قلم وميدان

سيد درويش: فنان الشعب وإمام الملحنين

سيد درويش: فنان الشعب وإمام الملحنين

الأغنية واحدة من أهم الوسائل لتوجيه وتعبئة الشعوب من خلالها يتشكل وعي ومفاهيم كثير من أبناء الوطن الواحد. ومن الأهمية ربط الأغنية الوطنية بالأجيال المختلفة والمتعاقبة يجعلنا ندرك أن للفن والأدب مضمون وانتماء وسياق لهم طابع اجتماعي بمعنى أو بآخر، ليس بالضرورة يكون سبب في جودته، ولكن لا يمكن فهمه والحكم عليه بشكل عام دون وضعهم في الاعتبار. مع تجنب السقوط في فخ نزع الفن عن سياقه الأوسع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

عندما نستحضر العلاقة بين سيد درويش وثورة 1919 يجول بخاطرنا آخر طبعة ثورية عرفتها مصر ثورة “25 يناير” 2011 وكأنها تبحث دون جدوى عن “فنان شعب” جديد، قبل وأد كل الاحتمالات. حال مصر في هذه النقطة كحال تونس وغيرها من البلاد اللي قامت بالثورات الشعبية في نفس الفترة الزمنية. نشعر أن هذه الثورات لم تجد من يلحّنها، إنها أشبه ببويضة لم تجد من يلقحها فنيا.ً

 فنان الشعب الثائر

 فنان الشعب سيد درويش من الشخصيات الموسيقية المؤثرة تأثيرا قويا على الأغنية الوطنية المصرية. عبَّر عن ثورة 19 بألحان ألهبت الشعور الوطني عند المصريين.. فكان عام 1919 أكتر السنوات إنتاجا في تاريخ سيد درويش .. لحن فى ذلك العام 75 لحنا، إنتاج ضخم لملحن في عام واحد وهذا يؤكد أن الفنان الحقيقي يتأثر بالأحداث السياسية التي تدور حوله ويتحمس للمشاركة فيها من خلال إنتاجه الفني.

سيد درويش فنان ثوري والثوري هنا لا تنطبق بالضرورة على خياراته لأغنيات سياسية أو وطنية، الثورية تعني الانتماء لمشروع التغيير الاجتماعي الجذري في الواقع والالتزام تجاه هموم وقضايا القائمين عليه والانخراط في حراكهم وأحلامهم والتعبير عن كل ذلك فنيا بأي شكل وأية طريقة.

 وصفه عباس العقاد بإمام الملحنين، إنتاجه لم يكن مجرد إنتاج فني غزير يصلح للتداول في كل عصر. ولكن ترك لنا تراثا يتغذى على وجدان الجماهير قدر ما يغذيها.

مسرح سيد درويش

سيد درويش نجح في إحداث نقلتين نوعيتين في الموسيقى العربية الأولى من التخت إلى الأوركسترا والثانية من التطريب إلى التعبير نتيجة ارتباطة بالشعراء بيرم التونسي ومحمد تيمور وبديع خيري ومسرح سليم عطا الله في بداياته وسفره معهم للشام عام 1913 فكانت الفرصة الأولى لصقل مواهبه وكان المسرح أول مدرسة احتضنت سيد درويش ليمارس فيها تجربته الفنية لتقديم العروض المسرحية فأعطى له عمقا فنيا كملحن ومطرب وإدراكة لمفاهيم الدراما وعلاقتها بالمسرح. لم يسع لعمل حالة من النشوة والطرب للمستمع بقدر ماسعى إلي التعبير بالموسيقى والكلمة.

من أكتر الأحداث اللي أثرت في توجهات سيد درويش الفنية مشاهدته لأوبرا عايدة للموسيقي الإيطالي الشهير فيردي وبعد حضوره العرض قال لصديقة مصطفى صادق الرافعي: “أطربتني موسيقى هذا الإيطالي وقال: لابد أن أكتب موسيقى تطرب الإيطالي والصيني والفرنسي والألماني كما أطربتني أنا المصري موسيقى هذا الإيطالى ويقصد فيردي.

سيد درويش كان مدركا لدوره وواع به تماما رغم نشأته الفقيرة في بيئة شعبية مهمومة بلقمة العيش ليس في حياتها هامش لممارسة الترف الفنى والثقافى. كان همُّه وطني سياسي بالدرجة الأولى مثل شعراء المقاومة الكبار مقاومتهم بالكلمة. فكان فارس من فرسان المقاومة.. المقاومة بالموسيقى. لا نستهين أبدا بهذا الدور فالسلاح الذي رفعه سيد درويش ليقاوم به أخطر من أسلحة الحرب والقتال، لأن الزاد الغنائى الذي قدمه سيد درويش هو من قاد المواطن إلى حمل السلاح المباشر دفاعا عن أرضه وحماية عرضه. فكان فارس ثورة الأغاني الوطنية في مصر مع دقات طبول الحرب العالمية الأولى”1914-1918″ عندما سخرت بريطانيا آلاف المصريين لخدمة الجيش البريطاني غنى سيد درويش “يا عزيز عيني وانا بدي اروح بلدي.. بلدي يابلدي والسلطة خدت ولدي” والتي ألفها محمد يونس القاضي.

الحلوة دي .. رمز الصورة الشعبية

سيد درويش لم يترك فئة أساسية من النسيج المصري لم يُغَنِّ لها. في رحلته الفنية القصيرة التي استمرت ست سنين تقريبا.. أنتج حوالي 250  لحن.. شكلت ملامح المجتمع المصري بطبقاته المختلفه.. بدءاً من الصنايعية والشيالين والموظفين .

احتل درويش مكانته بين الفئات الشعبية لاستخدام لغة الشارع والطبقة الشعبية والألفاظ التي تناسب كل فئة. ظهر ذلك واضحا في أعماله مثل “طقطوقة دنجي دنجي” في رواية طاحونة حمرا وطقطوقة “سالمة ياسلامة” “ومليحة قوي القلل الجيناوي” في رواية قولوله و”شد الحزام على وسطك” في رواية البربري في الجيش .. “فين زي مصر بلدنا” في رواية أم 44 وطقطوقة “القطن” في رواية فشر .. وغيرها كتير.

ومن الأغنيات السياسية “صابحة الزبدة بلدي الزبدة” في رواية كلها يومين..

طقطوقة “أهو ده اللي صار” و “يابلح زغلول” . ومن الأناشيد لحن: أحسن جيوش في الأمم جيوشنا و”احنا الجنود زي الأسود” في رواية الهلال .. “قوم يامصري مصر دايما بتناديك” في رواية قولوله .. و”انا المصري كريم العنصرين” في رواية شهرزاد.

قدم العديد من الأغنيات الوطنية المتنوعة ذات الطابع القومي التي تبرز خصوصية المجتمع المصري واللهجات المختلفة لأبناء محافظاتها منها طقطوقة ” الحلوة دي قامت تعجن في البدرية”

الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية..

والديك بيدن كوكو كوكو فى الفجرية

يالا بنا على باب الله ياصنايعية

يجعل صباحك صباح الخير يااسطى عطية

في رواية “ولو”، يبدأ بصورة شعبية بسيطة هى مدخل إلى قضية كبرى، العمال والصنايعية والصناعة ورأس المال، موضوع غير قابل للغناء أصلا، وينتقل من غناء فئة من العمال  وربطها بحال البلد كلها. كان يستطيع سيد درويش أن يستمر مثل باقي الفنانين ممن سبقوه فى غناء نفس الموضوعات والبعد عن الصور البائسة والمؤلمة لشعب بأكمله، فهو يتعرض لقضية سياسية فى المقام الأول، ولم تكن هذه مهمة الفن فى عصره، كان الفن للمتعة فقط، لكنه استطاع أن يجعل من الطقطوقة البسيطة المليئة بالشجن فى نفس الوقت قطعة فنية خالدة تحفظها الأجيال.

سيد درويش لم يكن همه أن يتغزل في السيدة التي تعجن في الصباح “والتي تشبه السيدة المصرية من أمهاتنا”  ولكن استوحى الصورة واستخدمها بشكل لافت للحديث عن بؤس فئة من الناس تشكو همومها لرب الناس، لكن فئات أخرى عديدة من الشعب تعيش وتعانى من نفس الإحباط، فأغنيته أوجدت حاجة فى نفوس الناس وكأنها تعبرعن نفسها في شكل غنوة.

طلع النهار فتاح يا عليم .. والجيب مافيهشى ولا مليم

مين فى اليومين دول شاف تلطيم .. زى الصنايعية المظاليم

موضوع جديد، وجاد، وجرئ، ويعبر عن أحوال بسطاء الناس، الصنايعية هنا على سبيل المثال، لم يتم طرحهم قبل ذلك فى الموضوعات الفنية والغنائية خاصة.

فلسفة سيد درويش أن كل شيء مكتوب يلحن ويغنى ما دامت هناك فكرة ورأي وموقف وإحساس، وخلق من الفن الشعبي فن راق.  وأخرج الفن من الصالونات إلى المسارح والشوارع والبيوت والقهاوي، فردد الناس أناشيده فى المظاهرات. الغناء لم يكن مقصورا على المطرب الفذ، ولكن غنت الجماهير ألحانه.

استخدم سيد درويش فى ألحانه جملا بسيطة اعتمدت أساسا على التراث الشعبي المتداول كفولكلور، فى صياغة فنية حديثة أكسبتها روح جديدة، بساطة ألحانه كانت سبب في سهولة ترديدها وحفظها على ألسنة الناس، لكن الأدوار والموشحات تحتاج مطرب محترف يؤديها، سيد درويش كان السهل الممتنع.

دنجي دنجي دنجي

هامصيبه وجالي من بدري زي الصاروخ في ودانـي

مافي هاجه اسمه مصـري ولا هاجه اسمه سودانـي

نهر النيل راسه في ناهيه رجليه في الناهية التاني

فوجاني يروهوا في داهيه اذا كان سيبو التــــاني

أناشيد وطن تبث الحماس في الجبان

معظم أعمال سيد درويش تغنت بها الأجيال من المطربين والمطربات والفرق الموسيقية بنفس الطرح والتناول والبعض غير في الكلام وأسلوب التوزيع سواء للموسيقى أو حتى الغناء الصوتي.

قاد درويش نضالا من نوع آخر أمام الإنجليز في خضم ثورة 1919، فكانت أناشيده وقوداً للمتظاهرين في شوارع القاهرة، كما سخّر أوبريتاته على المسرح لترديد الأناشيد الوطنية المناوئة لحكم المستعمر وقتها.

سيد درويش أفضل ملحن للأناشيد على الإطلاق، ومصر لم تعرف الأناشيد القومية قبله، وأناشيد سيد درويش وصفها الشاعر بديع خيرى وقال إنها تبث الحماس فى الجبان .. وهذا دليل على قوة تأثيرها حتى على الجبان مابالك على المواطن الغيور صاحب القضية والنضال.

صاغ أناشيده غالبا على إيقاع المارش الرباعى وإن شذ عن ذلك فى نشيد “قوم يا مصرى”

إيقاعه من الفالس الثلاثي، فكانت تجربة جديدة جعلت بعض المحللين الغربيين تعترف بأنه فنان مجدد ومبتكر.

قـــوم يا مصـري مصر دايما بتناديك

خد بنصري نصري دين واجب عليك

من أهم الأعمال التي قدمها نشيد “بلادي بلادي لك حبي وفؤادي” كتب الكلمات محمد يونس القاضي واستوحى كلماته من خطاب الزعيم مصطفى كامل الذى ألقاه على مسرح زيزينيا بالإسكندرية عام 1907

وكان نصها “بلادي بلادي لك حبي وفؤادي .. لك حياتي وجودي .. لك دمي لك عقلي ولساني .. لك قلبي وجناني فأنت أنت الحياة ولا حياة إلا بك يامصر.  فلحن سيد درويش كلمات محمد يونس القاضي في سبتمبر سنة 1932 بعد حوالي 25 سنة على خطاب مصطفي كامل فكانت كلمات النشيد.

بــلادي بـلادي بلادي  .. لك حبي وفؤادي

مــصر يا أم البلاد   ….. أنت غايتي والــمراد

وعــــلى كل الـــعباد … كـــم لــنيلك مـن أيادي

وقام بتحفيظه لطلبة المعهد العباسي لاستقبال سعد زغلول عند عودته من المنفى ولكنه توفي قبلها بأيام. وقدم النشيد لأول مرة في 17 ديسمبر من نفس العام سنة 1932 من غير وجود ملحنه سيد درويش. ونال بعدها شهرة واسعة.

سيد درويش ‏الفنان المبدع والثائر على الفساد والاستعباد، العاشق للوطن وللحرية، والغيور على فنه والذي يحترم ما يقدمه للجمهور، والمجدد بل الباعث لنهضة فنية استمرت لعشرات السنين وألهمت أجيال كثيرة بعده، الشيخ سيد ولقب الشيخ كانوا يلقبونه على كتير من مطربي وملحني هذه المرحلة ومابعدها لسنوات، ترك أكبر ثروة فنية فى تاريخ الموسيقى العربية على الإطلاق، ليس بالكم بل بالكيف، كل لحن وكل قطعة تستحق الدراسة والتأمل. الموضوعات التى طرقها سيد درويش لم تكن لتخطر على فكر أو خيال أحد فى ذلك الوقت، ففي عصر اقتصرت فيه وظيفة الفن على التسلية، والموضوع الفني على العشق والغرام يقتفى سيد درويش شعور الإنسان وحاله بآلامه وأحلامه ويخاطب الجماعة كما يخاطب الفرد، واستطاع بعد مئات من السنين أن ينتقل بالفن من حيز التطريب الضيق إلى آفاق التعبير الرحبة ويخطو خطوات كبيرة نحو عالم الإنسانية الواسع، ويجعل من هذه الرسالة هدفا لحياته.

أغاني سيد درويش كان الخطاب فيها للمصريين وليست لأي سلطة فكان صوت جديد للأغنية الوطنية ودور واضح وفعال لتحريك الجموع من الشعب ضد الاستعمار.

بموت سيد درويش توارت الأغنية القومية الوطنية الحقيقية، الأغنية اللي تحمل كلماتها وألحانها ملامح بارزة من شخصية المصرى وطابعه ومزاجه وحركاته، كانت الأغاني للمصريين وليست لأي حاكم أو سلطة أو أنظمة بل كانت أغانيه للشعب صاحب الإرادة والتغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى