطق واسعة شرقي الفرات، بدعم أمريكي. كما فرضت وبقوة السلاح إدارة مركزية لشمال شرقي سوريا أو ما يعرف بالكردية بـ “روج آفا”. ورغم قرار لهذه الإدارة برفع العلم السوري الجديد على كافة مباني المؤسسات الرسمية في مناطق سيطرتها، واعتبار هذه المناطق جزء لا يتجزأ من الخارطة السورية ([8])، إلا أن التحدي الحقيقي يتمثل في الوصول إلى توافق بين الإدارة العسكرية بقيادة الشرع وإدارة مليشيات PYD التابع لحزب العمال الكردستاني.
    • كما قد يُطرح السؤال أصلاً عن نجاعة مثل هذا الدمج، وبالتالي هل هناك بديل أخر مناسب لاستيعاب هذه الميليشيات، تحت سيطرة الدولة؟
  • المسلحون المدنيون: من التحديات أيضا قد يكون انتشار السلاح بين المدنيين، مما يضع على الحكومة الحالية أهمية إيجاد حلول للتخلص من السلاح خارج نطاق الدولة. إلا أنه على الجانب الأخر، يرى الكثيرون أن انتشار السلاح بين المواطنين في أطر قانونية منضبطة يشكل ضرورة في الوقت الراهن نظراً للظروف التي تمر بها سوريا، وتلك المنتظر أن تواجهها. ويضرب هؤلاء المثال بالوضع في الولايات المتحدة، التي فشلت محاولات منع انتشار السلاح فيها، نظراً لأنه حق مكفول طبقاً للدستور الأمريكي، على الرغم من أحداث العنف التي تواجهها البلاد من وقت لأخر، خاصة بين الأطفال. ينبغي حسم هذا الجدل والوصول إلى صيغة مقبولة من الجميع.

سابعاً – العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية

العدالة الانتقالية هي عملية شاملة تهدف إلى تحقيق الإنصاف والمصالحة في المجتمعات التي مرت بفترات صراعات داخلية أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. تعتمد العدالة الانتقالية على مجموعة من الآليات والتدابير القانونية والاجتماعية والسياسية التي تسعى لمعالجة إرث الماضي، وضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتوفير العدالة للضحايا، وتعزيز السلم الأهلي.

أهداف العدالة الانتقالية

تركز العدالة الانتقالية على تحقيق أربعة أهداف رئيسية:

  1. محاسبة المسؤولين: تقديم الجناة والمتورطين في الجرائم والانتهاكات للمساءلة القانونية.
  2. إعادة الحقوق للضحايا: تشمل التعويضات المادية والمعنوية، والاعتراف بمعاناتهم، ورد الاعتبار لهم.
  3. الحقيقة والمصالحة: الكشف عن الحقائق المتعلقة بالانتهاكات، وخلق بيئة من المصالحة الوطنية بين مختلف فئات المجتمع.
  4. إصلاح المؤسسات: إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والقضائية والإدارية لضمان احترام حقوق الإنسان ومنع الانتهاكات في المستقبل.

تحقيق هذه الأهداف يوفر فرصة حقيقية لتفكيك الدولة العميقة، والتخلص من المعوقات الداخلية أمام التغيير المنشود، وتسمح في نفس الوقت بفتح المجال أمام المصالحة الوطنية وإعمال أليات العفو العام، مع القصاص العادل من “أكابر المجرمين” بشكل ثوري حاسم.

أدوات العدالة الانتقالية

  1. المحاكمات الجنائية: محاكمة المسؤولين عن الجرائم الكبرى مثل الإبادة الجماعية والتعذيب وجرائم الحرب.
  2. لجان الحقيقة: تحقيقات شاملة وشفافة لتوثيق الانتهاكات والكشف عن الحقائق المخفية.
  3. الإصلاح المؤسسي: تطهير المؤسسات من العناصر المتورطة في الجرائم، وبناء مؤسسات حكومية تحترم حقوق الإنسان، مع استيعاب غير المتورطين في الدماء في هذه المؤسسات.
  4. جبر الضرر: تقديم تعويضات مادية ومعنوية للضحايا وعائلاتهم.
  5. التوثيق والذاكرة الجماعية: إنشاء نصب تذكارية أو متاحف توثق معاناة الضحايا، للحفاظ على ذاكرة وطنية تمنع تكرار الماضي ([9]).

العدالة الانتقالية في السياق السوري

مع سقوط نظام بشار الأسد، تصبح العدالة الانتقالية خطوة حيوية لتحقيق الاستقرار  وإعادة بناء الدولة السورية. على مدار عقود، تعرض السوريون لانتهاكات جسيمة شملت القتل خارج إطار القانون، والتعذيب، والإخفاء القسري، وجرائم الحرب. إلا أن تطبيق العدالة الانتقالية في السياق السوري يخضع أيضاً لعدد من التحديات:

  1. قد تحيل الانقسامات الطائفية والمجتمعية إلى نشوء بعض التحديات التي تعيق عملية المصالحة السورية. ومن الخطوات التي تم فعلها مثلاً لمواجهة مثل هذه التحديات، قيام وفد من المعارضة السورية بزيارة وجهاء العشائر العلوية في القرداحة (معقل النظام السوري السابق)، ليخرج بيان لنحو 30 شخصية علوية، يعلنون فيه دعم المرحلة الانتقالية ووحدة الأراضي السورية والتعددية الدينية والفكرية والثقافية، ويشددون على رغبة الطائفة العلوية في بناء سورية الجديدة القائمة على الألفة والمحبة.
  2. غياب الثقة بالمؤسسات الأمنية والقضائية بسبب فقدانها لمصداقيتها خلال السنوات الماضية وتورطها في الجرائم، وهذا يحيلنا إلى ضرورة إعادة هيكلة هذه المؤسسات من جديد، وسن قوانين ورؤى جديدة، ندخل فيها أسس تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة المجرمين والمتورطين من مختلف المناصب والانتماءات، وكل هذا في حد ذاته يواجه تحديات تؤخر تنفيذه على أرض الواقع.
  3. أعداد الضحايا والجناة والمختفين القسريين الذين لا يزال مصيرهم مجهولا. فمن ناحية فإنه من الصعب بمكان، رغم محاولات حثيثة من قبل هيئات سورية عملت على توثيق الانتهاكات والجرائم التي قام بها النظام السوري السابق، توثيق هذه الأعداد الضخمة للضحايا من جهة، ووجود آلاف المختفين قسريا والذين لم يعرف حتى الآن مكانهم رغم إفراغ السجون والمعتقلات المعروفة من جهة أخرى. كما أن هروب الجناة من مسؤولين عن السجون وسجانين وضباط وعسكريون وغيرهم واختفائهم قبيل سقوط نظام الأسد، يضع على عاتق الحكومة المؤقتة مهمة إحصائهم والاستدلال عليهم والوصول إليهم. لذلك فإن التراكم الهائل لهذه القضايا، يتطلب إنشاء آليات قانونية استثنائية أو تعديل القوانين الجديدة لتتناسب مع الحالة الآنية.
  4. التحديات السابقة، تحيلنا إلى تحد آخر يتعلق بالقوانين الموروثة وإشكاليات تعريف الجرائم والانتهاكات في القانون السوري، حيث أنه لا يغطي بشكل كاف بعض الجرائم الدولية، مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، مما يتطلب من الجهات الفاعلة على هذا الملف، مواءمة القوانين المحلية مع المعايير الدولية لتفعيل آلية محاسبة ناجعة على هذه الجرائم. بالإضافة إلى ذلك فإن سوريا بحاجة إلى كوادر قانونية وقضائية جديدة ونزيهة بعيداً عن الشخصيات التي عملت على تسييس القضاء. مما يستدعي تأهيل قضاة ومحاميين قادرين على التعامل مع  قضايا العدالة الانتقالية.
  5. ضمان شمولية العملية لتغطية كافة الانتهاكات، بغض النظر عن هوية الجناة أو الضحايا.

مما سبق، يظهر جلياً مدى عمق التحديات الضخمة التي تواجه تطبيق قواعد العدالة الانتقالية في سوريا كما ينبغي، مع ما في تأخير هذا الأمر من مخاطر تتعلق بالسلم والأمن الاجتماعي، إذا ما اتسعت دائرة الانتقام الشخصي، والسعي للحصول على الحقوق كلُ بطريقته.

ثامناً – الضعف والتفكك المجتمعي والمواطنة السورية

لقد كانت سورية، التي تقع في قلب الهلال الخصيب، ساحة مفتوحة للهجرات والحروب والصراعات، موقعها الاستراتيجي وغناها بالثروات، جعلها محط أنظار القوى العالمية والإمبراطوريات على مر العصور، هذا الواقع جعلها تحتضن تنوعا واسعاً من الأطياف والأقليات ضمن فسيفساء سكانية، شكلت أبرز سماتها.

لكن هذا التنوع، لم يكن دائما عامل قوة للدولة، بل جعلها في كثير من الأحيان عرضة لاستغلال القوى الاستعمارية والدول المحتلة، خاصة في العصر الحديث، لتحقيق مصالحها والاستفادة من انقسام المكونات السورية وغياب المظلة السياسية والاجتماعية (المواطنة) عن فلسفة السوريين بشكل حقيقي وتطبيقي وليس مجرد شعارات مكتوبة.

لذلك فإن التاريخ شهد على نتائج كارثية لغياب هذه المظلة الجامعة في التاريخ السوري الحديث، وذلك تحديداً عقب سقوط الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى.

وكانت سورية من أكثر الدول التي تضررت سياسياً واجتماعياً عقب سقوط الدولة العثمانية، ودخلت بعد ان وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها في مسار تاريخي من المتاهات لم تعرف معها معنى الاستقرار السياسي، ولم تأخذ نخبها الفرصة الحقيقية لبناء مظلة سياسية تكون المرجع لجميع المكونات المنضوية تحت غطائها. عمّق من ذلك الشرخ الاجتماعي والسياسي الاحتلال الفرنسي لسورية، حيث اجتاحت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال هنري جورو البلاد في 24 تموز/ يوليو/1920 بعد معركة ميسلون بين 3000آلاف متطوع سوري يقودهم وزير الدفاع يوسف العظمة وجيش كامل العدد والعتاد يقوده الجنرال ماريانو جوابييه ودخل جورو  دمشق بعد أيام ليصفي ما بقي من الجيش العربي والمملكة العربية التي كانت بقيادة الأمير فيصل بن الحسين وطرده من سوريا.

فرض الفرنسيون سيطرتهم على البلاد بالقوة، فقسموها إلى عدة دويلات (دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، ودولة جبل الدروز) وأثاروا النزعات الطائفية لتعزيز سيطرتهم. أثار ذلك استياء السوريين ودفعهم إلى تنظيم أنفسهم سياسياً واجتماعياً لمقاومة الاحتلال. فكانت الحركات السورية حينها مزيجاً من الحركات الوطنية، الأحزاب السياسية، والتنظيمات الاجتماعية التي نشأت لمواجهة الاستعمار الفرنسي، والعمل من أجل الاستقلال.

