fbpx
اقتصادترجمات

فاينانشيال تايمز: هل يسحب السيسي الاقتصاد من قبضة العسكر؟!

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية في 31 أكتوبر 2022 مقالاً لأندرو إنجلاند، أندرو إنجلاند، محرر قسم الشرق الأوسط بالصحيفة، والذي عمل مراسلاً للفاينانشيال تايمز على مدى 17 عاماً، حيث شغل منصب رئيس مكتب جنوب إفريقيا، ومدير مكتب أبوظبي، ومراسل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وجاء المقال تحت عنوان: “مصر وصندوق النقد: هل يسحب السيسي الاقتصاد من قبضة العسكر؟”، وذلك على النحو التالي:

أدت الأزمة العالمية إلى إبراز هشاشة النموذج الاقتصادي الذي تتبناه الدولة المصرية وأجبرتها على الحصول على قروض جديدة من أطراف متعددة.

وعندما أُجبرت مصر على الذهاب خاضعة إلى صندوق النقد الدولي بينما تصارع أزمة في العملات الأجنبية وتناقص الاحتياطات في عام 2016، كان عبد الفتاح السيسي مصراً على التأكيد بأنه سيتخذ “القرارات الصعبة” التي تجنبها أسلافه من أجل الإصلاح الشامل للاقتصاد المتعثر.

ومع علمه بأنه سيتعين عليه المضي قدماً في القيام بإصلاحات حساسة من الناحية السياسية، وأنها من شأنها أن تلحق الأذى بملايين المصريين الفقراء، في سبيل الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، كان السيسي يؤكد على أنه يتعين على الدولة سد الفجوة بين الموارد والإنفاق.

وقال السيسي “نحن نقترض ونقترض؛ وكلما اقترضنا زاد الدين. ولكن لن أتردد ولو لثانية واحدة في اتخاذ كل تلك القرارات الصعبة التي كان يخشى اتخاذها الكثيرون على مر السنين.”

وبعد مرور ست سنوات، أصبحت مصر تعتمد مرة أخرى على دعم صندوق النقد الدولي في الوقت الذي تصارع فيه من جديد نقصاً آخر في العملات الأجنبية، حيث وافق الصندوق الأسبوع الماضي على منحها حزمة قروض جديدة بقيمة 3 مليارات دولار. علماً بأن هذه هي المرة الرابعة التي تطلب فيها القاهرة مساعدة الصندوق منذ استيلاء السيسي على السلطة في انقلاب قاده عام 2013، حيث أصبحت مصر بلا فخر ثاني أكبر دولة مدينة لصندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين. وقد بلغ إجمالي قيمة ديونها الخارجية للمؤسسات متعددة الأطراف 52 مليار دولار.

وقد سلّطت مشاكل مصر، ولو جزئياً، الضوء على مواطن ضعف الدول الفقيرة أمام تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا بعد أن تسببت في هروب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة، وتسببت كذلك في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة – مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد في الوقت الذي نضب فيه أحد المصادر الحيوية للعملة الأجنبية. لكن الاقتصاديين ورجال الأعمال المصريين يقولون إن هناك المزيد من القضايا الأساسية على المحك، بحجة أن الأزمة العالمية قد ضاعفت من هشاشة نموذج السيسي الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة.

إذ أصبحت القاهرة، تحت إشراف السيسي، تعتمد بشكل متزايد على تدفق الأموال الساخنة إلى الديون المحلية لتمويل عجز الحساب الجاري، حيث دأب البنك المركزي المصري على دعم الجنيه وإبقاء أسعار الفائدة في حدود الرقمين. وكانت إحدى نتائج تلك السياسة أن كانت القاهرة، حتى وقت قريب، تدفع أعلى أسعار فائدة حقيقية على ديونها على مستوى العالم.

وفي الوقت نفسه، اعتمد السيسي على الجيش لدفع عجلة النمو، حيث تم إسناد العشرات من مشاريع البنية التحتية له وتشجيعه على وضع بصمته الاقتصادية عبر قطاعات لا تعد ولا تحصى، بدءا من المكرونة إلى الأسمنت والمشروبات، مما أدى بطبيعة الحال إلى مزاحمة القطاع الخاص وتنفير الاستثمار الأجنبي المباشر. وترجع الإشكالية الرئيسية إلى حقيقة أن الأموال الساخنة قد تم استخدامها في دعم الإنفاق الحكومي الهائل، الذي كان الجيش مسؤولاً عن الكثير منه، مما أدى إلى استنفاد العملة الأجنبية.

