fbpx
دراسات

سيكولوجيا المحارب الإسرائيلي (3) هكذا يخططون

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

السابرا أو (الساباريم)، من هم، وكيف يُخطط لهم؟!

“السابرا” أو “الساباريم”، هم أولئك اليهود الذين وُلِدُوا على أرض فلسطين، ولا يعرفون لهم وطناً آخر سوى إسرائيل بعد قيامها. إن ارتباطهم بإسرائيل ليس نتيجة اعتقاد أيديولوجي أو نتيجة إيمان بالصهيونية، ولكنه ببساطة ارتباط ناتج عن كونهم ولدوا هناك، وهم لا يعرفون عن معاداة اليهودية وعن اللاسامية إلا ما يقال لهم عنها. لقد وُلِدوا في مجتمع غالبيته يهودية، ولم يواجهوا هذه المعاداة التي تُدَرَّسُ لهم في كتب التاريخ، وبالتالي فليست لديهم – أو هكذا يُفترض- عقدة اضطهاد كالتي عند آبائهم، ولم يشعروا أبداً بإحساس الأقلية الذي عرفه آباؤهم من قبل هنا أو هناك في هذا العالم.

ويرى بعض الباحثين أن هذه المجموعة من اليهود تضع إسرائيليتها قبل يهوديتها، حيث تعتقد أنها وُجِدت على هذه الأرض ليس لأنها يهودية، بل لأنها ولدت عليها كإسرائيلية.. ولأن هذه الحقيقة الماثلة أمام صناع التجمع الإسرائيلي الصهيوني ترعبهم، لما تتضمنه من آفاق مستقبلية تنحى نحو تفريغ الإنسان الإسرائيلي من صهيونيته المُفْتَرضة والمبالغ في الحرص عليها، ناهيك عن تفريغه من يهوديته، التي هي عماد استمرار هذا التجمع بصفته المرسومة له في الدوائر الصهيونية والإمبريالية العالمية عموماً والأمريكية خصوصاً، فقد كان من الطبيعي أن تُحاك الأساطير حول هذه الفئة وأن يُصَار إلى تمجيدها بشكل غير منطقي من أجل عَزلها عن واقعها التطوري الطبيعي ووضعها في سياق آخر، يجعل منها فئة مُصطنعة ومرسومة بالتحكم عن قرب وعن بعد، لتخدم قضية أساسية لابد من خدمتها، لاستمرار حيوية ومقدرة المشروع الاستعماري “إسرائيل” على أداء دوره المنوط به.. نشأت الأسطورة السبارية إذن من رحم هذا التوجه القاضي بالابقاء على الصَّهْيَنَة الكاملة لهذه الفئة التي ستغدو عما قريب هي كل الشعب الإسرائيلي.

في الأسطورة السابارية، يجب أن ينمو السابرا دون آباء ودون أسرة ودون سلسلة أنساب، إن الآباء الذين انحدروا منهم هم نتاج ذلك المنفى البغيض الذي يجب أن يتحرروا من الانتساب إليه بأي شكل. أي أن الأسرة التي مثلت في التجمع الإسرائيلي أكبر عقبة في طريق وحدة التكوين السيكولوجي لأبناء هذا التجمع، والتي حالت من خلال ما تعبر عنه من امتداد ثقافي لعشرات الحضارات المتناثرة، دون كل المؤسسات العاملة في مجال التنشئة الاجتماعية في الكيان الإسرائيلي ودون قدرتها على تحقيق الحد المقبول من هذه الوحدة، نقول.. إن هذه الأسرة، يجب أن تُلْغَى، يجب أن تَكُفَّ عن كونها عقبة، يجب أن تزول كمؤسسة تنشئة اجتماعية أولى تعرقل الخطط المراد لها أن تخلق هذا التكوين السيكولوجي المُسْتَهدف.

لقد ولد السابرا إذن أو أريد لهم أن يولدوا في فراغ، لا يمثل فيه الأب الشخصية التعليمية الأساسية، لتقوم بهذا الدور نيابة عنه وعن الأسرة ككل “الأنا المجردة”، الأنا الكيبوتزية” التي وُضِعَت للسابرا كنموذج مثالي يُقتدى به، إلا أن الأمر لم يكن بهذه البساطة النظرية، فواقعة التنوع الحضاري لليهود القادمين إلى فلسطين والمولودين فوق أرضها بالتالي، بقيت أكبر مشكلة تَقُضُّ مضاجع الصهاينة، لأنها وقفت وستقف حجر عثرة أمام تعميم فلسفة الساباريم على التجمع اليهودي الإسرائيلي كله لتوحيد البُنْيَة السيكولوجية لأفراده.

لقد عبر “جورج مايكس” في كتابه “عزم النبي، إسرائيل اليوم وغداً”، عن هذه الظاهرة مؤكداً على استحالة أن يكون اليهودي الشرقي سباريا كاليهودي الغربي، فهو يرى أن الأطفال الستة أو السبعة الذين أنجبتهم أسرة مغربية مثلاً، والذين وُلِدوا بالفعل في إسرائيل، ولكنهم تربوا في ظل التقاليد الشرقية البالية، مثل هؤلاء الأطفال، بعيدون عن السابرا بُعد موشى دايان عن القرآن”.

بل أن الأديب الإسرائيلي العراقي الأصل “شمعون بلاس”، ذهب إلى أبعد من ذلك حين قرر أن مصطلح السابرا هو مصطلح أشكنازي فقط، فهو يقول: “السابرا لا يتعلق بأبناء الطوائف الشرقية، وذلك لكونه تسمية أشكنازية. إن هذا السابرا هو تجسيد للإسرائيلي الجميل، بينما ابن الطوائف الشرقية هو تجسيد لليهودي القبيح الذي هو جزء من الشرق، والذي ينبغي التصرف معه بازدراء؟”

إذن فاصطلاح السابرا باستخدامه الشائع هو اصطلاح مشحون، ولا يميز مكان الولادة كما يتم الزعم، إنه اصطلاح يستثنى أبناء الطوائف الشرقية الذين ولدوا في إسرائيل ويضم في ثناياه الأطفال الذين ولدوا في أوروبا وفي أميركا وأن تلقوا تعليمهم وتنشئتهم بعد ذلك في التجمع الإسرائيلي. إن السابرا إذن يمثل نموذجاً متحركاً ولا يمثل مخلوقا إستاتيكياً تحدده عناصر مكانية وزمانية ثابتة، وهذا السابرا يستثني “أبناء البلد”، وهو المصطلح الذي يطلق على أبناء اليهود الشرقيين.

إن الساباريم الذين طُلِب منهم تحديد ملامح الشخصية السابارية، قد وضعوا نموذجاً مثالياً يتناسب مع الأسطورة التي حيكت حوله، فالشخصية السابارية في نظرهم هي شخصية رجل طويل القامة، له خصلة شعر على جبينه، قوي ومتين، ذو عينين لامعتين، شعره أصفر أو رمادي، وملابسه بسيطة ولا مبالية، هي صندل وبنطلون وقُبَّعَة، وهو فَعاَّلٌ يَقِظ، عدواني عنيف ومتمرد، متفاخر ومتكبر ووطني، ذو تأثير، وحسن الطباع، صاحب موقف، طيب القلب، جاد ومتزن، عاقل حر هادئ، ريادي له حاسة السخرية.

أما ملامح اليهودي الجيتوي الذي يمثل اليهودي الشرقي امتداداً له أو تذكيراً بغيضاً به، فهو في نظر هؤلاء أحدب ونحيف وذو نظرة غريبة، ضعيف ومتمارض، عيناه عصبيتان، لديه ضفائر سوداء وذقن، شاحب اللون، تظهر عليه علامات شيخوخة مبكرة كالرعشة والتجاعيد، يرتدي ملابس أوروبية تقليدية، باهتة وبالية، وعلى رأسه طاقية، غريب في كل مكان، يستولي عليه الخوف والشك، يبتعد عن الناس، ديني تقليدي، ثقيل ويفتقد إلى اليقظة والنشاط، ليست لديه ثقة في نفسه، منحط، صامت، مرتبك ومنصاع، ملتزم ولا يستمتع بالمباهج، تظهر عليه آثار مشكلة، تلميذ مجتهد، جاد وبالغ روحياً.

وعلى الرغم من أن الكتابات السكانية الإسرائيلية تعترف بالفروق بين يهود فلسطين والمهاجرين إليها، وبين المهاجرين إليها من الشرق والمهاجرين إليها من الغرب، فإنها تحاول إنكار وجود مثل تلك الفروق بين الأبناء المولودين في فلسطين، وذلك بوضعهم جميعاً تحت عنوان واحد عريض هو “الساباريم” أو “السابرا”. إلا أن هذا الموقف غير العلمي يتجاهل حقيقة أن أساليب التنشئة الاجتماعية التي يمارسها المهاجرون تتباين تبايناً واسعاً تبعاً للأصول الحضارية للوافدين إلى التجمع الإسرائيلي.

دعونا الآن نتابع البنية السكانية للتجمع الإسرائيلي فيما يتعلق بشريحة السابرا التي ستمثل قريبا وخلال عقود قليلة كل هذا التجمع، لنكشف عن أبعاد المعضلة الخطيرة التي تثير الرعب في أوصال راعي المشروع الصهيوني الاستعماري “إسرائيل”.. إن نسبة السابرا الذين هم من أصل شرقي (عربي على وجه الخصوص) كانت (3) إلى (7) في عام (1962)، أي من بين كل (10) مواليد يهود ولدوا على أرض فلسطين، هناك (3) منهم شرقيون (سافارديم) فقط، بينما الـ (7) الباقون يهود غربيون (أشكنازيم). لكننا إذا أخذنا في الاعتبار معدل المواليد المرتفع، والارتفاع في نسبة الخصوبة عند المرأة اليهودية الشرقية، مع بدء نضوب تيار الهجرة الأوربية في السنوات الأخيرة، فإن التوازن لا شك سيتحرك لمصلحة السافارديم بمعدل واضح داخل إطار مجموعة السابرا. وهو بالفعل قد تحرك في هذا الاتجاه. فآخر الإحصائيات تشير إلى انقلاب طرفي المعادلة بحيث أن النسبة الأكبر من السباريم غدت الآن من أبناء الأسر اليهودية الشرقية من مجموع الساباريم.

ومن هنا جاءت محاولات “الأشكنازيم” للحيلولة دون جعل هذه المعادلة الجديدة، معادلة تقود واقع التجمع الإسرائيلي، وذلك عبر إحداث إنفصال يكاد يكون تاماً، بين من تربوا في ظل التقاليد الشرقية البالية ومن تربوا في ظل معتقدات الحضارة الغربية من أبناء الأشكنازيم.

إن هذه الظاهرة – ظاهرة الفصل المدروس بين فئتي السابرا – تكشف لنا عن حقيقة لا لبس فيها، وهي أن حالة من التناقض الممجوج تعاني منها المؤسسة الصهيونية في التعامل مع شريحة السابرا. فهي في الوقت الذي تحاول التأكيد على أن هذه الشريحة تمثل كل من وُلِدَ في فلسطين من اليهود من حيث المبدأ في سعيها الحثيث لخلق التكوين السيكولوجي الواحد لدى أبناء هذا التجمع، نراها تنزع إلى الفصل بين الفئتين من المواليد على أرض فلسطين، وهما فئة أبناء السافارديم وفئة أبناء الأشكنازيم، نظراً لعدم اتضاح القواسم النفسية المشتركة بين هاتين الفئتين، ما يهدد النموذج السابري الأشكنازي الذي يسعى راعي المشروع الصهيوني الاستعماري “إسرائيل” إلى جعله يهيمن على التجمع اليهودي الإسرائيلي.

رغم كل الادعاءات الظاهرة، فإن الإستقراء الدقيق للكتابات الإسرائيلية في هذا الصدد يكشف عن أن الحديث عن الساباريم، إنما ينصب عملياً ورغم كل شيء على أولئك المنحدرين من أصول أشكنازية فحسب، فيما يطلق على أبناء السفارديم المولودين في فلسطين إسم “بليدي هاآرتس”، أي “أبناء البلد” تمييزاً لهم عن الساباريم بالمفهوم الثقافي والحضاري الغربي.

خلاصة القول إذن أن السابرا ليسوا هم مواليد إسرائيل من اليهود عامة، وإن تم ادعاء ذلك، بل هم في الواقع، فئة من يهود إسرائيل المنحدرين من أصحاب الحضارة الأرقى والمكانة الأرفع والبشرة البيضاء، إنهم بمعنى من المعاني أبناء الصفوة في التجمع اليهودي الإسرائيلي. من هنا نرى أن مصطلح السابرا الذي كان في بداية الأمر تعبيراً استنكارياً على ألسنة رجال الهجرتين الثانية والثالثة تجاه الفلاحين اليهود من أبناء فلسطين، قد أصبح بحكم عدة عوامل رمزاً لجيل ذي ثقافة هي في أساسها ثقافة ذات أصول غربية، وامتداداً حضارياً وسياسياً ونفسياً لجيل الأشكنازيم.