عقب الحرب العالمية الثانية، التي أدت إلى تغييرات جذرية في التوازنات الدولية والنظام العالمي، أفل نجم دول الانتداب (فرنسا، بريطانيا)، وانتهت معها الهيمنة الأوروبية التقليدية على العالم، مع ظهور قوتان عالميتان جديدتان (أمريكا، الاتحاد السوفييتي). ساهم ذلك في خدمة حركات التحرر الوطنية لتنسحب القوات الفرنسية في السابع عشر من نيسان/إبريل عام 1946، وتنال سورية استقلالها الذي لم تهنأ به.

دخلت بعدها البلاد مرحلة مضطربة سياسيا واجتماعياً، حيث شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية التي زعزعت استقرار النظام السياسي وأثرت بشكل كبير على مسار الدولة. سبع انقلابات بدأت مع انقلاب حسني الزعيم في عام 1949 وانتهت مع انقلاب حافظ الأسد في 1970.

أحداث متعاقبة شهدتها الساحة السورية، انتهت ببسط حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة حافظ الأسد سيطرته وسلطته على جميع مفاصل الدولة السورية بقبضة حديدية، واعتمد سياسة البعثنة حيث عزز نفوذ حزب البعث في الجيش والمؤسسات الحكومية، وأطلق اليد لسلطة أجهزة الأمن والمخابرات لقمع المعارضة، كما استخدم الطائفية كوسيلة للسيطرة وضمان الولاء.

أما اجتماعياً فقد شهد المجتمع تحولات عميقة تركت أثاراً طويلة الأمد على البنية الاجتماعية والنفسية للسوريين، حيث استخدم حزب البعث وعلى مدار أكثر من 50 عاماً أدوات متعددة لتشكيل المجتمع وفق رؤيته، وسيطر على التعليم والإعلام، وأدت سياساته الاقتصادية إلى تفكيك الطبقة الوسطى في سورية ليصبح المجتمع منقسما بين أقلية مستفيدة من السلطة وغالبية تعاني من التهميش والفقر، كما اعتمد على الطائفة العلوية، كما ذكرنا سابقاً، في المناصب الحساسة في الجيش والأجهزة الأمنية، ما أدى إلى تعميق الانقسامات الطائفية وذرع بذور عدم الثقة بين الطوائف.

ومع معاناة الشعب من القمع وانعدام الحريات، تراكمت أزمات نفسية في المجتمع السوري كثقافة الخوف، والشعور بالإقصاء والتهميش، وتفكك العلاقات الاجتماعية بعد أن شجع النظام على الوشاية والتجسس بين أفراد المجتمع، والصدمات الاجتماعية التي تركتها الاحداث الكبرى مثل مجزرة حماة عام 1982.

كل ما ذكرناه سابقا، كان سبباً في تفكك الهوية الوطنية، وفلسفة المواطنة السورية، لذلك كان تحدي بناء المواطنة السورية، من المواضيع التي تم الحديث عنها من قبل سقوط نظام الأسد، وسيتم الحديث عنها كأحد أهم المفاصل التي يجب العمل عليها، لإحياء الدولة السورية الجديدة.

ومن أهم ما يمكن أن يقال عن مفهوم المواطنة، تأسيس علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع، تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز بناءً على الدين والطائفة والعرق والانتماء السياسي. المواطنة تعني أن جميع الأفراد ينتمون إلى وطن واحد يجمعهم، ويشاركون في صياغة مستقبله بشكل متساو.

في سورية، حيث عانت البلاد من سياسات التفرقة والتمييز الطائفي والعرقي، يشكل بناء المواطنة ركيزة أساسية لإعادة اللحمة الوطنية وضمان عدم تكرار الصراعات.

أهمية بناء المواطنة الجديدة

  1. تعزيز الوحدة الوطنية وتجاوز الخلافات على أنواعها، لتأسيس روح التضامن بين مكونات المجتمع السوري، كأكبر ضامن لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
  2. إرساء الحكم الرشيد، حيث لا يمكن تحقيق نظام عادل يقبل به الجميع دون مواطنة حقيقية يتساوى فيها جميع المواطنين.
  3. تحقيق العدالة الاجتماعية التي تكفل حقوق الأفراد والمجتمعات المختلفة، ما يساهم في القضاء على التهميش والإقصاء الذي كان أحد أسباب قيام الثورة السورية.
  4. كما أن دولة المواطنة هي دولة قوية، حيث إن بناء المواطنة الحقيقية، يفتح المجال أمام بناء دولة قوية أكثر استقراراً، لاعتمادها على ولاء المواطنين لمؤسسات الدولة وليس للأفراد أو الفئات.

لذلك فإن صياغة الميثاق الوطني بين الشعب والسلطة الجديدة، بما يتناسب والروح السورية، بتنوعها وثرائها، مع ضرورة الحفاظ على هويتها الجامعة لكل الاعتبارات، من التحديات المباشرة والتي لها تأثير على المستقبل السوري.

الأمر الأخر المتعلق بالمجتمع، هو الضعف الشديد في كافة المؤسسات المجتمعية المستقلة، بعد عقود من القمع والقهر تحت حكم أسرة الأسد. إن الفاعلية المنشودة للمجتمع لن تتحقق ببعض المبادرات الفردية مهما كانت قوتها، بل ينبغي تمتين البنية المؤسسية للمجتمع لكي يمكن تضافر كافة قواه في أداء الدور المنشود منها في سورية الجديدة.

تاسعاً – الاقتصاد السوري.. والانتشال من الانهيار

من أهم التحديات التي يواجهها النظام الجديد في سوريا، الاقتصاد المتهالك. فهناك مجموعة كبيرة من التحديات الاقتصادية التي ستلقي بظلالها بشكل كثيف جداً على الحكومة الجديدة.

ويذكر الباحث الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي، أنه “في عام 2010 كان الناتج المحلي الإجمالي لسورية 61.3 مليار دولار، وكانت لديها احتياطيات من النقد الأجنبي بحدود 20.6 مليار دولار، وكان معدل النمو الاقتصادي 5.2% بنفس العام، وبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي 2748 دولارا، وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.

أما في عام 2023، فنجد أن الأمر قد تدهور بشكل كبير بسبب حالة الحرب التي أوجدها نظام الأسد ضد أبناء سورية، فوجدنا الناتج المحلي الإجمالي يتراجع إلى 7.4 مليارات دولار، وأن معدل النمو الاقتصادي انخفض بنسبة 5% في هذا العام، وأن نصيب الفرد من الناتج المحلي بحدود 300 دولار فقط، وبلغ معدل التضخم 85%، وذلك وفق الأرقام التي أوردتها نشرة ضمان الاستثمار الصادرة عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، عدد (أكتوبر- ديسمبر 2023)” ([10]).

وفقدت الليرة السورية قيمتها مقابل الدولار الأميركي بمقدار 270 ضعفا بين عامي 2011 و2023، مما أدى إلى زيادة التضخم في البلاد.

أما بالنسبة لقطاع الطاقة، فقد شهد قطاع الطاقة السوري انهياراً كاملاً خلال 13 عاماً من الحرب التي أعقبت الثورة على نظام بشار الأسد، مما جعل سوريا تعتمد بشكل شبه كامل على واردات الوقود من إيران لضمان استمرار إمدادات الكهرباء.

قبل فرض العقوبات الدولية في أواخر عام 2011، كانت سوريا تنتج نحو 383 ألف برميل يومياً من النفط ومشتقاته، بحسب تحليل إدارة معلومات الطاقة الأميركية. إلا أن هذا الإنتاج تراجع بشكل كبير ليصل إلى 40 ألف برميل يومياً بحلول عام 2023، وفقاً لتقديرات معهد الطاقة. وبالنسبة لإنتاج الغاز الطبيعي، أظهرت التقديرات أنه انخفض من 8.7 مليارات متر مكعب في عام 2011 إلى 3 مليارات متر مكعب فقط في عام 2023، كما أفادت تقارير صادرة عن معهد الطاقة وشركة (بي.بي).

في السنوات التي سبقت الصراع، كانت شركتا “شل” و”توتال إنرجيز” الدوليتان من أبرز الفاعلين في قطاع الطاقة السوري، لكن الصراع والعقوبات الدولية دفعتهما إلى مغادرة البلاد، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا واعتمادها المتزايد على الشركاء الإقليميين مثل إيران.

وتسيطر الفصائل الكردية على مناطق واسعة شرقي نهر الفرات، حيث تتواجد حقول النفط. كما تواجه منطقة الامتياز المعروفة باسم “المربع 26” التي تديرها شركة “جلف ساندز بتروليوم” البريطانية في شمال شرق سوريا، حالة “القوة القاهرة” بسبب العقوبات البريطانية. ورغم توقف العمليات، أكدت الشركة أن أصولها “لا تزال في حالة جيدة وجاهزة للعمليات”، مع الإشارة إلى أن التحضيرات لاستئناف العمل مستمرة انتظاراً لرفع العقوبات.

أما شركة “سنكور إنرجي” الكندية، فقد علقت أنشطتها في سوريا منذ عام 2011. وتتمثل أبرز أصولها في مشروع “إيبلا” المشترك بحوض الغاز وسط البلاد، والذي يغطي مساحة تزيد عن 300 ألف فدان. كان المشروع ينتج يومياً 80 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، إلى جانب تشغيل حقل نفطي في إيبلا بدأ بإنتاج حوالي 1000 برميل يومياً في ديسمبر 2010.

وفي 2018، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على شركة “إيفرو بوليس” الروسية، التي أبرمت عقداً مع الحكومة السورية لحماية حقول النفط مقابل حصة 25% من إنتاج النفط والغاز. وقد انتقلت السيطرة على حقول “إيبلا” إلى الجيش الروسي بعد مغادرة مجموعة “فاجنر” الروسية الخاصة، التي كان يديرها يفجيني بريجوجين، سوريا ([11]) .

ومن التحديات الأساسية المعوقة لنهوض الاقتصاد السوري مجددا:

  • دمار البنية التحتية الاقتصادية مثل المنشآت الصناعية والزراعية والنفطية.
    • العقوبات الدولية على سورية بسبب نظام بشار الأسد مما يعوق التجارة والاستثمار.
    • انهيار العملة المحلية وارتفاع التضخم حيث وصل الدولار الواحد إلى حوالي 15000 ليرة سورية.
    • صعوبة بناء احتياطيات النقد الأجنبي نظراً لانخفاض الإيرادات الوطنية.
    • نسبة البطالة المرتفعة، وهجرة الكفاءات وغياب اليد العاملة المدربة.
    • السياسة النقدية للبنك المركزي بسبب السياسات المتهورة واعتماد البنك على طباعة النقود بشكل مفرط لتعويض نقص السيولة.
    • تفشي الفساد وسيطرة آل الأسد ومخلوف على جميع مفاصل الدولة الاقتصادية، حيث يقدر أن ثروة عائلة الأسد تتراوح بين مليار وملياري دولار، في وقت يعاني فيه الشعب السوري من مستويات متفاقمة من الفقر والحرمان.

في هذا السياق، قال رئيس غرفة تجارة دمشق باسل الحموي إن الحكومة السورية الجديدة أبلغت رجال الأعمال أنها ستتبنى نموذج السوق الحرة وستدمج البلاد في الاقتصاد العالمي، في تحول كبير عن سيطرة الدولة على الاقتصاد لعقود.

