على وقع الأزمة: حدود التعاون الصيني مع روسيا وأوكرانيا
يتسم ميزان العلاقات الصينية الروسية بطابع التصادم الإستراتيجي والتقارب في آنٍ واحد، حيث مرت بمحطات متذبذبة منذ القرن الثامن عشر الميلادي؛ نتيجة لحروب متعددة اتسمت فيها مراحل الحقبات الماضية من تاريخ العلاقة بين الصين وروسيا، فلم تدخل العلاقة في تحالفِ إستراتيجيِ أو عسكريِ حقيقيِ؛ بحكم قربهما الجغرافي وتصادم مصالحهما وأهدافهما الإستراتيجية لاسيما في المنطقة الأوراسية.
وفي الفترة الحالية تُظهر المؤشرات العامة أن التقارب والتعاون الروسي الصيني الاقتصادي والعسكري والسياسي، يتسم باستقرارها إلى حدِ ما؛ بسبب ارتباطه بطبيعة المخاوف الناتجة عن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، تجاه ما يُعرف بفرض الهيمنة على النظام الدولي، والتي تتشارك البلدين بضرورة وجود عالم متعدد الأقطاب. ورغم ذلك يبقى عامل القلق والحذر موجود أيضاً، والذي سنقف على تفاصيله في هذا المقال.
التعاون الصيني مع روسيا:
في إطار التداخل العام في المشهد وطبيعة التهديدات والمخاطر بالنسبة للصين (تحديداً ما يتعلق بالرؤية الأمريكية والأوروبية) لنموها وازدهارها واتساع مساحات نفوذها، ترى أن استقرار علاقاتها مع روسيا أمر مهم ويخدم تطلعاتها تحديداً في هذه الفترة، والحرب يمكن أن تشكل فرصة في زيادة التعاون الروسي معها، الأمر الذي سيزيد من تشابك احتياجها الأخيرة لها. وحالياً يكمن التعاون في الآتي:
- الهدف المشترك بين البلدين في النظام الدولي بتحوله إلى نظام متعدد الأقطاب يرفض الهيمنة الأمريكية، والنظام الأحادي القطبية.
- في مجال التعاون الاقتصادي: وقّعت البلدان على اتفاق تعاون مشترك “الشراكة الإستراتيجية” هو عقد حزمة من الصفقات يتجاوز عددها 15 اتفاقية، وتم تطوير الاتفاق تحديداً في مجال الطاقة، إلى 38 مليار متر مكعب بعد تطور الميزان التجاري في عام 2018، والذي بلغ نحو 400 مليار دولار. حيث بلغ ميزان التعاون التجاري بين البلدين نحو 130 مليار خلال عام 2019، وصرح وزير الخارجية الصيني بأن بلاده تسعى لتنميته إلى 200 مليار دولار.
- – في مجال التعاون العسكري بين البلدين: تعتمد الصين على روسيا في تطوير وتنمية الدفاعات الصاروخية وتنمية القطاع البحري والغواصات، وتكنولوجيا الأسلحة التي استفادت منها الصين في تطوير طائراتها ومطاراتها، وبحريتها، وقدراتها الحربية والعسكرية، ودفاعها الجوي. في المقابل: تعمل الصين على تزويد روسيا بالخدمات الإلكترونية، وتطوير الأدوات الصناعية والآلات، في مقابل ما تستورده من غذاء وطاقة.
علاقة الصين بأوكرانيا:
- يغلب على العلاقة تعاون متبادل مشترك، حيث تعد الصين ثاني أكثر بلد مستورد للقمح والشعير من أوكرانيا، كذلك تستورد ما نسبته 30% من الذرة. بالإضافة أن الصين باتت أكبر شريك تجاري منفرد لأوكرانيا في عام 2019.
- تمر خطة الحزام والطريق الصينية عبر أوكرانيا الذي يوصلها بأوروبا عبر خط السكة الحديد، وهذا الخط الفاعل في أوروبا الشرقية يخلق حالة تعاون لا ترجوها أمريكيا، فالأخيرة تستفيد من الحرب بخلق أزمة لهذا الخط الواصل من الصين إلى أوروبا خاصة بعد زيادة التعاون الصيني مع بعض دول أوروبا الشرقية في بداية أزمة كورونا، وإمدادها بالمعدات اللازمة للسلامة في ظل تخلي أوروبا وأمريكا.
مسرح العمليات وتداخل المصالح:
يتشكل مسرح العمليات في أوكرانيا، بتقاطعات مختلفة بين كل من الصين وروسيا وأوروبا وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، في طبيعة الأهداف والمخاوف من هذه الحرب، الأمر الذي يجعل الصين تتعامل مع الملف بعناية فائقة نظراً لتلك التداخلات، لذلك فإن الأزمة في أوكرانيا لها أضرار كبيرة ستنجم عنها، كما أنها ستحقق فوائد كثيرة ومتعددة لدول مختلفة، على الرغم من وجود حالة عدم يقين إلى أين ستتجه الأزمة، على الرغم من استقرار حدود التدخل الروسي هناك.
وعليه فإن دور الصين في الأزمة كالآتي:
1ـ تقف الصين على الحياد بعد الدخول الروسي الفعلي إلى أوكرانيا، كونها دولة عضو في مجلس الأمن وتلتزم في البند السابع الذي يدعو إلى احترام سيادة الدول وأراضيها. على الرغم من دعمها المستمر لها منذ بداية الأزمة من خلال مواقفها السياسية والتصريحات المتعددة التي صدرت عن صناع قرار صينيين، هاجمت واتهمت فيها أمريكا بأنها السبب الرئيسي وراء الحرب نتيجة رؤيتها في توسيع الناتو.
2ـ يشكل الغزو الروسي حالة عدم استقرار في مجال التجاري بين البلدين حيث تؤثر بشكل مباشر على استقرار خطة الحزام والطريق، وتعمل على زعزعة أمنها في بحر الصين الجنوبي.
3ـ ربما الحرب تذهب إلى تحقيق مصالح أبعد بالنسبة لروسيا، من مجرد منع توسع الناتو شرقًا؛ وإنّما الحد من التوسع الصيني غربًا بهدف منع الصين من بسط نفوذها السياسي، والاقتصادي، والعسكري داخل المجال الحيوي لروسيا.
4ـ تعتقد الصين أنّ العقوبات الأمريكية على روسيا، ستدفعها إلى تعزيز علاقتها معها، وهو ما يزيد من فرص الصين في تطوير سياساته الاقتصادية، وزيادة سلطته ونفوذه في عمليات التعاون والتفاوض مع روسيا.
5ـ أدى إخراج روسيا من نظام “سويفت” الأمريكي العالمي إلى ارتفاع أسهم النظام المالي الصيني البديل اليوم، بعد إعلان البنوك الروسية الانضمام إليه. كما ستشجع دولاً أخرى على الخروج من نظام سويفت، وانضمام بعض الدول إلى النظام المالي الصيني الجديد، بسبب تفضيل التعامل بالعملات المحلية بدلًا من الدولار.
6ـ إن الميزة التي تتمتع بها السفن الروسية المسجلة في البحر الأسود، بالعبور عبر المضايق وفقاً لبنود اتفاقية مونترو لعام 1936، ربما تجعل الصين تزيد من تعاونها مع روسيا، خاصة بعد إعلان وزير الخارجية التركية، عدم قدرة بلاده على منع السفن الحربية الروسية من عبور المضايق في طريق عودتها إلى البحر الأسود.
خلاصة:
إن التعاون الروسي-الصيني في المجالات المختلفة تحكمه ضوابط ومصالح لقطبين متجاورين، تحكمهما تقاطع مساحات النفوذ، الأمر الذي يعزز احتمالية الاستفادة الأمريكية من خلق مساحات نزاع في الفترة المقبلة في ملفات مختلفة مع حلفاء روسيا لاسيما الصين وإيران، لكن ليس من مصلحة الصين في استفادتها الحالية من الحرب في أوكرانيا أن تدخل في تنافس مع روسيا التي تحاول اللعب أيضاً في الحد من نفوذ الصين، التي تعتبر أنه يصب في الاستفادة المباشرة للصين من وراء هذه الحرب.
وبالتالي فإن تحييد القوة الروسية ورسم حدود سيطرتها في ظل الأزمة الأوكرانية أحد أهم التوجهات الأمريكية للاستفراد بالصين، وهو ما سيزيد المخاطرة بالنسبة لها، وهنا ستتضح فجوة في المستقبل بالنسبة للأطراف لاسيما أمريكا، يمكن تشَكُّل بوضوح للمرحلة الضبابية التي تسيطر على المشهد وطبيعة حسم الصراع في المنطقة الأوراسية، وكيف يمكن تحريك المياه الراكدة في تلك المنطقة؟ لذلك تُبدي الأطراف غير روسيا التزامات بضبط النفس، التي تضعف تحديد النوايا في التحرك العام لكن النتائج مرتبطة بطبيعة التحرك الأمريكي ومدى قدراته التي باتت مكشوفة إلى حدِ ما في مجال حسم القضايا.
الأمر الذي يمكن أن يحقق نتائج عكسية للتنين الصيني لاسيما في مجال زيادة الترابط مع روسيا في بناء نظام اقتصادي جديد، لصين قوي قادر على التشكل في الأزمات وقدراته الخارقة للتنمية التي تدرك أمريكا من الصعوبة بمكان ضرب مقوماته من أن يتحول الهدف لوقف انتشاره وتمدده.