إن السابرا يمثلون بالنسبة للمفكرين الصهاينة في حقيقة الأمر جزءاً هاماً من آلية التعامل مع مشكلة تعدد الأصول الحضارية في التجمع الإسرائيلي، في سياق السعي الحثيث نحو خَلق تكتل يهودي إسرائيلي تتاح له الفرصة الفعلية كي ينمو في ظروف نفسية واجتماعية وثقافية موحدة، تخلق في نهاية المطاف كتلة بشرية منسجمة لها مواقفها وآراؤها وخصائصها واتجاهاتها، كتلة موحدة من المستوطنين الصهاينة لا يستعصي تنافر أصولها على التوحد. كتلة يمكن من خلال تأكيد وجودها وتجانسها تدعيم مفهوم جديد عن الهوية الإسرائيلية، بعد أن قضت حجج العلوم الإنسانية وحقائق واقع التجمع الإسرائيلي نفسه على مقولة التاريخ القومي اليهودي، ووحدة التكوين السيكولوجي لليهود عامة.

ومن هنا فإن تعبير السابرا إنما يخدم في نهاية الأمر هدفاً سياسياً صهيونياً استعماريا، وهو الإيهام بأن الصهر الاجتماعي لمختلف الأصول الحضارية لليهود قد تحقق في إسرائيل، وتمثل في جيل جديد هو جيل الساباريم الذي تتلاشى فيه الفروق الحضارية والنفسية، وهو جيل يضم قطاعاً من الشباب الإسرائيلي المتميز بخصائص نفسية محددة ومتجانسة، وقد أصبح ظهور هذه الشخصية العبرية الجديدة (السابرا) مقروناً بتحقير ونبذ نقيضتها وهي شخصية اليهودي الجيتوي.

فلقد تُرجِم رفض الجيتو في الواقع الإسرائيلي إلى رفض لليهودي الجيتوي، الأمر الذي أصبحت معه شخصية رجل الجيتو مرفوضة ومنبوذة، وتعدى الأمر إلى الوقوف موقف الرفض والنبذ لكل مظهر يهودي يذكر السابرا بالجيتو وبيهود الجيتو، إن “السابري” (مفرد سابرا) أبعد ما يكون شكلاً ومضموناً عن اليهودي الجيتوي. إنه يحتقر فيه عجزه ويكره فيه جبنه، ويخجل منه، كونه يمثل في نظره وصمة عار ليهود أوروبا الذين ساروا كالشياه إلى المذبحة. إن ارتباطات السابري العاطفية باليهود خارج إسرائيل أقل بكثير من ارتباطات المهاجر بهم.

ولعل هذا ما أيدته نتائج بحوث قام بها قسم الاجتماع بالجامعة العبرية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي بعد دراسة ميدانية شملت عينة واسعة من الساباريم، مستفسرة منهم عما إذا كانوا يعتبرون أنفسهم يهوداً أم إسرائيليين. فقد كانت النتيجة أن (58%) منهم اعتبروا أنفسهم إسرائيليين و(19%) فقط اعتبروا أنفسهم يهوداً، فيما أبدى (23%) منهم عدم تأكدهم من ذلك. الملفت وذو الدلالة في الأمر، أن غالبية الـ (58%) الذين اعتبروا أنفسهم إسرائيليين كانوا من أصول أشكنازية، وغالبية الـ (19%) الذين اعتبروا أنفسهم يهوداً كانوا من أصول سافاردية، علماً بأن العينة شملت من ذوي الأصول السفاردية أقل بكثير مما شملت من ذوي الأصول الأشكنازية، وهو ما يفسر بعض الأرقام. ولو أجري هذا البحث في الوقت الحاضر، أي بعد حوالي ستين عاماً من قيام الكيان الإسرائيلي، لكانت نتائجه بالقطع أبعد مدى في الانحياز نحو الانتماء الإسرائيلي الوطني في هذا القطاع من المجتمع، وخاصة لدى شرائح السابرا المنحدرين من أصول أشكنازية.

ولقد تجلت مظاهر شعور السباريم بإسرائيليتهم أكثر من شعورهم بيهوديتهم (خاصة الأشكناز منهم) في موقفهم من الدين اليهودي ذاته، فهم بوجه عام غير متقيدين بالسلوك الديني المنصوص عليه في التعاليم اليهودية، كما أنهم غير معادين له في الوقت نفسه، وهم عندما يبحثون عن جذورهم أو يتحدثون عنها فإنهم يتخطون عتبة الألفي عام الأخيرة من التاريخ اليهودي في الدياسبورا، متجهين رأساً إلى عصور التوراة وفترة الهيكل، ويختارون من بينها فترة “المكابيين” لأنها فترة مليئة بالتمرد والعنف، وتبدو متجانسة مع أفكار التمرد والعنف التي تميزهم.

إن الشخصية السابارية النمطية تضيق ذرعاً بتدخل الحاخامات في حياتها، وتأكل لحم الخنزير علانية، ورغم ذلك فإن أفرادها يحبون العهد القديم حباً كبيراً ويستشهدون بفقراته في محادثاتهم دائماً. خلاصة القول إن السابرا هم الأقرب إلى التصور الصهيوني لما ينبغي أن يكون عليه الشباب في التجمع الإسرائيلي، وليس ذلك بالأمر المستغرب، فهم ليسوا في النهاية إلا الأبناء الشرعيين لأصحاب السلطة من الصهاينة في إسرائيل، أي الأشكنازيم، وهم بهذا المعنى – أي السابرا – يمثلون ولسنوات طويلة قادمة احتياطي الحركة الصهيونية في التجمع اليهودي الإسرائيلي.

هذا يعني أنه إذا كان للأشكنازيم التأثير الأكبر على صنع القرار السياسي في إسرائيل فإنهم حريصون على أن يستمر لهم ذلك التأثير في المستقبل من خلال امتدادهم الحضاري والسياسي والسيكولوجي بالشكل الذي يتمثل في أبنائهم، أي السابرا. ولعل أهم ما في فئة السابرا من مصدر إثارة تقتضي الانتباه، هو أنهم يمثلون الجانب الغالب عددياً وتأثيراً من بين العسكريين الإسرائيليين الذين يواجهون العرب والفلسطينيين كل يوم.. إن الجيش الإسرائيلي هو في حقيقة الأمر مملكة سابارية، يتم تشغيل كل أجهزتها بواسطة الساباريم، ومن هنا فإن الجيش الإسرائيلي يعكس إلى حد كبير عيوب ومميزات ومكونات الشخصية اليهودية الإسرائيلية السابارية على وجه الخصوص.

في قصتها “ولدان الموت” تقدم الروائية “يائيل دايان”، التي تنتمي هي وأبوها “موشي دايان” إلى السابرا، دليلاً واضحاً على أن المقاتل الإسرائيلي المتقمص للسيكولوجية السابارية، هو في الواقع يهودي إسرائيلي بوظيفة “قاتل”. فهي تقول في معرض حديثها عن بطلها المقاتل الإسرائيلي “دانيال”: “أنه لم يكن يحس بالبهجة ولا بالكراهية حينما كان يقتل، ولم يكن حتى يشغل باله بالمبررات الخلقية التي تجعله يضغط بإصبعه على الزناد، لقد أصبح القتل وظيفة بالنسبة له”.

الكيبوتز مَفْرَخَة إسرائيلي المستقبل

إن جيل السابرا من أبناء الكيبوتزات، أولئك الذين ولدوا فيها ثم تربوا ونضجوا في ظل نظامها التربوي، هذا الجيل بالتحديد هو الذي تبذل الصهيونية الإسرائيلية كل جهدها لكي تجعل منه النموذج الذي تغرف منه الشخصية الإسرائيلية الجديدة مكوناتها النفسية ومقومات أدائها وتعلمها وصيرورتها، ولما كان “الكيبوتز” يؤسس في الواقع – كما سيتبين – لنوعٍ من الفاشية، ويحاول أن يقوم على نزعة إِسْبَرْطِيَّة، فقد كان من الطبيعي أن يُشار إلى الفيلسوف الألماني نيتشه باعتباره الأب الروحي والمُلهم لفكرة الكيبوتز مع أنه ليس يهودياً.

فقد كان نيتشه يطمح إلى خلق الإنسان الأعلى “السوبرمان”، وهو قد طرح – عبر فلسفته – العديد من المقترحات، ونصح بالعديد من الأساليب التي رآها كفيلة بخلق ذلك الإنسان، ومن بين تلك المقترحات والأساليب، وجهة نظر نيتشوية صرف، تقضي بإنشاء مدرسة خاصة تقوم على أسس محددة أرساها نيتشه لتعبيد الطريق أمام صياغة مثل هذا الإنسان. إن تلك المدرسة النيتشوية هي صورة شديدة الشبه بالكيبوتز الإسرائيلي، وإن كان الأصوب أن نقول إن الكيبوتز الإسرائيلي هو صورة شديدة الشبه بها.

يقول نيتشه واصفاً مدرسته هذه.. “إنها مدرسة عنيفة قاسية، تقصد بتلاميذها إلى الكمال وتُلقي عليهم أعباءً تربوية باهظة مرهقة، دون أن ينعموا بكثير من أسباب الترف، ويؤخذ الجسم فيها بالتعذيب والقسوة، ليتحمل البلاء في صمت. في هذه المدرسة تتعلم الإرادة كيف تطيع عندما تُأْمَر، وكيف تَأْمُر عندما تريد أن تطاع”.

قبل مدرسة الكيبوتز الصهيونية، وجد الفكر الفاشي المتمثل في النازية بغيته في هذه الأفكار، وسرعان ما اعتبرها ضالته التي طالما بحث عنها، فتلقفها وتبناها ووضعها موضع التطبيق الفعلي تعبيراً منه عن سعيه الدؤوب والجاد نحو خلق إنسان جديد متفوق يجمع بين (عبقري) شوبنهاور و(سوبرمان) نيتشه، تحت اسمٍ جديد هو الإنسان الآري.

وبعد حين، جاء الكيبوتز الصهيوني الإسرائيلي، ليمثل صورة جديدة من صور ذلك السعي المحموم لإيجاد شكل جديد من البشر، يجمع بين العبقري والسوبرمان في عِرْقٍ معين ومحدد، بل وليتجسد فيه أيضاً إنسانٌ محاكٍ للإنسان الآري الذي سعت إليه النازية بكل ما يميزه من تعصب عنصري مقيت، ليتخذ هذه المرة إسماً جديداً هو “السابرا”، ذلك الإنسان الإسرائيلي الجديد الذي وضعه آباؤه الأشكنازيون في أتون مدرسة نيتشويه جديدة هي الكيبوتز، أملاً في تخريجه صهيونياً دموياً يتخطى المعضلة التي فرضتها الأسرة الإسرائيلية.

إن الأشكنازيين الإسرائيليين كالنازيين الألمان ولا فرق، يسعون ما وسعهم السعي لتحقيق النيتشوية عبر الكيبوتز. ولكن كيف نشأت ثم تبلورت فلسفة الكيبوتز؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ وعلى أي أساس ولتحقيق أي نوع من الغايات الدقيقة والتفصيلية قامت؟!

يشير المحلل النفسي اليهودي الأميركي الألماني “برونو تبلهايم” في كتابه “أطفال الحُلُم”، إلى أن ثَمة حركة شبابية يهودية نشأت أساساً في ألمانيا واتخذت لنفسها اسم “الطير المهاجر”، كانت تسعى بالدرجة الأولى إلى الفرار من عالم الآباء. لقد كانت تلك الحركة تمرداً على الأسرة شديدة التسلط التي نشأ فيها هؤلاء الشباب. إن تحطيم الأسرة والتمرد عليها في الكيبوتز، يعد مظهراً من مظاهر الاحتجاج على الحياة في الجيتو وفي مدن وسط وشرق أوروبا بالتحديد.

ويؤكد “برونو” على علاقة التشابه القائمة بين فلسفة الكيبوتز وفلسفة جماعة الطير المهاجر، بإشارته إلى موقع المرأة اليهودية في الفكر الكيبوتزي النيتشوي قائلاً: “إذا ما كان الشخص اليهودي امرأة، فإنها ستشعر بمزيد من الحقد نحو ذلك الدين الذي يطالب الرجال بالصلاة شكراً لله كل يوم لأنه لم يخلقهم نساءً. إن حركة الكيبوتز ومن منطلق تَمَرُّدِها على هذا الفكر، اتخذت ضمن أهدافها الأساسية تحرير المرأة اليهودية”.

وإذن فما هي الخصائص العامة لهذه المدرسة النيتشوية المشبعة بالروح الصهيونية المعاصرة، والتي ستمكنها من تحقيق أهدافها المرجوة؟!

إن تأسيس الكيبوتزات – وهي شكل من أشكال التعاونيات الزراعية – قد قام على أكتاف عدد من المهاجرين اليهود النازحين من أواسط أوروبا، ويعتبر العمل الزراعي هو العمل الرئيسي السائد فيها. وفي الكيبوتزات تسود فكرة المساواة التامة بين الجنسين إلى درجة قد تصل إلى حد التطرف.

ولأن الفكر النيتشوي الذي قامت عليه فلسفة الكيبوتزات، يهدف بالدرجة الأولى إلى تهيئة البيئة التربوية التي تساعد على خَلق ذلك الجيل من السوبرمانات الإسبرطيين، فقد انصبت أقسى مظاهر التنشئة الاجتماعية في الكيبوتز نحو الأطفال الذين يولدون فيه باعتبارهم المادة الخام للجيل المرتقب والمستهدف بفلسفة الكيبوتز أولاً وآخراً.