ورحب رجال أعمال سوريون كبار بالإشارات التي تدل على أن الاقتصاد سيكون مفتوحا للاستثمارات اللازمة لإعادة الإعمار التي تحتاجها البلاد بشكل كبير، بعد دمار واسع شهدته البلاد خلال 13 عاما وتقدر تكاليفها بمئات مليارات الدولارات ([12]).

إلا أن السؤال المحوري هو، هل سيكفي هذا لانتشال سوريا من عثرتها الاقتصادية، بل هل هو الطريق السليم أصلاً لذلك؟ وحتى لو كان هذا هو الطريق، هل عملية اجتذاب استثمارات خارجية ضخمة ستكون سهلة وميسرة؟

عاشراً – البنية التحتية وإعادة الإعمار

يمثل موضوع إعادة الإعمار واستيعاب اللاجئين والنازحين العائدين إلى بلادهم بعد سنوات، الذين قد يصل عددهم إلى 13 مليون شخص، بدأ البعض منهم رحلة العودة لديارهم بالفعل، تحدٍ آخر من التحديات التي ستواجه سورية المستقبلية، في ظل اقتصاد متهالك وبنية تحتية شبه معدومة، وفرص عمل ضئيلة، ليبرز السؤال الجاد حول الكيفية التي ستدير بها الدولة الجديدة هذه التحديات، مع اعتبار أن التقدير المبدئي للأموال المطلوبة لعملية إعادة الإعمار يصل إلى نحو 11 مليار دولار في بعض التقديرات.

ومن ضمن أبرز التحديات التي تصعب من عملية إعادة الإعمار:

  1. حجم الدمار الشامل، وخاصة في مدن حلب وحمص، بالإضافة إلى ريف دمشق، والذي لم يقتصر فقط على المباني السكنية، بل شمل المنشآت الحيوية كالمستشفيات والمدارس.
  2. الأزمة الاقتصادية التي تعيشها سورية اليوم، أدت إلى ضعف الموارد المحلية المخصصة لإعادة الأعمار.
  3. سيكون من بين التحديات جذب الاستثمارات الدولية والتي تتطلب بيئة سياسية مستقرة وقوانين مشجعة، كما أن من التحديات إمكانية وجود أطراف إقليمية ودولية مستعدة لتحمل تكاليف إعادة الأعمار،
  4.  وهو ما سيحيلنا إلى تحد آخر يتعلق بالأجندة المختلفة لكل دولة على حدة. بل قد يكون أحد السيناريوهات للمستقبل أن تخضع سوريا لعملية حصار اقتصادي خانق إذا لم تسير على الطريق المطلوب منها دوليا وإقليمياً، فكيف يمكن توفير الاستثمارات اللازمة في ظل هذه الظروف؟

مواجهة التحديات ومفاتيح النجاح

لقد حاولنا في هذه الدراسة، استقراء أهم التحديات التي تواجه النظام السوري الجديد بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث أن التركة الثقيلة، كما يصفها كثيرون، والتي تركها الأسد بنظامه ومؤسساته وأجهزته الأمنية والعسكرية وسيطرة أفراد محسوبين عليه على المفاصل الاقتصادية في البلاد، فضلاً عن التهديدات الإستراتيجية الإقليمية والدولية، ستجعل من عملية النهوض بسوريا الجديدة محفوفة بالمصاعب والمخاطر.

سنطرح من خلال هذه الدراسة بعض الأفكار الأولية والاستراتيجيات العامة، بدون تفاصيل كثيرة، والتي نراها كأولويات في هذه المرحلة، على المديين القصير والمتوسط ، بناء على ما تراكم لدينا من خبرات في أعقاب الثورات العربية، أو باستقراء دقيق للتحديات التي تواجه سوريا الجديدة. ولن نتطرق في هذه الدراسة للتعامل مع التحديات طويلة المدى، مثل المنظومات الوسيطة للتعليم والصحة والثقافة، أو للتعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي، وغير ذلك، فمواجهة هذه التحديات تقتضي أولاً العبور الأمن للمرحلة الانتقالية خلال الأشهر والسنوات القليلة المقبلة.

أولاً –  القيادة

إن مفتاح النجاح في مواجهة جميع التحديات التي تواجه سوريا المستقبل، يكمن في القدرة على القيادة والسيطرة على إدارة المشهد، مع وضع الإستراتيجية الملائمة لطبيعة المرحلة.

فيما يتعلق بالقيادة، فمن الواضح أن هيئة تحرير الشام تحت قيادة أحمد الشرع، استطاعت السيطرة على المشهد الأولي بعد سقوط نظام الأسد، وأصدرت من التصريحات والضمانات ما قد يطمئن على قدرتها على القيادة والسيطرة. إلا أنه مع الوقت، ولمواجهة التحديات التي ذكرناها في هذه الدراسة، نقترح اتباع الاستراتيجيات التالية فيما يخص القيادة:

  • تكوين هيئة قيادية انتقالية معلنة لإدارة المشهد سياسيا، وخاصة فيما يتعلق بالملفات السيادية الأساسية مثل الأمن والدفاع والسيطرة على مفاصل الدولة والعلاقات السياسية والخارجية، وعدم إيكال هذه الملفات للحكومة المؤقتة التي ينبغي أن ينصرف تركيزها على إدارة ملفات الخدمات العامة والمتطلبات الحياتية للشعب والإشراف على الإدارات المحلية في المناطق المختلفة.

يمكن أن ترأس الإدارة العسكرية الجديدة هذه الهيئة القيادية بحكم  سيطرتها وقدرتها على إدارة المشهد، بمشاركة قيادات من الفصائل المشاركة في التحرير، ممن يمكن أن يكون مؤهلاً لهذا الأمر، مع عدد محدود من السياسيين المعروف عنهم التوجه الثوري والقدرة على القيادة. وينبغي قطع الطريق على كل من يريد التنازع على القيادة في هذا الوقت الحساس، خاصة ممن يرتبطون بأجندات خارجية لا تخدم الصالح السوري العام.

  • تشكيل هيئة استشارية مدنية من خيرة العقول السورية، التي يوكل إليها دراسة كافة الملفات المطروحة على القيادة لأخذ القرارات الهامة، وتقديم الاستشارة في أهم ما يطرح من مسائل، كما تكون مسؤولة عن صياغة رؤية متكاملة لإدارة المرحلة الانتقالية المقبلة، ومتابعة التطورات المصاحبة لتقدمها، وذلك بشكل سريع. ويفضل أن تستعين هذه الهيئة بمركز، أو عدة مراكز للدراسات وتحليل المعلومات ودعم اتخاذ القرار، وتوفر لها الإمكانيات اللازمة.
  • تأسيس هيئة تشريعية انتقالية مصغرة، تختص بإصدار القوانين الملائمة لطبيعة المرحلة الانتقالية، والتشريعات اللازمة لتسيير الأعمال، وإلغاء القوانين الصارخة المتعلقة بالعهد البائد، على ألا تركز على تشريعات دائمة تعالج المستقبل، حيث يؤجل ذلك لما بعد نهاية المرحلة الانتقالية ووجود مجلس تشريعي منتخب.
  • تشكيل حكومة انتقالية ذات كفاءة، تستطيع الاضطلاع بالعمل التنفيذي بعد فترة انتهاء الحكومة الحالية، مع تشكيل مجالس محلية توافقية تنسق مع الحكومة المركزية في إدارة كافة شئون البلاد ذات العلاقة، عدا الملفات السيادية التي تتولاها الهيئة القيادية.

ثانياً – طبيعة المرحلة الانتقالية وأولوياتها

أبرزنا في الجزء الأول من الدراسة أهم التحديات التي تواجه المرحلة الانتقالية الحالية. وتفيد تجارب التاريخ، وكذلنا تجاربنا الذاتية التي مرت بنا خلال السنوات الماضية، أن الثورات تؤتى وتجهض من خلال تلك المراحل الانتقالية. لذلك فإن اتباع الإستراتيجيات المناسبة خلال هذه المرحلة، استفادة بتلك التجارب، هو من الأمور الحيوية التي ينبغي أن تولّىَ حقها من الاهتمام. ويمكن لنا اقتراح الاستراتيجيات التالية كأولويات أثناء هذه المرحلة:

  • الاستراتيجية الأهم أثناء المرحلة الانتقالية تتمثل في العمل على تمكين الثورة، وتحقيق أهدافها، والتحرر من النفوذ الخارجي، ووضع البلاد على طريق التغيير المنشود دون معوقات كبيرة من أية قوى داخلية أو خارجية. وبذلك فإن الشرعية الثورية، وليست الدستورية، هي المسار الأمثل في هذه المرحلة. لا يعني هذا بالطبع أن تسير الأمور في إطار منفلت أو فوضوي، ولكن في إطار الدولة، إلا أن تحقيق أهداف الثورة والتغيير المنشود كاملاً يجب أن يكون نصب أعين الدولة الوليدة، مع كل ما يعنيه هذا من تشريعات وإجراءات تنفيذية.
  • رفض التدخلات الخارجية التي يتم محاولة فرضها عن طريق تدخلات أممية أو إقليمية، أو فرض وصاية دولية، تملي على السوريين مسارات مستقبلية لا يرضونها لأنفسهم، بحجة قرارات أممية تم اتخاذها في ظروف معينة، وبين أطراف غير قائمة حالياً.

إن الأحاديث التي تتردد في الأروقة الدولية في الآونة الأخيرة مؤداها أن ما حدث ليس ثورة، ولكن انتقال للسلطة من بشار إلى هيئة تحرير الشام، وهي تهدف إلى تكريس أن الجديد ورث القديم، وبالتالي عليه نفس التزاماته، مما يؤدي إلى إبقاء العقوبات التي كانت مفروضة عليه، كما لا يكون للنظام الجديد الشرعية الكاملة إلا إذا استوفى كل الالتزامات، وعلى رأسها تطبيق القرار 2254، بما يشكل ورقة للابتزاز المستمر للنظام بهدف إخضاعه.

للمحامي عبد الناصر حوشان كلام طيب في هذا الإطار، حيث يقول: “الحديث عن القرار  2254 أو عزل بشار في غير محله القانوني، لأن عزل الرئيس في الدستور السوري يكون بالطرق القانونية، أما بشار فأسقط بالقوة وهرب، والآن هو مطلوب بتهم منها جرائم حرب. إذاً النظام لم يعد موجودا. فأي محاولة لتكريس فكرة أن مؤسسات الدولة المستردة من الدكتاتور هي النظام تمثل مغالطة خطيرة ومحاولة من محاولات الخداع والتضليل السياسي والقانوني.  وبالتالي فإن تطبيق القرار 2254 في غير محله القانوني، لأن القرار مبني على قاعدة التفاوض بين النظام والمعارضة، وقد حصر المجتمع الدولي المعارضة بهيئة التفاوض التي انشأت اللجنة الدستورية في خطوة استباقية لتكريس نفسها كهيئة حكم انتقالي، والمقصودة بالقرار 2118، و خاصة بعد ضم منصات موسكو والقاهرة وهيئة التنسيق اللواتي لم يعترفن بالثورة، لأنها تبني معارضتها للنظام على التغيير السلمي للسلطة”.

