fbpx
اوروبا وامريكاترجمات

فرنسا: السترات الصفراء وعصر ريادة الأعمال

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت مجلة فوربس في 8 ديسمبر 2018، مقالة بعنوان: “أصحاب السترات الصفراء لن يكتفوا بمطالب خفض أسعار الوقود، فهم يريدون عقداً جديداً لعصر ريادة الأعمال”، كتبه نيكولاس كولين، أحد مؤسسي ومدير مؤسسة “الأسرة”. وقد قام المعهد المصري بترجمة المقال كاملاً على النحو التالي:

لقد بدأ الأمر كله باحتجاج محدود على رفع الضريبة على وقود الديزل بضعة سنتات فقط لكل لتر. لكن فرنسا أصبحت الآن في حالة صدمة: فآلاف المتظاهرين من أصحاب “السترات الصفراء” يقتحمون شوارع باريس، ويكسرون كل شيء يمكن أن تطاله أيديهم، ويرفعون حناجرهم مطالبين إيمانويل ماكرون بالاستقالة.

وبالنسبة للكثيرين، فإن كل ذلك جاء بشكل مفاجئ. فقد كان يُنظر إلى ماكرون قبل وقت قصير وكأنه زعيم جديد للعالم الحر، وكان يُنظر إلى فرنسا على أنها آخر معقل للقيم الديمقراطية الليبرالية في عالم يحكمه قادة متسلطون، وقومجيون، ورجعيون، أمثال دونالد ترامب. ولكن ظاهرة أصحاب السترات الصفراء في الحقيقة هي مجرد نتيجة منطقية للتحول الذي دام أربعة عقود من عصر الفوردية إلى عصر ريادة الأعمال، وهي العملية التي ظلت تؤدي ببطء إلى تآكل المستويات المعيشية للطبقة الوسطى في العالم الغربي.

[يُطلق مصطلح الفوردية على مرحلة التنمية الاقتصادية في القرن العشرين حيث الإنتاج الضخم الذي كانت شركة فورد للسيارات في ريادته.]

الموجة الأولى

بدأت الموجة الأولى لهذه العملية بما يسمى “العولمة”. فمع تزايد معدلات النمو التي شهدتها البلدان الناشئة من أجل اللحاق بالدول المتقدمة وتزايد حجم التجارة الدولية منذ السبعينيات فصاعداً، فقدت الشركات في الغرب كثيراً من قدرتها على المنافسة. وتم بعد ذلك نقل بعض الوظائف إلى الخارج. وحلت الروبوتات محل وظائف أخرى. وتعرض العمال الذين تمكنوا من الاحتفاظ بوظائفهم إلى ضغوط أكبر: فقد اضطروا إلى التخلي عن الأجور المرتفعة، والمزايا الاجتماعية، والتمثيل النقابي القوي أملاً في البقاء في وظائفهم. وفي معظم الصناعات، ازدهرت الأعمال، لكن كل ذلك كان على حساب القوى العاملة.

الموجة الثانية

أما الموجة الثانية فقد جاءت مع صعود مؤسسات التمويل وأسواق المال. ومع نهاية نظام بريتون وودز (حيث يُعد اتفاق بريتون وودز هو النظام التاريخي لإدارة النقد وأسعار الصرف الذي أنشئ في عام 1944. وقد تم تطويره في مؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي الذي عقد في بريتون وودز، حالياً نيو هامبشاير، من 1 يوليو إلى 22 يوليو 1944) وصعود التكنولوجيا، تحول “التمويل” إلى صناعة عالمية متشابكة، قادرة على تحريك رأس المال بسهولة. وفي الوقت نفسه، ساعدت الأدوات والأساليب التجارية الجديدة – مثل “مصفوفة حصة النمو” لبروس هيندرسون و “التموضع الاستراتيجي” لمايكل بورتر – ساعدت الشركات على الدفاع عن مركزها في السوق والحفاظ على هامش ربحها. كل هذه الاتجاهات جعلت من السهل على صناعة الخدمات المالية أن تزيد من قدرتها على المساومة واقتناص مزايا أكثر من عالم الشركات، ومرة أخرى كان ذلك على حساب العمال.

الموجة الثالثة

وجاءت الموجة الثالثة مع إجراءات الإصلاح لمنظومة “دولة الرفاه”. ومع مرور الوقت، اضطرت الأسر من الطبقة المتوسطة إلى التخلي تدريجياً عن كثير من استحقاقاتها الاجتماعية: وأصبح على الجميع تحمل المزيد من التكاليف المادية مقابل الحصول على الرعاية الصحية؛ واضطر المحالين للتقاعد إلى السعي من أجل التكسب بسبب المعاشات المتواضعة التي يتقاضونها؛ وأصبحت بدلات البطالة تخضع لشروط قاسية. وبالإضافة إلى ذلك، تزايدت أعداد العمال الذين اضطروا للانخراط في مجالات توظيف “غير نمطية” (مثل: العمل المؤقت، العمل بدوام جزئي، أو العمل لحسابهم الخاص)، مما يحرمهم من الاستفادة من المزايا المنصوص عليها للعمال المتفرغين الذين يتقاضون أجوراً كاملة. وارتفعت الديون على الأسر التي لجأت إلى الاستدانة لتعويض التراجع في الدور الاجتماعي لدولة الرفاه، وهو ما أدى في النهاية إلى الأزمة المالية التي حدثت عام 2008.

الموجة الرابعة

وكانت هذه الأزمة نفسها هي الموجة الرابعة. أما في فرنسا، فقد تم ذلك بطريقة غير نمطية: فقد أصابت سوق العمل حالة من الجمود مما أدى إلى ارتفاع الأجور الفعلية بشكل كبير بعد الأزمة. وكان من سلبيات ذلك: أن أخذ معدل البطالة يرتفع باضطراد ثم بعدها بدأت الأزمة المالية بعد ذلك تلوح في الأفق بسبب تباطؤ الاقتصاد وزيادة الإنفاق العام من أجل دعم الشركات المتعثرة. ومنذ ذلك الحين، كما حدث في بلدان أوروبية أخرى، تحولت الأمور كلها إلى ما يشبه الحلقة المفرغة من إجراءات تقشف غير مدروسة وزيادات مضطردة في الضرائب، الأمر الذي أدى بدوره إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزاد من صعوبة الأمر على الأسر المضغوطة أساساً من أجل تغطية نفقات الأسرة.

الموجة الخامسة

ويأتي التحول المتسارع نحو عصر ريادة الأعمال على رأس كل ذلك – ليمثل الموجة الخامسة. فمع صعود صناعة التكنولوجيا عالية المهارة والخدمات المعاونة (والتي لا تحتاج إلى مهارات عالية)، تركزت الأعمال في الحَضَر، وتجمع كل شيء في المدن: بما فيها الوظائف والثروة والأصول والفرص والسلطة. ولا يعني ذلك بالضرورة أن سكان المدن كانوا يعيشون حياة مريحة، فقد أدى ذلك الوضع إلى صعوبة تحمل تكاليف السكن لمن يريدون العيش في المدينة. ومع ذلك، فقد كان الأمر أسوأ بالنسبة لأولئك “المحاصرين” خارج المدن. فنظراً لابتعادهم تماماً عن محور الأعمال، فلم يتمكنوا من الاستفادة من مظاهر الازدهار في المدن؛ ولأنهم لا يستطيعون أبداً تحمل تكاليف الانتقال للعيش في المدن، فلم يكن في إمكانهم مجرد التفكير في تبديل وظائفهم للولوج إلى الأماكن الأكثر ديناميكية في اقتصاد اليوم.

وفي هذا السياق، فإنه من المخجل أن يُستلهم جزء كبير من جدول أعمال إيمانويل ماكرون من تجارب سابقة عفا عليها الزمن ولا صلة لها بالواقع. نعم كانت حكومة مارجريت تاتشر المحافظة محقة في تخفيض الضرائب وإزالة القيود على التمويل في المملكة المتحدة، ولكن ذلك كان قبل 30 عاماً، في بلد شكلت فيه الخدمات المالية بالفعل أساس الاقتصاد المحلي. وكانت إدارة كلينتون على حق في الاستثمار في التعليم المتواصل في الولايات المتحدة، ولكن ذلك كان قبل 25 عاماً، في فجر عصر اقتصاد الإنترنت، وبهدف واضح يتمثل في الانطلاق للأمام بدلاً من مجرد محاولة اللحاق بالركب. ثم بعد ذلك، كانت حكومة جيرهارد شرودر الاجتماعية الديمقراطية على صواب في تنفيذ “إصلاحات هارتز” في ألمانيا، ولكن ذلك كان منذ 15 عاماً، في بلد يعتمد نموه على الصادرات الصناعية، وحيث ظلت تكاليف الإسكان في متناول الجميع، على عكس فرنسا. (بالمناسبة، هذه الإصلاحات أزالت الحزب الاشتراكي الديمقراطي تماماً عن الخريطة على أي حال).

يجب أن نفترض أن الناخبين أذكياء وأنهم يدركون أن كل هذه السياسات، مهما كان اعتبارها في الدول التي طُبقت فيها في الماضي، فليس لها أي اعتبار في فرنسا عام 2018. ذلك لأن كثيراً من الأشياء قد تغيرت منذ زمن تاتشر، وكلينتون، وشرودر: فالأزمة المالية، وصعود الصين كقوة اقتصادية عالمية؛ وشركات التكنولوجيا الكبيرة التي حلت محل الشركات الفوردية القديمة (على نمط فورد للسيارات) كأقوى شركات على مستوى العالم؛ وتجمع معظم الوظائف وفرص العمل في المدن الكبرى، والذي جعل تكاليف السكن لا يمكن تحملها الآن؛ والأزمة التي تلوح في الأفق للاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو.

وباختصار، فإنه على الرغم من استمرار التآكل في المستويات المعيشية للأسر من الطبقة الوسطى، وارتفاع الأسعار والضرائب، واتساع الفجوة في مستويات المعيشة بين المناطق الجغرافية المختلفة، فإن الحكومة الفرنسية – على الرغم من الادعاءات بولعها للريادة والابتكار – لا تزال تنظر للوراء وهي تحاول إيجاد حلول لمشكلاتها باستخدام عقلية الماضي بدلا من ابتكار حلول جذرية من أجل الوصول إلى مستقبل مشرق. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون قد فاجأنا (في أحداث فرنسا الأخيرة) هو أن حالة الإحباط والغضب ظلت كامنة لفترة طويلة قبل أن تنفجر وتظهر على شكل أعمال شغب. ولحسن الحظ، فإنه لم يفت الأوان بعد لفتح صفحة جديدة، وتخيل المؤسسات التي ستجعل الاقتصاد الرقمي أكثر استدامة وأكثر شمولاً – في عقد جديد لعصر ريادة الأعمال (* ).


(*) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close