الكيبوتز بفلسفته الهمجية لم يرحم الطفولة ولم يبال بتشويهها، بل ربما كان هذا التشويه هو الهدف الذي قد يساعد على تحقيق الغرض البعيد، والمتمثل في خلق جيل منطوٍ وشديد العدوانية والقسوة. إذ ومنذ ساعات الولادة الأولى تتناوب القيام على تربية الأطفال مربيات متخصصات من عضوات الكيبوتز، عبر توليهن رعاية أطفال الكيبوتز جميعاً وبشكل مستمر سواء كان الآباء والأمهات في العمل أو داخل الكيبوتز.

تترك الأم طفلها بعد الولادة بأربعة أيام تحت إشراف المربية، وتقوم الأم بإرضاع طفلها في أوقات محددة بمعدل (6) مرات يومياً إلى أن يحين وقت فطامه عند سن (8) شهور. وعندما يبلغ الطفل من العمر (6) شهور يصبح من حق الوالدين أخذه إلى غرفتهما لمدة ساعة يومياً بعد الظهر ثم إعادته إلى مكان تَجَمُّعِ الأطفال. هذا وتختلف تجمعات الأطفال في الكيبوتز، من حيث مكان التجمع وحجم التجمع وبرنامج النشاط اليومي، وأيضاً من حيث أشخاص المربيات حسب السن.

أين تكمن الخطورة في هذا المنهج التربوي الصارم والمخالف لأبسط قواعد التربية الصحيحة المتعارف عليها في العالم؟!

إن الطفل الذي يتناوب التعلق بسلسلة طويلة من الأفراد الذين يسلمه كل منهم إلى الآخر، سوف تعلمه الخبرة المريرة أن من الحماقة ارتباطه عاطفياً بأية مربية بالذات، لأن المربيات ينتقلن من مكان إلى أخر ويتركنه. وبعد سلسلة من التعليمات وفقدان العديد من المربيات، فإنه سوف يقلل تدريجياً من توريط نفسه مع المربيات المتتاليات والمتعاقبات على رعايته في أية خبرة لتبادل العواطف، إلى أن يأتي الوقت الذي يكف فيه تماماً عن الإقدام على مغامرة بذل حبه لأي شخص أو اعتماده عليه. إن ما ذكرناه هو تنبؤ حرفي يؤكده علماء النفس لإحدى النتائج شديدة الأهمية والخطورة لنمط تربية الأطفال في الكيبوتزات.

في دراسة لكل من “سيرجون انجلش” و”جيرالد بيرسون”، وردت في كتاب لهما بعنوان “مشكلات الحياة الانفعالية”، تبين أن هناك آثاراً سلبية خطيرة المردود على الالتزام بتقديم الغذاء للأطفال وفق جداول زمنية محددة وصارمة للغاية.. إذ يجب أن يُقَدم الغذاء للأطفال بانتظام حسب إيقاعهم الطبيعي أكثر منه حسب نظام مواعيد محددة وثابتة. وحين يلتزم الطبيب أو حين تلتزم الأم أو الحاضنة إلتزاماً دقيقاً بنظام مواعيدٍ للطفل متجاهلين إيقاعه الخاص، فسينتابه القلق، ويزداد اهتمامه بما إذا كانت حاجاته الأساسية ستشبع أم لا.

ومثل هؤلاء الأطفال سيكونون في كبرهم أَمْيَل إلى الشك والارتياب فيما إذا كان القدر سوف يكون رحيماً بهم، أو فيما إذا كانوا سيحظون بعطفِ أَيٍّ كان عليهم عندما يحتاجون إلى هذا العطف. وهم سيصلون إلى افتراض إخفاق خططهم ومطامحهم، وسيشكون في قدرتهم على التأثير الإيجابي والطبيعي على البيئة من حولهم مهما تكن الوسائل المبذولة لأجل ذلك، وأيا كانت مشروعيتها وكفاءتها في تحقيق الطموح والتأثير في الحالات الطبيعية. كل هذا يؤدي في النهاية إلى تولد رغبة عارمة في نسف سلطة الأب، وهي الظاهرة التي تكاد تكون سمة مميزة في أسلوب التربية المُتَّبَع في الكيبوتزات.

ففي سؤال للأبناء: “هل ثرت أو ستثور على والديك؟!” يجيب (60%) بنعم بالتأكيد، و(20%) بهذا محتمل. وفي سؤال للأباء عن القيم التي يأملون في توافرها لدى أبنائهم، نجدهم يختارون (13) قيمة تحتل قيمة (إحترام الوالدين)، المركز الأخير فيها. وفي سؤال للآباء والأمهات حول: “هل لديك التأثير الأكبر على طفلك؟!” فإن (68%) يجيبون بلا بالتأكيد، ولا يجيب أحد على الإطلاق بنعم.

إن السلوك العدواني يُعَدُّ سمةً واضحة وضوحاً جلياً لدى أطفال الكيبوتز في سنوات طفولتهم الأولى، ويُعَدُّ الضرب هو أكثر أنواع العدوان البدني انتشاراً بينهم، حيث بلغ أكثر من (66%) من الحالات المدروسة. ولكن ما هي مثيرات العدوان لدى هؤلاء الأطفال؟!

يعلق عالم النفس “سبيرو” على هذه الظاهرة بقوله: “يسترعي الانتباه أن النسبة الكبرى من أنواع العدوان البدني لا سبب لها، أو هي تبدو غير معلومة السبب. وانطلاقاً من النظرية العامة للسلوك والتي تؤكد على أن كافة أنواع السلوك لابد وأن تكون مدفوعة، أي مُسَببة بدافع، فإن تلك الأفعال العدوانية التي تبدو وكأن لا سبب لها، إنما هي عبارة عن عدوان “منقول”. بل إننا نستطيع أن نفترض أن ذلك العدوان إنما كان موجهاً أساساً وقبل أن يُنقل، إلى المربية، والسبب في عدم توجيه العدوان إلى المربية مباشرة، أنها لم تكن تتواجد مع الأطفال عادة أثناء تعبيرهم عن عدوانهم”.

عدوان أطفال الكيبوتز إذن هو في الحقيقة أمر يرجع ببساطة إلى أسلوب التربية السائد هناك، ذلك الأسلوب الذي يلقي أكبر قدر من الإهتمام والتركيز والرعاية من جانب الصهيونية الإسرائيلية، أي أن هذه الأخيرة وجدت في هذا الأسلوب التربوي الهمجي، الطريق الأضمن لخلق شخصية تتصف بعدوانية دائمة، وهي العدوانية التي تتطلبها استمرارية الوظيفة الاستعمارية للمشروع “إسرائيل”.

إن القراءة التي قامت بها الدوائر الاستعمارية والصهيونية في دقائق وتفاصيل وآفاق المشروع “إسرائيل”، كشفت النقاب عن حقيقة خطيرة تتمثل في أن الحجج التي ساقت إلى أرض فلسطين هذا الكم من القاذورات البشرية، لن تلبث أن تسقط وتخور قواها المقاومة أمام منطق التاريخ، الذي سيعيد خلط الأوراق لإعادة إنتاج التَّجَمُّع اليهودي الإسرائيلي بشكل مختلف، مُتَكَيِّف مع التغيرات الطبيعية في داخله وفي محيطه العربي، بحيث لن يتمكن في صورته المُنْتَجَة على ضوء ذلك التكيف، من الاستمرار في أداء دوره الوظيفي الاستعماري الإمبريالي على أكمل وجه.

أي أن هذه القراءة المتأنية كشفت عن أن هذا الخليط العجيب من البشر الذين جمعتهم في هذه الأرض أسطورة صهيونية يهودية لتحقيق غاية إستعمارية، هو خليط من الغرابة بحيث يُعد أسهل خليط بشري قابل لأن يدير ظهره لمبرر وجوده، وذلك بمجرد العودة إلى يهوديته الحقيقية، خاصة إذا فشلت الدعاية الصهيونية في إقناعه بأن يهوديته هي المستهدفة عربياً عبر نجاح الدوائر العربية ابتداءً في صياغة علاقة المواجهة معه – أي مع هذا الخليط – بشكل يعري الصهيونية أمامه تعرية حقيقية خالقاً حالة من التناقض بين الصهيوني واليهودي في العقل الإسرائيلي.

إن فلسفة وتجربة الكيبوتز هما في الواقع ضربة إستباقية، كان الهدف منها وما يزال هو تجنب مخاطر مستقبلٍ بدا مكشوفاً بسوداويته أمام الدوائر الصهيونية. إن الأسرة اليهودية هي العقبة الكأداء التي تقف في سبيل تكوين شخصية إسرائيلية ذات تكوين نفسي مُوَحَّد، وإذن فَلْتُعْدَمْ هذه الأسرة، ولا يهم في هذا السياق ما سوف ينتج عن إعدامها من مضاعفات أخلاقية وإنسانية، المهم هو أن تتحقق الغاية، والغاية هي بلورة شخصية يهودية إسرائيلية عدوانية شرسة لا ترحم، لا تؤثر فيها البيئة والمحيط العاملين في اتجاه التطور الطبيعي للأمور. وغياب الأسرة لا يضمن للمؤسسة الصهيونية تحقيق الهدف الأول، ألا وهو وحدة التكوين النفسي الذي تسعى إليه المؤسسة الصهيونية فحسب، بل هو – أي غياب الأسرة – يتكرم عليها بميزة أخرى مهمة، إنها مضمون التكوين النفسي ذاته، بأن يجعله مضموناً عدوانياً شرساً عنيفاً منذ البداية، فكأن غياب الأسرة حقق الهدف كله دفعة واحدة، فلماذا الإبقاء عليها إذن؟!

وعندما ندقق النظر في شخصية أبناء الكيبوتز، أبناء التمرد على الأسرة، فماذا نلاحظ؟!

أن شخصية السابرا الكيبوتزي تتسم بالخصائص التالية..

العدوانية وكراهية الغرباء عامة والمهاجرين الشرق أوسطيين خاصة، والنظر إليهم باعتبارهم أدنى مرتبة، مع صَبّ كافة أنواع العدوان اللفظي والبدني عليهم، فما بالنا بغير اليهود من العرب؟! شخصية سابرا الكيبوتز هي أيضاً شخصية إنطوائية، تظهر إنطوائيتها من خلال الخجل والاضطراب عند التعامل مع الغرباء عن الكيبوتز، بل وأحياناً عند التعامل مع أبناء الكيبوتز الواحد من غير الأقران، من خلال ما نلمسه من ندرة إقامة علاقات إنفعالية وثيقة معهم. يحرص كل واحد من أبناء سابرا الكيبوتز على الاحتفاظ ببعد سيكولوجي معين بينه وبين الآخرين.

إن الانطواء يعني إما الابتعاد عن الآخرين، وإما تجنب إقامة علاقة معهم أصلاً. وإذا كان الابتعاد عموماً يمثل استجابة للألم، والتجنب يعني استجابة لتوقع الألم، فإن انطوائية أبناء الكيبوتز دافعها الألم الناتج عن خبراتهم المتكررة مع الآخرين، أو عن الألم المتوقع من مزيد من التفاعل مع الآخرين. أي أن السابرا ينظرون إلى الآخرين باعتبارهم مصدراً للألم وللخطر، وبالتالي فإن إنطوائيتهم هي دليل على افتقارهم للأمن.

من السمات التي تميز أبناء الكيبوتزات أيضاً، البرود الانفعالي والحقد ومشاعر الدونية. إلا أن العجرفة تعتبر من أكبر سمات الشخصية السابرية وضوحاً وجلاء عند التعامل مع الآخرين، حتى لو كانوا من أبناء الكيبوتز الواحد، فيما يتخذ هذا الحقد الاستعلائي المتعجرف في التعامل مع الغرباء صورة يسميها علم النفس “الانسحاب العدواني”. وأدق تفسير علمي نفسي لكل من الحقد والانسحاب العدواني هو افتقاد الشعور بالأمن.

وما دمنا قد استخلصنا أن ما يتميز به سابرا الكيبوتز من حقد وانطوائية وانسحاب عدواني، إنما هي أعراض لافتقاده الشعور بالأمن بسبب تنشئته اللاأسرية، فإن لنا أن نفترض أن ثقافة الكيبوتز تتضمن من الخبرات ما يثير تلك الأعراض ويهدف إلى إبرازها وتعميق الإحساس بها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة أن سابرا الكيبوتز يدركون ذواتهم بطريقة مؤلمة، تضفي طابعاً مختلفاً على إحساسهم بالحقد يصب في دائرة إحساسهم بالدونية. فهم يتشككون في قدراتهم الذاتية ويعتقدون أنهم أقل ثقافة من غيرهم ويحقدون على هويتهم اليهودية كحيلة نفسية دفاعية تحميهم من مشاعر الدونية، أي أن هذا الحقد في الواقع يؤكد شعورهم بالدونية.

ولكن وفي ضوء غرابة الشخصية الكيبوتزية إلى الحد الذي تفتقر فيه إلى البريق والكاريزمية والجاذبية أياً كان مستواها، فإننا نتساءل باندهاش عن السر وراء الاهتمام الصهيوني الإسرائيلي بتجربة الكيبوتز؟! ما الذي يدفع الصهاينة إلى تركيز أسطع وأقوى أضوائهم وتسليط أبرع دعايتهم وأشدها تأثيراً على تلك التجربة الفاشلة اقتصادياً والمتخلفة حضارياً والساقطة أخلاقياً والذابلة عددياً؟! تُرى هل هناك دور عسكري خطير تقوم به الكيبوتزات؟!

إن التركيز لا ينصب في واقع الأمر على كفاءة الكيبوتزات العسكرية، بل على أسلوب الحياة الإسبرطية النيتشوية المتبع فيها. إنها معقلٌ لتخريج قادة جدد لإسرائيل ولكن بشكل فريد تماماً. إنها تحقق ذلك بضرب المَثَل أكثر مما تحققه بتقديم إنجازات حقيقية للتجمع الإسرائيلي. إنها تحقق ذلك من خلال رهبانية حديثة، أكثر مما تحققه من خلال الإنجازات العقلية والعملية والاجتماعية. من هنا وجب علينا أن نُمْعَن النظر فيها، مدركين خطورتها البالغة بالنسبة للأجيال القادمة من الإسرائيليين. إنها تجربة فريدة تحمل الخطوط الرئيسية للصورة التي تسعى الصهيونية إلى مواجهتنا بها على المدى الاستراتيجي البعيد.

قد يبدو للبعض أن سمات “العدوان” و”الإنطوائية” و”البرود الانفعالي” و”الحقد” و”مشاعر الدونية” التي يتصف بها أبناء الكيبوتز، تؤثر على فشل أو تَعَثُّر هذه التجربة. ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً، لأن هذا هو المطلوب فعلاً.

نموذج يهودي فريد يتجسد فيه عنصرا التمايز والاضطهاد في أعنف صورهما وأشدهما فجاجة. عدواني لا يعرف الرحمة، منغلق على نفسه لا يعرف حرارة الانفعالات الإنسانية الطبيعية، حاقد على كل من حوله، وشاعر بأنه مختلف عنهم، نموذج يهودي يرفض الدين اليهودي ويتخطاه متخطياً بالتالي ما قد يثيره النموذج الديني من عقبات، نموذج يبدأ من إسرائيل ليتوحد به أبناء إسرائيل.

في ثنايا هذا الجو المُشْبَع بروح العدوانية والإرهاب، أصبح المثل الأعلى لدى الشباب الإسرائيلي، هو ذلك النمط الذي تتجسد فيه ملامح القسوة الإسبرطية المتوحشة المتعطشة دوماً للدماء والعنف، وملامح التفوق النيتشوي المُعَبِّر عن نفسه في عنصريةٍ سلاحها القمع والترويع. إنه النموذج الذي جاء ليحل محل النازي بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

وهكذا غدا البحث عن الخوارق الشخصية بمثابة مرض نفسي يعاني منه الإسرائيليون إلى درجة كبيرة تصل إلى حد يمكن أن نطلق عليه “الإحساس بالتضاؤل”. لذلك فإن الكثيرين من مُدربي الشباب في الكيبوتزات لا يزالون يرون رسالتهم الكبرى في تدريب وتقوية الفتية والفتيات من سن (12) و(13)، ليكونوا أفراداً مقتدرين في قوات الكوماندوز والمظليين. فيُرْسَل الغلمان إلى العراء في ليالي الشتاء الباردة ويُجْبَرون على السير حُفاة على الشاطئ المبلل، وتُجبر الفتيات في سن الرابعة عشرة على دخول مقابر المسلمين في الليالي المظلمة واستجماع الشجاعة للرقاد على المقابر.

فكرة الحرب والسلام وأثرها في السيكولوجية اليهودية

إن شدة الاستجابة العدوانية تتناسب طرداً مع شدة الإحباط أو التهديد، ولكن مع تجنب الإطلاق والتعميم. فعند بلوغ التهديد أو الإحباط حداً معيناً من الشدة تنغلق عنده السُّبل أمام التعبير المباشر عن الاستجابة العدوانية، فإن تلك الاستجابة تتغير كيفياً. بعبارة أخرى حين يواجِه الكائن الحي تهديداً لأمنه وعائقاً يحول بينه وبين بُغْيِته، فإنه يسعى لاستجماع طاقته وتوجيهها للقضاء على مصدر هذا التهديد ولإزاحة العائق من طريقه. وكلما تزايد حجم هذا التهديد، كلما كان الكائن أكثر حرصاً على توفير القدر الأكبر من طاقته لمواجهته. أما إذا بلغ هذا التهديد حداً بدا معه للكائن ألاَّ طاقة له بمواجهته، فإنه لا بد له في هذه الحالة من التماس مُنْصَرَف غير المواجهة لطاقته.. هذا قانون عام يسري على الكائنات الحية جميعها، تدعمه الملاحظات العامة لسلوك البشر، فضلاً عن تجارب علم النفس على الإنسان والحيوان على حد سواء.

لو تصورنا أننا نريد تفجير أقصى قدر من الطاقة العدوانية في كائن ما، فما هي مكونات الموقف الذي ينبغي أن نضعه فيه؟!

ينبغي أولاً أن يتضمن هذا الموقف مصدراً حقيقياً لتهديد الكائن أو إحباطه.

وينبغي ثانياً أن يكون هذا الكائن مُدْركاً لما يواجهه من تهديداً أو إحباط حقيقيين.

وينبغي ثالثاً أن يكون مصدر هذا التهديد أو الإحباط مستمراً، وإلاَّ تمكن الكائن من القضاء عليه، وخفت بالتالي طاقته العدوانية بفقدانها مصدر وجودها.

وينبغي رابعاً ألا يتضمن مصدر التهديد أو الإحباط ما يمكنه أن يقضي بالفعل على حياة الكائن، أي علينا إذا انخفض مستوى التهديد أو الإحباط عن مستوى معين أن نرفع منه، وعلينا أيضاً إذا تجاوز التهديد مستوى معيناً أن نُخَفِّض منه، ضماناً لاستمرار الموقف وعدم إنهائه بإنهاء أحد طرفيه. أما تحديد المستوى المناسب الذي ينبغي لحجم التهديد ألا يتجاوزه أو ينخفض عنه، فرهن بطبيعة الموقف وبطبيعة الكائن.

لوحظ أن الخوف من وقوع مصيبة من المصائب يولد انعكاسات عدوانية أخطر بكثير من المصيبة ذاتها، فالتهديد بالمجاعة مثلاً عندما يستغله المحرضون بذكاء، يثير اضطرابات أكثر بكثير من المجاعة الحقيقية نفسها، لأن هذه الأخيرة تولد الوهن أكثر مما تولد الاضطرابات. وأنه بوسعنا أن نحصل على كل شيء من أمة أو جماعة بإقناعهما بأنهما مهددتان.

لقد دافع المفكرون من أمثال “ميكافيللي” و”مونتيسكيو” عن الحرب الوقائية وصوابيتها، فهي أحد مظاهر الخوف. قال المفكر السياسي “بول فاليري”: “إن إثارة سخط البعض ضد البعض الآخر، هو الخطوة الرئيسية للسياسيين، وأن أفضل حل لإيصال هذا السخط إلى ذروته هو اتهام الخصم بأنه يضمر نوايا سيئة”.. إن هذا الحل يستقطب خوف كل المجموعة مجتمعة حول عرض مُوَحَّد، فيتزايد الحقد، وتصبح الأرض جاهزة، ويتأثر السلم، وتتفاقم المشاعر العدوانية.

ماذا عن إسقاط هذه المفاهيم على التجمع الصهيوني الإسرائيلي؟!

إن الشعور بخطر نكبةٍ يهودية جديدة كنكبة المحرقة النازية، مايزال شعوراً حاداً يراود العقل الباطن اليهودي. فوفقاً لاستطلاع قام به عام (1987) قسم علم الاجتماع في جامعة تل أبيب، ذكر 70% من الإسرائيليين أن مثل هذا الخطر موجود ومحتمل ومتوقع في أية لحظة.

إن ذكرى النكبة النازية، تدفع اليهود إلى ادخار قوةٍ داخلية لا تقتصر على منع وقوع الهزيمة، بل تحتم ضرورة الانتصار. ولكن الفكر الصهيوني المعاصر يحرص على الاحتفاظ بعنصر رئيسي من عناصر التكوين السيكولوجي الإسرائيلي، وهو ألاَّ مكان في ذلك التكوين ليهودي منتصر، بل هناك فقط مكان ليهودي يرد اعتداءً، أو يستعد لحماية نفسه من اعتداء، ليغدو الانتصار في القاموس الصهيوني هو مجرد التمكن من تحقيق ذلك، أما تحقيقه بالفعل بإنهاء الخصم فهو كارثة حقيقية بالنسبة له. وإذا لم يكن هناك ثمة في الواقع اعتداء أو تهديد باعتداء، عندئذ يكون من المحتم الإيهام بكل ذلك كي تذوي سريعاً صورة “الانتصار” وتحل محلها من جديد صورة “مخافة الاعتداء”.

وإذا شئنا التبسيط، فإن فكرة “اليهودي المنتصر” إنما تعني في إطار الفكر الصهيوني أن اليهودي لم يعد يهودياً، أو بتعبير أدق لم يعد صهيونياً. بعبارة أخرى يكون التكوين السيكولوجي القديم لليهودي قد انهار بتحقق فكرة “اليهودي المنتصر”. وحينئذِ يصبح من المحتم على الفكر الصهيوني الإقدام على عملية بالغة الصعوبة والتعقيد، وهي تشكيل تكوين سيكولوجي جديد لليهودي الإسرائيلي، وهو التكوين المستحيل بناء على ما مر معنا سابقاً.

إن اليهودي الإسرائيلي الذي اصطبغ بالروح العدوانية من واقع عدم إحساسه بالأمان، والذي يصرخ دوماً أنه مُهدد بالإبادة من جيرانه العرب، إنما تتحكم فيه تلك العقدة العدوانية “عقدة ديموقليس”، وهذه العقدة بالذات هي التي تجعل من الصعب جداً أن يستسلم لحالة سلمٍ أبدي أو طويل المدى على الأقل. وذلك لأن حالة الحرب هي التي تخلق بينه وبين سائر أفراد جماعته روح التماسك والتلاحم، وهي التي تذيب التناقضات الداخلية، وهي التي بسببها يتم تجاوز كل الخلافات السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية المتأصلة في التجمع الإسرائيلي، والتي يستحيل حلها بطريقة طبيعية، وعندما يكون هذا التجمع في حالة سِلم خارجي مع جيرانه.. فمع استحالة حل مشكلة قائمة تغدو حالات الصدام عملية ترحيل ضرورية لها إلى مرحلة قادمة.

إن ما حدث بالنسبة للشخصية اليهودية الإسرائيلية هو أنها وجدت متنفساً دائماً لتناقضاتها مع الآخر الإسرائيلي وعلى امتداد مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، في أشكال الصدام المختلفة التي وقعت بين العصابات الصهيونية والفلسطينيين في مراحل الانتداب، ثم بعد ذلك في سلسلة الحروب المتواصلة منذ عام (1948).

إن العدو يستطيع أحياناً أن يُقَدِّم لمجتمع ماَّ خدمات لا يستطيعها أصدق الأصدقاء. تبرز أهمية هذه الفكرة في كفاءة المؤسسة الصهيونية الإسرائيلية في استثمار مقاومة العرب للوجود الصهيوني في فلسطين والمتجسد في دولة إسرائيل، للقفز على التناقضات الداخلية العصية على أي حل منطقي أو سلمي.. إننا إذا أدركنا صعوبة تشكيل جمهور كبير غير واضح المعالم في إطار شعب واحد متجانس وقابل للاستمرار المستقر في إطار سلمي يخفي كل تناقضاته الداخلية، سندرك قطعاً استحالة تحقيق ذلك لجمهور يتحدث أفراده مائة لغة ولديهم خلفيات حضارية لا تعد ولا تحصى يكتنفها التباين إلى حد التناقض، عندما نراهم وقد تحولوا فجأة وبدون مقدمات تاريخية منطقية إلى جهاز اجتماعي يقوم بأداء دوره الجماعي!!

وبإزاء هذه الاستحالة نستطيع أن نلمس حجم الخدمة التي قدمتها المقاومة العربية المُشَوَّهَة والمهزوزة للوجود الصهيوني في فلسطين، بحيث مَكَّنَتْه من ترحيل كل تناقضاته القاتلة إلى حين انتهاء صراعٍ صِيغَ بشكل عصي على الانتهاء. قال “فرويد”: “من السهل ربط الناس بصلات محبة حتى لو كانوا أعداء، طالما أن هناك أشخاصاً آخرين نستطيع أن نصب عليهم مشاعرنا العدوانية”. لقد بلع العرب الطعم فلا هم خاضوا حرباً حقيقية فوق قدرة هذا الكيان على الاحتمال، ولا هم خاضوا تسوية قادرة على تفجير كل تناقضاته القاتلة التي من شأنها أن تحوله إلى ركام، شأنها شأن الحرب ولا فرق، ونجحوا فقط في أن يمرروا المشروع الصهيوني المتمثل في إبقاء معادلة التهديد والتوازن قائمة، وهي المعادلة التي طالما تم التعبير عنها في أدبيات الصراع بحالة “اللاحرب واللاسلم”. وإذا كانت الأمة العربية لم تمتلك منذ النكبة مشروعاً للقضاء على المشروع الصهيوني الاستعماري “إسرائيل”، فإنها بعد حرب عام (1973) وضعت نفسها في دائرة خيار اعتبرته مشروعها دون أن تضع له البدائل في حالة فشله، الأمر الذي جعلها تقضي حتى الآن أكثر من ثلاثين عاماً وهي تراوح مكانها.

إن الحرب تعمل دائماً على تجميع كلمة الأمة، وليست هناك قوة أكبر من الحرب تعمل على الوحدة وتؤجل الخلافات وتُرَحِّلها إلى المستقبل، هكذا يفعل على الدوام من لا يملكون حلولاً حقيقية لتناقضاتهم المصيرية الحقيقية، الترحيل ثم الترحيل ولا شيء غير الترحيل عبر تسخين الأوضاع، إلى أن يأتي اليوم الذي لا يستطيعون معه الترحيل، فتسود عندئذ معادلات صراع جديدة.

لذلك لم يكن مستغرباً ولا مستهجناً أن يُصَرِّح بن غوريون تصريحاً فكاهياً ساخراً إن دل على شيء فإنما يدل على فلسفة الحركة الصهيونية القائمة على ضرورة عدم حدوث تهدئة حقيقية في الصراع العربي الإسرائيلي، فهو يقول: “إن أسوأ مقلب يمكن أن يفاجئنا به العرب هو أن يوافقوا على عقد صلح معنا”.

ولقد أتقنت الصهيونية بوجه عام فن استثمار عنصر العداء والكراهية التي تُكِنُّها الشعوب لليهود كي تُنْجِح مشروعها. واعترف أساطين الحركة الصهيونية بأن المعادين للسامية مثلوا لها قوة إيجابية خدمت نضالها من أجل تحرير يهود الشتات من عبوديتهم في الجيتو. لقد كانت وجهة نظر الكثير من الصهاينة ومازالت تؤكد على أن معاداة السامية كانت قوة دافعة إلى درجة أن بعضهم سيطر عليه الاعتقاد بأنها مُسْتوحاة من عقيدة إلهية إلى حد ما، وربما أنها كانت تحتوي على إرادة الرب لأنها أجبرت اليهود على توحيد صفوفهم كما أعلن “تيودور هرتزل”.

إن من يتتبع المفاصل الأساسية في الأيديولوجية الصهيونية، وتاريخ الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ومراحل الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن، بإمكانه أن يدرك أن الحروب التي خاضتها إسرائيل هي بمثابة أسطورة ضرورية تدخل في إطار البُنْيَة العامة للعقيدة الصهيونية، شأنها في ذلك شأن سائر الأساطير التي يتعامل معها الفكر الصهيوني ويروج لها، مثل أسطورة أرض الميعاد، وأسطورة الحق التاريخي في فلسطين، وأسطورة الشعب المختار، وأسطورة شعب بلا أرضٍ لأرضٍ بلا شعب. أسطورة يجب أن تتعايش معها إسرائيل كي تتمكن من الاستمرار، ومثلما أنها تفقد مشروعيتها وإمكان استمرارها بسقوط أيٍّ من أساطيرها السابقة، فإنها بدون أسطورة الحرب التي لا تنتهي هذه تفقد هوية البقاء المتناسبة مع طبيعتها والمتناغمة مع أهداف وجودها.

تقول عالمة النفس الإسرائيلية “عاميا ليبليخ”: “إن التعايش مع الحرب كان ومايزال جزءاً رئيسياً من حياتنا منذ إقامة الدولة، بل وفي الفترة السابقة عليها، ويبدو أن “موشي دايان” كان أكثر وضوحاً في إعلانه لحتمية الحرب كي تستمر حياة اليهود في هذا التجمع، فقد قال في جنازة صديقه “روي روتبرج”: “إنه قَدَر جيلنا، إنه خيار جيلنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة”.

ولكن ما هي آفاق فكرة الحرب والسلام في التجمع الإسرائيلي؟!

إن ثمة وجهة نظر إسرائيلية – وهي وجهة النظر المهيمنة ذات شرائح الأَتْباَع الأوسع في هذا التجمع – ترى أن الحرب تمثل لهذا التجمع المناخ الأمثل لوجوده وازدهاره، وهي تستند إلى العديد من المؤشرات الدالة على ذلك والمُسْتَمَدَّة من واقع التجمع الإسرائيلي خلال فترات القتال وخلال فترات الهدوء. فهي وجهة نظر تقوم على فكرة أن انغماس التجمع في الحرب يجذب إليه المزيد من المهاجرين الجدد وخاصة الشباب القادرين على القتال، كما أن مناخ الحرب يُكْسِب هذا التجمع مزيداً من التعاطف اليهودي وتدفق المعونات والهبات اليهودية من شتى أنحاء العالم، ويتيح هذا المناخ للقوى العالمية المساندة للتجمع الإسرائيلي أفضل الظروف لضرب القوى الوطنية العربية من خلال العسكرية الإسرائيلية لاستنزاف إمكانية التنمية العربية من خلال مفاقمة أعباء النفقات العسكرية. ولعل أهم ما يحققه مناخ الحرب من وجهة نظر هذا التيار، أنه يجعل المستوطنين الإسرائيليين على اختلاف أصولهم وتباينها أكثر اتحاداً وتماسكاً وأشد عدوانية وعداءً للعرب.

وكمحصلة لذلك ترى وجهة النظر هذه، أن السلام حتى لو كان مفروضاً على التجمع الإسرائيلي إنما يعني دفع تناقضاته الداخلية إلى التفاقم، ويعتبر بمثابة المناخ الأنسب لازدهار القوى الوطنية العربية وتوجيه جهودها إلى نشاطات التنمية الحقيقية.

ومع ذلك فإن هناك وجهة نظر أخرى في التجمع الإسرائيلي، ترى عكس ما تراه وجهة النظر العسكرية سالفة الذكر، وهي تقيم فكرتها على المعاني المقابلة تماماً لتلك التي قامت عليها فكرة حتمية الحرب لبقاء واستمرار التجمع الإسرائيلي، وإن كان أنصارها قلة قليلة بالقياس لأنصار الفكرة السابقة، مع أنهم يتزايدون يوماً بعد يوم.

إلا أن حسم الخلاف بين هاتين المدرستين الإسرائيليتين ليس بالأمر الميسور، لأن كلاً منهما ترتبط بموقف معين من طبيعة ومستقبل التجمع الإسرائيلي. كما أن هذا الموقف ذاته إنما هو نتاج لشبكة معقدة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية التي تضرب بجذورها بعيداً في أعماق إسرائيل والمنطقة والعالم، إن كلاً من وجهتي النظر السابقتين، يستند في الحقيقة إلى مشاهدات صحيحة في جزئياتها لواقع التجمع الإسرائيلي، رغم تناقض تلك المشاهدات منطقاً ونتيجة.

ولكن أي حرب تعنيها وجهات النظر تلك؟! وأي سلام هو الذي تستهدفه وتتحدث عنه؟!

في أي حرب، فإن فترة القتال الفعلي، طالت أو قصرت، هي فترة مؤقتة، قد يستمر الاشتباك المسلح عدة سنوات متصلة، وقد لا يستغرق أياماً أو ساعات معدودة، وقد تتمثل النهاية في انتصار أحد الفريقين المتصارعين وتَمَكُّنِه من فرض إرادته وبلوغ أهدافه، أو في تدخل قوى أخرى تجبر أطراف الصراع على إيقاف القتال عند مرحلة ومستوى معينين. بل قد تتمثل النهاية في فشل كلا الطرفين في بلوغ أهدافه وبسط إرادته على الطرف الآخر. ومن ثَم يتم الإضطرار إلى تأجيل القتال أو إلى الإقلاع عنه كلياً كأسلوب لحسم الصراع. إن تساؤلنا السابق عن أي حرب هي المقصودة، إنما ينصب على نوعية نهايتها، وليس بحال على تفاصيلها الفنية.

ليست ثمة حرب مطلقة، ومن ثَم فإن تأثيرات الحرب إنما تتوقف في المقام الأول على نهايتها. بعبارة أخرى، فإن تلك التأثيرات تختلف لدى الطرف المنتصر عنها لدى الطرف المهزوم، وإن هذا الاختلاف نوعي وأساسي. وكذلك الحال بالنسبة للسلام، فقد يبدو للوهلة الأولى أن السلام إنما يعني بالتحديد انتهاء أو إنهاء حالة الحرب، وهذا صحيح، ولكنه ليس كل شيء، أو على الأقل ليس هو ما نعنيه بتساؤلنا عن السلام المستهدف.

أن قتالاً قد ينشب بين فريقين وينتهي بنجاحِ أحدهما في هزيمة الآخر، فيسود سلام، وقد ينتهي هذا القتال بنهاية معاكسة، فينهزم المنتصر وينتصر المهزوم، فيسود سلام أيضاً، وقد ينتهي بتدخل طرف ثالث يفرض على الفريقين المتقاتلين إيقاف القتال، فيسود سلام كذلك، ولكن السؤال المُلِح الذي يفرض نفسه هو: “هل أن السلام يعني شيئاً واحداً في تلك الحالات جميعاً؟! وهل تأثيره على الطرف المنتصر يشبه تأثيره على الطرف المهزوم؟! وهل أي من ذلك يشبه سلاماً مفروضاً على الطرفين؟!”

استمرت حالة الحرب العربية الإسرائيلية ومازالت، إلى ما يزيد عن نصف قرن، تشتعل جذوتها أحياناً وتخفت أحياناً أخرى. وتراوحت أشكال الاشتعال بين العمل الفدائي والتظاهرات والغارات العسكرية والحروب النظامية. كما تراوحت أشكال الخفوت بين الهدنة الضمنية والهدنة الفعلية والتفاوض بل وتوقيع الاتفاقات الثنائية أحياناً.. إن السبيل الموضوعي لتمحيص وجهتي النظر المشار إليهما سابقاً حول الحرب والسلام في التجمع الإسرائيلي، إنما يكمن في تقصَّي مدى تأثر الكيان الإسرائيلي بكل شكل من هذه الأشكال المذكورة لحالتي الاشتعال والخفوت.

ترى، ما هو المناخ الأمثل لازدهار التكوين السيكولوجي السائد والمستهدف في التجمع الإسرائيلي بخصائصه التي عرفناها وأسهبنا في شرحها وتحليلها فيما مضى؟! ثم ما هي الظروف التي يسعى إلى توفيرها قادة التجمع الإسرائيلي، بحيث تدفع بأصحاب هذا التكوين السيكولوجي إلى استثمار خصائص تكوينهم على الوجه الأفضل خدمةً للمشروع الصهيوني الاستعماري “إسرائيل”؟!

في ضوء كل ما سبق، فإن الموقف الأمثل لازدهار التكوين السيكولوجي الأشكنازي الإسرائيلي المهمين والهدف، هو موقفٌ يكفل توفر الأمن المهزوز ويتضمن في الوقت نفسه ظهور التهديد المحدود. وبعبارة أخرى، هو ذلك الموقف الذي يحمل قدراً محدوداً من التهديد العربي يسمح بتفجير أقصى طاقات العدوان لدى اليهود الإسرائيليين، ويحمل في الوقت نفسه ضماناً كافياً للقدرة على إلزام هذا التهديد حداً لا يتجاوزه. إن هذه الثنائية السائلة القوام، هي المعادلة الدقيقة التي تُجَسِّد الاستراتيجية السيكولوجية للتجمع الإسرائيلي، الاستراتيجية التي تكفل بقاء ذلك التجمع صهيونياً استعمارياً جوهراً، ويهودياً إسرائيلياً مظهراً، والتي تكفل أيضاً ترحيل كافة التناقضات التي عجزت مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة عن حلها في الإطار السلمي إلى المستقبل، مع ضمان استمرار البعد الصهيوني الاستعماري في التجمع الإسرائيلي. ولأن كل مستقبل سيتحول إلى حاضر، وكل حاضر إسرائيلي يعاني من التناقضات نفسها العصية على الحل الآمن والضامن لاستمرارية الهوية المستهدفة (الصهيونية الاستعمارية)، فلابد لكل حاضر إسرائيلي من أن تسوده معادلة الحرب السابقة، والتي قلنا إنها تجسد الاستراتيجية السيكولوجية للتجمع الإسرائيلي.

ولكي تتمكن القيادة الإسرائيلية من المحافظة على التوازن الدقيق بين طرفي المعادلة، فقد عمدت إلى تأكيد أمرين أساسيين يخدمان هذا التوازن، منذ نشأتها وحتى الآن، وستعمد إلى الأمر نفسه ما بقيت بصفتها الاستعمارية. فهي قد أكدت على الدوام وجود تهديد عربي حقيقي للتجمع الإسرائيلي، وسعت إلى إبرازه بكافة الوسائل وعلى رأسها الوسائل الإعلامية التي نجحت في ابتداع مصطلح الإرهاب الذي غدا مصطلحاً عالمياً دخل كل الثقافات الإنسانية بمفهومة الصهيوني الإستعماري. ثم هي أكدت في الوقت ذاته على التفوق العسكري الإسرائيلي، وسعت إلى إبرازه وتحقيقه بكافة الوسائل أيضاً، ولم تقف في ذلك عند حد الإعلام، بل وصلت إلى حد العدوان المتكرر والاستفزاز المستمر.

ولعله لا يبدو لنا غريباً في ضوء فهمنا لجوهرية طرفي المعادلة المذكورة بالنسبة للمحافظة على التكوين السيكولوجي لليهودي الإسرائيلي، أن يحرص الماسكون بزمام السلطة في التجمع الإسرائيلي وبشكل دائم على إبراز صورتين تبدوان على طرفي نقيض للوهلة الأولى. صورة هذا التجمع بوصفه جزيرة صغيرة يحيط بها طوفان من الكراهية والتربص العربيين، وصورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، والذي يستطيع دق عظام العرب في أي وقت يشاء.

وإذا كان العرب قد أثبتوا عجزاً ملفتاً حتى عن مجرد زعزعة ثقة الإسرائيليين في صحة الصورة الأخيرة، لخلخلة التكوين السيكولوجي المهم لديهم، فإن عجزهم في خلخلة العامل الأخر من عوامل هذا التكوين السيكولوجي، ألا وهو عامل تصوير التجمع الإسرائيلي بأنه ضحية غارقة في محيط الكراهية العربي، كان أنكى وأخطر، فدول الجوار التي تحد إسرائيل، من كل الجهات لم يعجبها أن تطلق على نفسها اسم “دول الجوار” بكل الدفء الذي تشحن به كلمة جوار قلوب ونفوس السامعين، بما قد يسهم في شرخ الصورة الصهيونية لهذا الجوار، وبالتالي في خلخلة عنصر التكوين السيكولوجي القائم على وصفه بمحيط الكراهية، بل هي قد بلعت الطعم وأعجبها التفاخر والتظاهر الأجوفين، وقبلت بأن تطلق على نفسها “دول الطوق”، بكل معاني الحصار والضغط والاعتصار والإذلال التي تشحن بها هذه الكلمة قلوب ونفوس السامعين، بحيث تكون الصورة الصهيونية المُسْتَهْدَفة لهذا المحيط العربي قد كسبت نصيراً هاماً ساعدها على تحقيق هدفها المتمثل في حفظ التوازن في مكونات السيكولوجيا الإسرائيلية. وهذا النصير هو الغباء العربي بلا منازع. ومن شاء أن يتأكد مما نقوله، فليرجع إلى الخطاب السياسي العربي العاجز، سواء كان خطاباً معادياً لإسرائيل أو مهادنا لها، ليعرف أن مصطلح دول الطوق هو المصطلح الرائج في هذا الخطاب عندما يتم الحديث عن كل من لبنان وسوريا والأردن ومصر، علماً بأن الشحنة النفسية التي يتضمنها هذا المصطلح هو قذيفة موجهة إلى خطة المواجهة العربية، في حين كان يمكن لمصطلح “دول الجوار” اللطيف الدافئ أن يتضمن شحنة نفسية أكثر تأثيراً من الأسلحة التي لم يمتلكها العرب وأن امتلكوها لم يستخدموها وأن استخدموها فلم يحسنوا استخدامها.

لكن تاريخ التجمع الإسرائيلي شهد مع كل ذلك، حادثتين مثيرتين، اختل فيهما التوازن الدقيق بين طرفي المعادلة السابقة، وبصورتين متناقضتين. فقد اختل التوازن مرة بخفوت التهديد العربي إلى أدنى حد مقدور على تحمله في المعايير الصهيونية للتكوين السيكولوجي الإسرائيلي، وذلك في حرب حزيران عام (1967)، ليعود هذا التوازن ويختل مرة أخرى، باهتزاز التفوق الإسرائيلي إلى أدنى حد مقدور على تحمله في المعايير ذاتها بطبيعة الحال، وقد كان ذلك في حرب أكتوبر عام (1973).

ولقد بذلت إسرائيل جهوداً مكثفة في الحالتين لاستعادة التوازن المفقود.. إن اختلال المعادلة بسبب اهتزاز التفوق الإسرائيلي كما حدث في حرب أكتوبر (1973)، هو اختلال يتجه إلى دفع عنصر “التهديد العربي” ليكون قريباً من دائرة القدرة على تفريغ التجمع الإسرائيلي من صهيونيته، بالحرب، فيما يتجه اختلال المعادلة بسبب خفوت التهديد العربي كما حدث في حرب حزيران (1967)، إلى دفع عنصر التفوق الإسرائيلي ليكون قريباً من دائرة القدرة على تفريغ التجمع الإسرائيلي من صهيونيته، بغير الحرب، ربما بالتسوية السلمية.

وهذان الأمران يهددان في المحصلة الوجود الصهيوني لإسرائيل، لجهة تهديد البناء السيكولوجي لليهودي الإسرائيلي والذي عليه تقوم أساساً عناصر التوازن في حفظ هذا الوجود من الزوال. إن المناخ الأمثل لازدهار الممارسات العدوانية الإسرائيلية ولسيادة أجواء العدوان داخل التجمع الإسرائيلي بما يضمن استمرار هذا الكيان بالشكل المرسوم له، واستمرار نجاحه في أداء الدور المنوط به، هو في حقيقة الأمر ما تتيحه وتكفله بامتياز سياسة اللاحرب واللاسلم. السياسة التي تهدد ولا تقاتل، وإن قاتلت فلا تحسم، وإن سكتت عن التهديد، تستنفر كل قواها كي تدافع ولكن دون أن تَهْزِم (بكسر الراء) أو أن تُهْزم (بضم التاء) بالمعنى الواسع والحقيقي لكلمة هزيمة.

لقد أحدثت حرب عام (1973) ونتائجها ردة فعل هائلة لدى التجمع الإسرائيلي على كل الصعد. لكن ضخامة الأثر الذي خلَّفَتْه هذه الحرب على ذلك التجمع، ترجع بالإضافة إلى فعالية الإنجاز العربي فيها، إلى ما تعنيه نتائج هذه الحرب بالنسبة لخصائص البناء السيكولوجي للتجمع الإسرائيلي، وبالتحديد في سياق الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في تكريس وتثبيت هذا البنيان.

إن ما حدث في ظهيرة ذلك اليوم يكتسي دلالتين متكاملتين، فهو يعني تهديداً حقيقياً لمشاعر الامتياز والتفوق الحاسم، كما أنه يعني تأكيداً حقيقياً أخر لمشاعر الاضطهاد والتعرض للمخاطر. وبعبارة أخرى، فإنه يعني خفوتاً عن الحد المقبول لصورة إسرائيل الكبرى القوية والقادرة، وبروزاً عن الحد المقبول أيضاً لصورة إسرائيل الصغيرة المهددة والعزلاء.

وفي حرب عام (1967) كان قد حدث العكس تماماً، فقد زادت عن الحد المقبول صورة إسرائيل القوية، وخفتت عن الحد المقبول صورتها ككيان صغير ومهدد وأعزل. ولا فرق لجهة التأثير السيكولوجي بين الحالتين، سواء تلك التي حدثت في عام (1973) أو تلك التي حدثت في عام (1967)، ولقد دلت بعض الوقائع الهامة في داخل التجمع الإسرائيلي على ذلك.

إذ لم يطلق الضباط والجنود الإسرائيليون العنان لفرحتهم عقب حرب (1967)، وهذا الأمر يمثل ظاهرة نفسية فريدة في مجال سلوك الجماعات. ظاهرة تعكس جوهر التكوين السيكولوجي السائد في التجمع الإسرائيلي. لقد اختلت المعادلة التي تحكم ذلك التكوين اختلالاً واضحا، وخَفَتَ التهديد العربي كثيراً عن حده المطلوب صهيونياً. فكانت الاستجابة التلقائية المباشرة وغير المخطط لها هي القلق والعجز عن إبداء الفرحة بالانتصار، لأن الانتصار يعني انتفاء التهديد وبالتالي انتفاء الشعور بالاضطهاد، وإذا ما انتفى شعور الإسرائيلي الأشكنازي بالإضطهاد، اختلت تركيبته السيكولوجية التي أَلِفَها وكاد مَعِينُ عدوانيته أن ينضب.

ولذلك فسرعان ما بذلت القيادة الإسرائيلية جهدها لإعادة التوازن إلى المعادلة التي اختلت، من جديد. فبدأ التركيز على أن التهديد العربي مازال قائماً ومستمراً.. المقاطعة العربية مازالت قائمة.. مازال العرب يرفضون التفاوض.. الدعم العربي لنشاطات المخربين الفلسطينيين يتزايد.. الإصرار على عدم الاعتراف بإسرائيل مازال قائماً.. والأسلحة مازالت تتدفق.. والاستعداد للحرب يجري على قدم وساق..

في هذا الشأن نشر الباحث الإسرائيلي “بنجامين شاليت” وهو من السيكولوجيين العاملين في قيادة القوات البحرية الإسرائيلية، مقالاً مُعمقاً، ومزوداً بنتائج الاستطلاعات حول الموقف المحيط بمعارك (1967) وانعكاساته على المجندين في الجيش الإسرائيلي.

كانت النتائج التي توصل إليها تشير بوضوح إلى أن القلق تضاءل خلال الممارسة العدوانية، لكنه لم يلبث بعد انتهاء تلك الممارسة أن عاد إلى الارتفاع إلى ما يجاوز مستواه السابق كثيراً. إن عودة مشاعر القلق بعدما يُفترض أنه انتصار ساحق وغير مسبوق في تاريخ الحروب، إلى ما يفوق مستواها الأول، تُعد ظاهرة مُلفتة حقاً. إن الأمر المنطقي المتوقع هو أن يخفت القلق بخفوت مصادر التهديد، أما أن يؤدي افتقاد التهديد إلى تجاوز القلق مستواه الذي كان عليه خلال وجود مصادر التهديد، فهو ما يؤكد بشكل قاطع مدى أهمية توازن معادلة “الاستراتيجية السيكولوجية للتجمع الإسرائيلي”.

لقد قامت التنشئة الاجتماعية لهؤلاء الأفراد على التسليم بوجود خطر داهم يهدد وجودهم وحياتهم بشكل مستمر، ومن ثَم فقد تشكل تكوينهم السيكولوجي على أساس حشدِ أكبر قدر من العدوانية لمواجهة هذا الخطر وأكبر قدر من التوجس حياله في ذات الوقت. ولذلك فإن ما أسفرت عنه خبرتهم المباشرة في حرب عام (1967) من تأكيد زوال هذا الخطر وما يعنيه ذلك من اختلال في تكوينهم السيكولوجي الذي أَلِفُوه، كان لابد أن يثير لديهم من القلق قدراً يجاوز ما كان يثيره لديهم تسليمهم بوجود هذا الخطر الداهم الذي يتهددهم.

الأمر نفسه حصل خلال حرب أكتوبر (1973) ولكن عبر المساس بالشق أو بالطرف الآخر من معادلة التوازن السيكولوجي. فبعد أن عاد التوازن إلى النفسية اليهودية المشروخة عقب حرب (1967) من خلال البوق الدعائي الصهيوني ومن خلال بروز عنصر المقاومة الفلسطينية وحرب الاستنزاف في مصر، جاءت تلك الحرب لتُفَاقم الإحساس بالقلق والخوف على قاعدة عدم الركون لعنصر التفوق الإسرائيلي هذه المرة، بعد أن زاد تأثير التهديد العربي عن حده المقبول.

ولأن العرب – مع الأسف الشديد – لا يحاربون إذا حاربوا ولا يسالمون إذا سالموا في إطار خطة تأخذ في الاعتبار حقيقة عدوهم وطبيعته على كافة الصُعد، فإنهم سرعان ما فشلوا في جعل الشرخ النفسي الحاصل عشية حرب أكتوبر يُؤْتي أكله باعتباره أمضى سلاح إذا تم استخدامه الاستخدام الصحيح. وانخرطوا في عملية سياسية مضنية بدأت منذ ثلاثين عاماً، كان أبرز ما حققته هو إسهامها الفعال في إعادة التوازن إلى النفس الإسرائيلية المشروخة بفعل نتائج الحرب.

فإذا كانت حرب أكتوبر قد أخلت بطرفي معادلة التوازن النفسي الإسرائيلي عبر إسقاطها مقولة التفوق بوصفها أحد هذين الطرفين، فإن الجندي الإسرائيلي، بل وحتى المواطن الإسرائيلي، لم يكن يتوقع من العرب المنتصرين والزاحفين في صحراء سيناء وفي مرتفعات الجولان نحو إسرائيل أقل من فرض الشروط والوصول إلى الحدود الإقليمية السياسية الإسرائيلية مع كل من سوريا ومصر، ورفض التسوية السلمية إلا وفق معادلات جديدة غير تلك التي كان يروج لها قادة إسرائيل قبل الحرب.

أما أن تنجح القيادة الإسرائيلية في جَعل هذه الحرب التي حطمت كبرياء وعنجهية هذه الدولة، فرصةً لإعادة التوازن إلى النفسية الإسرائيلية، فهو ما لم يتعود العرب على الانتباه إليه وأخذه في الاعتبار، وكأن الشعوب ليست هي المستهدفة بالحرب بشكل أو بآخر في نهاية المطاف!!

نعم، لقد عرف قادة التجمع الإسرائيلي في الفترة التي أعقبت الحرب كيف يجعلون اليهودي الإسرائيلي يلاحظ بأم عينه أن هؤلاء الغوغاء؟!! الذين ظهروا وقد كسروا تفوق دولته، يتكالبون ويتهافتون على تسوية ضئيلة، تفرض فيها إسرائيل معظم الشروط التي تمس بعض جوانب السيادة الوطنية لبعض الدول العربية. وجعلته تلك القيادة يرى بأم عينه أن هذه الوحدة المخيفة والمفاجئة التي لمسها بين سوريا ومصر آلت إلى زوال، وأن العرب الذين هزوه من الأعماق، عادوا كما كانوا قبائل متناحرة لا يخيفون، تخلوا عن بعضهم البعض لتنفرد إسرائيل بهم واحداً واحداً.. أي أن الرسالة التي تم إيصالها لتلك النفسية المشروخة، “أن توازني”، فما رأيته ليس نصراً، إنها غفلة مقاتلٍ فارسٍ عن خُلِقٍ خسيس من غادرٍ عاد ليركع أمام السوبرمان النيتشوي الذي صنعته كيبوتزات أرض الميعاد. وأن ما يدل على أن المسألة برمتها أبعد من أن تكون انتصاراً هو أن من ظهروا منتصرين، هم الذين يستجدون ويطلبون ويتنازلون.. فهل هذه شِيَمٌ سياسيةٌ لمنتصر؟!

إن السلام الحقيقي لا يقل خطورة على الممارسة العدوانية الإسرائيلية عن الحرب، إذا كانت حقيقية بطبيعة الحال، وكلاهما لا يحقق المصالح الاستراتيجية للقوى المساندة لإسرائيل ممثلة الآن في رأس حربة الإمبريالية العالمية الولايات المتحدة الأميركية. إن النغمة التي تتردد كثيراً في إسرائيل على ألسنة أولئك الذين يصنعون سياستها في ضوء الحقيقة السابقة، هي أن العرب قد أحسنوا صنعاً عندما رفضوا قرار التقسيم عام (1947) فارضين على إسرائيل حرب عام (1948)، أي أن رفض ذلك القرار وخوض تلك الحرب هو الذي أدخل القضية والصراع في هذا المنحى فارضاً عليهما ما تراه إسرائيل.

ما معنى هذا الكلام؟! وهل هو مؤشر صهيوني إسرائيلي على أن العرب كلما أمعنوا في رفض التسوية كلما كان ذلك لمصلحة إسرائيل؟! وأن عليهم بالتالي أن يقبلوا بها؟!

إن تبسيط الأمور على هذا النحو، هو في واقع الأمر تسطيح لها، وعزل لها عن سياقاتها التاريخية، وهذه هي عادة اليهود الصهاينة في عرض نظرياتهم ومواقفهم، عزل الحدث عن محيطه لفرض رؤية خاصة عليه تخدم الأجندة والبرنامج الصهيونيين.

إن أي موقف سياسي عربي هو في الواقع ابنٌ شرعي لصيرورة الواقع العربي، عندما يكون هذا الموقف نابعاً من قوى الشعوب والجماهير وليس من رموز السلطة والحكم التي نفهم جيداً أنها منفصلة عن تلك الشعوب بهوة كبيرة من التناقضات وتباين المصالح. هذا يعني أن أي موقف سياسي عربي من النوع الذي نتحدث عنه، نابع حتماً من محصلة تفاعل بُنى اجتماعية وفكرية ونفسية وسياسية وعسكرية سائدة. ولا يمكن لهذا الموقف أن يتغير إلا بتغير تلك البُنَى بشكل ينسجم مع طرح جديد وموقف جديد ويتطلبه. إن المراقب المهتم يستطيع أن يتلمس الاتجاهات العامة التي تصب في خندقها المواقف العربية وهي تتغير وتتبدل وتتطور.

بناء على ماسبق، فإن العرب – ونعني هنا جماهير العرب- ما كانوا في عام (1947) ليقبلوا قرار التقسيم، وما كانوا في عام (1967) ليقبلوا الحقائق الجديدة التي فرضتها الحرب، رغم بدء ظهور تيارٍ تراجع عن رفض قرار التقسيم وقبلَ به. ثم مع مرور الوقت وخاصة بعد النكسة المخزية عام (1967) أصبحت الهوة بين الرأس والقاعدة تتسع، وغدت الجماهير منكمشة على نفسها إلى أن غدا الموقف السياسي هو موقف سلطة ولا علاقة للجماهير بصياغته (وليس هنا مجال مناقشة السبب الذي آل بـ ميكانيزمات بناء الموقف السياسي إلى هذا المستوى من الانحطاط).

وبعد مرور أكثر من جيل على حرب (1967)، ما كانوا – الحكام العرب هذه المرة – ليقبلوا الطرح الإسرائيلي الجديد، وإن كان سقف مطالبهم قد انحصر في معادلة (1967) التي سبق وإن كانت مرفوضة من القيادة تجاوباً اضطرارياً مع رفض القاعدة لها، ونخالهم لن يقبلوا الآن بحقائق الجدار العنصري العازل وبرفض عودة اللاجئين على إطلاقها وبالتعامل مع قضية القدس بالشكل المطروح إسرائيلياً، وإن كانوا يراوحون خجلاً حول استعدادهم لقبول ما هو أعلى من سقف الطروحات الإسرائيلية الحالية وأقل من سقف المطالب العربية عقب أحداث (1967). لتستمر هذه السيمفونية النشاز وفق معادلة إسرائيلية أخرى تمكن تسميتها معادلة “التلاعب بسقوف المطالب والعروض”، لضمان الاستمرار في تحقيق معادلة التوازن بين عنصر التهديد العربي وعنصر التفوق الإسرائيلي، كآلية فاعلة في الإبقاء أطول مدة ممكنة على حالة اللاحرب واللاسلم، وهي الحالة التي يجب أن نوضح أنها الحالة التي حكمت الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشأته عام (1947)، بما يعني أن الحروب التي شهدها هذا الصراع إن هي إلا مناوشات لم تخرج عن حدود إبقائها على المعادلة المذكورة في حالة حركة ليس إلاَّ، وليست حروباً بالمعنى الحقيقي لكلمة حرب.

قادة التجمع الإسرائيلي اهتموا كثيراً بهذا الأمر، أي بطبيعة تكون الموقف السياسي العربي في مختلف مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، ليوظفوه ما استطاعوا في خدمة المعادلة الأساسية التي تحكم التكوين السيكولوجي اليهودي الإسرائيلي، وكي لا يقعوا في مطب التخوف الذي أشار إليه “بن غوريون” بسخريته اللاذعة ذات الدلالة عندما أبدى خشيته من أن يفاجئه العرب بالموافقة على عقد صُلح معه ومع التجمع الإسرائيلي.

إن الموقف العربي إزاء إسرائيل ووجودها في المنطقة، سيتم التعبير عنه عربياً – إن شعبياً أو سلطوياً- عبر طرحٍ سيأخذ عند طرحه طابع الصفة الاستراتيجية المتضمنة لمعنى الديمومة والتواصل التاريخيين، وذلك إلى أن تتغير في الواقع العربي البُنى الثقافية والمجتمعية والسياسية والنفسية التي أفرزته مؤدية إلى ظهور بُنى جديدة يتم التعبير عنها بموقف جديد.

إن إدراك صانع القرار الصهيوني لهذه الحقيقة التي هي حقيقة إنسانية عامة، تخضع لها لكل مجتمعات وشعوب الأرض، جعله يستثمرها أكفأ استثمار، وقد نجح في ذلك إلى أبعد الحدود، وضَمِنَ بنجاحه هذا الإبقاءَ على معادلة التوازن السيكولوجي الإسرائيلي تحت السيطرة التامة عبر أكثر من خمسين عاماً من الصراع، ولكن كيف ذلك؟!

إن الطرح العربي الذي تفرزه المرحلة بمكوناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والنفسية، سيُعْتَبر سقفاً أعلى مرفوض إسرائيلياً وبالتالي أميركياً، بحيث تطرح إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية سقفاً أقل يجب أن تشير الدلائل العربية المقروءة إسرائيلياً وأميركياً، إلى حاجته لقرابة الجيل الكامل كي يتغير واقع البنى الثقافية والمجتمعية العربية باتجاه قبوله أو التعامل معه. وبالتالي، فبين سقف عربي مطروح مرفوض إسرائيلياً، وسقف إسرائيلي معروض مرفوض عربياً، تُقَاد دفة سفينة الصراع من قِبل الطرفين العربي والإسرائيلي لتحقيق هدف واحد، يعمل الإسرائيليون على تحقيقه بوعي تام، فيما يعمل العرب على الإسهام في تحقيقه بغير وعي وبجهل منقطع النظير، ألا وهو الإبقاء على حالة اللاحرب واللاسلم لحفظ التوازن النفسي لليهودي الإسرائيلي القادر على رفد المشروع الصهيوني الاستعماري “إسرائيل” بكل طاقاته.

وعندما تلاحظ مراكز ودوائر الفكر والبحث واتخاذ القرار في كل من واشنطن وتل أبيب اقتراب العرب بحكم التطورات والضغوطات الحادثة في الواقع العربي، من إمكانية القبول بالطرح الإسرائيلي، عبر بدء دورانهم حول سقوفه، فإن القائمين على تلك المراكز والدوائر إذ يلاحظون ذلك، يبدأون بالدفع باتجاه إعداد الساحة لتَحَمُّل طرحٍ إسرائيلي أميركي جديد ضمن حلقة حقائق جديدة تختلف في الكثير أو في الكثير عن الحقائق التي تضمنها سقف الطروحات السابق.

عندئذ تعود المعادلة السابقة في مستواها السياسي الصدامي لتظهر إلى حيز الوجود، قبول عربي بالطرح الإسرائيلي السابق، ورفض إسرائيلي له عبر طرح جديد لا بديل عنه، باعتباره الطرح المفروض من قِبل الحقائق الجديدة التي سيشاع بطبيعة الحال أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المرحلة. والعرب من جهتهم سوف يجدون أنفسهم مضطرين قطعاً إلى رفض هذا العرض الإسرائيلي لأسباب عديدة تختلف من طرف عربي لأخر ومن وقت لآخر، وتسود مرحلة جديدة من التوتر التي تكفل عبر حنكة الإدارة الصهيونية لها بقاء السيكولوجية الإسرائيلية ضمن دائرة التهديد والتفوق المطلوبة لاستمرار هذا الكيان.

ولا يخفى على عاقل كيف تفعل هذه التوترات المدروسة الشكل والمضمون والتوقيت فعلها في تحقيق ذلك الهدف. فقبول العرب بعرض إسرائيلي سابق، يعني تجسيداً للتفوق الإسرائيلي الذي صمد إلى أن أرضخ العرب لإرادته، وطرح إسرائيلي لعرض جديد مرفوض عربياً جملة وتفصيلاً هو تجسيد للتهديد العربي الذي يبدأ بالتعبير عن نفسه في عملية رفض متعددة الأوجه والوسائل، فتتوازن الأمور ويستقر الوضع السيكولوجي بين طرفي المعادلة التي تكونه وتحكمه. إن استقراء تاريخ الصراع بين العرب والتجمع الإسرائيلي خلال الستين سنة الماضية يثبت لنا هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك.

لكن السؤال الملح الذي يفرض نفسه علينا في هذا السياق هو.. مادامت هذه اللعبة واضحة ومكشوفة لمن يُفْتَرض أنهم قادة فكرٍ وصُنَّاعُ مجتمعٍ، فلماذا يبلع العرب الطعم ويقعون في الفخ دائماً!! ولماذا مازلنا نرى قادتهم كالكرة التي تتقاذفها الأقدام في الملعب، ينتقلون من خندق إلى خندق في التوقيت المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً ليحققوا للصهيونية المعادلة التي تعمل على تحقيقها على الدوام؟!

يكفينا أن نبدي دهشتنا البالغة في هذا الشأن عبر توضيح أن كافة الزعماء والخبراء وصناع السياسة العربية، عندما ينتقدون سياسة إسرائيل في فلسطين أو سياسة الولايات المتحدة في المنطقة – وأن يكن بخجل – إنما يحاولون تأسيس انتقادهم لهما على قاعدة أن سياستهما لا تخدمان الاستقرار في المنطقة، وبالتالي فهي سياسات تصب ضد إسرائيل والولايات المتحدة وضد مصالحهما الإستراتيجية، وأن على هاتين الدولتين أن تَعِياَ هذه الحقيقة قبل أن يفوت الأوان. ومع أن تل أبيب وواشنطن لم تعياها أبداً على ما بدا ويبدو من وجهة الصراع، فإن الأوان الأمريكي والإسرائيلي لم يفت حتى الآن.

إن هؤلاء جميعاً – مع الأسف الشديد – يعتقدون أن إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة تريدان أن يسود الاستقرار في المنطقة ولكنهما لا تعرفان كيف يمكن أن يتحقق ذلك!!! وكأن ستين عاماً من الصراعات والدماء والحروب والهدر في الثروة وفي تراجع التنمية والحريات العامة، لم تكن كافية كي نعرف جميعاً أن اللا إستقرار الذي هو نتاج حالة اللاحرب واللاسلم هو المطلوب إسرائيلياً وأميركياً!!

في ضوء ما تقدم نستطيع أن نؤكد على حقيقة غاية في الأهمية مفادها أن حسم الصراع مع إسرائيل وتحقيق السلام الحقيقي العادل والشامل الذي يطمح إليه حتى أولئك الذين يودون الاعتراف بإسرائيل كجزء لا يتجزأ من هذه المنطقة، ليس مرهوناً ولن يتحقق بما يسمى بضرورة تنازل العرب والتعامل مع حقائق المرحلة لإرضاء إسرائيل والولايات المتحدة كي تقبلا بتحقيق هذا النوع من السلام.

فمهما كان حجم التنازل، فإن سقفه سيكون حتماً أعلى من سقف العروض الإسرائيلية، لتستمر المعادلة المسخ المذكورة. ولكن إذا لم يكن التنازل هو الفيصل في حَسم الصراع كما يتم الترويج له، فأين يكمن الحل؟!

إنه في القدرة على فرض سقف المطالب مهما كان متدنياً. إذ لا قيمة موضوعية لمطالب ذات سقف عالٍ، نفتقر إلى القدرة على تحقيقها، ولا خوف من سقف مطالب متدنية إذا تم امتلاك القدرة على تحقيقها. لأن القدرة اللازمة لاستعادة شبر واحد من الأرض العربية بشكل حقيقي، هي ذاتها القدرة اللازمة لاستعادة كامل الأراضي العربية بالشكل نفسه. إن طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي هي التي تفرض هذه القاعدة القانون الذي بدون خوض الصراع على أساسها فإن الصراع يكون مُخاضاً بالطريقة الخاطئة، ولا قيمة بالتالي لأية نتيجة من نتائجه.

إن استمرار إسرائيل كدولة صهيونية يعتمد على توازن مهزوز، يستند إلى شروط ثلاثة..

الشرط الأول.. الحفاظ على الوحدة الوطنية الداخلية في المجتمع الإسرائيلي عبر تحقيق عدة أمور أبرزها المناداة الدائمة بوجود تهديد خارجي من الدول العربية المتاخمة، وبشن الحروب الإجهاضية والاستباقية والتصفوية. 

الشرط الثاني.. الحفاظ على رغبة يهود العالم في العودة إلى فلسطين أو على الأقل على رغبتهم في استمرار وجود دولة يهودية تكون عند الضرورة ملجأً لهم، يهربون إليه من اللاسامية التي يُرَوج لها في أماكن إقامتهم لتحفيز هذا الإحساس بالخطر الدائم لديهم.

الشرط الثالث.. المساندة غير المشروطة التي تقدمها الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية لإسرائيل.

فإذا فقدت إسرائيل أياً من هذه الشروط فمن المحتمل أن تعجز عن الاستمرار في البقاء كدولة يهودية على النحو الذي رُسم لها بموجب المخطط الصهيوني، لذلك فإن المخاطر الرئيسية الحقيقية التي تتهدد استمرار التجمع الإسرائيلي الصهيوني، تتمثل في اندماج اليهود التام بشعوب الأقطار التي يعيشون فيها خارج إسرائيل، وفي توفر الظروف الإقليمية والداخلية التي تؤجج التناقضات الداخلية في التجمع الإسرائيلي الصهيوني، لجعله يبدأ بالتحول إلى مجرد تجمع يهودي، تمهيداً لتحويله إلى مجرد عدد من اليهود المقيمين على أرض فلسطين.

ولا يمكن لهذين الأمرين أن يحدثا إلا بقيام سلام حقيقي في الشرق الأوسط، أياً كان سببه والدافع إليه والقوة المؤدية نحوه، سواء كانت حرباً مدمرة تهزم إسرائيل ومن يقف وراءها، أو ضغطاً على حلفائها بشكل يدفعهم إلى إجبارها على قبول السلام العادل والشامل، أو تطورات وتغيرات في داخل التجمع الإسرائيلي وفي تكوينه السيكولوجي سالف الذكر، بحيث يُصبح هذا التكوين منسجماً مع منطق السلام العادل، ومُهَيئاً لقبول فكرة تَحَوُّل الإسرائيليين الصهاينة إلى يهود عاديين يعيشون في المنطقة مع جيرانهم العرب. 

وفي المدى المنظور لا يبدو أن أياً من تلك الأسباب قد يتحقق. فلا هناك إرهاصات بحرب قريبة قادمة تهزم إسرائيل ومَنْ وراءَها، ولا يظهر العربُ مستعدين لبذل الجهد اللازم، وإن يكن على صعيد الإعلام على الأقل، لإحداث التغيير المطلوب في التكوين السيكولوجي للتجمع الإسرائيلي. هذا إذا سلمنا بأنهم يأخذونه بعين الإعتبار أساسا، كعنصر من عناصر فهمهم لعدوهم، أو كمُقَوِّمٍ من مقومات رسم خططهم لمواجهته في هذا الصراع الأزلي. ولذلك فإن حالة اللاحرب واللاسلم ستستمر، والسيكولوجية العسكرية القائمة على محورية عنصر الحرب من أجل المحافظة على معادلة التوازن بين التهديد والتفوق وفق الرؤية الصهيونية ستستمر في تحقيق غاياتها وأهدافها.

ولعل العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ الثاني عشر من تموز 2006، بعد العملية النوعية التي أقدم عليها حزب الله والتي أسفرت عن اختطاف جنديين إسرائيليين وقتل آخرين، يصب في هذا الاتجاه. فمن منا يستطيع أن يُغْمِضَ عينيه عن حالة الاصطفاف الواسعة التي أحدثها الهجوم الإسرائيلي على لبنان، لدى مختلف شرائح التجمع الإسرائيلي.

نستطيع القول في هذا السياق، أن مشكلة “مقاومة العرب لإسرائيل”، تكمن لا في أن بدايتها سوف تخلق لدى الإسرائيليين حالة من التوحد والإصطفاف التي يكون واقع التجمع الإسرائيلي قد بدأ يبحث عنها، ليجدها في مواجهةٍ محدودة مع العرب هنا أو هناك، في هذا الإقليم أو في ذاك – فهذا أمر طبيعي تتيحه لإسرائيل هذه الأنواع من المواجهات على الدوام – بل في عدم تواصل هذه المقاومة بالشكل الذي يخرجها من عنق الزجاجة، إخراجاً يُمَكِّنُها من إفقادِ معادلة التوازن السيكولوجي المُعْتَمَدة صهيونيا للحفاظ على هذا الكيان، لدورها في حمايته والحفاظ عليه.

فما من انطلاقة مثيرة للمقاومة أو للمواجهة مع إسرائيل إلا وتنتهي – حسب ما تُعَلِّمُنا إياه الخبرة – إلى تسويةٍ من النوع الذي يُحقق للكيان الصهيوني هدفه من رفع وتيرة التهديد، إلى الحدٍّ الذي يوحد الإسرائيليين الذين كانوا قبل حدث المواجهة قد بدأوا يعانون من اختلالٍ في المعادلة السيكولوجية التي تمثل صمام أمان وجودهم، دون أن يشكل خطرا حقيقيا عليهم.

فالخبرة قد علمتنا أن المواجهة التي يخوضها أي طرف عربي ضد إسرائيل، في لحظات بحث الصهيونية عن مخارج لترحيل مآزقها وأزماتها الداخلية إلى المستقبل، لا تحدث من منطلق وعي ذلك الطرف بالطبيعة السيكولوجية لهذا الكيان، ولا من منطلق المعرفة الدقيقة بما تتطلبه هذه الطبيعة من أشكال محددة ومدروسة من المواجهات زمانا ومكانا، بل هي تحدث من منطلقات أخرى، معظمها يدخل ضمن دوائر ردات الفعل، أو خدمةً لأجنداتِ دولٍ أو تجمعاتٍ أو برامج سياسية معينة، خارج إطار خوض الصراع في أبعاده الإستراتيجية القائمة على مبدأ الاستمرار في المواجهة الطويلة التي من شأنها وحدها أن تعيد بناء المنطقة بالشكل القادر على تحقيق الهدف المتمثل في القضاء على المشروع الاستعماري “إسرائيل”. لتكون النتيجة من العمل المقاوم أو من حالة المواجهة المحددة تلك، أن الطرف المُقَاوِم لم يحقق هدفه، ولم يترك إسرائيل غارقة في مأزقها الناجم عن اختلال المعادلة السيكولوجية، مع أن تفجير أفعال المقاومة من هذه المنطلقات، ليس بالضرورة أن يكون غير مفيد أو غير فاعل في سياق الصراع ككل، إذا نفذته وقامت به أطراف تعرف دورها وتحدد أهدافها وتفهم حقيقة المعادلات الحاكمة للصراع في سياقاته الكلية والتفصيلية، وهو ما لا يحدث غالبا، مع الأسف.

تؤكد عالمة النفس الإسرائيلية “عاميا ليبليخ”: “أن الحرب في إسرائيل جزء من الماضي وجزء من الحاضر ومن المستقبل”. هذه النزعة المدروسة إلى ترسيخ حتمية الحرب في السيكولوجية الإسرائيلية جعلت الأسئلة المعتادة في حياة الإنسان الإسرائيلي هي: “ما هو الوقت الباقي حتى الحرب القادمة؟! وهل يمكن تأجيلها قليلاً؟!”

هناك يسأل الرجل نفسه قائلاً: “هل سيسعدني الحظ في الحرب القادمة أيضاً وأنجو كما نجوت في الحروب السابقة”؟! والآباء يسألون قائلين: “هل سيضطر أبناؤنا كذلك للخدمة كجنود مقاتلين في جيش الدفاع الإسرائيلي؟!”.. لقد سكنت الحرب كل تفاصيل حياة الإنسان الإسرائيلي إلى درجة أن قال الشاعر “مانوخ لفنتين”: “حين نتنزه نكون ثلاثة.. أنا وأنت والحرب القادمة.. وحين ننام نكون ثلاثة.. أنا وأنت والحرب القادمة”. أما الشاعر “يعقوب باسار” فيقول في قصيدته “الحرب المقبلة”: “الحرب المقبلة نُنْشِئُها، نربيها، مابين حجرات النوم وحجرات الأولاد”.. إن القول الشائع عن التجمع الإسرائيلي أنه “جنود في إجازة” أو أن إسرائيل عبارة عن “جيش له دولة”، هو قول له دلالته.

يقول الشاعر “حاييم جوري”: “إن الوجدان الإسرائيلي يرى حالة الحرب كما لو كانت حالة نهائية ودائرة مغلقة لا فكاك عنها.. إن هذا التراب، “تراب إسرائيل” لا يرتوي. فهو يطالب دائماً بالمزيد من المدافن وصناديق الموت، كما لو كانت أرض إسرائيل آلهة ثأر بذيئة وليست مجرد قطعة أرض أو إقليم”.

أما الصحفي “يعقوب نفيرمان”، فقد كتب ساخراً عن عمق الإحساس بالحرب لدى الإنسان الإسرائيلي: “كنت أتنزه منذ عشرة أيام في إحدى الحدائق مع حفيدي، حينما قابلني صديق وسألني كم يبلغ عمر حفيدك، فأجبته عامان، فابتسم في مرارة قائلاً: “إن دوره في التجنيد سيأتي في الحرب التي ستنشب عام 1999”.

نعم.. هكذا يفعلون.. وهكذا يستعدون.. وهكذا يفكرون.. يُرضعون أطفالهم أجندات الحروب مع لبن الأمهات. ويفصلون الرضع عن آبائهم ليمهدوا في قلوبهم لكل أنواع الشر والقسوة والجبروت، غير مبالين بحقائق الطبيعة وقيم الفطرة. المراهقة الغيداء يجب أن تنام في بهيم الليل فوق قبر مسلم قالوا لها أنه متوحش، كي يتحول قلبها الغض الذي خلقه الله للعشق والحب، إلى قلب لا يعرف الرحمة والمشاعر. والغلام الغر ينتعل الثلج في عز الشتاء، ليعيدوا إنتاج إنسانيته في إسبرطة الجديدة.

أنشأوا الكيبوتز عندما تذكروا نيتشة ليجعلوا من أنفسهم نازيين جدداً. قتلهم هتلر، فتقمصوا روحه البشعة ليريقوا الدم الحرام في الأرض الحرام. الجيتو، الحالوتس، الساباريم، الكيبوتز، محطات لا تنتهي من العقد الباحثة عن بدائل، لضمان استمرار القتل في قاموس كل كلماته قتل في قتل. وكانت النتيجة، شباب ملء البصر يهتف: “أكره محمد، أكره محمد، أكره محمد”، بعد أن سجل الفلسطيني هدف التعادل في مباراة كرة قدم تافهة[1].

إقرأ أيضاٌ | سيكولوجيا المحارب الإسرائيلي: (2) هكذا يستعدون

[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close