  • الابتعاد عن إجراء أي انتخابات عامة، رئاسية أو برلمانية، أو إنشاء أحزاب سياسية، إلا بحلول نهاية المرحلة الانتقالية، التي نتوقع أن تحتاج ثلاثة أعوام على الأقل. كما نوصي بألا يبدأ مسار كتابة دستور دائم للبلاد إلا بعد عام أو عامين على الأقل، بعد نهاية فترة الحكومة الحالية في بداية شهر مارس المقبل، يكتفي خلاله بالإدارة وفقاً لإعلان دستوري مؤقت يتم التأني والاستشارة المناسبة فيه قبل إصداره. الهدف من هذه القيود هو توفير البيئة المناسبة للعمل الرئيس على تحقيق أهداف المرحلة، دون تنازعات وتجاذبات تفرضها النزاعات السياسية والانتخابات والجدل حول مواد الدستور.
  • تأسيس مجلس شورى موسع مؤقت، منبثق عن مؤتمر وطني جامع يتم الدعوة إليه، يستوعب كافة مكونات المجتمع السوري، وتجري فيه نقاشات موسعة حول مستقبل سوريا، وكيفية مواجهة التحديات القائمة، وكيفية تحقيق التوافق، وغير ذلك، على ألا تكون له صلاحيات تشريعية أو رقابية، لكن يتم من خلاله تجربة ومحاولة صهر هذه المكونات في بوتقة واحدة، وتبرز من خلاله الشخصيات المؤهلة لتولي مسئوليات تشريعية ورقابية وتنفيذية لاحقة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. ويمكن أن يوكل للمجلس أن يتابع ملفات مكافحة الفساد والعدالة الانتقالية، وأن يقوم بدراسة الملفات المستقبلية للتعليم والصحة والطاقة والاقتصاد، وغير ذلك من ملفات النظم الوسيطة.

وتجدر الإشارة إلى أنه وكما يطلب من القيادة العمل على استيعاب كافة مكونات المجتمع السوري وكذلك فصائل المعارضة الوطنية الأخرى من جميع التوجهات، فينبغي على تلك المكونات والفصائل أن يكون توجهها خالصاً لصالح الوطن، والعمل الصادق لنجاح التجربة الجديدة بما يفيد جميع السوريين، ولا يكون الهدف تعويق المنظومة الجديدة من باب المكايدة السياسية، فقد أفادت التجربة في مصر، وكذلك في تونس، أن ذلك يفتح الباب لأطراف أخرى، داخلية وخارجية، تستغل حالة التنازع تلك بما يؤدي في النهاية إلى تقويض التجربة برمتها، والعودة للحالة المقيتة من الاستبداد والتبعية.

إن مثل هذا المجلس يمكن أن يتحول إلى منصة حوار شاملة مستمرة ، لتكون الإطار الذي تتولد فيه الفكرة السورية الجامعة التي تطرد الفكرة الطائفية و الفكرة الاستعمارية، بما يؤدي في النهاية إلى تفجير  طاقات المجتمع نحو البناء الحضاري .

  • تأسيس جهاز استخباري وطني، بشكل احترافي عصري، يعمل على حماية الوطن من المؤامرات الخارجية التي تسعى للعبث باستقراره وأمنه، فهناك بالتأكيد العديد من شبكات الجواسيس والعملاء التابعة لمختلف الأجهزة الدولية والإقليمية المعادية للتغيير في سوريا، والتي يجب كشفها والتعامل معها. ويجب الاستعانة بخبرات وكفاءات مدنية لها خلفيات معرفية عابرة للتخصصات ودراية بعلوم الاجتماع والسياسة والتاريخ، وكذلك علوم الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة ووسائل التكنولوجيا الحديثة، كما تتأسس أجهزة المخابرات الحديثة.
  • مع البدء في خطوات تأسيس جيش وطني حديث على أعلى المستويات (ما سنفصل فيه لاحقاً بعض الشيء)، يتم فيه جزئيا استيعاب بعض أفراد وقيادات الفصائل المسلحة الوطنية، نقترح أيضاً استيعاب أغلب الفصائل والقوى الشعبية المسلحة، ذات الخبرات العسكرية المتنوعة والمختلفة عن الجيوش الكلاسيكية، والعقيدة العسكرية المتميزة، في جهاز جديد تابع للدولة، على غرار الحرس الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية أو المملكة العربية السعودية مثلاً، كمؤسسة عسكرية وسيطة بين الجيش وبين الشرطة المدنية، وبالتناغم والتنسيق التام مع مؤسسة الجيش والقوات المسلحة التقليدية.

هذه القوات تستطيع أن تتصدى للمهام العاجلة، وتتولى حفظ السلم الأهلي ومواجهة الكوارث  وأعمال الإنقاذ، أو مواجهة حركات التآمر أو التمرد المسلحة، بما يكفل حفظ الجبهة الداخلية وتوفير الأمن والاستقرار اللازمين، مع إبعاد الجيش عن هذه الأمور، التي تخرج أيضا عن قدرات جهاز الشرطة المدنية. كما أن وجود هذه القوة موازناً للجيش المحترف في البنية الدفاعية للبلاد يحول دون وقوع الانقلابات العسكرية التي خبرتها سوريا كثيرا، وتعود بها دائماً للوراء.

  • الحرص على فرض الأمن، واعتقال كل من يهدد الاستقرار والأمن بشكل جدي حقيقي تقوم عليه دلائل، وتجريد فلول النظام السابق من أي قدرة على تنظيم عمليات تخريب وتقويض للأمن العام (يراجع أيضا العنصر الخاص بالتعامل مع الثورة المضادة كما سيلي).
  • البدء في إجراءات العدالة الانتقالية، مع تشكيل هيئات قضائية خاصة تتولى هذا الأمر، منفصلة عن المسار العادي للقضاء الذي يتولى الفصل في الأمور المعتادة، مع البدء في الإعداد لمنظومة قضائية جديدة تحل محل القضاء الفاسد الذي كان متواطئاً مع النظام (ويمكن أن يكوم من أهم أدوات الثورة المضادة كما حدث في مصر). ويجب أيضاً الحرص على النظر في المظالم، سواءً تلك المتعلقة بالعهد البائد، أو بالنظام الجديد في الأماكن المحررة على حد سواء، والإنصاف وإعادة الحقوق لأصحابها، بقدر الإمكان، لتستقر قيمة العدل ويستقر المجتمع وتهدأ نفوس الناس، مع السعي في مسار المصالحات المجتمعية بأقصى سرعه (هناك بند خاص بالعدالة الانتقالية لاحقاً).
  • فتح المجال بأقصى قدر ممكن لتأسيس وتمكين مؤسسات المجتمع الأهلي، وهو ما سنفصل فيه في بند مستقل لاحقاً نظرا لأهميته.
  • الأصل في تولي المناصب العامة في شتى المجالات الكفاءة والقدرة، وكذلك الثقة في طبيعة التوجهات الثورية الداعمة للتغيير، بصرف النظر عن الخلفية العرقية أو الدينية أو غيرها. إلا أنه يجب عدم الوقوع في شرك الاستجابة للضغوط بعدم تقديم الكفاءات المناسبة بداعي “أسلمة الدولة”، أو أهمية توفير “حصص” للجميع و”التشاركية” وعدم “تلوين المناصب بلون واحد”، وغير ذلك. في مصر على سبيل المثال، استجابت السلطة الحاكمة في عهد الرئيس مرسي رحمه الله لضغوط الأصوات الرافضة لما سمي بـ “أخونة الدولة” واستخدام “الأهل والعشيرة” وغير ذلك، ما حرم البلاد من كفاءات جيدة نتيجة مبالغة الحكومة في نفي هذه “التهمة” عنها، وأفسح المجال لفلول النظام الأسبق والفاسدين بملء المقاعد، ثم العمل ضد الحكومة نفسها، انتهاءً بإسقاطها، كما حرم الحكومة من التجانس اللازم لتحقيق الإنجازات.

لم يمنع الاستجابة لهذه الضغوط من استمرار هذه الاتهامات. الأصل في شغل المناصب الكفاءة وحسن التوجه والنزاعة، ولا يجب الالتفات لمثل هذه الحملات المعوقة لأي إنجاز.

  • السعي لتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين مع اعتبار معايير الشفافية والعدالة. إلا أنه في نفس الوقت لا يجب الإسراف في إعطاء الوعود البراقة، وكأن أبواب السماء قد فتحت بأنهار السمن والعسل، لكن ينبغي توجيه الرسائل الإعلامية الملائمة بإدراك معاناة الناس والحرص على تعويضهم عن السنين العجاف، لكن لا أحد يمتلك عصا سحرية، وأن سوريا لن يبنيها إلا السوريون، بالكد والعمل، مع تعظيم الاستفادة من كل طاقات وكفاءات الشعب، وفي سياق مشروع تحرر  ونهوض حقيقي، وأن هذا هو الطريق الوحيد الذي سيؤدي لتلبية طموحات الناس وتحقيق أمالهم في حياة كريمة.

إن الدولة لن تستطيع أن تمنح جميع الناس معونات مالية، فهذا لا يشكل حلولاً للمشكلات، كما أن الدولة لا تتوفر لديها تلك الإمكانيات أصلاً. الأسلوب الأمثل يتمثل في  إيجاد بيئة يمكن للناس من خلالها أن يقوموا بترتيب أمر معاشهم.

كما يجب أن تعيش القيادات كما يعيش الناس، ولا يتورطون في العيش الرغد، واستفزاز الناس بما لا يستطيعون امتلاكه.

  • ينبغي تجنب التورط في صراعات عسكرية كبرى لا تفرضها الضرورة في هذه المرحلة، دون امتلاك الأدوات اللازمة، مما قد يؤدي لإجهاض المسار بأكمله. إلا أنه في نفس الوقت، ينبغي الانتهاء من مهام السيطرة على منطقة شرق الفرات الخاضعة لنفوذ قسد، استفادة بالزخم العسكري الموجود، لما في ذلك من أهمية في مواجهة التهديد الإستراتيجي بتقسيم سوريا والعمل على استمرارها موحدة، وكذلك السيطرة على مواردها الأساسية شديدة الأهمية للملف الاقتصادي، والتخلص من نفوذ المكون الأجنبي في قوات قسد، والتابع لحزب العمال الكردستاني، مع العمل على استيعاب الأكراد وأهل العشائر العربية في المنطقة في النسيج السوري الجديد.