والسؤال الذي يطرحه رجال الأعمال والمحللون المصريون الآن هو ما إذا كانت صدمة الأشهر الستة الماضية ستكون كافية لإجبار السيسي على اتخاذ أصعب قرار اقتصادي يمكن أن يقوم به، وهو: تقليص دور الجيش في الاقتصاد. حيث يقول الاقتصاديون إن مثل هذا القرار سيكون حاسماً إذا كانت هناك إرادة لأن يزدهر القطاع الخاص وأن تجتذب البلاد معدلات أكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر واستقطاب مصادر أكثر استدامة للعملة الأجنبية.

يقول أحد رجال الأعمال الذي لم يرغب في الكشف عن هويته، مثل كثيرين غيره، خوفاً من التداعيات المحتملة لذلك في ظل دولة استبدادية: “نحن بحاجة إلى وقف هذا النزيف”. وإذا استمر بنا المسير على هذا النحو فسيوصلنا إلى نادي باريس (للتخفيف من أعباء الديون)، وتخفيض حجم الدين، وبيع الأصول، وفي نهاية المطاف الدخول في الإفلاس.”

(تفاقم عجز الحساب الجاري في مصر)

ويأمل بعض رجال الأعمال بحذر أن تكون الحكومة المصرية المهتزة قد تنبهت أخيراً إلى المسار غير المستقر الذي يسلكه الاقتصاد.

ويقول مسؤول تنفيذي آخر: “قد تكون (الأزمة) منحة في ثوب المحنة. حيث أصبح يبدو أن هناك إجماعاً وفهماً مشتركاً بأن الأمور يجب أن تتغير، إذ لا توجد حلول أخرى لما نحن فيه.”

ويظل آخرون على حذرهم. فإذا كان السيسي سيقلل من الدور (الاقتصادي) للجيش، فإنه، كقائد سابق للجيش، يكون قد وضع نفسه في مواجهة دائرة تأييده الأساسية والمؤسسة الأقوى في البلاد، بكل ما يرتبط بها من مصالح مكتسبة.

ويقول رجل الأعمال الذي رفض الكشف عن هويته: “سيكون الأمر صعباً للغاية. فأنت حين تعطي لطفلك لعبة، كيف يتسنى لك أن تنزعها من بين يديه؟ سوف يتطلب هذا الأمر قدراً كبيراً من الشجاعة أن تسترد شيئاً منحته للجيش، وأنا قلق بشأن ذلك. وإذا كنا نعتقد أن خصخصة القطاع العام صعبة، فما بالنا بمصنع العسكري؟

ويقول جيسون توفي من “كابيتال إيكونوميكس”، وهي شركة أبحاث اقتصادية مستقلة مقرها لندن: “لن يتخلى الجيش عن مصالحه بسرعة كبيرة، وعلينا أن نضع في اعتبارنا أن الجيش شديد القُرب من السيسي، وقد يمارس الضغط عليه إذا شعر أن مصالحه تتعرض لأي ضغوط.”

ويقول مايكل وحيد حنا، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، “إن تقليص دور الجيش سيتطلب إعادة تموضع وإعادة ترتيب أجزاء كبيرة من الاقتصاد المصري،” مضيفاً: “وهذا أمر صعب”.

لجنة الأزمات

سارعت القيادة المصرية إلى العمل فور غزو الروس لأوكرانيا في أواخر فبراير، من أجل الإعداد لمواجهة التداعيات العالمية للصراع. وسرعان ما أنشأ النظام الحاكم في مصر “لجنة أزمات” تجتمع بشكل أسبوعي وتركز على العمل على ضمان الأمن الغذائي لسكان البلاد البالغ عددهم 100 مليون نسمة، حيث يعتمد عشرات الملايين منهم على الخبز المدعوم.

وصدرت أوامر للجيش بتوفير الملايين من “صناديق الطعام” وعرضها بأسعار مخفضة للغاية للأسر الضعيفة، في الوقت الذي سعى فيه المسؤولون إلى تنويع مصادر الواردات لأكبر دولة مستوردة للقمح على مستوى العالم. وقبل أن يشن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هجومه على أوكرانيا، كانت مصر تعتمد على روسيا وأوكرانيا في الحصول على ما يقرب من 80% من القمح المستورد، وسادت مخاوف بأنها ستكون واحدة من أكثر البلدان عرضة لنقص الإمدادات وزيادة أسعار المواد الغذائية.

وقالت كريستالينا جورجيفا، العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي، في مارس: “إنني أشعر بالقلق بشأن مصر”.

في الحقيقة لم يكن الأمن الغذائي هو نقطة ضعف الدولة. ولكن بدلاً من ذلك، كانت تخوفات مديري الصناديق الأجنبية التي دفعتهم لسحب حوالي 20 مليار دولار من الدين المصري في فبراير ومارس، مما تسبب في أزمة العملة الأجنبية.

وقال أشخاص مطلعون على المناقشات التي تدور داخل الحكومة، إن السيسي، الذي لا يواجه أي معارضة، شعر بالصدمة عندما اكتشف نقاط الضعف في النظام (المالي) الذي تبناه.

وفي 8 مارس، توجه على متن طائرة إلى السعودية، أحد الداعمين التقليديين للقاهرة؛ حيث بحلول نهاية الشهر كانت الرياض قد أودعت 5 مليارات دولار في البنك المركزي المصري. وكان هذا المبلغ جزءاً من خطة إنقاذ خليجية أوسع، حيث أودعت الإمارات 5 مليارات دولار أخرى، وأودعت قطر 3 مليارات دولار.

وقال أحد المصرفيين المصريين عندما سُئل عما كان يمكن أن يحدث لو لم تنجح دول الخليج في إنقاذ القاهرة: “إنني أشعر بالرعب من مجرد التفكير في ذلك. فقد كان السيسي حزيناً للغاية حيث فوجئ  بهذه الدرجة من الهشاشة في النظام المالي”.

كما التزمت دول الخليج الثلاث باستثمار مليارات الدولارات في الاستحواذ على شركات مصرية مملوكة للدولة من خلال صناديق الثروة السيادية لديهم. وقد أنفق صندوق الاستثمارات العامة في المملكة العربية السعودية وصندوق أبو ظبي للاستثمارات العامة بالفعل حوالي 4 مليارات دولار هذا العام للاستحواذ على حصص في شركات مصرية، بما في ذلك أحد البنوك، وشركات للكيماويات والأسمدة والخدمات اللوجستية وشركات للتكنولوجيا.

وفي شهر مارس أيضاً، لجأت القاهرة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على الدعم، وتوصلت أخيراً إلى الاتفاق على قرض بقيمة 3 مليارات دولار الأسبوع الماضي. وبالإضافة إلى ذلك، قال الصندوق إن مصر ستتلقى 5 مليارات دولار أخرى من بعض المانحين الإقليميين وآخرين متعددي الأطراف في هذه السنة المالية – حيث من المحتمل أن يكون هؤلاء المانحون هم دول الخليج مرة أخرى.

وحتى المسؤولون المصريون يقرون بأن هذه الأزمة كانت بمثابة جرس إنذار لهم.

ويقول أحد المسؤولين الحكوميين إن هدف الحكومة كان دائماً “فتح المجال للاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ ولكن ربما استرخى القوم قليلاً ولم يضعوا الخطة في طور العمل بشكل صحيح.”

يقول أحد المصرفيين المصريين: “هل تعلمنا من الدرس؟ نعم… يدرك المسؤولون في البنك المركزي المصري أنه ليس بالأمر السهل. وفي صدارة ما أشعر به أن القوم أصبحوا يدركون أن لدينا تحدياً، وأن هذا التحدي هو أننا نفرط في الإنفاق في فترة زمنية قصيرة.”

لكن الاختبار الحاسم سيكون ما إذا كان النظام سيتعامل بجدية مع تلك الهيمنة المتسلطة للدولة على الاقتصاد، ولا سيما الدور الذي يقوم به الجيش.

ويقول أحد الاقتصاديين المصريين: “إن المشكلة الأساسية هي أن مصر تعيش بشكل يتجاوز حدود إمكانياتها،” مضيفاً، “إنها تنتج وتبيع لبقية العالم ولكن بنسبة أقل بكثير مما تستورده من الخارج، والذي تموله من خلال الديون. ويأتي الكثير من استهلاك الدولة، الذي يبقى خارج الميزانية، في شكل استثمار عسكري. وإذا نظرنا إلى الكثير من هذه المشاريع العملاقة، فإن الأمر يتعلق بتمويلها العسكري. فهم يضيفون إلى فاتورة الاستيراد ويتسببون في استنزاف مباشر للدولارات “.

ومن الناحية النظرية، على الأقل، فقد أبدت القيادة مؤشرات على أنها مستعدة للعمل.

وفي حديثه إلى رجال أعمال ومسؤولين حكوميين في مؤتمر اقتصادي عُقد في وقت سابق من هذا الشهر استجابة لهذه الأزمة، أعطى السيسي إشارات متباينة، حيث دافع عن سجله وسياساته بينما أشار أيضاً إلى استعداده لتقليص دور الدولة.

حيث قال السيسي: “لقد قمت بحل مشكلة الموانئ والبنية التحتية للدولة بطريقة مختلفة. الطريق الذي اقترحته بتقديم (مشاريع) للقطاع الخاص، وتقديم مشاريع للأجانب، أنا معك، لكن لم يكن لدي الوقت لمزيد من التأخير. وحول سؤال: هل شركات الدولة معروضة (للبيع)؟ نعم…. والله والله جميع شركات القوات المسلحة معكم (متاحة للبيع).”

وقبل ذلك بشهرين، قبِل السيسي استقالة محافظ البنك المركزي طارق عامر، الذي انتقده كثيرون لدوره في تفاقم تلك الضائقة.

يقول مسؤول تنفيذي مصري: “كان المحافظ مقرباً جداً من الجيش وكان يلبي جميع احتياجات الجيش دون قيود.”

ومنذ ذلك الحين، قال البنك المركزي المصري إنه سيسمح بنظام صرف مرن، وهو أمر طالما طالب به صندوق النقد الدولي. وقال الصندوق إن حزمة القروض التي حصلت عليها مصر مؤخراً كانت تهدف إلى مساعدة مصر على “دفع الإصلاحات الهيكلية والإدارية العميقة إلى الأمام لتعزيز النمو الذي يقوده القطاع الخاص وخلق فرص للعمل”.

ومنذ شهر إبريل، أعلن السيسي أن الحكومة ستجمع 40 مليار دولار على مدى أربع سنوات من خلال بيع أصول مملوكة للدولة، وقال إنها ستبدأ في بيع حصص الشركات العسكرية في البورصة “قبل نهاية العام”. كما دعا في الخطاب نفسه إلى “حوار سياسي” مع الحركات الشبابية والأحزاب السياسية، وهي خطوة كانت مفاجئة لرئيس يترأس نظاماً قام بسجن عشرات الآلاف من الأشخاص واتُّهم بأنه الأكثر قمعاً في مصر منذ عقود.

يقول مايكل وحيد حنا، محلل مجموعة الأزمات الدولية، إنه على الرغم من أن الحوار محدود بطبيعة الحال، إلا أن النظام “يقوم ببعض الأشياء التي لم نكن نعتقد أنها ممكنة منذ وقت ليس ببعيد”.

ويُضيف حنا: “هناك الكثير من الشكوك والإحباطات حول ذلك، وهناك مخاوف من أن يكون ذلك مجرد مناورة للعلاقات العامة، لكن ما يجري يعكس حقيقة أن هناك ضغط (على النظام)؛ إنهم يدركون أن هذه اللحظة مختلفة ويحتاجون إلى الاستجابة بشكل مختلف.”

وتعمل الحكومة أيضاً على وثيقة “ملكية الدولة” التي تهدف إلى تحديد القطاعات التي تتصور فيها دوراً لمؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش، وما إذا كان يتعين تقليص وجودها أو سحبها تماماً.

(الدول الأكثر مديونية لصندوق النقد الدولي)

وفي سياق وضع خططها، انخرطت الحكومة في التعامل مع صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ورجال الأعمال، حيث استهدفت مضاعفة دور القطاع الخاص في الاقتصاد ليصل إلى 65% على مدى السنوات الثلاث المقبلة. ولكن بعد أشهر من الإعلان عن المبادرة لأول مرة، لم يتم نشر الوثيقة النهائية.

وكان السيسي قد تعهد في السابق ببيع حصص في الشركات العسكرية على مدى السنوات الثلاث الماضية، لكن هذا الخطاب لم يعقبه أي مبيعات لتلك الأصول على أرض الواقع.

ويقول حنا: “من الصعب القيام بتحول كامل”، مضيفاً، “سيكون هذا انعكاساً أيديولوجياً كبيراً إلى حد ما. ففي عهد السيسي، زادت الامتيازات العسكرية؛ وتصاعد دور الجيش في الاقتصاد؛ وقد أدى ذلك بدوره إلى بروز فائزين حقيقيين من هذا الوضع، بما في ذلك القيادات العسكرية الحالية والقيادات السابقة. إنها نوع من المحسوبية “.

الاستناد على الجيش

ومنذ الإطاحة بالرئيس (الإسلامي) محمد مرسي، أول رئيس منتخب ديمقراطيا للبلاد، قبل تسع سنوات، اعتمد السيسي على الجيش كأداة رئيسية لتفعيل خططه (الاقتصادية) للتعامل مع الاقتصاد المحطم الذي ورثه.

وقد حظيت حكومته بالثناء من صندوق النقد الدولي ورجال الأعمال والمصرفيين في عام 2016 بعد الدفع بإصلاحات صارمة، بما في ذلك خفض دعم الطاقة وتقليص فاتورة أجور موظفي الدولة، للوصول في النهاية إلى تأمين قرض بقيمة 12 مليار دولار في ذلك العام وتحقيق الاستقرار المالي. كما سمح أيضاً بتخفيض قيمة الجنيه، حيث فقدت العملة المصرية المحلية نصف قيمتها في ذلك العام.

ولكن بعض رجال الأعمال والاقتصاديين يقولون إن النظام لم يفعل الكثير لتحسين مناخ الاستثمار في بلاد عانت طويلا من بيروقراطية غير عملية، وأوضاع لوجستيية سيئة وفساد.

وبدلاً من ذلك، مضى السيسي قُدماً في تنفيذ مشروعات بنية تحتية تقدر قيمتها بنحو 400 مليار دولار، حيث كان قد وعد ببناء “جمهورية جديدة”. ومع تحول البلاد من دولة بوليسية إلى دولة يقودها الجيش، وسّع الجيش من دائرة انتشاره في مفاصل الاقتصاد، من الحديد الصلب والأسمنت إلى الزراعة ومصايد الأسماك والطاقة والرعاية الصحية والأغذية والمشروبات.

واستمر الاقتصاد في تسجيل بعض أعلى معدلات النمو في المنطقة، لكن خبراء اقتصاديين حذروا من أن ذلك النمو كان مدفوعاً بشكل أساسي بالبناء وقطاع الطاقة والعقارات. وبينما تُعتبر بعض مشاريع البنية التحتية ضرورية، إلا أن منتقدي الحكومة يرون أن مشاريع أخرى كانت مشاريع تستهدف الزهو والإبهار فقط ولا يمكن للدولة أن تتحملها. ارتفعت معدلات الفقر بعد تخفيض قيمة العملة وظل استثمار القطاع الخاص دون المتوسطات التاريخية.

ويعتقد العديد من رجال الأعمال الذين كانوا قد رحبوا بانقلاب السيسي أملاً في إعادة مظاهر الاستقرار إلى البلاد، أنه جاء إلى المنصب وعنده ريبة تجاه القطاع الخاص، بل واحتقار له. ومع توسع الهيمنة العسكرية في الاقتصاد، تنامت المخاوف، وإن كانت غير معلنة، بأنه يعوق الاستثمار المحلي والأجنبي.

لم تكن القضية مجرد حجم الاستحواذ المتصاعد للجيش (على مفاصل الاقتصاد)، ولكن الخوف الذي انتاب رجال الأعمال من أنهم قد يجدون أنفسهم فجأة يتنافسون مع مؤسسة لا يمكن المساس بها وتسيطر على جزء كبير من أراضي مصر، ويمكنها استخدام العمالة المجندة والإعفاء من بعض الضرائب.

قبل عامين، كانت هناك مؤشرات أولية على أن النظام بدأ يستمع إلى مخاوف الشركات عندما تم تكليف الصندوق السيادي المصري ببيع حصص في 10 شركات مملوكة للجيش. تم تحديد اثنتين، هما: شركة الوطنية، التي تُشغّل حوالي 200 محطة وقود، وشركة صافي، وهي شركة لتعبئة المياه والأغذية، كأول أصول للجيش سيتم خصخصتها، لكن لم يتم بيع أي منهما حتى الآن.

ويقول أيمن سليمان، الرئيس التنفيذي للصندوق السيادي، إن هناك “عدداً كبيراً” من الشركات الجاهزة للإدراج للبيع، مضيفاً أن الصندوق يقوم بتشكيل الشركات لجعلها جاهزة للبيع، إما من خلال الإدراج أو من خلال بيع حصص للمستثمرين الاستراتيجيين قبل الاكتتاب العام.

ويُضيف سليمان: “لم يتغير البرنامج، ولكن بينما نبني منحنى التعلم لدينا بهذا الخصوص، فإننا أيضاً نثقف نظراءنا؛ فنحن نبني خارطة طريق؛ نعم لدينا شركات مخصصة للاكتتاب العام منذ وقت طويل، ولكن لا يوجد هناك سوق، حتى لو كان لديك أفضل منتج.”

ويقول سليمان إن الكيانات المملوكة للدولة التي يتم إعدادها للخصخصة تشمل أيضاً تلك الموجودة في الخدمات المالية والبنية التحتية والطاقة والزراعة.

ولكن بعض الخبراء يقولون إنه حتى لو كان النظام جاداً بشأن بيع الشركات العسكرية، فإنه سيواجه تحديات لا تعد ولا تحصى في جذب المستثمرين. ويحذر الاقتصاديون من أن مبيعات الأصول وحدها لن تحل مشاكل مصر العميقة مع تصاعد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والديموجرافية، في ظل وجود ما يقدر بنحو 60 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر أو فوقه بقليل.

لقد كانت أولوية النظام خلال السنوات التسع الماضية هي الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وسحق المعارضة لمنع أي تكرار للانتفاضة لشعبية التي اندلعت عام 2011، والتي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك. لقد كمم الأفواه وأسكت بلا رحمة أي تلميح لأي حراك.

وعلى الرغم من أن العديد من المصريين الذين يتذكرون الفوضى التي حدثت في أعقاب ثورة يناير كانوا أيضاً حذرين من مواجهة النظام أو إثارة عدم الاستقرار؛ إلا أن بعض الخبراء يقولون إن تلك المشاعر الأخيرة قد تتبدد بمرور الوقت.

وبحسب أحد الخبراء الاقتصاديين المصريين، فإن “الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 19 و 20 عاماً، يتذكرون بالكاد الثورة، ولكنهم لا يتذكرون الفوضى (التي أعقبت ذلك)، وعندما تتلاشى تلك الذاكرة المؤسسية بمرور الوقت، سيصبح الناس أكثر استعداداً للانتفاض، خصوصاً بعد إفقارهم. لذلك، فهناك فترة زمنية محدودة يمكنك خلالها تقبُّل مخاطرة أن يؤدي السخط الشديد إلى عدم الاستقرار السياسي.”

ومن الناحية النظرية، يجب أن تدفع هذه المخاوف النظام إلى العمل. لكن آخرين قلقون من أن يؤدي الاعتقاد بأن مصر مهمة للغاية من الناحية الجيوسياسية بحيث لا يمكن السماح لها بالفشل، وأن بإمكانها الاعتماد على عمليات الإنقاذ من جيرانها – إلى شعور (النظام) بالرضا عن الذات.

وقد حذر السيسي نفسه خلال المؤتمر الاقتصادي الذي عُقد الأسبوع الماضي من مخاطر الاعتماد بشكل كبير على حلفائه الخليجيين. وقال: “حتى الأشقاء والأصدقاء على قناعة الآن بأن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى، وأن سنوات من الدعم والمساعدة أدت إلى خلق ثقافة الاعتماد عليهم لحل الأزمات والمشاكل”.

ويقول أكاديمي مصري: “نحن نؤمن بهذا الخيال، أننا أكبر من أن نفشل، وهذا ليس صحيحاً. أما بالنسبة لهم (المانحين الخليجيين)، فإن الفشل هو عودة الإخوان المسلمين لسدة الحُكم مرة أخرى. وما عدا ذلك، فبإمكان أشقائنا العرب التعايش بكل سعادة مع كل أنواع الكوارث التي يمكن أن تحدث… حتى لو ساد في (مصر) الركود والفقر وازدادت الأوضاع فيها سوءاً “.

ويضيف: “إن هذه الأزمة هي بمثابة جرس إنذار. ولكن، هل سيفيقون في الوقت المناسب؟”

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close