fbpx
سياسةدراسات

طبائع المصريين: أسباب تغير الشخصية المصرية (5)

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

إذا قسمنا تاريخ مصر السياسي والاجتماعي إلى عدة مراحل ملاحظين ما اعتراها من تغييرات وتبدلات، نجد أن مرحلته الأخيرة والتي نستطيع أن نحددها بانقلاب 1952م كانت هي المحطة الأبرز في عملية التغيير تلك؛ إذ كانت تلك المرحلة تالية لمرحلة تغيير جذري على مستوى العالم العربي بعد سقوط الخلافة العثمانية، وشهدت تلك المرحلة نشوء دول جديدة مستقلة، ذات سيادة وحدود، وذات طابع سياسي محدد، وإلى -حدّ ما- توقفت حركات الهجرة والتنقل التي كانت تحدث بأريحية داخل الحدود العربية؛ لتنغلق كل دولة على سكانها باعتبارهم مواطنيها.

التغييرات التي عصفت بمصر في تلك الفترة كانت وتيرتها سريعة جدّاً، وتأثيراتها كذلك، فكما طالت بنية الدولة ونظامها فقد طالت -أيضاً وبقوة- العقلية المصرية وشكّلتها من جديد.

الحالة ما قبل انقلاب يوليو 1952

“كان الحماس الوطني قبل الثورة يملأ عقل وإيمان الشباب، ويحفزه على الاستشهاد في سبيل الوطن، وإعلاء كلمته، وتخليصه من الاستعمار، والوقوف في وجه الظلم والطغيان.

وكانت -أيضاً- الرموز الثقافية واضحة، والقدوة محفورة في كل مجال داخل البيئة المصرية من الفنون إلى العلوم والآداب، تحيطها درجة عالية من الكفاءة والهيبة والاحترام.

وكان هناك حركة جيل متفاعلة تحمل لواء فكر وإبداع ووعي، واستمرت هذه الشعلة التي تحمل الشباب جذوتها إلى ما بعد الثورة، ولكن بدرجات مختلفة”[1].

كان انقلاب 52 هو بوابة نفق مظلم دخلته مصر ولم تخرج منه حتى الآن؛ فبالرغم من مكاسب وإنجازات انقلاب يوليو، إلا أن نكساتها وهزائمها وما جرته وجنته على الشعب المصري أعظم من أي تصور.

في دراسته يرصد د. محمد المهدي أبرز العوامل “الرئيسة التي أدت إلى تلك التغيرات في السمات الأصلية للشخصية المصرية، ومنها:

1- ثورة يوليو وما صاحبها من تغييرات جذرية (بعضها إيجابي وهو ما يتصل بالتحرر الوطني وطرد المستعمر، وأكثرها سلبي وهو ما يتصل بالحكم الاستبدادي البوليسي) أدت إلى تغيرات في البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهزت البنية القيمية؛ حيث أشاعت قِيماً استبدادية قهرية، وأرست قواعد الاعتمادية على النظام، والسلبية، والفهلوة، وادعاءات البطولة الزائفة، والسير وراء الزعيم بأعين مغمضة وأصوات هاتفة وقلوب مليئة بالحماس الجارف بلا دليل.

باختصار أحدثت الثورة ورجالها تناقضات هائلة في البنية النفسية للشخصية المصرية.

2- نكسة يونيو 1967، وقد كانت قمة التعبير عن خداع الذات والتسليم لزعامات كاريزمية بعيدة عن التخطيط السليم والموضوعية. حدث بعدها صدمة وتغيرات جذرية أخرى في الشخصية المصرية حيث راحت تبحث عن هوية دينية بعد فشل الهوية القومية الاشتراكية التي نادى بها زعماء الثورة ومنظروها.

3- معاهدة السلام مع إسرائيل وما تبعها من تغيرات سريعة ومفاجئة لكثير من المفاهيم حول إسرائيل كعدو أساسي، والارتماء بعد ذلك في الحضن الأمريكي، وما تبعه من تغيرات ثقافية واجتماعية بناء على التفاعل مع ثقافات غريبة تستقبلها الشخصية المصرية بمشاعر متناقضة وبشكل أسرع من طريقتها وطبيعتها في استيعاب وهضم وتمصير الثقافات الأخرى.

4- الانفتاح الاقتصادي المنفلت، وما تبعه من تنامى القيم الاستهلاكية، والرغبة في الثراء السريع دون جهد حقيقي، وشيوع قيم الخفة والفهلوة وانتهاز الفرص.

5- السفر إلى بلاد الخليج وغيرها من الدول العربية، وما تبع ذلك من تغير الأنماط الاستهلاكية والثقافية والدينية تبعاً للنموذج الخليجي، مما أدى إلى تعتعة استقرار النماذج القائمة والمستقرة منذ قرون لصالح النموذج السلفي من ناحية، أو النموذج المستغرب من ناحية أخرى”[2].

وتؤيد د. سامية خضر صالح ما ذهب إليه د. المهدي، فتقول: “انشطرت الشخصية المصرية في عام 1967 بفعل الحرب، وفقدان الثقة الكاملة في القيادة، ورغم انتصار 1973 لكن التغيرات العالمية ضغطت على المجتمع المصري بأكمله وخلفت جيلاً آخر من الشباب ليس مشغولاً بغذاء الفكر وفداء الوطن وتنمية المستقبل، ولكن بغذاء البطون والبحث عن مسكن يأويه، ومع ارتفاع الأسعار للمنازل بشكل استفزازي -خاصة لمن يريد أن يبدأ حياته- ضعفت قيم الولاء والانتماء وزاد السفر وأحلامه للدول النفطية، وتاهت فكرة الهوية ما بين محاولات لذبح التاريخ المصري والتشكيك في عظمة الحضارة المصرية القديمة وانتمائها لساكني وادي النيل، وما بين قيم غريبة يحملها بعض المصريين العائدين من العمل في دول المنطقة، بعضها غيبي وبعضها استهلاكي وبعضها مفرغ من الثقافة، مما أكسب الشخصية المصرية صفات غريبة على المجتمع المصري ساهمت فيها -أيضاً- سياسة الانفتاح الاقتصادي والاتجاه إلى الخصخصة.