ثالثاً – التعامل مع الثورة المضادة:

بناء على الخبرات المتراكمة لدينا، حيث نجحت الثورة المضادة في إجهاض التغيير المنشود في مصر، يمكن اقتراح بعض الاستراتيجيات على النحو التالي:

  • اليقظة الأمنية ومراقبة الأنشطة التخريبية: عن طريق أجهزة أمنية وطنية حديثة تراقب وتمنع بشكل حازم أي تحركات تهدف إلى زعزعة الاستقرار.
    • التعامل بحزم مع الفصائل المسلحة التي ترفض الاندماج تحت لواء الدولة في أجهزتها المتاحة، ونزع سلاح الجماعات غير النظامية بعد إدماجها في مؤسسات الدولة تحت إشراف واضح، سواء في المؤسسة العسكرية، أو في مؤسسة الحرس الوطني التي اقترحناها من قبل، أو في الأجهزة الأمنية المختلفة.
    • تعزيز المؤسسات الوطنية: بناء مؤسسات قوية وشفافة، حيث يجب تأسيس مؤسسات حكومية على أسس الشفافية والنزاهة، وتطهيرها ممن ولاءهم مع النظام السابق بشكل واضح، أو إبعادهم عن أي مواقع مؤثرة، لتصبح قادرة على حماية مكتسبات الثورة وضمان تداول السلطة بشكل سلمي.
    • الفصل بين السلطات: ضمان استقلالية القضاء والبرلمان عن السلطة التنفيذية، ما يحدّ من تركز السلطة وإمكانية الضغط على هذه المؤسسات، ويصعّب عودة الاستبداد.
    • إصلاح الجيش والأجهزة الأمنية: تحويل الجيش إلى مؤسسة وطنية غير مسيّسة، تعمل تحت إشراف مدني، لضمان عدم استخدامه في تنفيذ أجندات الثورة المضادة.
    • إشراك جميع مكونات المجتمع في العملية السياسية بشكل أو بآخر، وإدارة التنوع الطائفي والإثني وتعزيز سياسات الإدماج التي تُشرك كل المكونات السورية في الحكم، بما يضمن تمثيلاً عادلاً لجميع الأطياف ويمنع التهميش الذي قد يؤدي إلى ولاءات مضادة.
    • آليات مصالحة وطنية: إطلاق برامج مصالحة حقيقية تعالج الجروح المجتمعية وتمنع عودة الانقسامات التي يمكن استغلالها من قبل قوى الثورة المضادة.
    • بناء منظومة إعلامية جديدة: تستبعد رموز الإعلام القديم الموالي للسلطة، وتضمن استقلاليتها، مع الاهتمام بوسائل الإعلام البديل.

ونظراً لأهمية الجانب الإعلامي، نورد هنا اقتراحات مهمة للكاتب السياسي والخبير الإعلامي أحمد رمضان تحت عنوان “‏سورية الجديدة .. ضبط الخطاب الإعلامي”:

في سورية الآن وسائل إعلام وصحفيون بالمئات من أنحاء العالم، يبحثون عن تصريحات رسمية، ويأملون اقتناص أخبار خاصة، ورغم كثافة الأحداث، لكن تدفق المعلومات محدود، ولم يتم تعيين متحدث رسمي، وقد يُستدرج بعض من في المسؤولية للإدلاء بأقوال لا تخدم ‎سورية الجديدة، ولا تعبر عن موقف قيادتها.

ثمَّة حاجة ماسَّة لملاحظات جوهرية حول الصورة والأداء الإعلامي:

  1. هناك ضرورة لتعيين متحدثين/ـات باسم الرئاسة، الخارجية، الداخلية، والإعلام.
  2. يُطلب من الوزراء والمحافظين والمسؤولين كافة، عدم الإداء بأي تصريحات إلا بعد إخطار الرئاسة أو رئاسة الحكومة.
  3. يحظر على العاملين في المؤسستين العسكرية والأمنية الإدلاء بأي تصريحات أو تصوير أي عمليات ونشرها أو توزيعها، أو نقل المعلومات والأخبار كتابة أو شفاهة.
  4. إعادة تفعيل عمل مؤسسات الإعلام الرسمية (التلفزيون، الوكالة، الصحافة، المواقع الإلكترونية)، ونشر المواقف الرسمية من خلالها.
  5. إعادة تفعيل عمل مؤسسات الإعلام الرسمية (التلفزيون، الوكالة، الصحافة، المواقع الإلكترونية)، ونشر المواقف الرسمية من خلالها.
  6. منع التصوير في اللقاءات الرسمية إلا من خلال التلفزيون الرسمي، وتوزيع الصور والفيديوهات على وكالات الأنباء الكبرى والقنوات.
  7. حصول وسائل الإعلام الأجنبية على التراخيص اللازمة عند تصوير أماكن عامة، أو نشر لقطات لمواطنين سوريين دون علمهم، مما ينتهك حقوقهم الخاصة.
  8. نشر البيانات والمواقف الرسمية عبر عدة لغات، وضمان وصولها إلى الجهات المعنية.
  9. تسجيل أغان وطنية تعبر عن ضمير الثورة وأهدافها، وبناء الدولة الحديثة، ودعوة فنانين سوريين للإسراع في هذه الخطوة.
  • مراقبة النفوذ الخارجي: ورفض التدخلات الأجنبية السلبية، بحيث يتم وضع ضوابط تمنع القوى الإقليمية أو الدولية من توظيف المال السياسي، واختراق المجتمع، بدعم جماعات تهدف إلى تقويض الحكومة الجديدة أو إفشال عملية التغيير.
  • الاستقلالية في القرارات السيادية: تعزيز استقلالية القرارات السياسية والاقتصادية لمنع اعتماد الحكومة على أطراف قد تكون ذات أجندات تتعارض مع مصلحة البلاد.
  • تعزيز العدالة والمساءلة: محاسبة رموز النظام السابق وتطبيق العدالة الانتقالية عبر محاكمات عادلة وشفافة تُحاسب المسؤولين عن الانتهاكات، وتمنعهم من العودة إلى العمل السياسي.
  • محاربة الفساد: وضع آليات صارمة لمكافحة الفساد لمنع استغلال أي فراغ سياسي أو إداري من قبل عناصر الثورة المضادة.
  • تقوية الاقتصاد وتحسين الخدمات وتمكين الشعب من الاستفادة بإمكانيات العمل والاستثمار دون تفرقة.
  • إعادة الإعمار: الإسراع في إعادة إعمار البلاد بطريقة عادلة تُلبي احتياجات جميع المناطق، مع ضمان الشفافية في توزيع الموارد.
  • خلق فرص عمل: معالجة البطالة وتحسين المعيشة لضمان عدم استغلال الأزمات الاقتصادية من قبل قوى الثورة المضادة.
  • دعم الوعي المجتمعي: التثقيف السياسي وتنظيم حملات توعية لتعريف المواطنين بأهمية التغيير والاستقلالية وخطورة الثورة المضادة.
  • تعزيز روح المواطنة: التركيز على القيم الوطنية المشتركة التي توحد السوريين وتحدّ من الانقسامات الداخلية.
  • بناء تحالفات داخلية ودولية وتأمين دعم دولي: السعي للحصول على دعم سياسي واقتصادي من الأطراف الصديقة في المجتمع الدولي لدعم الاستقرار ومنع أي قوى معادية من تقويض الدولة الجديدة.
  • تعزيز الوحدة الوطنية: تشجيع الحوار الوطني الجاد بين القوى السياسية والاجتماعية، لمنع تفرق الصف الداخلي أمام أي تهديد خارجي أو داخلي.

رابعاً – مواجهة التحديات الاستراتيجية و محددات السياسة الخارجية

إن الخطوة الأولى على طريق مواجهة التحديات الإستراتيجية تتمثل في تقوية قبضة النظام، وفعالية القيادة، وتمتين الجبهة الداخلية، على الوجه الذي تحدثنا عنه.

في مقدمة الأولويات على هذا الطريق أيضاً، سرعة إعادة بناء جيش وطني حديث، على النحو الذي سنتطرق إليه في بند منفصل لاحقاً. ويمكن تفعيل الدور التركي في دعم وتأهيل وتدريب وإعادة بناء الجيش السوري الحديث في وقت قصير نسبياً، لما لتركيا من خبرة طويلة في مثل هذه الأعمال.

بالنسبة للتحديات التي يشكلها الجانب الإسرائيلي مؤخراً، فلا تتواجد الإمكانيات الكافية لدى المنظومة السورية الوليدة لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، ولذلك لا ينصح إطلاقاً بالاستجابة للاستفزازات الإسرائيلية التي تنصب الفخاخ للنظام الجديد (وهو الموقف الذي عبر عنه بالفعل أحمد الشرع). إلا أن الرفض الرسمي الواضح للخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب، والتمسك بالحق في استعادة كافة الأراضي المحتلة، والإثارة المستمرة لهذه القضايا في كافة المحافل الدبلوماسية والدولية هو خطوة لازمة في هذا الإطار.

وعلى الجانب الأخر، ينبغي إقامة علاقات استراتيجية مع تركيا، وتوقيع اتفاقات أمنية معها، ومنحها تسهيلات لإقامة تمركزات عسكرية في أماكن استراتيجية مثل ريف حمص ودمشق، كترتيبات مؤقتة، بما قد يشكل رادعاً قوياً للأطماع الإسرائيلية في التوسع. هذه العلاقات ستكون أيضاً بالغة الأهمية في التصدي للتحديات الاستراتيجية التي تشكلها كل من قسد وداعش على حد سواء، والتي تشكل تهديداً مباشراً أيضا للأمن القومي التركي. وإذا كنا نوصي بعدم فتح جبهات مع الجانب الإسرائيلي في هذا الوقت، إلا أننا نوصي أيضاً بالتقدم بكل قوة، بالتعاون مع تركيا، في التقدم في كل جبهات شرق الفرات، وألا يتم وقف القتال في هذه المرحلة على تلك الجبهات لأي سبب كان، إلا إذا استطاعت الحكومة الجديدة إبرام اتفاق يتم بموجبه مغادرة المكون الأجنبي من قسد، والمرتبط بالأساس بحزب العمال الكردستاني، إلى خارج البلاد، يمكن بعده استيعاب الجزء الباقي من قسد من القوات العربية السورية الأخرى، إضافة إلى المكون الكردي السوري الأصلي. في الأغلب لن يمكن تحقيق هذا الهدف إلا باستمرار الضغط العسكري.

التحديات التي تشكلها إيران تتمثل أساساً على الجبهة الداخلية، مما يوجب مواجهتها على النحو الذي أوردناه في معرض الحديث عن مواجهة الثورة المضادة. إلا أنه من الوارد أيضاً أن تبدأ إيران في دعم قسد بشكل أو بأخر  لزعزعة استقرار النظام الوليد، وهو ما طالب به بالفعل بعض الكتاب الإيرانيين البارزين، بغرض استعادة بعض النفوذ الإيراني المفقود في سوريا. التعاون مع تركيا لردع هذه مثل التهديدات سيكون ضرورياً.

ومن أهم ما ينبغي القيام به لمواجهة التحديات الإستراتيجية، رسم ملامح السياسة الخارجية بشكل يكفل الفعالية والنشاط. وعندما يتم الحديث عما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية السورية الجديدة، يظهر أمامنا محددات رئيسية ينبغي أن تصوغ شكل العلاقات الخارجية مع الدول العربية – الإقليمية – والدولية، تمثل إطاراً متكاملاً يمكن البناء عليه لضمان استعادة الدور الإقليمي والدولي لسوريا، وتحقيق مصالحها الوطنية، ومواجهة تحدياتها الإستراتيجية. وفيما يلي ما نراه من أهم هذه المحددات:

أ- السيادة – وحدة التراب السوري

إن بناء السيادة في الدول الحديثة، هو عملية متعددة الأبعاد، تتعلق أولاً بكيان الدولة (المستقل) الذي يتمتع بالسلطة والسيطرة الكاملة على أراضيه وشؤونه الداخلية والخارجية، واستقلالية القرار الوطني، خاصة وأن سورية تعاني من تدخلات إقليمية ودولية مكثفة، مما يزيد من تعقيد المرحلة الانتقالية. لذلك يجب أن تكون السياسة الخارجية مبنية على رفض أي شكل من أشكال التقسيم أو الانفصال داخل سوريا (وهو  موقف الإدارة الجديدة فعلاً)، كما أن تعزيز مبدأ السيادة الوطنية، يكون من خلال رفض أي تدخلات سياسية أو عسكرية من قبل أي طرف من الأطراف الخارجية، كما يجب على الإدارة الانتقالية العمل بالطرق الدبلوماسية على إنهاء الملفات العالقة والتي تعيق توحيد كامل التراب السوري، كالمسألة الكردية، ثم التواجد العسكري الأجنبي على الأراضي السورية. أيضاً يجب التركيز على إعادة تأكيد شرعية الدولة السورية كدولة موحدة ومستقلة في المحافل الدولية.

ب- سياسة الحياد الإيجابي وبناء التوازنات الإيجابية

تعرف سياسة الحياد الإيجابي في العلاقات الدولية بأنها نهج واستراتيجية تتبناها الدولة وتسعى من خلالها إلى تحقيق توازن بين مصالحها وعلاقاتها مع المجتمع الدولي، دون الانحياز بشكل كامل لأي طرف على حساب الآخر، فيما يعرف بـ (الحياد البناء). كما تعمل الدولة من خلال دبلوماسيتها النشطة إلى تبني مواقف متوازنة تدعم الحوار والتفاهم بين الأطراف المتنازعة، وتلجأ إلى حل النزاعات الدولية عن طريق تعزيز الوساطة وتقديم مبادرات السلام.

هذه السياسة تعكس رغبة الدول في تحقيق مصالحها دون التورط في صراعات قد تهدد استقرارها الداخلي أو علاقتها مع الدول الأخرى. فالحياد الإيجابي لا يعني الانسحاب من التفاعل مع المحيط الدولي، خاصة وأن سورية دولة استراتيجية لا يمكن لها إلا أن تتفاعل وتؤثر وتتأثر بالعوامل الخارجية والصراعات الجيوسياسية.

وبالنظر للبيئة الإقليمية والدولية المحيطة بسوريا، فسنرى روسيا وإيران (الحلفاء السابقين لنظام الأسد)، والدول العربية والغربية التي ترى في صعود هيئة تحرير الشام وتسلمها زمام القيادة في سورية، عودة للتنظيمات الإسلامية التي حاربتها لسنوات منذ صيف 2013. كما أن إسرائيل التي تحاول من خلال ضرباتها أن تجعل سورية دولة خالية من السلاح، ليس من مصلحتها أن تكون على حدودها دولة مستقرة وقوية. لذلك يقع على عاتق الإدارة الجديدة، أن تسخر الجهود السياسية لتكون “ثقل الميزان” على الساحة الإقليمية والدولية.

وقد يقول قائل إن سورية الجديدة ستتخذ من المحور التركي-القطري أساساً لرسم ملامح سياستها الخارجية، وهو ما يمكن أن يكون له تبعات سلبية أيضا على علاقة سورية ببقية دول المنطقة، ويزيد من المخاوف الإقليمية، خاصة وأن هناك دول لن تتوانى عن دعم مسار مضاد للثورة عندما يتم استهداف مصالحها بشكل مباشر، لذلك يقع على عاتق سورية الجديدة أن تكون في علاقات متوازنة مع الجميع بما يحفظ استقلاليتها ومصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية.

لكن هذا لا يعني عدم إقامة علاقات استراتيجية مع الأطراف التي تكفل لسورية الجديدة تحقيق مصالحها، دون أن تكون هذه العلاقات والتحالفات موجهة ضد أطراف بعينها. تأتي تركيا في مقدمة الأطراف التي تحتاج سوريا إقامة علاقات استراتيجية معها، وذلك للاعتبارات التي أوضحناها سابقاً. قطر أيضا أبدت استعداداً كبيرا لتوفير الدعم الاقتصادي الذي تحتاجه سوريا في هذه المرحلة. في نفس الوقت أبدت المملكة العربية السعودية استعدادا لتقديم الدعم الكبير لسوريا، وهو ما يمكن تشكيله من خلال علاقات جيدة بين سوريا والمملكة، قد تؤدي أيضاً إلى التخفيف من الهواجس السعودية حول نفوذ حكومات “الإسلام السياسي” في المنطقة بشكل عام.

نرى أيضاً أهمية أن يوازن النظام السوري الجديد في علاقاته بين الولايات المتحدة من جانب، وروسيا من جانب أخر، بما يوفر له أوراقاً جيدة للمناورة بين الجانبين. يمكن مثلاً  عدم الإصرار على ترك الروس لقاعديتها على الساحل لوقت محدد، في مقابل اتفاقيات واضحة لتدريب وتسليح أقسام من الجيش السوري الجديد. مثل هذا التوازن مهم لحماية سوريا من الوقوع تحت تأثير  طرف واحد في علاقة أحادية لن تخرج منها سوريا رابحة، وستدفع ثمنها على حساب استقلاليتها وحريتها في اتخاذ السياسات التي تراها مناسبة.

ج- الدبلوماسية النشطة وإعادة التأهيل السياسي

يمكن للنشاط الدبلوماسي السوري، والذي لا بد من أن يتزامن مع خطوات إعادة بناء الدولة داخلياً، أن يساهم في تنشيط العلاقات الثنائية مع دول العالم، وإعادة جسور التواصل، بالإضافة إلى تعزيز حضور سورية في المحافل الإقليمية، وفتح قنوات الحوار مع جميع الأطراف الفاعلة بما فيها القوى الكبرى مثل روسيا والصين وأمريكا وكذلك الاتحاد الأوروبي. كما يمكن أن تكون القوة الناعمة من خلال أدوات الدبلوماسية الثقافية والإنسانية والإعلامية لها دور في ذلك.

خامساً – إعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية:

إن التحديات القائمة متعلقة بالتدمير الكامل للجيش السوري، فضلاً عن أنه حتى عندما كان قائماً، لم يستخدم إلا كأداة للنظام في قمع الشعب والتنكيل به، لذلك فإن الحديث الآن هو عن عملية إعادة بناء شاملة للجيش. في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى ما يلي:

  • إنشاء لجنة وطنية مستقلة: تضم جميع المكونات السورية، تكون مسؤولة عن رسم خطة إعادة بناء الجيش بعيداً عن أي تدخلات سياسية أو طائفية.
  • تطوير عقيدة عسكرية وطنية: تركز على حماية السيادة الوطنية وضمان أمن الدولة والشعب، والحفاظ على مقدراته وثوابته. إعادة بناء الجيش السوري ليست مجرد قضية تقنية، بل هي عملية سياسية واجتماعية تهدف إلى ضمان الأمن والاستقرار في سوريا الجديدة، مع تعزيز الثقة بين الشعب ومؤسساته الوطنية.
  • التعريف الدقيق لمعالم العلاقات المدنية – العسكرية، وتراتبية الجيش في الهيكل التنظيمي للدولة.
  • إصلاح شامل للهيكلية: إعادة بناء البنية التنظيمية للجيش لتكون مبنية على المهنية والكفاءة.
  • التدريب والتأهيل: تصميم وتنفيذ برامج تدريب وطنية ودولية لرفع كفاءة الجيش.
  • بناء الأجهزة الأمنية الجديدة بشكل احترافي يحقق معايير الأمن على أعلى مستوى مهني حديث، مع التركيز على احترام حقوق الإنسان والقوانين الدولية.
  • دمج الفصائل المنشقة: وضع آليات لدمج العناصر المنشقة والمؤهلة في الجيش الجديد، والحرس الوطني المقترح، والمؤسسات الأمنية، مع توفير ضمانات للعدالة والمساواة.
  • الابتعاد عن الطائفية ومعالجة الانقسامات: العمل على إنشاء جيش وطني يمثل جميع أطياف الشعب السوري، وضمان توزيع عادل للفرص داخل المؤسسة العسكرية. والمؤسسة الأمنية، ليكون الجيش وجهاز الأمن  ممثلا لجميع مكونات الشعب السوري بما يتجاوز الإرث الطائفي، وإرساء ثقافة مهنية خالية من الولاءات الطائفية.
  • إبعاد النفوذ الخارجي: تقليل الاعتماد على الدعم الأجنبي، والعمل على تحقيق استقلالية القرار العسكري والأمني.
  • وضع خريطة للتسليح الحديث، بما يتلاءم مع الإمكانات المتاحة، وتحديد الأولويات طبقاً للتهديدات الحقيقية، مع التخطيط للاستخدام الأمثل لها.

سادساً – إعادة بناء المجتمع:

من أهم ما ينبغي الالتفات إليه في هذه المرحلة الحرجة، التركيز على إعادة بناء المجتمع ومؤسساته. ويهدف ذلك البناء تحقيق ما يلي:

  1. ترميم العلاقات الاجتماعية، وامتصاص المشاعر  السلبية بالانتقام، والسعي لإعادة صهر  الشعب السوري في بوتقة واحدة، بعيداً عن الطائفية والعنصرية والتحزب والاستقطاب، وجمع السوريين على هدف استراتيجي واحد يتمثل في إعادة بناء وطنهم، وحمايته من تآمرات الداخل والخارج.
  2. الاعتماد على الذات، عن طريق حشد وتفعيل قوى المجتمع السوري، بمن في الداخل والخارج على حد سواء، بشكل مؤسسي، للوفاء بالكثير مما تحتاجه سورية في الوقت الراهن، ومما سيصعب على الحكومة الجديدة توفير  الموارد والإمكانيات اللازمة له.
  3. تمتين المجتمع وتحصينه أمام الهجمات والاختراقات الخارجية المتوقعة، وسد الثغرات التي يمكن أن تحدث من خلالها تلك الاختراقات.
  4. تربية وتدريب الكوادر على العمل العام، واستكشاف تلك التي تصلح للعمل السياسي بكل مستوياته لاحقاً، والدفع بهذه الكوادر لتشكيل المؤسسات السياسية المستقبلية من أسفل إلى أعلى “Bottom – up”.

ولكي يحقق البناء المجتمعي هذه المستهدفات، ينبغي تكوينه بشكل مؤسسي (فضلاً عن المبادرات الفردية التي لا غنى عنها)، و التخطيط لذلك بشكل استراتيجي.

ينبغي السعي لتشكيل أليات تشبيك للمؤسسات العاملة في الأعمال المتشابهة، وإقامة مؤتمرات وتكوين هيئات عليا تقوم بالتخطيط الإستراتيجي، وحصر المهام، ورسم خرائط المؤسسات الفاعلة على الأرض، وتحديد الفجوات والسعي لرتقها، وغير ذلك من المهام. كما يجب فتح المجال للسوريين الموجودين في الخارج للمساهمة في هذه الجهود، مع التشبيك مع منظمات أهلية دولية لتشكيل تنسيقيات مهنية لترتيب أعمال ومشاريع كبيرة، وريادة أعمال، وغير ذلك، تساهم في الوفاء بالاحتياجات المطلوبة.

من المهم أيضاً توفير البيئة التشريعية اللازمة التي تسمح باستعادة دور الأوقاف الأهلية في تمويل العمل المجتمعي بشكل مستدام، بحيث يتم الاعتماد على الذات بقدر الإمكان وتقليل الحاجة للدعم الخارجي.

