fbpx
الشرق الأوسطتقارير

فرانشيسكا بوري تكتب من قلب أفغانستان (3): أوكرانيا كما يراها عالم الدرجة الثانية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

حتى الآن، يبلغ عدد القتلى 13000.

لكن ليس في أوكرانيا. إنهم هنا في أفغانستان. وفقط منذ بداية هذا العام.

في الواقع، عدد القتلى في أفغانستان أكثر من ذلك بكثير. لأن هذا الرقم يمثل فقط عدد القتلى من حديثي الولادة الذين ماتوا بسبب سوء التغذية. لقد قُتلوا بالفعل. حيث قتلتهم عقوباتنا التي أصابت الاقتصاد في أفغانستان بدلاً من طالبان. وحيث أصبح السوق الوحيد المتبقي هنا هو سوق بيع الكلى، والتي يتم بيعها لصالح المستشفيات الهندية.

ووفقا لأحدث تقارير الأمم المتحدة، فإن 95% من السكان هنا في أفغانستان يتضورون جوعا.

هذه الأيام، تتوهج أوروبا باللونين الأزرق والأصفر، لون علم أوكرانيا، حيث تعيد أوروبا اكتشاف نفسها وقِيَمها من جديد. لكن بالنظر إليها من هنا في أفغانستان، فإن الصورة الأيقونية ليست هي صورة حدودها المفتوحة للأوكرانيين: لكنها صورة حدودها وهي مغلقة في وجه أي دولة أخرى، بخلاف أوكرانيا. ليس الأمر فقط في جنوبي أوروبا، حيث تتواصل حالات الغرق، وحيث تتواصل محاكمات من يقومون بإنقاذهم: بل على نفس الحدود. وإذا نظرنا إلى هذا الوضع من عالم الدرجة الثانية، فإن صورة أوروبا تتبدى في الحقيقة في صورة الأفارقة الذين رفضت بولندا قبولهم كلاجئين وردّتهم.

فالحقيقة أنه إذا كنت أبيض البشرة، فأنت تُعتبر لاجئاً؛ أما إذا كنت أسود البشرة فأنت مهاجر، حتى ولو كنت تهرب من نفس الضربات الجوية.

وهذا على الرغم من أنه حتى يوم أمس، لم يكن أحد يريد الأوكرانيين في أوروبا. حتى يوم أمس، لم يكونوا مثلنا.

وتبدو مطالعة الصحف الغربية هذه الأيام غريبة لحد كبير. فكل شيء فيها عن أوكرانيا. أعني أنه في ظل وجود 59 حرباً أخرى تدور رحاها حول العالم، بالإضافة إلى تلك الحرب الستين التي يعيشها العالم، وهي مواجهة كوفيد-19، والتي، فجأة، لم يعد أحد يهتم بها – فإن جميع التحليلات التي تُنشر في تلك الصحف تركز فقط على أوكرانيا؛ كما لو كانت أوكرانيا هي القضية المركزية، وليس مجرد ساحة حرب (في مواجهة روسيا).

في الحقيقة، فإننا نواجه روسيا أيضاً في سوريا حيث يدعم بوتين بشار الأسد؛ وفي ليبيا، حيث يدعم حفتر؛ وفي العراق، حيث يقف بجانب إيران؛ وفي اليمن، حيث هو الوسيط الرئيسي؛ وفي مالي، حيث حل مكان الفرنسيين هناك؛ وفي البلقان، بالطبع منذ زمن ميلوسوفيتش.

كثيراً ما تتردد حُجّة أن الناتو هو مجرد حلف دفاعي. هذا صحيح. ولكن بالنسبة لنا نحن فقط الأوربيين.

لكن خارج أوروبا، فالقصة مختلفة.

فهل يمكن أن ننسى ما حدث في العراق؟ حيث كانت حجة الحرب هي ضرورة تدمير أسلحة دمار شامل لم تكن أبداً لدى صدام حسين – والتي على أساس الشواهد المزورة التي قدمتها صحيفة “نيويورك تايمز” تم منحها جائزة بوليتسر؛ مع أن الصحيفة اعتذرت فيما بعد للقراء. ولكنها لم تعتذر أبدا للعراقيين.

كم يتضاءل كثيراً قدْر أوروبا التي تتظاهر بأنها لاعب رئيسي في الأزمة، إذا نظرنا إليها من هنا، من أفغانستان.

لقد أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة الغزو الروسي لأوكرانيا بقرار تم تبنيه بأغلبية 141 صوتاً مقابل 5 أصوات عارضته، وامتناع 35 عضوا عن التصويت. وقد تناولنا جميعاً بسخرية الدول التي عارضت القرار: باستثناء روسيا وبيلاروسيا وإريتريا وكوريا الشمالية وسوريا. لكن المهم في واقع الأمر أن من بين الدول التي امتنعت عن التصويت، كانت الصين والهند، اللتان يبلغ عدد سكان كليهما أكثر من نصف سكان العالم؛ بالإضافة إلى الإمارات وجنوب إفريقيا؛ وكذلك البرازيل التي تظل دولة محايدة – وهو تقريباً العالم غير الغربي بأكمله.

فماذا يعني ذلك؟

لا تكمن المشكلة فقط في أن هذا سؤال لا يستطيع أحد أن يجيب عليه؛ وإنما المشكلة في أنه سؤال لا يمكن لأحد أن يطرحه من الأساس: فهو سؤال ممنوع. لأن إثارة سؤال عن منطق الآخرين، وليس حتى عن الأسباب التي دعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف، السؤال فقط عن حجتهم، عن منطق “الآخرين” – وهم “آخرون” فقط لأنهم مختلفون عنا – أقول إن مجرد السؤال عن منطقهم يتم اعتباره في كثير من الأحيان، أنه بمثابة التحدث باسم بوتين، بما يتجاوز حدود فهمنا بكثير.

وهكذا، فإن كل هذا يحدث بين عشية وضحاها. بشكل غير متوقع؛ وحتى عندما لا يكون متوقعاً حدوثه على الإطلاق.

في القاهرة، كان في مكتبة الجامعة الأمريكية في عام 2011 هذا الكتاب الذي كان يُعتبر من أكثر الكتب مبيعاً على مدى سنوات، وهو: “مصر على حافة الهاوية”؛ والذي تنبأ بمجيء الربيع العربي.

و يشبه هذا الوضع أيضاً إلى حد ما تلك المقابلة التي تم إجراؤها مع أوليكسي أريستوفيتش، المستشار الأول لزيلنسكي: في عام 2019، حيث أوضح أنه في ظل التعاون المتزايد بين الناتو وأوكرانيا، فإنه من المرجَّح أن يتم شن هجوم روسي على بلاده. وفي المقابلة، شرح أريستوفيتش متى؟ و أين؟ و كيف سيكون مثل هذا الهجوم المتوقع. وفي نفس الوقت، فهو لم يختلف مع الصحفي الأوكراني، من كييف، الذي سأله في قلق: “أنا آسف، ولكن مع مثل هذه المخاطرة الكبيرة، هل هذا الأمر منطقي؟”

الصراعات بالنسبة لنا هي دائماً أزمات. والأزمات هي دائما بالنسبة لنا أزمات إنسانية؛ حتى ولو كانت في الحقيقة أزمات سياسية، مثلما هو الحال في أفغانستان؛ ومثلما يحدث في غزة التي ترزح تحت الحصار منذ 15 عاماً، بينما نعتبر نحن مقاومتهم إرهابا.

وذلك لأن عدونا، من وجهة نظرنا، هو مجرد جزّار.. وكم كنت أتمنى أن يكون ذلك صحيحاً. حقا، عندها سيكون الأمر في غاية السهولة، إذا كان الأمر يتعلق فقط بالتخلص من أمثال بوتين، أو القذافي، أو بن لادن.

ولكن الحال في دولة مثل سوريا الآن، فإنه ليس لدينا أدنى فكرة عن سبب تمتع الأسد حتى اليوم بهذا القدر من التأييد الشعبي.

ليس لدينا فكرة من أين يمكن أن يأتي مثل هذا التأييد: هل يأتي من الخوف؟ أم من الانتهازية؟ أم أنه دعم حقيقي؟

لكن النتيجة هي أن الأسد لا يزال قابعاً في السلطة، في خضم حرب دخلت للتو عامها الحادي عشر.

وفي نفس الوقت ، فلا يكاد أحد في أوروبا يعلم أن هذه الأزمة لم تنتهِ بعد في سوريا.

وأخيراً بالنسبة لأزمة أوكرانيا، فالغريب أنه منذ بداية الغزو وحتى الآن، قمنا بدفع 21 مليار يورو لروسيا، ضمن فواتير الغاز الروسي الذي يأتي إلى أوروبا[1].


[1] الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات، ولكن تعبر عن أصحابها.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close