كما أثار تساقط بعض المسؤولين -وعلى فترات غير متباعدة سواء من محافظين أو رؤساء مجالس إدارات واتهامهم بتبديد المال العام، خاصة بعد مدة خدمة طويلة- النفوس، وأضاع الثقة والقدوة الحسنة، كذلك هروب أثرياء الانفتاح بكميات هائلة من المكاسب المالية بعد ترك صغار أفراد الشعب الذين ساهموا بأموالهم في بناء صروح هؤلاء اللصوص، كل ذلك يساهم في الوغزات الاجتماعية للشخصية المصرية، ويضفي ألواناً باهتة عليها”[3].

6- “العولمة وما أدت إليه من فتح السموات للقنوات الفضائية والإنترنت، وفتح الأسواق لكل ما هو جديد، وفتح شهية المتلقي للمزيد من الجديد والغريب والمثير.

7- قانون الطوارئ الذي امتد العمل به، بحيث أدى إلى شيوع حالة من القهر والخوف، وانعدام الثقة بين السلطة والشعب، وأطلق يد السلطة الأمنية في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس (تعيينات الوظائف على كل المستويات، والترقيات، واختيار الوظائف القيادية، والانتخابات، والبعثات، وكل شيء)، وأطفأ النبض الحقيقي على المستويات السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية، وأتاح الفرصة لتغلغل الفساد المحتمي بالسلطة، ووصول عناصر تفتقر إلى الكفاءة والضمير إلى مراكز عليا تحت سقف الطاعة والولاء، في نفس الوقت الذي ابتعدت فيه (أو استبعدت) العناصر الموهوبة والمتميزة عن مراكز التأثير والتوجيه، أما بقية الناس فقد تحولوا إلى أغلبية صامتة تسعى إلى أن تحصل على لقمة عيشها وعيش أبنائها، ولكي تتقي سطوة السلطة المطلقة تحت مظلة قانون الطوارئ لجأت إلى تعلم مهارات الفهلوة والتحايل والكذب والالتواء والتخفي والتنازل عن أشياء كان يعتز بها المصريون مثل: الكرامة والضمير والصدق والشهامة، واستبدل كل هذا بحالة من: الخنوع والخداع والنفاق والتحايل ومد اليد تسولاً أو رشوة أو سرقة”[4].

8- ثورات الربيع العربي، والتي جاءت في وقتٍ ظن الجميع أن الشعوب العربية قد ماتت، واستيأست من التغيير، وأن تلك الأنظمة السياسية الضعيفة التي تعتبر احتلالاً داخليّاً سوف تبقى جاثمة على صدور الشعوب حتى يوم القيامة.

جاءت تلك الثورات لتحيي في الشعوب الأمل، وتثبت أنها قادرة على التغيير، وأن بذور الثورية بها موجودة، وأنها قابلة للتثوير، وأنها قادرة على أخذ زمام المبادرة، وقادرة على قيادة نفسها، وفرض رؤيتها على الحكام، وأنها قادرة على الانفلات من قبضة الداخل والخارج.

9- انقلاب يوليو 2013م، لم يسلّم العسكر والدول الخليجية الملكية بالثورات العربية، وعملت على إعادة الأنظمة السابقة، ليس بالضرورة بأشخاصها، بل أساليبها.

وعادت فعلاً بأشكال أكثر فجاجة في القهر والديكتاتورية والانبطاح أمام الخارج، والاستئساد على الداخل.

وغيرت بوصَلة العداوة من الإسرائيليين والصهاينة والغرب المحتل بطريقة غير مباشرة لنا إلى الحركات الإسلامية السياسية والجهادية المقاومة.

فإسرائيل أضحت صديقة، والإسلاميون هم العدو الحقيقي.

وعمّقت الانقسام والانشقاق بين الشعب، وولغت -لأول مرة- في الدماء المعصومة بلا أدنى جريرة إلا للمعارضة السياسية.

هذا الانقلاب أعاد الخوف والقهر، وأعلى سفلة القوم وجعل منهم القدوات.

فالانقلاب قلب الموازين الأخلاقية القِيَمية، وصدق في أفعاله قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم: “إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتَمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”.

قيل: وما الرويبضة؟

قال: “السفيه يتكلم في أمر العامة”[5].

“ورغم التحولات الحادثة في السمات للشخصية المصرية إلا أن الشخصية المصرية تعتبر نسبيّاً أكثر ثباتاً خاصة في مواجهة تغيرات العولمة، حيث نجد أن مجتمعات عربية أخرى قد ذابت تماماً أو تكاد في النظام العالمي الجديد بكل سلبياته وإيجابياته.

وربما يعود ذلك الثبات النسبي للشخصية المصرية إلى تراكم سماتها في طبقات حضارية عبر عصور طويلة”[6].                                                                                                      

التراث المملوكي وأثره في الفرد والهيكل التنظيمي للدولة

تعتبر فترة الحكم المملوكي هي الأطول في تاريخ مصر, وتعود جذورها إلى فترة الحكم الإخشيدي والطولوني، أما فترة المماليك الفعلية فقد بدأت مُنذُ سُقُوط الدولة الأيوبيِّة سنة 648هـ/1250م، حتَّى بلغت الدولة العُثمانيَّة ذُروة قُوَّتها وضمَّ السُلطان سليم الأوَّل الديار الشَّاميَّة والمصريَّة إلى دولته بعد هزيمة المماليك في معركة الريدانيَّة سنة 923هـ/1517م. لكن رغم ذلك ظل المماليك ممسكين بزمام الأمور في مصر حتى قيام محمد علي بمذبحة القلعة عام 1811م.

في دراسة للدكتور ع. ع. يقرر فيها أن الفترة المملوكية في مصر كان لها النصيب الأكبر والأثر الأعظم في تشكيل العقلية المصرية، وتحديد شكل العلاقة بين المواطن والحكومة، ويرى أن الكثير من الظواهر والسمات السلبية ترجع إلى تلك الفترة المملوكية التي تولى فيها حكم البلاد أناس غريبون بالكلية عن مصر -معظم من تولى حكم مصر تقريباً كان غريباً عن أهل البلد، إضافة إلى أنهم كانوا مبتوري النسب مقطوعين الصلة بالشعب المصري؛ فالمملوك لم يكن يُعرف له أب أو أم -معظم الحالات؛ لذا لم يكن يراعي في كثير من الأحايين حرمة أو احتراماً للعائلة، فكل تربيته كانت على يد معلمه أو سيده المملوك الأكبر، ولا يعرف ولاء إلا له أو لمن بيده زمام الحكم.

يقول ع. ع.: “يرجع حكم الرقيق الأبيض أو العبيد البيض للدولة المصرية لأكثر من 1200 سنة، وظل العبيد الأبيض هو الحاكم الرسمي والفعلي لمصر طوال ألف سنة بلا انقطاع. حتى عندما استطاع أهل مصر تنحيته عن العرش، استطاع هذا العبد الأبيض أن يصبح هو الحاكم الفعلي رغم فقدانه عرش مصر من الناحية الرسمية، فقد ظل هو -بالضرورة- العمدة وشيخ البلد، ومدير المديرية ومحافظ المحافظة ومسؤول الشرطة والوزير”[7].

ويضيف: “وحتى عندما استطاع شعب مصر قتل بعضٍ من هؤلاء العبيد البيض، فإنه لم ينجح في القضاء على تراثهم وأفكارهم وخبراتهم في الحكم التي توراثها عنهم أبناؤهم جيلاً بعد جيل”[8].

التوغل المملوكي في أجهزة الحكم والسيطرة على مفاصل الدولة

بعد مذبحة المماليك التي قام بها محمد علي “استبقى أولاد المماليك ووزعهم على أفراد أسرته وأتباعه ليجعلوا منهم مماليك لهم، كما استبقى لنفسه عدداً منهم، وأولاد المماليك هؤلاء هم الذين شكّلوا الجهاز الإداري المصري في غالبه في عصر الأسرة العلوية بشكل واضح حتى أيام الملك أحمد فؤاد، واستمر وجودهم بعد دخول عناصر من أصول عربية وفلاحية وأوروبية بعد ثورة 1952م”[9].

فالتأثير المملوكي الذي يرمي إليه الدكتور ع. ع. ينصب على توريث الثقافة المملوكية التي سادت أجهزة الحكم التي تولوا إدارتها من عهد محمد علي حتى 1952م. فبالرغم من اندماج الأعراق وانصهارها في المجتمع المصري إلا أن الثقاقة المملوكية في الحكم ظلت سائدة، وظل التراث المملوكي هو الحاكم والمسيطر، خاصة مع تولي العبيد لمناصب هامة وحساسة كجهاز الشرطة خاصة في العهد العثماني.

يقول الكاتب: “كان شرق أوروبا مستودعاً للرقيق من خلال ما عرف بضريبة الدم (الدقشرمة)؛ إذ كان العثمانيون يحصلون من هذه المناطق على الأطفال الصغار، ثم يربونهم ويخضعونهم لتدريبات شاقة عسكرية، وتدريبات إدارية، ثم يلحقونهم بالجيش أو بالمناصب الإدارية الهامة.

وقد وصل إلى مصر عدد غير قليل من هؤلاء مع الحاميات العثمانية أو مع محمد علي، ومكثوا في مصر وتزوجوا وتناسلوا.

وقد أجمع كل الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر منذ مطلع القرن السادس عشر على أن الدقشرمة (ممثلين في رجال الشرطة والموظفين الحكوميين) يعاملون أهل البلاد معاملة قاسية، ويكنون لهم احتقاراً شديداً”[10].

ويعود الكاتب بالعلاقة السيئة بين المواطن والشرطة في يومنا هذا والتي تقوم على الإهانة والتحقير للمواطن والاستعلاء عليه من جانب الشرطي إلى تلك الفترة والتراث المملوكي، فيقول: “وليس سرّاً أن المصري -وكاتب هذه السطور مصري- يخشى دخول قسم الشرطة لأي سبب كان، حتى لو كان للسؤال عن كيفية استخراج البطاقة الشخصية، أو العائلية، ويخشى الدخول شاهداً.

وإذا أراد الدخول شاكيّاً فلا بد من أن يتسلّح بكروت التوصية والمعارف، ولا بد أن ينتظر المقبوض عليه جمع من أقاربه وأصدقائه، وحبذا لو كان يعرف معرفة شخصية أحد العاملين في قسم الشرطة فهذا أدعى للأمان.

إنه تراث الدقشرمة، فبمجرد أن يلبس المسؤول البدلة الرسمية يصبح (حكومة) ويصبح الآخرون أمام ناظريه (أهالي)، ومع أن الأعراق اندمجت -كما قلنا، وأصبح المسؤولون هم أهلنا وإخواننا وأبناءنا إلا أن تراث العبيد البيض أو تراث (المجاليب) أو تراث الدقشرمة ما زال قائماً”[11].

ويصف الكاتب طريقة تعامل شرطة الدقشرمة قديماً مع المواطن المصري، والتي لا تختلف كثيراً عن أيامنا هذه، فينقل على لسان أحد الرحالة ما شاهده بعينيه في جنبات مصر: “يقول ريتشارد بيرتون -وهو رحالة زار مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: إن المصري إذا تعامل مع ضابط الشرطة أو دخل مركز الشرطة لأي أمر كان فلا بد أن يضربه الضابط أو المسؤول على قفاه حتى قبل أن تثبت عليه التهمة.

يقول بيرتون: إنك تمر مع المتهمين الآخرين ليأخذ كل منهم (قفا)، فإذا جاء دورك أخذت الذي أخذوا، والقفا خاص بالمصري دون سواه، فإذا كنت أجنبيّاً تحرزوا في إعطائك القفا، وأحالوك إلى قنصلية بلادك”[12].

ولازال رجال الشرطة حتى يومنا هذا ينتهجون تلك السياسة البغيضة من تلفيق القضايا وعمليات الإيذاء البدني والنفسي، وعمليات الرشوة والفساد، ونظرات الاستعلاء على المواطن بصفته “أهالي”، أما الشرطي فهو “حكومة” أو “باشا”.

ولا يتجلى التراث المملوكي في جهاز الشرطة فقط، بل في مختلف جوانب البيروقراطية المصرية، ويرجع إليه نظام المجموعة الموالية للحاكم أو المحافظ أو المدير، أو كما وصفها الكاتب بفكرة “البتاع”، فكل مسؤول جديد لا بد أن يحمي نفسه من خلال مجموعة ينشرها حولها يطلق عليها “بتوعه”.

يقول الكاتب: “ظلت فكرة (البتاع) و(البتوع) تُتوراث جيلاً بعد جيل، وهي ما زالت موجودة على نحو أو آخر، فمن المحال محو أكثر من ألف عام من التراث المملوكي. فلا بد للمدير العام أن يكون له (بتوع) غير بتوع المدير العام الآخر”[13].

وبالطبع الاختيار هنا لن يكون بمعيار الكفاءة والخبرة، بل المعيار الوحيد الحاسم يكون هو الولاء ولا شيء غيره.

ونلاحظ تفشي التراث المملوكي داخل الجماعات الإسلامية خاصة الإخوان وتقديمهم لأهل الولاء والثقة على أهل الخبرة والكفاءة؛ فالعبرة هنا لست بمن هو كفء أو صاحب مهارة أو فكر ما، المعيار هنا يكون: هل أنت معي بالكلية أم لست معي، هل أنت تابع بالكلية أم لا؟

يضيف الكاتب: “من المحال إذن أن يمارس (مدير) أو (مدير عام) أو (محافظ) عمله، ويباشر اختصاصه في ظل القانون فقط، أو وفقاً لبنود اللائحة، هذا محال في ظل تراث الرقيق الأبيض.

ومن المحال أن تكون قاعدة جهاز الإدارة حساسة لأوامر وتوجيهات القيادة إلا في ظروف معينة قوامها الرعب والخوف، وإذا طال العهد بمسئول الإدارة (أصبح له أقدمية في المكان) نجح في تكوين مجموعة مملوكية خاصة به، فتتم الاستجابة لتوجيهاته (توجيهات الإدارة) بفضل هذه المجموعة، وإذا حدث فتغير رأس الإدارة، فإن الرأس الجديد سرعان ما يغير مجموعة مملوكية بمجموعة أخرى حتى تستطيع تسيير العمل على نحو أعوج[14].

وفي ظل هذه الظروف التي لا يكشفها ولا يوضحها سوى علم الاجتماع التاريخي، هل تصبح القوانين فعّالة؟ وهل هي وحدها تكفي؟

وهل محاضرات المحاضرين عن الإدارة الناجحة، ومقوماتها تجدي في هذه الحال، أم أننا ننقل بذوراً لم نهيئ لها تربتنا الإدارية تهيئة كاملة.

وقد عبّر الفكر الشعبي عن ذلك وشخّصه دون معرفة جذوره التاريخية؛ إذ يقال دائماً: “نحن نخاف ومنختشيش”، بمعنى: أننا نخاف لكن ينقصنا الحياء.

فقد لاحظ المفكر الشعبي أن الموظف لا يؤدي عمله إلا خوفاً من مديره، والمدير لابد أن يكون لديه دافع شخصي لمباشرة العمل غير راتبه الذي يتقاضاه وحوافزه التي يحصدها، والمدير بدوره يمكن أن يصدر أوامر مخالفة للقانون والنظام إذا ضمن العاقبة، ولم يكن هناك ما يخفيه؛ فقد أمر أحد المحافظين سائق قطار سريع بالتوقف في طنطا وهي ليست محطة وقوف، مع ما قد يترتب على ذلك من إخلال بجدول السكك الحديدية كله، وإرباك قد يؤدي لحوادث مؤسفة. كل ذلك كي ينزل هو في محطة طنطا، وليس لأي أمر استراتيجي أو حتى تكتيكي يهم القوات المسلحة (مثلاً).

فالعلاقات المملوكية أساسها الخوف: الخوف من أميرهم، والخوف من مماليك الأمير الآخر، وخوف السلطان من مماليكه هو بعد أن يصل إلى السلطنة، وخوف مماليكه هم أنفسهم منه خوفاً من تكوين مجموعة أخرى، ومن الطبيعي ألا يرحب المماليك القدامى بمملوك آخر ينضم إليهم؛ فقد يشاركهم كميات اللحوم والخبز والحلوى التي توزع عليهم فتقل أنصبتهم تبعاً لذلك، وقد تزيد حظوته عن حظوتهم عند (أستاذهم) أو أميرهم.

فالمماليك القُدامى ينظرون للمملوك الجديد على نحو ما تنظر الزوجة القديمة للزوجة الجديدة التي قد تحظى بحب زوجها أكثر مما تحظى هي، وقد يميز أبناءها ويحبهم أكثر من حبه لأولاد (القديمة).

وهذا أحد الأسباب التي يحارب المصريون بعضهم بعضاً إذا عاشوا في بلاد الغربة، بدلاً من التكتل، وهو ردّ الفعل الذي يبدو -لأول وهلة- منطقيّاً، لكنه لو حدث لكان غير منطقي، وكان خروجاً عن منطق مجتمع العبيد البيض؛ ففي بلاد الغربة يتنافس المماليك لكسب رضا (الأستاذ) أو (الأمير)، وهو هنا صاحب العمل الأجنبي، وفي بلاد الغربة لم يعد المصريون يخشون بعضهم بعضاً؛ فقد تساوت الرؤوس، وأصبحت السلطة للأمير (أو رب العمل) الأجنبي”[15].

ابن النظام لكنه يعطله

من يصنعه النظام ويربيه عليه أن يتفانى في خدمة هذا النظام؛ فهو ولي نعمته، لكن هذه القاعدة لا تنطبق تمام الانطباق على الجهاز الإداري في الدولة، ويُرجع الكاتب ذلك لأمرين:

“1- أن الجهاز الإداري لم يعد حساساً إزاء أوامر الإدارة العليا، فلتُصدر الإدارة العليا ما تشاء من قرارات، لكن (عم عوضين) في مركز الشرطة أو الجمارك أو غير ذلك من الهيئات ينفذ ما يشاء هو، لا ما تريده الإدارة العليا، وذلك بطريقته الخاصة ودون خرق واضح ولا مخالفة صريحة للسلطة.

ففي مصر (الاحترام واجب) في كل الأحوال، وهذا هو المضمون الاجتماعي لهذه العبارة الخطيرة، التي تبدو في الظاهر وكأنها نوع من (الأدب) أو (اللياقة)، أو أنها تجسيد (لأخلاق القرية)، لم يعد الهرم الإداري مترابطاً إلا في الظاهر، ولم تعد القاعدة حساسة ومتفهمة للأوامر.

2- وساعدت قلة الرواتب والأجور على إطلاق التراث المملوكي في نفوس أفراد الجهاز الإداري؛ فهو لا ينفذ أوامر الإدارة العليا إلا بتلكؤ شديد، أو هو ينفِّذها لتحقق عكس أهدافها (على قد فلوسهم) (هم بيدّونا حاجة) (دُولة واكلنها) (كله ماشي) (كبّر مخك) (خليك مفتح).

والأصل أن المملوك لا يعمل إلا لحساب نفسه، وهو (مضطر) للعمل لحساب الآخرين (اضطراراً)”[16].

المجاملات والنفاق

تكلمنا أنه في بعض الأحيان يكون التوسع في الصفات الإيجابية سبيلاً إلى الوقوع في الصفات السلبية.

فالكلام الطيب نحتاجه في حياتنا؛ فـ”الكلمة الطيبة صدقة”[17]، لكن إن كانت كلمة طيبة للتغطية على سلبية، أو فراراً من المواجهة، أو دليلاً على النفاق والمجاملة الكاذبة، فهي خرجت من كونها طيبة إلى شيء آخر.

فنحن نحتاج إلى العدل في بعض الأوقات الفاصلة، ونحتاج إلى كلمة الحق كذلك في أوقات بعينها، فتكون الكلمات المعسولة التي لا تشفي عليلاً، ولا تداوي جريحاً، ولا تأتي بحق، ولا تدفع ظلماً، هي كالرصاصة القاتلة للمظلوم، وكقُبلة الحياة للظالم، أو تصبح تشجيعاً له على ظلمه وبطشه وغُشمه.

ويشير الكاتب إلى تفشي ظاهرة المجاملات والنفاق في مجتمعنا، والتي كانت هي السمة الأساسية للتعامل بين الطوائف المملوكية المختلفة، فيقول: “العلاقات بينهم -يقصد المماليك- ليست علاقة (صداقة) على الحقيقة، ولا شك أن أميرهم أو أستاذهم أو صاحبهم أو مالكهم كان يراقب بعين الحذر أي تكتلات أو صداقات بينهم.

إنما هي علاقات يحكمها (الخوف) و(الضرورة) رغم غطاء المجاملات السميك سماكة الخوف الكامنة، والكلمات العسلية اللزجة لزوجة الخوف الكامن والغيرة الكافية، لذلك نجد في المجتمعات التي تعمق فيها تراث المماليك كمّاً هائلاً من كلمات المجاملة والنفاق، وجميعها غير صادق: عيوني – أعطيك عيوني – نعوزوا ترابك – منستغناش عنك – يا نوارتنا – يا عسل – يا فُل – أنت أجدع راجل – مش عارفين من غيرك كنا ح نعمل إيه… وهذا قليل من كثير.

جانب كبير إذن من علاقات المصريين ذوي التراث المملوكي تحكمه الضرورة بحكم التراث، بالإضافة لضيق المكان (اصبر على جارك السوّ (السيئ) يا يرحل، يا مصيبة تاخده)، أي: اصبر -إن كان لك جار سيئ فالفرج قد يأتي برحيله (إلى مكان آخر، وهذا أمر صعب بحكم أزمة الإسكان)، أو أن تأتيه مصيبة، (أي: يموت ونرتاح منه، أو يقبض عليه، وما إلى ذلك).

ومن هنا كان (الاحترام واجب)، وهي عبارة ذات مضمون غير ما يظهر من كلماتها.

و(السلام بتاع ربنا)، وهي -أيضاً- تعني مجرد الشكليات، أي أنك تخطئ إذا لم تلق السلام على من ظلمك أو سرقك؛ فالسلام (بتاع ربنا)، ولا علاقة له بأنه ظلمك، وإذا اجتمع من يحكم في خلاف كنت أنت مخطئاً؛ لأنك لم تلق السلام، أما ظلمه لك فهذه مسألة أخرى تسويها معه”[18].

فشل الديمقراطية في الشرق

كلما حاولت هذه الأمة أن تأخذ بزمام أمورها، وأن تخرج من نفق الديكتاتورية المظلم إلى فضاء الحرية الواسع، كان الفشل حليفها، كأن الديكتاتورية كانت قدراً مقدوراً عليها.

وفي المقابل هناك أمم خطت خُطى واسعة نحو تحقيق العدل وتثبيت الحرية المنضبطة المسؤولة، وإقرار المساواة في الفرص وأمام القانون.

ويفسر الكاتب فشل الديمقراطية في الشرق وعدم نجاحها كمثيلتها في الغرب -حتى مع استيراد الشرق لقوانين الغرب وتطبيق غالبيتها- بسبب تراث المماليك والدقشرمة المتأصل والراسخ في البيئة الشرقية؛ فهو تراث هدام سلبي قاتل للإبداع والفكر، يعمل على خلق آلات بشرية يتحكم فيها الحاكم؛ فالتراث المملوكي يقوم في الأساس على الصراع، يقول الكاتب: “التراث المملوكي -عبر العصور- يتلخص في إتقان فن الصراع، وفن التكتل ضد المجموعات الأخرى، وفن الاستقطاب، ولم يظهر في التاريخ المملوكي مملوك مهندس كبير، أو مملوك مفكر كبير، أو مملوك فنان كبير، وإن كان قد عمل تحت إشرافهم ولخدمتهم مهندسون وفنانون وعلماء”[19].

ويقول في موضع آخر ذاكراً بعضاً من أفكار الرحالة الأجنبي ريتشارد بيرتون: “إن الفرد في الشرق غير الفرد في الغرب، وإن تكوين مجتمع الشرق غير تكوين مجتمع الغرب.

وقد فطن كثيرون لهذا الفرق، لكنهم في الواقع لم يدركوا السبب في هذا، إنه التراث المملوكي أو تراث الدقشرمة الذي يغطي أكثر من نصف التاريخ المؤثر والفاعل في كثير من بلادنا العربية والإسلامية.

إن هذا التراث هو الذي يحول بين أن تكون الديمقراطية في الشرق لها النتائج نفسها لديمقراطية الغرب.

وهذا التراث هو الذي يحول بين أن تكون التنظيمات المنقولة من الغرب إلى بلاد الشرق، لها المردود نفسه للتنظيمات في الغرب.

وهذا التراث نفسه هو الذي غيّر المفاهيم الإسلامية التي كانت أساساً لنهضة الغرب، وإلا فبم تفسر أن (الفرد) الشرقي إذا انتزع من تراثه المملوكي وعاش في الغرب حقق تفوقاً على أقرانه الأوروببين والأمريكيين؟

التفسير هو أنه انتزع تماماً من تراث الدقشرمة والعبيد البيض، وكان لديه هو شخصيّاً استعداد للحياة في بيئة خالية من هذا التراث”[20].

سياسة تجويع الشعب والتحكم في الاقتصاد

كانت إحدى الأدوات الرئيسة “التي تستخدمها مجموعة المماليك للوصول إلى السلطة هو السيطرة على الاقتصاد، و(تجويع) السوق أو الناس، فتحدث الاضطرابات وينضم الناس لهم ضد المجموعة الأخرى الحاكمة.

وكانت عمليات (التجويع) تتم بقسوة؛ لأن المماليك (مماليك) والأهالي (أهالي)، ولا يتحرك شعور المملوك قيد أنملة إذا تلوّى واحد من الأهالي جوعاً أمامه؛ فالمملوك هو (السلطة)، وهو السلطة الوافدة، وهو السلطة المختلفة (عرقاً)[21] عن سائر الناس، وظل هذا الفكر نفسه إلى عهد قريب، وربما إلى الآن؛ فالشخص حتى إذا لم يكن مملوكي الأصل بمجرد انتقاله إلى (مجموعة) السلطة نظر للناس على أنهم (أهالي) من فئة أخرى”[22].

وما حدث قبل 30/6 يطابق تماماً ما قاله الدكتور ع. ع. من تفشي المشاكل الاقتصادية، واختفاء بعض السلع والمواد التموينية، بالإضافة إلى أزمة الوقود الطاحنة، والتي أثارت وهيجت الكثير من الجماهير، وحركتها ضد جماعة الإخوان، مما أوجد ظهيراً شعبيّاً لقادة الانقلاب للتحرك والإطاحة بحكم الإخوان.

ولعل ذلك السبب يفسر حرص المؤسسة العسكرية في مصر على الاستحواذ على الكثير من شركات الأغذية والزراعة والثروات الحيوانية والسمكية والكثير من المنتجات الحيوية. فمن خلال ذلك تصبح هي المتحكمة في زمام الأمور، فمتى أرادات أنعشت السوق أو خنقته وتحكمت في الأسعار بالزيادة أو بالنقصان، بتوفير السلع أو إخفائها.

التراث المملوكي قاعدة أساسية أم ظواهر طارئة؟

يجدر بنا طرح سؤال هنا: هل التراث المملوكي في مصر يمثل قاعدة أساسية؟ أم هو مجرد ظواهر طارئة سرعان ما ستنتهي؟ وهل نحن الدولة الوحيدة التي تنفرد بتلك الظواهر السلبية؟

الحقيقة أن التراث المملوكي توغل في عمق المجتمع المصري حتى جذوره، وأصبحت ظواهره هي القاعدة الأساسية في المجتمع؛ فالرشوة في المصالح الحكومية هي الأساس، والإهانة في أقسام الشرطة والتعالي على المواطن هي القاعدة، والبيروقراطية القاتلة هي الحاكمة على العمل الحكومي، إلى غير ذلك من الظواهر السلبية.

بينما لو عقدنا مقارنة بسيطة بين مصر وبين بعض الدول التي نجت من تراث المماليك ستجد البون شاسعاً، على الرغم من اشتراك تلك الدولة معنا في مساوئ كثيرة.

فدول الخليج -على سبيل المثال- بحكم موقعها الجغرافي ونظامها القبلي وأوضاعها الاقتصادية قبيل اكتشاف البترول، ساهمت كثيراً في نجاة تلك الدول من تراث المماليك؛ لعدم خضوعها فعليّاً لحكمهم مثلما خضعت مصر والشام. وإن كانت قد سقطت في براثن التراث القبلي.

فما أصبح في مصر قاعدة يصبح في الخليج استثناء؛ فالجهاز الحكومي هناك يخضع للنظام والانضباط والالتزام، وجهاز الشرطة يعامل المواطن بشكل محترم وراق.

بالطبع توجد استثناءات وشواذ لتلك القاعدة، وهذا مرادنا كما أسلفنا: “ما أصبح في مصر قاعدة يصبح في الخليج استثناءً”.

وحين التعرض لتلك الظواهر والبحث عن حلول لها نصطدم كثيراً بواقع مرير تخللته تلك الظواهر وتعمقت بداخله وسيطرت عليه بشكل بشع، حتى أصبح الفكاك منها في نظر البعض شبه مستحيل.

بينما يرى البعض ومنهم طارق حجي أن الحل الوحيد يكمن في يد السلطة أو رأس المجتمع كما وصفها، فيقول: “ورغم تسليمي بأن (المحكومين) في هذا الوطن هو مصدر الظاهرة، إلا أن التغيير يبقى مستحيلاً ما لم يبدأ من قمة الهرم المجتمعي؛ إذ إن البدء من القاعدة مستحيل؛ لعمق الظاهرة ومدى اتساعها.

وأعني أن رأس المجتمع هو القادر على البدء في بث قيم أخرى مختلفة في هذا المجال، قيم تناسب حقيقة العلاقة بين الطرفين (كما آلت إليه مع التطور الإنساني)، وتناسب القيم التي استقرت في المجتمعات ذات الحظ الوافر من الديموقراطية”[23].

الفاعلية عند الشعب المصري

سبق وأن تناولنا السلبية عند المصريين، وأن (حزب الكنبة) يمثل الكتلة الحرجة في الثورات أو الانقلابات.

وهذه السلبية قد تكون باباً من أبواب المقاومة السلبية للنظام.

لكن السلبية ليست خطّاً متصلاً لا انقطاع فيه، بل ينقطع في أحايين، فيتغير ذلك المناخ السلبي ويحل مناخ إيجابي بشكل يذهل المراقب للأمور، وتظهر فاعلية مجتمعية لم يكن يتصورها أحد من قبل، ومن خلالها يمكن الحصول منهم على إنتاجية عالية وحراك مجتمعي هائل.

والمحرك نحو الفاعلية يتجلى في أمور: الدين، والشعور بالانتماء والمسؤولية تجاه قضية ما، ووجود حافز قوي سواء.

ونلاحظ اختفاء الفاعلية في الجهاز الإداري للدولة، حيت يتفشى الفساد بكل طرائقه وأشكاله، من محسوبية ورشوة وسرقة وغيرها، ويتجلى ذلك بوضوح كلما ضعفت الرقابة وتقاعست أجهزة الدولة عن القيام بواجباتها، فيجد غالبية الموظفين أنفسهم بلا رقيب أو حسيب.

ومع انعدام المسؤولية الفردية تصاب تلك المؤسسات بحالات شنيعة من الفساد الإداري، أو على أقل تقدير تصاب بحالة من التردي والتقاعس عن أداء الوظيفة بصورتها المطلوبة.

يقول الدكتور ع. ع.: “ثمة فارق جوهري بين الجهاز الإداري العثماني والجهاز الإداري في غرب أوروبا، رغم أنهما كانا من الناحية الشكلية متشابهين، ولندع واحداً من المهتمين بالأفكار الاجتماعية في التاريخ يحدثنا عن ذلك، يقول المراقب الهولندي ريكوت Raycot : إن توسع البيروقراطية العثمانية ونموها كان متوازياً مع بيروقراطية القوى الأوروبية مع وجود فارق واحد هام؛ فإن الإنسان إذا تأمل نسيج (تكوين) الحكومة العثمانية ككل فسيجدها مصنعاً للرقيق، وقد أدى اهتمام السلطة المركزية بالرق وجعله أساس النظام العثماني العسكري والإداري، وليس للرقيق أن يفكر في الأحوال العادية، وإنما عليه انتظار أوامر السلطان”[24].

من هنا نستطيع تفسير ظواهر كثيرة تعاني منها أجهزة الدولة، أهمها غياب الإبداع وتفشي الروتين بصورة قاتلة؛ فالموظف يتحول إلى مجرد أداة في يد مديره، ينفذ مشيئته فقط، ويتوقف مدى تنفيذه للأوامر والتعليمات على وجود الحافز أو الخوف من العقاب، أما إذا افتقدهما تصبح تلك الأوامر بلا فاعلية ولا قيمة، ويلقي بها في درج مكتبه بلا مبالاة.

والملاحظ والمتابع لتاريخ الحركات الإسلامية في مصر -خاصة الإخوان المسلمين- يجد أنهم استطاعوا حشد مئات الآلاف من صفوفهم، وانصياعهم التام لأوامر الجماعة بلا قيد أو شرط من خلال التأثير الديني، وشعور هؤلاء الأفراد بمسؤولية دينية تقع على كاهلهم.

وكان من المستغرب على الكثير قدرة الجماعة المذهلة على حشد عشرات الآلاف في بضع ساعات، وتحريكهم كيفما شاءت.

والتفسير الوحيد لذلك هو شعور هؤلاء الأفراد بمسؤولية وواجب تجاه قضية ما يؤمنون بها بشدة, ويعتقدونها واجباً دينيّاً.

والشعور الوطني الدافع إلى الفاعلية أقل من الدافع الديني، لكن الملاحظ للمشهد السياسي والمجتمعي بعد ثورة 25 يناير حتى انقلاب يونيو يجد حالة من الفاعلية انتابت قطاعاً عريضاً من الشعب المصري، أدت به إلى مشاركة سياسية فعالة حسمت جميع الاستحقاقات الانتخابية التي أجريت من بعد الثورة إلى قبيل الانقلاب لصالح التيار الإسلامي الذي كانت ترى فيه ممثلاً للثورة، أو في نظر البعض مناوئاً للنظام القديم.

فخلال تلك الفترة شهدت مصر حالة من الحريات ربما لم تشهدها من قبل، مما ولد لدى الكثيرين شعوراً بأنهم أصحاب قرار ورأي في وطنهم، وهو ما دفعهم إلى المشاركة بفاعلية.

لكن بعد انقلاب 30/6 تراجعت تلك الفاعلية الوطنية وحلت مكانها السلبية ثانية، وظل متصدراً المشهد الفعالية الدينية.

بيد أن تلك الفاعلية الدينية القائمة على مبدأ السمع والطاعة والامتثال للأوامر بعميانية شديدة، ساهمت في خلق ديكتاتوريات ودولة عميقة داخل تلك الجماعات الإسلامية، ما جعلها في النهاية لا تختلف كثيراً عن النظام في طريقة الإدارة القائمة على الانفراد بالرأي وعدم الاعتداد بالشورى.

وفي النهاية نال التيار الإسلامي نصيبه من تراث العبيد -على الرغم من مقاومته لذلك التراث طويلاً- وضرب صميم تلك الجماعات بقوة, وانشطرت إلى تكتلات وفرق مناوئة لبعضها البعض.

الحركة الإسلامية وتراث العبيد

ربما يجدر بنا إلقاء نظرة سريعة على كيفية تأخر انتشار التراث المملوكي داخل الحركات الإسلامية -مثال الإخوان- ثم تمكنه منها بعد ذلك وضربها في صميمها.