كما ينبغي الاهتمام بالدعوة و المساجد، وإعداد الأئمة والدعاة الذين ينشرون صحيح الدين، بعيداً عن الغلو التطرف، بعد أن تم إهمال هذا الجانب، بل محاربته لسنوات طويلة، بما يكفل سلامة المجتمع ويحصنه ضد الأفكار الهدامة.

منظمات المجتمع الأهلي

إن بناء منظمات مجتمع أهلي فاعلة في الدولة الجديدة، هو جزء لا يتجزأ من بناء المجتمع بشكل عام، حيث تعتبر هذه المنظمات حلقة الوصل بين الدولة ومؤسساتها من جهة، والمجتمع الأهلي من جهة ثانية. كما أن أهمية هذه المنظمات تنبع من كونها جزء من الحراك السياسي العام، والوسيط بين الشعب والسلطات.

ويمكن لمنظمات المجتمع الأهلي، أن تساهم في إشراك المواطنين ببناء سورية الجديدة، وتعزز أسس مفهوم المواطنة، وذلك بعد عزوف فئات المجتمع خلال الحقبة السابقة عن القيام بأي دور خدمي او اجتماعي ضمن نطاق الشأن العام. ويمكن لهذه المؤسسات أن تساهم في ذلك من خلال التحرك في اتجاهين رئيسيين ضمن المساحة التنظيمية التي تحددها المؤسسة التشريعية في الدولة من خلال لعب دور الوسيط الإيجابي:

الاتجاه الأول: هو مساعدة الدولة ومؤسساتها على القيام بوظائفها، من خلال وسائل الضغط السلمية.

الاتجاه الثاني: حماية مصالح الأفراد والجماعات والقيام بالمبادرات الاجتماعية والخدمية في مختلف المجالات.

إن نجاح عملية الانتقال والتغيير في سورية الجديدة، يتطلب مؤازرة كبيرة من قبل المجتمع الأهلي والشبابي، ويكتسب هذا الأمر أهمية كبيرة، خاصة وأننا نتحدث عن العديد من الملفات المفصلية والملحة والتي تتطلب الاستجابة السريعة ليس من قبل الحكومة فقط، وإنما من قبل التجمعات المدنية التي يمكن أن تقوم بأدوار كبيرة ومؤثرة على الصعيد المجتمعي مثل: الرقابة على السلطة، قضايا اللاجئين والنازحين، الأطفال الأيتام، ملف المختفين قسرياً، النساء الخارجات من المعتقلات وضحايا العنف الجنسي، المتضررين نفسياً جرّاء الحرب او الاعتقالات او انفصال البعض عن ذويهم، محاربة الفكر المتطرف، دعم السلم الأهلي، دعم ثقافة العمل التطوعي، المساهمة الفعالة في مساعدة الدولة على تطبيق العدالة الانتقالية، نشر الثقافة السياسية وغيرها.

لذلك فإن سورية الجديدة تحتاج إلى إطلاق يد الفاعلين والمهتمين بالعمل في الشأن العام، لإفساح المجال نحو نشوء مجتمع أهلي فعّال ومساهم بشكل إيجابي في بناء الدولة من جهة والكينونة الاجتماعية من جهة أخرى.

سابعاً – الدستور  والنظام السياسي

إن صياغة الدستور، بما في ذلك تصميم النظام السياسي للدولة، هي عملية غاية في الأهمية والتعقيد، خاصة في مجتمع متنوع مثل المجتمع السوري. إلا أنه لا يمكن الدخول في هذه العملية بنجاح في ظل ثورة لم يكتمل تحقيق أهدافها، ولم يفرض السوريون سيادتهم بعد على كامل التراب السوري، وفي ظل التحديات الجمة التي استفضنا في شرحها، حتى لا تؤدي عملية صياغة الدستور في حد ذاتها لتكريس التنازع والخلاف في هذه المرحلة الحرجة، على النحو الذي شهدته التجربة المصرية على سبيل المثال.

يمكن بنهاية العام الأول من المرحلة الانتقالية البدء في عملية تحضيرية لصياغة الدستور إذا سمحت الأوضاع بذلك، حتى يكون جاهزاً ومعتمداً من الشعب بنهاية المرحلة الانتقالية (التي نقدرها بنحو ثلاث سنوات). لكن يجب أن يسبق ذلك مناقشات مجتمعية موسعة تضمن توافقاً جيداً حول النظام السياسي الجديد، وحول مرجعيته الأساسية، وكيفية تصميم مكوناته من سلطات تنفيذية وتشريعية ورقابية وقضائية، بما يضمن سلطة الشعب الكاملة في تولية ومحاسبة وعزل الحكام والوزراء، وكيفية تحقيق الفصل بين السلطات، وتكريس مبدأ استقلال القضاء، وتحديد صلاحيات الأطراف المختلفة، والعلاقة بين السلطة والمجتمع، والتعريف المحدد والواضح لطبيعة العلاقات المدنية – العسكرية، والتوازن بين السلطات المركزية وسلطات المحليات، فضلا عن صيانة الحقوق والحريات، إلى غير ذلك مما تتضمنه الدساتير.

ثامناً – العدالة الانتقالية:

بالنظر للاعتبارات التي تم الحديث عنها في قسم التحديات، فإنه يمكن عن طريق العدالة الانتقالية التفكيك الممنهج للدولة العميقة والتخلص من العقبات أمام التغيير، وفي نفس الوقت فتح المجال أمام المصالحات الوطنية الواسعة بعد تحييد أكابر المجرمين ممن توغلوا في الإجرام ضد الشعب السوري.

مسار العدالة الانتقالية يُتصور أن يسير على النحو التالي:

  • منظومة القوانين: تعديل القوانين السورية لتتماشى مع المعايير الدولية للعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان.
  • إنشاء محاكم مستقلة: تكوين محاكم متخصصة أو لجان عدالة انتقالية ذات طابع مستقل عن القضاء العادي.
  • تحديد نوعية القضايا ومجال عمل العدالة الانتقالية وتعريف أهدافها.
  • تأهيل الكوادر القضائية: تصميم وتنفيذ برامج تدريبية لإعداد قضاة ومحامين قادرين على التعامل مع القضايا المعقدة المتعلقة بالعدالة الانتقالية.
  • ضمان الشفافية والمشاركة: إشراك الضحايا والمجتمع الأهلي في كل مراحل العدالة الانتقالية لضمان قبول العملية.
  • تفعيل التعاون الدولي: إشراك المنظمات والمحاكم الدولية المعنية في دعم وتفعيل العدالة الانتقالية. وتتبع مجرمي النظام السابق أينما كانوا.
  • العمل على برامج توعية وطنية لتعزيز ثقافة التسامح والمصالحة.

فلسفة التسامح وبناء المجتمع

إن المنظور الصحيح للتسامح المجتمعي، ينبغي ألا يكون مدخلاً لإعادة خلط الأوراق، وسبباً غير مباشر للقفز فوق مكتسبات الثورة، وإضاعة حقوق المواطنين المتضررين من حكم النظام السابق وأعوانه.

وقد يقول قائل إن العدالة الانتقالية ينبغي أن تشمل فقط كل من تورطت يده بالدماء. لكن هذا الاختزال يمكن أن يكون مضرّاً بالثورة وبحقوق هؤلاء الضحايا. فماذا عن الماكينة الإعلامية لنظام الأسد ومثقفيه الذين حاولوا على مدار أربعة عشر عاماً تكريس روايته وتضليل الرأي العام داخليا وخارجياً خدمة لأجنداته؟ وماذا عن تصفيق هؤلاء لآلة القتل والتعذيب وإيجاد الدوافع لها؟ إن من المبالغة ان تكون عاقبة من حمل القلم أو أدار الرأي العام في اتجاهات مضللة متساوية مع من حمل السلاح أو سوط التعذيب في المعتقلات  أو قصف بطائراته البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية؛ لكن النقطة الجوهرية هنا، والتي تؤثر بشكل مباشر على بناء مجتمع متوازن، أن هؤلاء لا يمكن أن نفصلهم عن كونهم شركاء في الجريمة من خلال تبرير جرائم النظام السابق أو التغطية عليها.

لذلك فإن من واجب الإدارة الجديدة اجتثاث جذورهم الفكرية قبل أن تتكاثر مجدداً لتتحول إلى سرطان ينهش بجسد الدولة. وعليه فإن سياسة التسامح والرحمة لا تنفصل عن ضرورة إيجاد أطر قانونية مناسبة لمحاسبة كل المتورطين سابقاً بدعم الأسد ونظامه، والحذر من تفاعلهم بشكل مضاد مع الشأن العام في مرحلة بناء الدولة، لما في ذلك من احتمالية تحول هؤلاء إلى يد من الأيادي التي ستحاول العمل على إسقاطها، وهو ما ينطبق على أمثلة الخلايا النائمة التي ذكرناها سابقاً.

نعطي مثالاً على ذلك:

عقب الحرب العالمية الثانية، ظهر مصطلح “اجتثاث النازية” أو “Denazification”، وهو مصطلح يشير إلى الجهود التي بذلتها قوات الحلفاء لإزالة تأثير النازية من المجتمع والسياسة والثقافة والتعليم والقضاء في ألمانيا والنمسا. وكان الهدف هو إعادة بناء هاتين الدولتين التخلص من الإرث الذي تركه الزعيم النازي أدولف هتلر وأيديولوجيته التي دمرت أوروبا خلال الحرب.

وشملت سياسة اجتثاث النازية، تقديم القادة البارزين للعدالة بتهم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية “محاكمات نورمبرج (1945-1946)”. كما تم تطهير المؤسسات وإقصاء أي شخص مرتبط بشكل وثيق بالحزب النازي أو روّج لأفكاره من المناصب والحياة العامة.

كما تم تصنيف الأفراد الألمان بناءً على مدى ارتباطهم بالنظام النازي إلى خمس فئات رئيسية مع تحديد العقوبات والإجراءات التي ستطبق على كل فئة.

عملية التصنيف

تم تصنيف الأفراد الألمان بناءً على مدى ارتباطهم بالنظام النازي في خمس فئات رئيسية، مع تحديد العقوبات والإجراءات التي ستُطبق على كل فئة. التصنيف اعتمد على:

  1. استبيانات فردية: تم توزيع استبيانات (تُعرف بـ “Fragebogen”) تحتوي على أكثر من 130 سؤالاً حول الأنشطة السياسية، والانتماءات، والمناصب التي شغلها الأفراد أثناء حكم النظام النازي.
  2. التحقيقات والمحاكمات المحلية: أُجريت تحقيقات من قبل السلطات أو لجان خاصة في كل منطقة.
  3. الأدلة المادية والشهادات: مثل العضوية في الحزب النازي، العمل في مؤسسات الحكومة النازية، والمشاركة في جرائم الحرب.

* الفئات الخمس وتصنيف الأفراد:

1. المجرمون الرئيسيون (Hauptschuldige):

  • القادة الكبار والمسؤولون الرئيسيون في النظام النازي.
  • الأشخاص الذين خططوا أو نفذوا جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية.
  • العقوبات شملت:
  • الإعدام.
  • السجن المؤبد.
  • السجن لفترات طويلة.

2. المذنبون بشدة (Belastete):

  • الأفراد الذين كانوا أعضاء فاعلين في الحزب النازي أو شغلوا مناصب حكومية أو عسكرية مهمة.
  • الذين شاركوا بشكل مباشر في سياسات القمع أو التصفية العرقية.
  • العقوبات:
  • الإقصاء من الوظائف العامة.
  • فقدان حقوق المواطنة (مثل حق التصويت أو شغل المناصب الحكومية).
  • فرض العمل القسري لفترات تتراوح بين أشهر وسنوات.
  • مصادرة الممتلكات الشخصية.

3. المذنبون البسيطون (Minderbelastete):

  • أعضاء الحزب النازي الذين لم يشغلوا مناصب قيادية أو لم يشاركوا بشكل مباشر في الجرائم.
  • الأفراد الذين أُجبروا على الانضمام للحزب بسبب الضغوط الاجتماعية أو الاقتصادية.
  • العقوبات
  • دفع غرامات مالية.
  • فقدان بعض الحقوق المدنية لفترة مؤقتة.
  • أداء خدمة عامة أو أعمال تطوعية لإعادة بناء البلاد.

4. المتعاطفون أو الأتباع (Mitläufer):

  • الأشخاص الذين دعموا النظام النازي بشكل سلبي أو غير مباشر دون المشاركة في أي أنشطة إجرامية.
  • الأفراد الذين انضموا إلى الحزب لأسباب غير أيديولوجية (مثل فرص العمل أو الحصول على امتيازات اجتماعية).
  • العقوبات:
  • لا تُفرض عقوبات جنائية مباشرة.
  • تلقي تحذيرات أو ملاحظات إدارية.
  • الخضوع لبرامج إعادة التثقيف.

5. الأبرياء (Entlastete):

  • الأشخاص الذين لم يكن لديهم أي ارتباط بالحزب النازي أو النظام.
  • الذين رفضوا دعم النظام علناً أو تعرضوا للقمع بسببه.
  • لا توجد عقوبات، بل سُمح لهم بالعودة إلى حياتهم الطبيعية، وكانوا مؤهلين لتولي مناصب إدارية في الدولة الجديدة.

هناك أيضاً تجربة رواندا البارزة التي يمكن الاسترشاد بها، حيث اعتُمدت محاكم جاتشاكا التقليدية، التي جمعت بين المحاسبة، وإعادة دمج الجناة في المجتمع في نفس الوقت، ما ساهم بشكل كبير في تحقيق الاستقرار الوطني.

تاسعاً – احتواء اللاجئين وإعادة الإعمار:

إن وضع الخطط الملائمة لعودة واستيعاب اللاجئين والنازحين، وتنفيذها بشكل مدروس، لن يؤدي فقط لحل مشكلة ديموجرافية واجتماعية كبيرة، ولكن سيوفر أيضاً فرصة كبيرة بإضافة طاقات وخبرات وإمكانيات مادية اكتسبها المهاجرون في مهجرهم لسنوات طويلة، يمكن استغلالها بكفاءة في عمليات إعادة البناء.

  1. إعادة الإعمار:
    التركيز على إعادة بناء المنازل، المدارس، والمرافق الصحية في المناطق المتضررة.
    إعطاء الأولوية للمناطق التي خرج منها أكبر عدد من اللاجئين.
  2. برامج الإدماج الاجتماعي:
    إطلاق حملات توعية لتعزيز التعايش السلمي بين مختلف المكونات.
    تقديم دعم نفسي واجتماعي للمتضررين من الحرب.
    التأهيل المهني والاستيعاب في مؤسسات المجتمع الأهلي وبرامج ريادة الأعمال.
  3. ضمان الأمن:
    تعزيز سيادة القانون في المناطق المستهدفة لضمان عودة اللاجئين بأمان.
    تفكيك المليشيات غير الشرعية وتعزيز وجود الدولة في كل المناطق.
  4. الدعم الدولي:
    طلب مساعدة منظمات الأمم المتحدة والدول المانحة لتوفير التمويل اللازم.
    التنسيق مع الدول المضيفة لتسهيل عودة اللاجئين بشكل طوعي وآمن.

عاشراً – بناء الاقتصاد الجديد:

في هذا الجزء، لن نتطرق إلى الإجراءات التفصيلية المطلوبة للتعامل مع التحديات الاقتصادية الضخمة الموجودة. إلا أنه في هذا السياق، قال رئيس غرفة تجارة دمشق باسل الحموي إن الحكومة السورية الجديدة أبلغت رجال الأعمال أنها ستتبنى نموذج السوق الحرة وستدمج البلاد في الاقتصاد العالمي، في تحول كبير عن سيطرة الدولة على الاقتصاد لعقود. ورحب رجال أعمال سوريون كبار بالإشارات التي تدل على أن الاقتصاد سيكون مفتوحا للاستثمارات اللازمة لإعادة الإعمار التي تحتاجها البلاد بشكل كبير، بعد دمار واسع شهدته البلاد خلال 13 عاما وتقدر تكاليفها بمئات مليارات الدولارات ([13]).

لكننا نرى أنه أهم من ذلك، وحتى لا يتحول الوضع الاقتصادي الجديد إلى النموذج النيوليبرالي الذي يتحكم فيه قلة من رجال الأعمال ذوي النفوذ في جميع مدخلات التنمية الاقتصادية، ويتسلل إليه الفساد تدريجياً، وحتى لا تعتمد الدولة، أو حتى رجال الأعمال، بالأساس على التوسع في الاقتراض بما يكبل البلاد بقيود الديون وفوائدها لفترة طويلة من الزمن، فينبغي تطوير نموذجا اقتصادياً جديداً، عماده الاعتماد على الذات بقدر الإمكان، وتمكين أكبر قدر من أفراد المجتمع على العمل الناجح وريادة الأعمال، بما يؤدي إلى حسن توزيع الثروة على أكبر قطاع ممكن من أفراد المجتمع، مع التركيز على الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية وصناعات التكنولوجيا الحديثة.

يمكن أيضاً التركيز على أليات التمويل الإسلامي القائمة على المشاركة، وليس الاقتراض، وعلى توطين إنتاج الاحتياجات الأساسية بدلاً من الاعتماد على استيرادها. إن ذلك من شأنه، فضلاً عن تقليل الاحتياج للنقد الأجنبي، أن يوفر قدراً من الاستقلالية تحتاجه البلاد، فضلاً عن تقليل الأثار السلبية إذا ما تعرضت البلاد، كجزء من الضغوط الخارجية، لاستمرار العقوبات الاقتصادية.

من المشكلات التي ينبغي التعامل معها في الشأن الاقتصادي أيضاً مشكلة الديون السيادية، التي كبل النظام السابق البلاد بها، خاصة من إيران لتوريد المنتجات النفطية. ينبغي في مقابل ذلك النظر قانونياً في مدى إمكانية اعتبار هذه الديون ديوناً فاسدة، كان الهدف منها تمكين النظام القمعي، وهو ما يترتب عليه عدم تعين سدادها (هناك أسس قونية دولية لهذا الأمر). أيضاً دراسة إمكانية إثارة مسألة التعويضات التي يمكن المطالبة بها من الأطراف التي تسببت في دمار كبير في البلاد، خاصة إيران وروسيا، بحيث يكون ذلك ورقة تفاوضية مهمة، تحد من غلواء المطالبة بسداد الديون.

إن أهم الموارد التي تمتلكها سوريا الإنسان السوري، الذي يثبت على الدوام قدراته على العمل والإنتاج والابتكار. ومع تراكم الخبرات لدى أبناء سورية الذين هاجروا منها طيلة السنوات الماضية، ومع الاهتمام ببناء الإنسان بالتعليم والثقافة والتدريب والرعاية الصحية للأجيال الجديدة، يمكن أن نرى في سوريا أفاقاً ضخمة للنماء بل وحتى السبق.

خاتمة

حاولنا من خلال هذه الدراسة، تسليط الضوء على أهم التحديات التي نرى أنها ستواجه سورية الجديدة، ومن ثَمَّ فتح آفاق لاستبصار الحلول، استناداً إلى الوقائع المتاحة حالياً على الأرض السورية، أو التجارب السابقة لدول عاصرت التحول الثوري نحو الدولة (سواء نجاحا أو فشلا)، وتقاطعت تحدياتها مع تحديات الإدارة الجديدة. يأتي ذلك انطلاقاً من أهمية المرحلة الانتقالية في ترسيخ المكاسب الثورية وتحويلها إلى وقود يهدم العقبات ويساهم في بناء الدولة.

لذلك فإن نجاح هذه المرحلة المؤقتة وعبورها النفق الانتقالي بنجاح، يعني ضمان تحقيق المطالب الثورية التي خرج الشعب من أجلها منذ سنوات، ودفع من أجل تحقيقها ثمناً غالياً من دمائه وحريته وكرامته، وعلى عكس ذلك فإن الفشل في إدارة هذه المرحلة بجميع عقباتها وتحدياتها، يعني دخول البلاد في أتون فوضى وأزمات لا تنتهي.


[1] – صالحة رائد، القدس العربي، 9 ديسمبر 2024، انظر

[2] – الائتلاف يرحب بالبيان الصادر عن الاجتماع الدولي الذي أقيم على هامش اجتماع العقبة بخصوص محددات الانتقال السياسي في سورية، 15/12/2024، انظر

[3] – ياسر حمو، عمار، لماذا تتمسك المعارضة السورية بقرار مجلس الأمن 2254؟، سوريا على طول، 17 كانون الأول/ديسمبر 2024، انظر

[4] – “بلد بلا جيش”؟.. رسائل إسرائيل إلى سوريا الجديدة، الصباغ محمد، 11/12/2024، الحرة، انظر

[5] – عدامة، محمود، إسرائيل وسوريا ما بعد الأسد، تحركات مؤقتة أو خلق وضع جديد، بي بي سي، 12/12/2024 انظر

[6] – رابط التغريدة https://x.com/ar_khamenei/status/1870803500613140516

[7] – إيران تحذر السوريين: لا تفرحوا مبكرا.. ينتظركم مستقبل غامض، سكاي نيوز عربية، 25 ديسمبر 2024 انظر

[8] – الإدارة الذاتية الكردية ترفع علم الثورة السورية فوق مؤسساتها، الجزيرة نت، 12/12/2024، انظر

[9] – سوريا: العدالة الانتقالية ضمانة للوصول إلى سلام مستدام، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، 11 مايو 2023، انظر

[10] – الصاوي، عبد الحافظ، تحديات إدارة الاقتصاد السوري في المرحلة الانتقالية، العربي الجديد، 9/12/2024، انظر

[11] – قطاع الطاقة أصابه الشلل.. نظام الأسد يترك اقتصاد سوريا منهارا، الجزيرة نت، 10/12/2024، انظر

[12] – سوريا تتجه لتبني نظام اقتصاد السوق واستئناف قريب لعمل المطار، الجزيرة نت، 12/12/2024، انظر

[13] – سوريا تتجه لتبني نظام اقتصاد السوق واستئناف قريب لعمل المطار، الجزيرة نت، 12/12/2024، انظر


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


د. عمرو درّاج

سياسي وأكاديمي مصري، رئيس المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، وزير التخطيط والتعاون الدولي في حكومة الرئيس محمد مرسي، 2013.

صوفيا خوجاباشي

صحفية وباحثة في العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى