fbpx
دراسات

عملية التحول الديمقراطي: النظريات والاتجاهات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نالت مسألة التحول الديمقراطي اهتمام العديد من المفكرين وحظيت باهتمام متزايد في الأدبيات ليست السياسية أو القانونية والدستورية فقط؛ بل انشغل باحثون في علم الاجتماع والتاريخ في دراسة هذه الظاهرة وتحليلها ومحاولة الكشف عن الاتجاهات الفكرية المؤثرة فيها، وقد نتج عن ذلك ظهور نظريات تحلل عملية التحول الديمقراطي وتفسرها، وما يميز هذه النظريات أنه تم الوصول إليها من واقع تجارب واقعية حدثت بالفعل في العالم.

وقد تناول عملية التحول الديمقراطي بالتنظير والتأصيل العديد من المفكرين والباحثين السياسيين منهم على سبيل المثال جبرائيل آلموند، فيربا سيدني، ألكس إنكليس وديفيد سميث، التي تشير كتاباتهم إلى أهمية الثقافة السياسية ومجموعة من القيم كالاعتدال والتسامح والمشاركة في التحول الديمقراطي، بينما يؤكد آخرون مثل سايمور مارتن ليبسيت ورونالد انجلهارت وصامويل هانتنجتون على أهمية مستوى الرخاء الاقتصادي للتحول الديمقراطي، وفي الوقت يرى روبرت داهل، دانكورت رستو ومعهم أرند ليبهارت ضرورة وجود نخبة سياسية مناضلة من أجل الديمقراطية.

وأمام هذا التنوع الفكري فقد تم تقديم أطر تحليلية أو مقاربات نظرية لا تشكل جسماً معرفياً متماسكاً، إذ تتجاذبه مدارس فكرية مختلفة، وفي هذا السياق يرى آدم بريزفورسكي أن الدراسات عن التحول الديمقراطي يمكن إدراجها في صنفين، دراسات تركز على الشروط الموضوعية لتحول النظام، وأخرى تدور حول الاستراتيجيات والخيارات السياسية.

وفي مراجعة لأدبيات التحول الديمقراطي يميز سوجيان جيو بين أربع مقاربات نظرية، الأولى ذات التوجه البنيوي التي تركز على الشروط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للديمقراطية، الثانية المقاربات العملية التي تركز على الخيارات الاستراتيجية للنخب كعامل محدد لنجاح أو فشل التحول الديمقراطي، الثالثة المقاربات المؤسسية التي تؤكد على تأثير المؤسسات في تشكيل السياسات وأنماط الإجراءات السياسية ودورها في بلورة أهداف الفاعلين السياسيين، ويؤكد أصحاب هذه المقاربة على الدور الحاسم للمجتمع المدني، المقاربة الرابعة والأخيرة فهي مقاربة الاقتصاد السياسي التي تؤكد على التداخل بين السياسة والاقتصاد والإصلاحات في المجالين كمتغير لتفسير الانتقال ونتائجه، حيث تفترض هذه المقاربة أن الأزمة الاقتصادية يمكن أن تدفع إلى تغيير النظام، وفي نفس الوقت النجاح في تعديل وضع الاقتصاد وتحسين أدائه يزيد من فرص ترسيخ الديمقراطية.

وبناءً على ما سبق فإننا نعتمد في هذا الصدد على التصنيف الشائع، حيث نميز بين ثلاث نظريات ومداخل لتفسير الانتقال الديمقراطي وتحديد شروطه وعوامله، وهي:

  • نظرية المدخل التحديثي: التي تربط بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو مستوى التحديث والانتقال الديمقراطي.
  • نظرية المدخل البنيوي: التي تؤكد على التغيير في بنى القوة والسلطة داخل المجتمع التي توجد القيود والفرص المؤثرة على اختيارات النخبة كعامل محدد لعملية التحول الديمقراطي.
  • نظرية المدخل الانتقالي: التي تركز على العمليات السياسية ومبادرات واختيارات النخبة أو الفاعلين السياسيين في تفسير الانتقال إلى الديمقراطية.

المبحث الأول: المدخل التحديثي Modernization Approach

بداية نشير إلى أن المقصود بالتحديث هو: “عملية تستهدف زيادة فاعلية سيطرة المجتمع على موارده وقدراته وإمكانياته، وضبط ظروف المجتمع وتوجيهها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً” أما في مجال السياسة فالتحديث هدفه “تنمية قدرات المؤسسات الحكومية لزيادة فاعليتها ورفع مستوى أدائها حتى تتمكن من انجاز الواجبات الملقاة على عاتقها”[1].

هذا المدخل عبارة عن اتجاه يربط بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية نظراً لأن أغنى بلدان العالم هي بلدان ديمقراطية، وذلك راجع لأنها ربطت بين عمليتي تحقيق الديمقراطية والتنمية مما يسهم في ترسيخهما معاً بصورة دائمة.

ويعتبر “آدم سميث” أول من عبّر عن هذا الاتجاه من خلال دعوته لليبرالية السياسية باعتبارها شرطاً ضرورياً للأداء الفعّال للسوق الذي يعتبره محرك النمو الاقتصادي، إلَّا أن المعالجة العلمية الأكثر دقة وانتظاماً فيما يتعلق بالارتباط بين الديمقراطية والتنمية تبرز من خلال افتراضات وأطروحات عالم الاجتماع السياسي الأمريكي “ليبست” والذي قدم أطروحته لأول مرة في عام 1959 في مقالة أسماها “بعض الاشتراطات الاجتماعية للديمقراطية – التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية”، وفي عام 1960 نشر كتابه “الرجل السياسي” الذي يعتبر أهم وأشهر كتاب حول هذه الأطروحة[2].

ووفقاً لأطروحة “ليبست” ترتبط الديمقراطية بمستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولإبراز هذه العلاقة قام بتصنيف البلدان الأوربية والبلدان الناطقة بالإنجليزية في أمريكا الشمالية وأستراليا إلى ديمقراطيات مستقرة وديمقراطيات غير مستقرة ودكتاتوريات، وصنف بلدان أمريكا اللاتينية إلى ديمقراطيات ودكتاتوريات غير مستقرة ودكتاتوريات غير مستقرة، ثم قام بمقارنة هذه البلدان وفقاً لثروتها ودرجة التصنيع والحضرية ومستوى التعليم باعتبارها مؤشرات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتبين من المقارنة أن البلدان الأكثر ديمقراطية في كلا المجموعتين كانت تتمتع أيضاً بمستويات تنمية اجتماعية واقتصادية أعلى من البلدان الدكتاتورية.

واستناداً على ذلك افترض “ليبست” وجود تطابق بين التنمية الاقتصادية وبين النظام الديمقراطي، وكان هذا التطابق نتاجاً لعدة متغيرات اجتماعية، وبناءً على ذلك فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بازدياد التعليم والاتجاه نحو مزيد من المشاركة، كما إنها تخفف من حدة التفاعلات السياسية وتعمل على إيجاد مصالح متقاطعة وانتماءات متعددة تعمل على تسهيل بناء المجتمع الديمقراطي والاستقرار السياسي[3]، فالعلاقة طردية بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية.

ويركز المدخل التحديثي على أهمية نشوء ولاء وطني يتوافق مع نمو لثقافة القبول بالمؤسسات السياسية القائمة والتسليم بشرعيتها في اتخاذ القرارات الحاسمة، وتحاول تحليل عوامل نمو هوية وطنية مشتركة في ظل دولة مؤسسات تؤكد على أولوية الولاء للأمة، ومن ثمَّ فإن التحديث السياسي يهدف إلى[4]:

  • تدعيم سلطة الدولة المركزية من ناحية وإضعاف نفوذ مصادر السلطات التقليدية القبلية والأسرية وسلطة رجال الدين وقوتها من جهة ثانية.
  • دعم صلاحيات التخصصية في المؤسسات السياسية لسهولة تحديد المهام والأدوار والوظائف بوضوح.
  • زيادة نطاق المشاركة الشعبية في العملية السياسية في إطار التنسيق والتفاهم والاتصال بين المواطنين والنظام السياسي ككل.

إجمالاً تستخدم هذه المدرسة مؤشرات محددة تساعد في ميلاد الديمقراطية وتعزيزها، حيث تشمل تلك المؤشرات زيادة في وتيرة النمو الاقتصادي تؤدي إلى ارتفاع في دخل الفرد يقضي إلى توسيع قاعدة الطبقة الاجتماعية الوسطى وانخفاض في نسبة الأمية بسبب انتشار التعليم.

إلا أن التجارب السياسية العملية أثبتت إخفاق مدخل التحديث في تفسير التحول الديمقراطي في بعض الدول حيث يشيرون إلى عدم إمكانية تطبيق تلك المؤشرات، فمثلاً نجد أن تركيا انتقلت إلى الديمقراطية قبل أن تستكمل كل مستلزمات التحديث، في حين أن الديمقراطية لم تتحقق في المملكة العربية السعودية رغم توفر معظم المؤشرات السابقة[5].

لذلك نجد أحد أهم رواد هذه النظرية “ليبست” يدخل عليها عناصر أخرى غير الحداثة لتفسير التحول الديمقراطي مثل[6]:

  • حدة القمع لدى النظام القائم ونوع رد الفعل المجتمعي عليه.
  • نوع الاحتلال الذي كان سائداً في الدول النامية، وهذا لتفسير صعوبة أو سهولة التحول، على سبيل المثال يرى “ليبست” أن إمكانية نشوء ديمقراطيات في الدول التي احتلت من بريطانيا أعلى من تلك الدول التي كانت محتلة من فرنسا، إلَّا أن هذا لا يفسر نجاح النموذج البريطاني في الهند في حين أنه فشل في كثير من الدول الإفريقية التي كانت محتلة من بريطانيا.

وأياً كان الأمر فإن العناصر التي تضمنتها نظرية الحداثة مثل النمو والطبقة الوسطى ودرجة الرفاهية ومستوي التعليم باتت تفسر درجة استقرار أو عدم استقرار ديمقراطيات قائمة في الحاضر أكثر مما تفسر نشوء ديمقراطيات أخرى.

المبحث الثاني: المدخل البنيوي The Structural Approach

تستند هذه المدرسة في تفسير الانتقال الديمقراطي إلى التغيير التاريخي طويل المدى في بنى القوة والسلطة في المجتمع بافتراض أن التفاعلات المتغيرة لهذه البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تنشئ قيوداً وفرصاً تدفع النخب السياسية وغيرها من الفئات في بعض الحالات في مسار تاريخي يقود إلى الديمقراطية، بينما يكون المسار مخالفاً في حالات أخرى.

ويعتبر كتاب “الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية” للباحث “بارنجتون مور Barrington Moore” الصادر سنة 1966 بمثابة التأصيل الكلاسيكي لهذه المدرسة، حيث حاول من خلاله تفسير اختلاف المسارات السياسية بين عدة دول، فمسار “الديمقراطية الليبرالية الذي سلكته فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، ومسار “الفاشية” والذي سلكته اليابان وألمانيا، ومسار “الثورة الشيوعية” وهو المسار الذي سلكته روسيا والصين، واعتمد “مور” على عقد مقارنات تاريخية بين هذه البلدان على أساس التفاعل بين أربع بنى متغيرة للقوة والسلطة، ثلاث منها طبقات اجتماعية (الفلاحون – ملاك الأرض أو الارستقراطية – البرجوازية الحضرية)، أما البنية الرابعة فتتمثل في الدولة، وكيفية تبدل هذه العلاقة استجابة لديناميكية التطور الاقتصادي الحديث في المجتمع.

حيث تركز هذه المدرسة على التشكيلات الطبقية والبنى الاجتماعية والتطور التاريخي في إطار علاقات القوى العالمية وتوازناتها، كما تحلل على نحو خاص العلاقات الداخلية المتبدلة بين البنى الاجتماعية وسلطة الدولة وبروز علاقات الإنتاج الرأسمالية، وهكذا يسعى كل الفاعلين الاجتماعيين وفقاً لمصالحهم الاقتصادية واستجابة لمحددات بنيوية إلى رسم استراتيجيات تتيح اكتساب السلطة السياسية[7].

وتوصل “مور” إلى نتيجة مفادها أن مسار الديمقراطية الليبرالية كان بصفة عامة نتاجاً لنمط مشترك من العلاقات المتغيرة بين الفلاحين وملاك الأرض والبرجوازية الحضرية والدولة، ومن ثمَّ وضع “مور” اشتراطات عامة لتنمية الديمقراطية تتمثل في تطور حالة التوازن للحيلولة دون وجود دولة قوية أكثر من اللازم ودون نمو طبقة ارستقراطية مالكة للأرض ذات استقلالية أكثر من اللازم، في حين على العكس من ذلك ظهرت الفاشية ضمن أوضاع البرجوازية الحضرية كانت ضعيفة نسبياً واعتمدت على الطبقات الأرستقراطية المهيمنة على الدولة لتمويل الزراعة التجارية، ومن ثمَّ ظهرت الثورة الشيوعية ضمن أوضاع اتسمت بضعف البرجوازية الحضرية وخضوعها لهيمنة الدولة، وكان الارتباط بين ملاك الأرض والفلاحين ضعيفة وفشل الملاك في تحويل الزراعة إلى زراعة تجارية.

وبذلك تتضح مؤشرات للتحول الديمقراطي بتزامن مع توازن القوى كمحصلة للصراعات الاجتماعية وانسجاماً مع صعود الطبقة الوسطى التي تفرض سيطرتها وعقيدتها السياسية.

وهذا ما أكد عليه “بوتر otter ” في كتابه “الدمقرطة Democratization” الصادر سنة 1997 بأن بنية وشكل قوة وسلطة الدولة عامل جوهري في قيام الديمقراطية، ففرص ذلك تزداد حينما لا تكون الدولة قوية جداً أو ضعيفة جداً في مواجهة القوى الطبقية في المجتمع، ويرى أن التنمية الرأسمالية أدت تدريجياً إلى تعزيز دور المجتمع المدني والأحزاب السياسية كقوة موازنة لقوة الدولة.

وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها أنصار المدرسة البنيوية إلى مدرسة الحداثة إلَّا أنهم يتفقون معهم في المؤشر المتعلق بجود الطبقة الوسطى وأهميتها في التحول الديمقراطي.

المبحث الثالث: المدخل الانتقالي The Transition Approach

تمثل هذه المدرسة حيزاً واسعاً في أدبيات العلوم السياسية، وهي تركز على النخب السياسية ونشوء فئات متشددة في قلب هذه النخب مقابل فئات أخرى معتدلة، وكيفية إدارة الصراع سلمياً التي تضطلع به فئة في حلبة الفضاء السياسي، فإذا قررت الحركة الديمقراطية المعارضة التعاون مثلاً مع المعتدلين فإنها تكسب موطئ قدم داخل السلطة. كما تؤكد هذه المدرسة على دور النخب السياسية في اتخاذ القرارات على الخيارات المتاحة مشددة على أهمية الثقافة السياسية والتغيير السلمي وضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، لأنه قد يتعذر الانتقال الديمقراطي بفضل معارضة قوى اجتماعية أو بفعل تعطيل قوى في الدولة له.

ففي المثال الأول قد تصل قوى ديمقراطية فعلاً إلى الحكم ولكنها لا تنجح في طرح نموذج ديمقراطي يلائم ظروف بلد مركب البنية الطائفة والقومية، وفي هذا البلد تنتظم حركات انفصالية تستغل فرصة الديمقراطية في تعزيز نزعة الانفصال وعدم الاستقرار، وخير مثال على ذلك العراق.

وفي المثال الثاني قد يبدأ التحول ولكن لا يتم تحقيق تقدم في خلق إجماع بين النخب السياسية أو العسكرية على قبول قواعد اللعبة الديمقراطية، وخير مثال على ذلك مصر والذي وقع فيها ارتداد عن عملية التحول الديمقراطي في يوليو 2013.

وقد وضعت المعالم الأساسية لهذه المدرسة من قبل الباحث السياسي الأمريكي “دانكورت روستو” في مقالته “الانتقال إلى الديمقراطية” سنة 1970 والتي حاول من خلالها تقديم رؤية بديلة لطرح “ليبست” وغيره من علماء السياسة والاجتماع والذين تعاملوا مع الديمقراطية على أنها – كما يقولون -موجودة أصلاً، وذلك بسبب تركيزهم على الدول الغربية مما جعلهم ينشغلون بشروط حسن اشتغالها وتعزيزها أو ترسيخها مؤكدين على العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والإجرائية عوضاً عن الاهتمام بكيفية قيامها أو وجودها.

حيث يرى “روستو” أن دراسة التحول الديمقراطي ينبغي أن تتمحور حول آلياته بدلاً من الشروط التي تمهد الطريق لنشوء الديمقراطية وتؤمن فعاليتها، حيث يعتمد في دراسته على منهج تاريخي مقارن، فيرى أنه بالإمكان اعتماد حالتين أو ثلاث للتوصل إلى نموذج مثالي للانتقال الديمقراطي قابل للتعميم، وقد وقع اختياره على السويد وتركيا، وقد حدد – روستو – مساراً للتحول الديمقراطي يشمل أربع مراحل:

المرحلة الأولي: هي مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية National Unity”” بنشوء اتفاق على هوية سياسية مشتركة لدى غالبية المواطنين، والإجماع على الحدود السياسية للبلد، فالديمقراطية تتطلب حدودا ثابتة ومواطنة مستمرة، وهو ما يمثل بالنسبة له الشرط الأساسي.

المرحلة الثانية: هي مرحلة إعدادية ” Preparatory Phase ” تعرف صراعاً سياسياً طويلاً غير حاسم، ينشأ في الغالب كنتيجة لبروز نخبة جديدة تطالب بدور وموقع مؤثر في المجال السياسي في مواجهة النخب التقليدية المسيطرة التي تحاول المحافظة على الوضع القائم، مع أن معالم الصراع تختلف من حيث التركيبة الاجتماعية للقوى المتصارعة وطبيعة القضايا المثارة من بلد لآخر، بل في نفس البلد من وقت لآخر، وهذه المرحلة تتسم بالحساسية فقد يستمر النزاع إلى أن تخور قوى الأطراف دون إيجاد حل ديمقراطي مما يؤثر على نسيج الوحدة الوطنية، أو أن يحظى طرف ما بانتصار كاسح ويقطع الطريق إلى الديمقراطية، أما أفضل الاحتمالات فهو حدوث توازن اجتماعي جديد.

المرحلة الثالثة: مرحلة القرار ” Decision Phase ” حيث تقرر الأطراف في ظل عدم رجحان ميزان القوى لأي منها التوصل إلى تسويات وتبنى قواعد الديمقراطية كحل يضمن للجميع حضوراً في النظام السياسي، بعبارة أخرى قبول الاختلاف في إطار الوحدة.

المرحلة الرابعة: مرحلة التعود ” Habituation Phase ” حيث إن قرار تبني القواعد الديمقراطية قد يكون ناتجاً عن ضغوط قسرية على الأطراف لا عن قناعة بالديمقراطية كأفضل الحلول، لكن عامل الوقت كفيل بجعل الجهات المختلفة تتعود على هذه القواعد وتؤمن بها وترسخها، خصوصاً مع تواتر أجيال جديدة من النخب السياسية.

وقد أدخل كلاً ” أودينل شميتر ” و ” وايتهيد ” سنة 1986 تطويراً على مقارنة ” روستو “، حيث قامت فكرتهم على توصيف دقيق وتحليل لتجارب معاصرة في أمريكا اللاتينية وجنوب أوروبا معتمدة على توازن غير محدود من العوامل السياسية التي يجب أخذها في الاعتبار من خلال توظيف نظريات القرار العقلاني والخيار العقلاني ونظرية اللعبة وغيرها من أجل فهم وتوقع قرارات الفاعلين السياسيين وبخاصة من أوساط النخب المشاركة، وهنا لا تحسب ردود فعل المعارضة فقط بل فعلها بعد أن حسبت ردود فعل الأخرين الممكنة على ردود فعل السلطة على المعارضة، وتوقع المعارضة لما سوف تفعله السلطة في مرحلة أزمة الانتقال، وتوقع السلطة الحاكمة لتوقع المعارضة لرد فعلها هي كذلك، وهكذا.

أما “يوسي شين” و”جان لينز” وهما من أنصار المدرسة الانتقالية فقد ركزا على المرحلة الانتقالية أي عندما يبادر النظام التسلطي بإطلاق بعض الحريات السياسية والانفتاح، إلَّا أن هذه الخطوة لا تقود تلقائياً إلى الديمقراطية لأن الانفراج النسبي في حقل الحريات العامة قد يتم إجهاضه بعودة القمع مرة أخرى، وهنا تبدأ المواجهة بين النظام وقوى المعارضة، ولأن كلاً من الطرفين – النظام والمعارضة – يوجد في صفوفهم متشددون ومعتدلون فإن المواجهة بينهما تتوقف على العلاقة بين نوعية تلك الفئات، فقد يقع تحالف بين المعتدلين من كلا الجانبين وهنا يكون التحول الديمقراطي أكثر سهولة، أما إذا قام تحالف بين المتشددين من الطرفين فإن التحول الديمقراطي في هذه الحالة يكون أكثر صعوبة.

وختاماً فإن لكل مدرسة رأيها المعتبر واستدلالاتها الفكرية إلّا أن الباحث النظري أو السياسي الممارس لا ينبغي عليه الانسياق وراء ترجيح أي من المدارس السابقة في المجال العملي لعلمية التحول الديمقراطي، فبدلاً من استبعاد طرح وترجيح آخر إنما يجب عليه الاستفادة من كل الأطروحات السابقة والعمل على بناء توليفة خاصة منهم بمختلف المتغيرات والعوامل وتصنيفها وترتيبها بما يتناسب مع تعقد وتشابك عملية الانتقال الديمقراطي. [8].


الهامش

[1]– ثناء فؤاد عبد الله – آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – الطبعة الثانية سنة 2004 – صفحة 205: 209

[2]– Seymour Martin Lipest, Political Man The Social Bases Of Politics , Garden City , New York , 1960.

[3]– نسرين أرجيلوس – التحول السياسي والتنمية في الجزائر ” 1989 – 2009 ” – رسالة ماجستير – كلية الحقوق والعلوم السياسية – جامعة وهران 2011، 2012 – صفحة 21.

[4]– د. ثناء فؤاد عبد الله – المرجع السابق – صفحة 210.

[5]– د. علي خليفة الكواري – المرجع السابق – صفحة 55.

[6]– د. عزمي بشارة – في المسألة العربية، مقدمة لبيان ديمقراطي عربي – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت -الطبعة الأولي سنة 2007 – صفحة 55، 56.

[7]– د. علي خليفة الكواري – المرجع السابق – صفحة 56.

[8] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

قراءات-نظرية-الديمقراطية-والتحول-الديمقراطي

اقرأ ايضاً قراءات نظرية: الديمقراطية والتحول الديمقراطي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close