بداية نجح حسن البنا في تكوين الجماعة من فئات مختلفة من الشعب المصري لم تطغ فيه فئة على فئة، بل كانت الجماعة شبيهة لصورة مصغرة من تكوين الشعب (عمال – فلاحين – مؤهلات عليا – قضاة – عسكر)، ولم يجنح البنا إلى الصدام مع الدولة المصرية بشكل فج (الصدام أسلوب مملوكي)، بل ظل مسايراً لها رافضاً الصدام معها.

وربما يجدر بنا طرح تساؤل تاريخي هام: لماذا طلب حسن البنا من الإخوان المتطوعين في حرب 48 الامتثال لقرار حل الجماعة وعودتهم من فلسطين إلى المعتقلات مباشرة؟ ألم يكن الأجدر به تركهم في فلسطين لاستكمال ما بدأوه؟

التفسير الوحيد لذلك -من وجهة نظرنا- أن البنا كان يرى عدم الصدام مع الدولة نهائيّاً، وربما يفسر ذلك -أيضاً- غضبته بعد مقتل النقراشي وتصريحه الشهير عن قتلته “ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين”.

أول صدام كان مع عبد الناصر

تعتبر علاقة جمال عبد الناصر بالإخوان من العلاقات الغامضة للغاية، والتي لم يُكشف عن أسرارها بشكل كاف، لكن المؤكد أنه كان بينهما تحالف ما بشكل أو بآخر أثمر في نهايته عن انقلاب 1952.

وهنا بدأ الصراع المملوكي بين الطرفين للاستحواذ على السلطة، ولسنا هنا بغرض إيضاح أسبابه؛ لكن في النهاية كانت الغلبة للماليك القدامى (العسكر), الأكثر قوة وشكيمة وحنكة.

طوال تلك الفترة من صراع الإخوان مع عبد الناصر ظلت الجماعة داخليّاً بنائيّاً وفكريّاً متماسكة بشكل مذهل, ونجحت في تجاوز أزمتها بعد وفاة عبد الناصر وقيام السادات بالإفراج عن معظم كوادرها ومنتسبيها.

وكان التكوين الثاني للجماعة بعد محنة عبد الناصر مؤثراً بشكل كبير في تغيير بنيتها القيادية والفكرية، فتصدر القيادة فيها فئات محددة (أطباء – مهندسون – رجال أعمال) بينما اختفى بشكل كبير وجود أي تمثيل قيادي في الجماعة لباقي فئات الشعب (مفكرون – عمال – فلاحين). وهنا نتحدث عن القيادة الفعلية المتحكمة في قرارات الجماعة والممسكة بخيوطها، وليس القيادة الشكلية في البرلمان أو بعض المتصدرين في الإعلام.

أحدثت التغيرات الجديدة في الجماعة حالة من التغيير البنيوي والفكري، فمن أجل سيطرة القادة الجدد على مقاليد الجماعة تم اختيار الكوادر الداخلية للمناصب الهامة بناءً على قاعدة الولاء لا قاعدة الخبرة والكفاءة. ما أحدث تكتلات داخلية وصراعات طويلة لم تتكشف للكثيرين إلا مؤخراً، ورأينا كيف تمت الإطاحة بالبعض خارج الجماعة، وكيف تم إبعاد البعض عن تولي مناصب قيادية.

أضف إلى ذلك الانقسام الضخم الذي شق الجماعة نصفين مؤخراً وشتت قواعدها فكراً وانتماءً. ورأينا خلاله تجلياً صريحاً لتراث المماليك من خلال التكتلات والتشرذمات والصراع الدائر من أجل السيطرة على مقاليد الجماعة.

أخيراً

لسنا في بحثنا هذا بغرض النقد والتجريح في الشعب المصري، فنحن منه، ورفعته رفعة لنا، وتقزيمه تقزيم لنا، بل هدفنا البحث عن مكامن الداء والفساد لمعرفة الدواء الناجع لتلك الظواهر السلبية التي ضربت صميم الشعب المصري ونالت من شخصيته وشوّهتها.

إن العرب ليؤمّلون الكثير على المصريين على اختلاف توجهاتهم وأفكارهم؛ فالإسلاميون وغيرهم يرونها قبلتهم الفكرية، وعيونهم متعلقة بهم، ويرون أن التغيير يأتي من ناحيتهم، ويعتبرون مصر هي القاطرة لهم، فإذا نهضت مصر نهضوا معها، وإذا انبطحت انبطحوا معها. فإذا كانت القاطرة معطلة فالقطار سيكون ساكناً لا حراك فيه. ولعلنا نكون قد وضعنا أيدينا على مكامن الضعف والقوة؛ فنحاول التغلب على نقاط الضعف، والاستفادة القصوى من نقاط القوة.


الهامش

[1] د. سامية خضر صالح: الشخصية المصرية تحديات الحاضر وآفاق المستقبل المنظور، كتب عربية، ص(47).

[2] الشخصية المصرية، موقع واحة النفس المطمئنة.

[3] الشخصية المصرية، ص(47-48) باختصار.

[4] الشخصية المصرية، موقع واحة النفس المطمئنة.

[5] أخرجه أحمد في “مسند أبي هريرة رضي الله عنه”، ح(7912)، وقد حسّن إسناده شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”.

[6] الشخصية المصرية، موقع واحة النفس المطمئنة.

[7] د.ع.ع: تراث العبيد في حكم مصر المعاصرة دراسة في علم الاجتماع التاريخي، المكتب العربي للمعارف، مصر، 1995م، ص(8).

[8] السابق، نفس الصفحة.

[9] السابق، ص(31).

[10] السابق، ص(61) باختصار.

[11] السابق، ص(61-62).

[12] السابق، ص(62).

[13] السابق، ص(14).

[14] كذا.

[15] السابق، ص(15-16).

[16] السابق، ص(65-66) باختصار.

[17] جزء من حديث أخرجه البخاري في “الجهاد”، باب: “مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ”، ح(2989) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.

[18] تراث العبيد، ص(16-17).

[19] السابق، ص(104).

[20] السابق، ص(69).

[21] ومختلفة طبقيّاً واجتماعيّاً بعد ذلك بفعل السلطة.

[22] السابق، ص(88).

[23] نقد العقل العربي، ص(159).

[24] تراث العبيد، ص(59).

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close